ج7 - ف172
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السابع / القسم الأول
172- (يسوع وأُمّه في حرج متّاتياس)
21 / 08 / 1946
يسوع وحده. إنّه وحيد تماماً في نجد على شكل حوض إلى حدّ ما، والذي بتموّجات خفيفة إنّما متواصلة يتصاعد نحو التلال المحيطة ببحيرة الجليل، ذلك أنّني أراها مِن الأسفل، إلى اليمين، حيث تَعتم زُرقة مياهها الجميلة، بفعل الغروب الذي يحلّ ويحجب أشعّة الشمس المتألّقة والبرّاقة عن جزء واسع مِن سطح البحيرة. وإلى ما وراء الحوض، إلى الشمال، هناك جبال أربيلا، وإلى ما بعد أكثر، إلى ما بعد البحيرة، هناك جبال ميرون وجيسكالا الأكثر علوّاً. وإلى الشمال الشرقيّ، في المدى، إنّما الهائل والملكيّ، الذي يمكن النَّظَر إليه مِن أيّة جهة، حرمون العظيم، الذي تضاء قمّته الأعلى بالشمس الآخذة في الغروب بشكل عجيب، بحيث يتلوّن جانبه الغربيّ بالزبرجد الورديّ، فيما جوانبه الأخرى تتّخذ مسحة لبنيّة تميل إلى الأزرق الثلجيّ الفاتح الذي رأيتُه في بعض الأحيان على قمم جبال الألب خاصّتنا عند الحدود.
هذا ما أراه بالنَّظَر شمالاً، كما أرى إلى اليمين بسهولة البحيرة في الأسفل، وإلى اليسار، التلال الأكثر ارتفاعاً الّتي تعيق رؤية السهل على طول الضفّة. إنّما إذا ما نَظَرتُ جنوباً، فأرى طابور في ما وراء تلالٍ منحدراتها سَلِسَة، والّتي هي حتماً التلال الّتي تحيط بالناصرة. هناك بلدة صغيرة تحت، في الأسفل، قرب طريق مزدحمة جدّاً حيث الناس يحثّون الخطى للوصول إلى حيث أماكن الاستراحة بين المراحل.
يسوع لا ينظر إلى ما أنظر إليه أنا. إنّه فقط يبحث عن مكان كي يجلس، وهو يختاره تحت شجرة سنديان ضخمة، حَمَت أغصانها الـمُورِقة العشب الّذي نما على الأرض حولها مِن القَيظ، وهو لا يزال نَضِراً وكثيفاً، كما لو أنّ الحرارة لم تمرّ مِن هناك حارقة كلّ شيء.
وهكذا فإنّ البحيرة بمواجهة يسوع، وإلى جانبه، وسط الأشجار، الدرب الّذي صَعَدَ عَبره، وفي الجانب الآخر الأرض المتموّجة التي تحيط بالجزء الشماليّ مِن حوض المروج والأحراج حيث هو موجود، والّذي هو أخضر بالكامل، بفضل أشجار السنديان وأشجار أخرى دائمة الخضرة ولا تتأثّر بالخريف. فقط هنا وهناك تُظهِر بقعة حمراء قاتمة، هي لورقة تُغيِّر لونها قبل أن تتساقط، مُفسِحة المجال لورقة جديدة، تبزغ بالقرب مِن تلك التي ماتت.
إنّ يسوع متعب جدّاً ويستند إلى جذع صلب، ويبقى لبعض الوقت وعيناه مغمضتان، كما ليستريح. ولكنّه مِن ثمّ يتّخذ وضعيّته المعتادة، مُبعِداً ظهره عن الجذع، منحنياً قليلاً للأمام، مِرفَقاه على ركبتيه، ساعِداه ممدودان إلى الأمام، يداه مضمومتان وأصابعه متشابكة. إنّه يُفكّر. إنّه بالتأكيد يصلّي. ومِن حين لآخر، بسبب صوت جَلَبَة يَصِل إليه -طيور تتعارك على مكان استراحة لليل، حيوان وسط العشب يتسبّب بتدحرج حجر على طول المنحدر، غصن يصطدم بآخَر جراء هبّة ريح- فإنّه يرفع عينيه، وبنظرة تأمّليّة لا تُرى بالتأكيد، يَنظر باتّجاه مَصدَر الصوت، خاصّة إذا كان مِن جهة الدرب الّذي يصعد وسط أشجار السنديان الخضراء، ومِن ثمّ يخفض عينيه مجدّداً مُركّزاً في ذاته. ينظر لمرّتين بإمعان إلى البحيرة الّتي قد أضحت في الظلّ، ومِن ثمّ يدير رأسه ناظراً صوب الغرب، حيث الشمس قد غابت خلف التلال الـمُحَرَّجة. وفي المرّة الثانية ينهض ويمشي على الدرب ليرى فيما إذا كان هناك أحد ما يَصعَد، ومِن ثمّ يعود ثانية إلى مكانه.
