ج2 - ف60

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثاني

{السنة الأولى في الحياة العلنية}

القسم الثاني

 

60- (يعقوب بن حلفى يُقبَل بين التلاميذ. يسوع يَكْرز قُرب مكتب متّى)

 

02 / 02 / 1945

 

إنّها صبيحة يوم تسوّق في كفرناحوم: فالساحة مكتظّة بباعة يعرضون أشياء كثيرة التَّنوُّع.

 

يسوع، الذي يَصِل قادماً مِن البحيرة، يرى ابنيّ عمّه يوضاس ويعقوب قادِمَين لاستقباله. يحثّ الخطى نحوهما. وبعد معانقتهما بحرارة يسألهما بلهفة: «أبوكما؟ ماذا بشأنه؟»

 

يُجيبه يوضاس: «لا جديد بخصوص حياته.»

 

«إذن لماذا أتيتَ؟ فلقد قُلتُ لكَ: ابقَ.»

 

يخفض يوضاس رأسه ويصمت، ولكنّ الذي يتكلّم الآن هو يعقوب: «إذا لم يطعكَ، فهي غلطتي. نعم غلطتي. ولكنّني لم أستطع الاستمرار في تحمُّلهم. الجميع ضدّنا. ولماذا؟ هل أَرتَكِب خطأ بحبّي لكَ؟ هل يمكن ذلك؟ حتّى الآن تَـمَلَّكَني سوء التصرّف. إنّما الآن وقد عَلِمتُ، الآن وقد قلتَ لي إنّ الله يفوق حتّى الأب، فما عُدتُ أستطيع الاستمرار في التحمُّل. آه! حاولتُ أن أكون مُراعياً لواجب الاحترام، أن أُقنِعهم، وأن أُقوِّم الأفكار. قُلتُ: "لماذا تَصُدّوني؟ وإذا كان هو النبيّ، إذا كان مَسيّا، فلماذا تَوَدّون أن يقول العالم: عائلته تُناصِبه العداء؟  وسط عالم يتبعه، أينبغي أن تتخلّف هي وحدها؟ لماذا؟ وإذا كان هو البائس الذي تتحدّثون عنه، أفلا يجب علينا، ونحن أفراد عائلته، الوقوف إلى جانبه في جنونه لنمنعه مِن إيذاء نفسه وإيذائنا؟" يا يسوع، كنتُ أتحدّث هكذا كي أُفكّر بشريّاً كما هم يفكّرون. ولكنّكَ تَعلَم جيّداً أنّ يوضاس وأنا لم نكن لنظُنّ مطلقاً أنّكَ مجنون. أنتَ تَعلَم أنّنا نرى فيكَ قدّوس الله. أنتَ تَعلَم أنّنا تَطَلَّعنا إليكَ، على الدوام، كنجمنا العظيم. ولكنّهم لم يشاؤوا تَفَهُّمنا، ولم يشاؤوا حتّى سماعنا. ورَحَلتُ. إنّما عندما حان أوان الاختيار بين يسوع أو العائلة، اخترتُكَ أنتَ. وها أنا ذا، إذا كنتَ تريدني على الأقلّ. أمّا إذا كنتَ، بعد كلّ هذا، لا تريدني، فحينئذ سأكون أَتعَس الناس، لأنّني سأفقد كلّ شيء. أفقد صداقتكَ وكذلك حبّ العائلة.»

 

«أَوَصَلنا إلى هذا الحدّ؟ يا ليعقوبي المسكين! لم أكن أرغَب برؤيتكَ تعاني هكذا، لأنّني أحبّكَ. إنّما إذا كان يسوع الإنسان يبكي معك، فيسوع الكلمة يَبتَهِج لأجلكَ. تعال. ثِق أنّ غِبطَة حَمْل الله وسط الناس سوف تنمو، ساعة إثر ساعة، حتّى تَبلغ ملء النشوة في ساعة الأرض الأخيرة وساعة السماء الأبديّة.»