أخيراً يُسمَع صوت خطوات ويَلوح وَجهَان: مريم مرتدية ثوباً أزرقاً غامقاً، ويوحنّا يحمل كِيسين. يوحنّا ينادي مرّتين: «يا معلّم!» وما إن يستدير يسوع يُضيف: «ها هي أُمّكَ» ويساعدها على اجتياز ساقية صغيرة وعلى الخطو فوق الحصى الموضوعة على الدرب بهدف تدعيمه وجعل صعود ونزول الأشخاص أكثر راحة، بينما في الواقع فهي شِراك لـِمَن يحتذون أحذية خفيفة.
يسوع ينهض فوراً لملاقاة أُمّه ويساعدها مع يوحنّا على صعود كتلة مُهَدَّمة يُفتَرَض فيها دعم الهضبة، إنّما فعليّاً وحدها جذور أشجار السنديان هي الّتي تقوم بهذه المهمّة. مريم الآن يسندها ابنها الّذي ينظر إليها ويَسأَلها: «هل أنتِ متعبة؟»
«لا يا يسوع» وتبتسم له.
«ولكن يبدو لي العكس فأنتِ متعبة. آسف لجعلي إيّاكِ تأتين. لكنّني لم أكن لأستطيع المجيء...»
«آه! ليس لذلك أهمّيّة يا بنيّ. إنّني متعرّقة بعض الشيء. لكنّ المكان لطيف هنا... بل بالحريّ أنتَ مُتعَب جدّاً، وأيضاً المسكين يوحنّا...»
لكنّ يوحنّا يهزّ رأسه مبتسماً، وهو يضع كيس يسوع الجديد والملآن وكيسه على العشب، أسفل شجرة السنديان، وينسحب قائلاً: «إنّني ماضٍ إلى أسفل. لقد رأيتُ نبعاً صغيراً. إنّني ذاهب كي أُنعِش نفسي بمائه. إنّما إن ناديتَني، فسوف أسمعكَ» ويمضي كي يتركهما حُرَّين.
مريم تحلّ معطفها وتنزع وشاحها لتمسح العرق الذي يلمع على جبهتها. تنظر إلى يسوع وتبتسم له، وتَنهَل مِن ابتسامته، حيث هو أيضاً يبتسم لها فيما يُلاطِف يدها ويُمرّرها على خدّه ليحظى بملاطفتها. إنّه "بنويّ" جدّاً في تلك الحركة الّتي رأيتُه يقوم بها مرّة! مريم تُحرّر يدها وتُرتّب شعره، نازعة قطعة صغيرة مِن لحاء شجرة مِن خصلاته، وكلّ حركة مِن أصابعها هي مُلاطَفة، بقدر ما هي عظيمة المحبّة الّتي تفعل بها ذلك. وتقول: «إنّكَ تتصبّب عرقاً يا يسوع. إنّ معطفكَ على كتفيكَ رطب، كما لو أنّ المطر قد هطل عليه. إنّما يمكنكَ ارتداء واحد آخر الآن. سوف أُعيد هذا. إنّ الشمس والغبار قد أبهتا لونه. لقد أَعدَدتُ كلّ شيء، و... انتظر! أَعلَم أنّكَ بالكاد قد أَكَلتَ: كِسرة خبز بائت وحفنة مِن الزيتون المالح لدرجة أنّه لَسَعَ حلقكَ. لقد أَخبَرَني يوحنّا الذي لم يفعل شيئاً سوى أن يشرب حالما وَصَل. إنّما قد جَلَبتُ لكَ بعض الخبز الطازج. لقد أخرجتُه للتوّ مِن الفرن، وقرص عسل كنتُ قد أخذتُه مِن قفير النحل البارحة كي أعطيه لأولاد سمعان. إنّما لديَّ أقراص أخرى لهم. خذه يا بنيّ. إنّه مِن منزلنا...» وتنحني لتفتح الكيس، حيث، علاوة على كلّ محتوياته، هناك سلّة خيزران واطئة فيها بعض الفاكهة، وفوقها قرص عسل ملفوف بأوراق كرمة طويلة، وتُقدّم الكلّ لابنها مع بعض الخبز الطازج المقرقش.
وبينما يأكل يسوع، تُخرِج هي مِن الكيس الأثواب التي أَعَدَّتها لأشهر الشتاء، إنّها متينة ودافئة ومناسبة للحماية مِن البرد والمطر، وتُريها ليسوع، الذي يقول لها: «كَم مِن العمل يا أُمّاه! ما تزال لديَّ أثواب الشتاء الماضي...»