 

يلتَفِت يسوع وينادي تلاميذه الذين تَوَقَّفوا، بدافع الكياسة، على بُعد بضعة أمتار. «هلمّوا أيّها الأصدقاء. إنّ ابن عمي يعقوب قد أصبَحَ في عِداد أصدقائي، وبالتالي فهو صديقكم. آه! كم كنتُ أرغَب بهذه الساعة وهذا اليوم، فهو صديق طفولتي الأَمثَل، وقد كان أخي أثناء حداثتنا!»

 

يَحتَفِل التلاميذ بالقادم الجديد وبيوضاس الذي لم يكونوا قد رَأَوه منذ بضعة أيام.

 

«كنا نبحث عنكَ في البيت... ولكنّكَ كنتَ في البحيرة.»

 

«نعم، في البحيرة، لمدّة يومين، مع بطرس والآخرين. ولقد كان صيد بطرس وفيراً. أليس كذلك؟»

 

«نعم، والآن هذا يُثقِل صدري، ذلك أنّني سوف أُضطَرّ لدفع الكثير مِن المال لذاك اللّص...» ويشير بإصبعه إلى متّى العشّار الذي يحيط بمكتبه أناس كثيرون يؤدّون أجرة موضعهم، أظنّ ذلك، أو محاصيلهم.

 

«أقول، سيكون كلّ شيء نسبيّاً. فكلّما كَثُرَ السمك، كَثُرَت الرسوم، إنّما يَكثُر الربح أيضاً.»

 

«لا، يا معلّم. كلّما كَثُرَ السمك كَثُرَ الربح. أمّا إذا رَبِحتُ الضّعف فهذا لا يجعلني أدفع الضّعف. بل ينبغي لي أن أدفع له أربعة أضعاف... ابن آوى!»

 

«بطرس! وإذن! هلمّ بنا قريباً منه. أودُّ التَّحدث، وقرب مكتب الجباية يوجد أناس على الدوام.»

 

«أعتقد ذلك!» يقولها بطرس وهو يُتمتِم. «أناس ولَعنات.»

 

«فإذاً! سأذهب لأطرح هناك بَرَكات. مَن يدري، فقد يَلِج القليل مِن النـزاهة لدى الجابي.»

 

«يمكنك الاطمئنان إلى أنّ كَلِمَتكَ لن تتجاوز جلده، جلد التمساح.»

 

«سوف نرى.»

 

«ماذا ستقول له؟»

 

«لن أتحدّث إليه مباشرة، إنّما سأتحدّث بطريقة يمكن اعتبارها مُوَجَّهة إليه أيضاً.»

 

«سوف تقول إنّ الذي يتعرّض لنا على الطرقات هو لصّ، تماماً كالذي يُشَلّح الفقراء الذين يعملون لكسب لقمة العيش وليس مِن أجل النساء والسُّكر؟»

 

«بطرس، هل تريد أن تتحدّث بدلاً عنّي؟»

 

«لا يا معلّم، فأنا لا أجيد التعبير.»

 

«بهذه المرارة التي في داخلكَ سوف تسيء إلى نفسكَ وإليه أيضاً.»

 

يَقتَرِبون مِن مكتب الجباية. يتأهّب بطرس للدَّفع. يُوقِفه يسوع ويقول له: «أعطني النقود فأنا مَن يَدفَع اليوم.» يَنظُر إليه بطرس مندهشاً ويعطيه كيساً مِن الجلد مليئاً بالنقود.

 

يَنتَظر يسوع دَوره، وعندما يُصبِح في مواجهة الجابي يقول: «أَدفَع عن ثماني سلال مِن السمك، وهي لسمعان بن يونا. هي هنا عند أقدام الأولاد. تأكّد منها لو أردتَ. إنّما بين الناس الشرفاء ينبغي أن تكون الكَلِمَة كافية. وأظنّكَ تعتَبِرني منهم. كَم الضريبة؟»

 

ومتّى الذي كان جالساً في مكتبه لحظة كان يسوع يقول: «أظنّكَ تَعتَبِرني مِنهُم»، يَنتَصِب واقفاً. إنّه قصير القامة وقد أَخَذَت به السُّنون، تقريباً مثل بطرس، ومع ذلك يبدي وجهاً تَعِبَاً مِن الشهوانيّة، واضطراباً جليّاً. بداية، يَبقَى رأسه منخفضاً، ثمّ يرفعه ويَنظُر إلى يسوع، ويَنظُر إليه يسوع بإمعان ووقار، مهيمناً عليه بقامته الطويلة.

 

«كَم؟» يسأل يسوع بعد برهة.

 

«لا ضريبة مِن تلميذ المعلّم.» يُجيب متّى، ثم، بصوت أَخفَض: «صَلِّ لأجل نفسي.»

 

«إنّني أَحمِلها فِيَّ، حيث ملجأ الخَطَأَة. إنّما أنتَ... لماذا لا تهتمّ بها؟» ويستدير يسوع بعدئذ عائداً صوب بطرس الـمُنذَهِل. كذلك الآخرون مُنذَهِلون، يتهامسون غير مصدّقين أعينهم…

 

يسند يسوع ظهره إلى شجرة تبعد حوالي عشرة أمتار عن متّى ويبدأ بالتحدّث.

 

«يُشبِه العالم عائلة كبيرة، يُمارِس أفرادها مِهَناً مختلفة وكلّها ضروريّة. منهم الفلّاحون والرُّعاة والكرّامون ونجّارو البناء وصيّادو السمك والبَنّاؤون والعاملون بالخشب والحديد، وثمّ الكَتَبَة والجنود والموظّفون المكلّفون بمهامّ خاصّة، والأطبّاء والكَهَنَة. كلّ هذا. لا يمكن للعالم أن يتألّف مِن فئة واحدة. فالـمِهَن كلّها ضروريّة وكلّها مقدّسة، إذا كانت تُمارَس بنـزاهة واستقامة. كيف يمكن التوصّل إلى ذلك، إذا كان الشيطان يجرّبنا مِن جهات عديدة؟ يمكن ذلك بالتفكير بالله الذي يرى كلّ شيء، حتّى الأعمال الأكثر خفاء، وكذلك بشريعته التي تقول: "أحبِب قريبكَ كنفسكَ، لا تفعل به ما لا تريد أن يفعله هو بكَ، ولا تَختَلِس بأيّة طريقة كانت".

 

قولوا لي، أنتم يا مَن تَسمَعون كلامي: عندما يموت شخص ما، هل يأخذ معه أكياس النقود؟ حتّى ولو كان أحمقاً لدرجة يريد معها حملها معه إلى القبر، فهل يمكنه الاستفادة منها في الحياة الأخرى؟ لا. بل إنّ قطع النقود تتخرّب لمجرّد ملامستها نتانة جسم متفسِّخ. ولكنّ نَفْسه، مِن جهة أخرى، تكون عارية، وأكثر فقراً مِن أيّوب الـمَغبوط، غير مستفيدة مِن أصغر قطعة نقود، حتّى ولو كانت تُرِكَت في القبر، هنا في الأسفل، وَزنات ووَزنات. اصغوا أيضاً واسمَعوا! الحقّ أقول لكم، على العكس، مع الغِنى والثروات يَصعُب كَسب السماء، بل على عكس ذلك، بها عموماً تُفقَد السماء، حتّى ولو كانت الثروة متأتّية مِن إرث أو ربح حلال، ذلك أنّ الأغنياء الذين يُحسِنون استخدامها باستقامة قليلون.