«حين يكون الرجال بعيدين عن نسائهم، يجب أن يَحظوا بكلّ شيء جديداً، بحيث لا يكونون بحاجة لرتق أيّ شيء، كي يكونوا لائقين. لكنّني لم أُبدّد شيئاً. معطفي هذا هو معطفكَ القديم، الّذي قَصَّرتُه وأَعَدتُ صباغه. وهو ما يزال جيّداً بالنسبة لي. إنّما ليس لكَ. فأنتَ يسوع...»
الإفصاح عمّا تحمله هذه العبارة، مستحيل. "أنتَ يسوع". عبارة بسيطة. إنّما هي كلّ محبّة الأُمّ، التلميذة، المرأة العبرانيّة السابقة للمسيح الموعود، المرأة العبرانيّة لزمن يسوع المبارك، الّتي تضمّنتها بضع الكلمات تلك. ولو سَجَدَت الأُمّ عابدة ابنها كما الله، لكان تَعَبُّدها مجرّد شكل محدود مِن إظهارها للاحترام. إنّما في هذه الكلمات ما هو أكثر مِن تَعَبُّد ركبتين تنثنيان، ظَهْر ينحني، جَبهة تُلامِس الأرض: هنا كلّ كيان مريم، جسدها، دمها، نَفْسها، قلبها، روحها، محبّتها، تَعَبُّد للإله-الإنسان على نحو تامّ وكامل.
لم أرَ أبداً شيئاً أعظم، أكثر كمالاً مِن تَعَبُّدات مريم هذه لكلمة الله، الّذي هو ابنها، والذي تتذكّر دوماً أنّه إلهها. ما مِن أحد مِن الأشخاص الّذين رأيتُهم يتعبّدون لمخلّصهم، بعدما شفاهم أو هداهم يسوع، ولا حتّى أكثرهم اضطراماً، ولا حتّى أحد أولئك الّذين يتصرّفون مِن غير قصد بطريقة مسرحيّة في التعبير عن محبّتهم، لديه ما يشبه ذلك. إنّهم يحبّون بكلّيتهم، إنّما دوماً كمخلوقات تفتقر لشيء ما كي تكون كاملة. أمّا محبّة مريم، فأجرؤ على القول، إنّها إلهيّة. إنّها تحبّ أكثر مِن مخلوق. آه! إنّها حقّاً ابنة الله المنزّهة عن الخطيئة! لذلك بوسعها أن تحبّ هكذا!... وأُفكّر بما خَسِرَه الإنسان بفعل الخطيئة الأصليّة... وأُفكّر بما سرقه الشيطان منّا باجتذابه أَبَوينا الأَوَّلين. لقد انتَزَعَ منّا المقدرة على محبّة الله مثلما أحبّته مريم... لقد انتَزَعَ منّا المقدرة على الحبّ كما يجب.
وفيما أتأمّل في هذه الأمور وأنا أنظر إلى الثنائي الكامل، فإنّ يسوع، الّذي أنهى وجبته، قد انزلق ليجلس على العشب عند قدميّ أُمّه، واضعاً رأسه على ركبتيّ مريم مثل طفل مُتعَب وحزين يتّخذ لنفسه ملاذاً قرب الوحيدة القادرة على مواساته. ومريم تُداعِب شعره، مُلامِسة بنعومة جبين يسوع الأملس. تبدو راغبة في تبديد كلّ التعب وكلّ الأحزان الّتي تعتري ابنها بملامستها. يسوع يُغمِض عينيه ومريم تتوقّف عن مُلاطَفَته، مُبقية يدها على رأسه، ناظرة أمامها، مستغرقة بالتفكير، دون حراك. ربّما هي تعتقد أنّ يسوع قد نام. إنّه متعب جدّاً…
لكنّ يسوع يُعاوِد فتح عينيه تقريباً في الحال، يرى العتمة تحلّ، ويرى أنّه مِن غير المسموح إطالة ساعة السلوى تلك، لذلك فهو يرفع رأسه، مع البقاء جالساً حيث هو ويقول: «أتعلمين يا أُمّي مِن أين أنا قادم؟»
«نعم، أَعلَم. يوحنّا أخبَرَني. نَفْسان ترجعان إلى الله. فرح لكَ ولي.»
«نعم. وسأنزل إلى أورشليم مع هذا الفرح.»
«كي تُعوّض عن خيبة الأمل الّتي تلقّيتَها في ذات اليوم الّذي افترقنا فيه.»
«كيف تعلمين بذلك؟ هل أخبركِ يوحنّا؟ إنّه الوحيد الذي يَعلَم...»
«لا. لقد سألتُه عن ذلك. لكنّ يوحنّا أجاب: "أُمّاه، سوف ترينه قريباً. اسأليه."»