 

ما الذي يجب إذن فعله لامتلاك هذه السماء المباركة، هذه الراحة في حضن الآب؟ ينبغي ألّا نكون متلهّفين للثروات، غير متلهّفين، بمعنى ألّا نسعى لامتلاكها بأيّ ثمن، حتّى ولو كلَّف الأمر الإساءة إلى النـزاهة والحبّ. غير متلهّفين، بمعنى أنّنا، بامتلاكها، نحبّها أكثر مِن السماء أو القريب، وذلك بالامتناع عن فعل المحبّة تجاه القريب، عندما يكون محتاجاً. غير متلهّفين لما يمكن للثروات توفيره، أعني النساء والشهوات والموائد الباذخة والثياب الفاخرة التي تَسخَر مِن بؤس الذين يعانون البرد والجوع. توجد، نعم، توجد أموال بديلة عن أموال العالم الجائرة، ولها قيمة في ملكوت السماوات. وينبغي أن تكون هناك الحنكة المقدّسة لتحويل الثروات البشريّة، الجائرة غالباً أو الـمُسبّبة للجور، إلى كنوز أبديّة. لذلك يجب النـزاهة في الربح، وإعادة ما أُخِذَ بغير عدل، واستخدام خيرات العالم، إنّما بشكل معتدل، ودونما التعلّق بها. يجب معرفة التخلّي عن الثروات، لأنّها ستتخلّى عنّا عاجلاً أم آجلاً. -آه! يجب التفكير بذلك!- بينما الخير الذي نفعله يُلازِمنا أبداً.

 

يودّ الجميع أن يُدعوا "مستقيمين" وأن يُعتَبَروا كذلك، وبذلك ينالون المكافأة مِن الله. ولكن كيف يمكن لله أن يكافئ مَن لا يمتلك مِن الاستقامة سوى الاسم، وهو لا يعمل بها؟ كيف يمكن أن يقول له: "أَغفر لكَ" إذا كان يرى أنّ الندامة ليست سوى بالكلام، ولا يوجد تغيير حقيقيّ في النَّفْس؟ ليست هناك ندامة طالما الرغبة بالأشياء المسبّبة للخطيئة باقية. إنّما تتواجد النّدامة حينما يَتواضَع الإنسان، عندما يَبتر وجدانيّاً الدَّافِع الذي يُشكّل في داخله نبع مَيل شرّير، ويمكن أن يكون هذا امرأة أو ذَهَباً، وحينما يقول: "لأجلكَ يا ربّ لا أريد شيء مِن كلّ هذا"، حينئذ تكون هذه نَدامة حقيقيّة، ويتقبّله الله بقوله: "هلمّ، فأنتَ عزيز على قلبي مثل مخلوق بريء أو بطل.»

 

يُنهي يسوع كلامه، ويمضي دون حتّى أن يلتفت إلى متّى الذي اقتَرَبَ مِن حلقة المستمعين منذ الكلمات الأولى.

 

حين وَصَلوا قريباً من بيت بطرس، هَرَعَت زوجته وهَمَسَت في أذنه أمراً. فأشار بطرس إلى يسوع أن يدنو منه. «إنّها أم يوضاس ويعقوب. وهي تودّ التحدّث إليكَ دون أن يراها أحد. ما العمل؟»

 

«هكذا: أَدخُل أنا إلى البيت وكأنّما لأستريح، وتذهبون أنتم جميعكم لتوزيع الصدقات على الفقراء. خُذ كذلك مبلغ الضريبة الذي لم يشأ أخذه. اذهب.» ويُشير يسوع ليصرفهم جميعاً، بينما يتولّى بطرس أمر حَملهم على الذهاب معه.

 

ويَسأَل يسوع زوجة بطرس: «أين الأُمّ يا امرأة؟»

 

«إنّها على الشرفة يا معلّم، فلا زال هناك ظلّ ورطوبة. اصعد باطمئنان. ستكون هناك حُرّاً أكثر مما لو كنتَ في البيت.»

 

يَصعَد يسوع السلّم الصغير. في إحدى الزوايا، تحت عريشة الكرمة، تجلس مريم التي لحلفى على صندوق صغير، قرب جدار السور، بثياب داكنة، ويكاد وجهها يختفي تحت الوشاح. وهي تبكي بهدوء وبغير جَلَبَة. يناديها يسوع: «مريم، يا امرأة عمّي العزيزة!» فترفع وجهها المسكين القَلِق وتمدّ يديها: «يسوع! أيّ ألم في قلبي!»

 

يسوع إلى جانبها، يجعلها تبقى جالسة بينما هو يظلّ واقفاً، بمعطفه الذي ما يزال يلتحفه، واضعاً يداً على كتف امرأة عمه والأخرى بين يديها. «ماذا بكِ؟ ولماذا كلّ هذه الدموع؟»

 

«آه! يا يسوع! لقد هَرَبتُ مِن البيت قائلة: "أنا ذاهبة إلى قانا لأجلب البيض والنبيذ للمريض". أُمّكَ لدى حلفى تعتني به. إنّها تُجيد ذلك، وأنا مطمئنّة. إنّما في الحقيقة قد أتيتُ هنا. لقد ركضتُ ليلتين كاملتين لأصل بأسرع ما يمكن. لم أعد أستطيع. إنّما بخصوص التعب، فلا يهمّ. ذلك أنّ الألم الذي في القلب هو الذي يضنيني!... حلفاي... حلفاي... أولادي... آه! لماذا كلّ هذا الاختلاف بينهم بينما هُم مِن دم واحد؟ إنّهم كَحَجَري رَحى لطحن قلب أُمّ. هل يعقوب ويوضاس معكَ؟ نعم؟ إذاً، تَعلَم.. يا يسوعي! لماذا حلفاي لا يُدرِك؟ لماذا يموت؟ لماذا يريد أن يموت هكذا؟ وسمعان ويوسف؟ لماذا؟ لماذا هما ليسا إلى جانبكَ، بل إنّما ضدكَ؟»

 

«لا تبكي يا مريم. فأنا لا أَضمُر حقداً لأيّ منهم. وقد قلتُ ذلك أيضاً ليوضاس. أُدرِك وأَرثي. وإذا كنتِ تبكين مِن أجل ذلك، فينبغي أن تَكُفِّي عن البكاء.»

 

«لأجل ذلك، نعم، فهم يسيئون إليكَ. لأجل ذلك وثمّ، وثمّ، وثمّ... لأنّني لا أريد أن يموت زوجي وهو يُضمِر لكَ العداء، فلن يغفر له الله... وأنا... آه! لن يكون لي في الحياة الأخرى...» مريم قَلِقَة حقّاً. تبكي بدموع حارّة على اليد التي تَرَكَها يسوع لها، وبين الفينة والفينة تُقَبِّلها وترفع وجهها الشاحب تجاهه.

 

«لا.» يقول يسوع «لا، لا تتكلّمي هكذا. أنا أغفر، وإذا كنتُ أنا الذي أغفر وأُسامِح...»

 

«آه! تعال يا يسوع. تعال لتنقذ روحه وجسده. تعال... ولكي يُمعِنوا في اتهامكَ يقولون، نعم، إنّهم يقولون إنّكَ خَطَفتَ وَلَدَين مِن أب يحتضر، ويقولون ذلك في الناصرة. أتُدرِك؟ ولكنّهم يقولون كذلك: "إنَّه يجترح المعجزات في كلّ مكان، بينما هو لا يعرف أن يفعلها في بيته". وأنا أُدافِع بقولي: "ماذا يمكنه أن يفعل إذا أنتم أبعدتموه باتّهاماتكم، إذا كنتم لا تؤمنون به؟" وفي هذه الأثناء لا يودّون سماع أيّ شيء.»

 

«حسناً قُلتِ: إذا كانوا لا يؤمنون. فكيف يمكنني فِعلها حيث لا إيمان؟»

 

«آه! كلّ شيء مُستَطاع بالنسبة لكَ! أؤمن عن الجميع! تعال اجتَرِح معجزة... مِن أجل امرأة عمكَ المسكينة...»

 

«لا يمكنني ذلك.» يسوع حزين جدّاً لقوله هذا. واقفاً وَضَامّاً رأس مريم الباكية إلى صدره، يبدو وكأنّه يقرّ أمام الطبيعة الصافية بعدم إمكانيتّه، يبدو أنّه يقدّم لها شهادة تؤكّد ألمه لامتناعه عن ذلك بموجب إرادة أزليّة.

 

ويشتدّ بكاء المرأة.

 

«اسمعي يا مريم. كوني صالحة. أؤكّد لكِ أنّني لو كنتُ أستطيع، لو كان في ذلك خير، لكنتُ فعلتُه. آه! لكنتُ انتَزَعتُ هذه النعمة مِن الآب لأجلكِ، لأجل أُمّي، لأجل يوضاس ويعقوب، وأيضاً، نعم، أيضاً لأجل حلفى ويوسف وسمعان. إنّما لا أستطيع. حاليّاً، الألم في قلبكِ عظيم، ولا يمكنكِ إدراك عدالة عدم تـَمَكُّني. أكلّمكِ عن هذا، ولكنّكِ لن تُدرِكي. عندما حان موعد رحيل وَالِدي، لم أُطِل حياته، وأنتِ تَعلَمين كم كان بارّاً، وكم كانت أُمّي تحبّه. فليس مِن العدل أن تُستَثنى عائلة، يعيش فيها قدّيس، مِن مصائب الحياة الـمُحَتَّمة. لو كان الأمر كذلك، لكان مِن المفروض أن أبقى على الأرض إلى الأبد، إلّا أنّني سوف أموت قريباً، ومريم، أُمّي القدّيسة، لن تتمكّن مِن انتزاعي مِن الموت. لا أستطيع. هذا ما يمكنني فعله وسوف أفعله.» يَجلس يسوع ويضمّ رأس قريبته إلى كتفه. «هذا ما سوف أفعله. بسبب ألمكِ، أعدكِ بالسلام لحلفاكِ، أؤكّد لكِ أنّكما لن تكونا متباعِدَين. أعدكِ بأن تكون عائلتنا مجتمعة في السماء، مجتمعة على الدوام. وطالما أنا أعيش، وحتّى بعد ذلك، سوف أسكُب جَمّاً مِن السلام في قلب قريبتي، جَمّاً مِن القوّة، بحيث أصنع منها رسولاً لدى الكثيرات مِن النساء المسكينات، حيث سيكون التقرّب منهنّ أكثر سهولة بالنسبة لكِ يا امرأة. سوف تكونين صديقة لي محبوبة في زمن التبشير هذا. الموت، لا تبكي، إنّ موت حلفى يحرّركِ مِن واجباتكِ كزوجة، ويرفعكِ إلى مستوى الواجبات الأكثر سُموّاً لِكَهَنوت سرّيّ أنثويّ، كَهَنوت ضروريّ جداً أمام مذبح الضحيّة الكبرى، وأمام الكثيرين مِن الوثنيّين الذين سوف تتأثّر نفسهم بوجود البطولة المقدّسة لدى النساء التلميذات، أكثر مما لو كانت لدى التلاميذ. آه! اسمكِ، يا امرأة عمّي العزيزة، سوف يكون مثل الشعلة في السماء المسيحيّة... لا تبكي بعد. اذهبي بسلام. كوني قويّة، مستسلمة لمشيئة الله، كوني قدّيسة. أُمّي... تَرَمَّلَت قبلكِ... وسوف تشدّ مِن عزيمتكِ كما تعرف أن تفعل. تعالي. لا أريد أن تذهبي وحدكِ تحت هذه الشمس. سيصحبكِ بطرس بالمركب إلى نهر الأردن، ومِن هناك إلى الناصرة على حمار. كوني صالحة.»

 

«باركني يا يسوع، امنحني أنتَ القوّة.»

 

«نعم أبارككِ وأُقَبلِّكِ يا امرأة عمّي العزيزة.» ويُقَبلّها بحنان، ضامّاً إيّاها أيضاً طويلاً إلى قلبه حتّى يراها قد سَكَنَت.