يسوع يبتسم قائلاً: «يوحنّا وفيّ حتّى في أدقّ الأمور.» بُرهَة تَوَقُّف، ثمّ يَسأَل يسوع: «إذن، مَن حدّثكِ عن الأمر؟»
«ليس لي. لقد جاء... بعض الرجال عند أخيكَ يوسف. و... هو قد أتى إليَّ. كان لا يزال... نعم يا بنيّ. إنّه مِن الأفضل قول الحقيقة. كان لا يزال مستاءاً بعض الشيء بعدما التقاكَ في كفرناحوم، وخصوصاً بعد مناقشته مع يوضاس ويعقوب. لقد التقوا أثناء غيابكَ، ويعقوب، أيضاً، لا وبل يعقوب بالأخصّ، كان قاسياً... قاسياً جدّاً... أقول شديد القسوة. لكنّ الآب الأزليّ، الصالح دوماً، قد استَخرَجَ بعض الخير مِن هذا الخِلاف. حتماً لأنّه كان خِلافاً نابعاً مِن مَصدَريّ محبّة. مختلفين، صحيح، لكنّهما يَظَلّان مِن المحبّة. ناقِصَين، هذا صحيح. لأنّهما لو كانا كامِلَين، ولو على الأقل أحدهما كذلك، لما كان تسبّب بالغضب... ربّما كلمة غضب مُبالَغ فيها لوصف حال نَفْس يعقوب، لكنّه بالتأكيد قد كان شديد القسوة... حتماً أنتَ كنتَ لِتُذَكّره بالمحبّة. أنا... لم أوافق، لكنّني أشفقتُ، لأنّني أدركتُ ما كان يسببّ الاستياء الشديد ليعقوب الطويل الأناة على الدوام. لا يمكن التوقّع منه أن يكون كاملاً... إنّه إنسان. وهو لا يزال مُوغِلاً في الإنسانيّة كذلك. آه! ما تزال هناك طريق طويلة لقطعها قبل أن يصبح يعقوب بارّاً كما كما كان عزيزي يوسف! هو... كان يعرف كيف يسيطر على نفسه... وأن يكون صالحاً على الدوام... ولكنّني أهذي! كنتُ أتحدّث عن محبّة الاثنين الناقصة لكَ- هما بالفعل يحبّانكَ، آه! كثيراً. حتّى يوسف، وإن لو لم يكن ذلك يبدو مِن الوهلة الأولى. إنّها محبّة لكَ كلّ تلك الرعاية التي يُحيط بها هذه المرأة المسكينة. ومحبّة لكَ هي طريقته في التفكير، كإسرائيليّ عتيق متشبّثاً بأفكاره مثل أبيه. إنّه على استعداد لتقديم أيّ شيء ليراكَ محبوباً مِن قِبَل الجميع! على طريقته... بالتأكيد...- إنّما بالعودة إلى الموضوع، ينبغي القول بأنّ يوسف، الذي لم يؤذه سلوك يعقوب الحازم، قد بدأ يأتي إليَّ كلّ يوم. وهل تَعلَم لماذا؟ كي أشرح له الكتابات المقدّسة "كما أنتِ وابنكِ تفهمانها" كما قال لي. تفسير الكتابات المقدّسة في ضوء الحقيقة!... إنّه لأمر صعب عندما يكون مَن يستمع هو يوسف بن حلفى، أي، شخص لديه إيمان راسخ بالمملكة الزمنيّة للمَسيّا، بميلاده الـمَلَكيّ وبكثير مِن الأمور الأخرى!
لقد كان كبرياؤه بالذات هو ما أعانني في جعله يتقبّل فكرة أنّ مَلِك إسرائيل يجب أن يكون مِن سُلالة مَلَكيّة، مِن أصل داود، إنّما مِن غير الضروريّ له أن يُولَد في قصر مَلَكيّ. هو... آه! كَم كان فخوراً بانتمائه لسُلالة داود! لقد قُلتُ له أموراً كثيرة بطريقة لطيفة... وقد حَمَلتُه على إعادة النَّظَر بتلك الفكرة. إنّه الآن يُقِرّ، وفقاً للنبوءات، بأنّكَ أنتَ هو مَن بُشِّر به. إنّما... ما كُنتُ لأنجح في إقناعه، آه! لا، ما كُنتُ لأنجح في إقناعه بأنّكَ، بأنّ عَظَمَتكَ الحَقَّة تتأتّى تماماً مِن كونكَ مَلِك الروح، الأمر الوحيد الذي يجعل منكَ الـمَلِك العالميّ والأزليّ، ولو لم يأتِ أناس يطلبونه لمرّتين... الأوائل، أولئك الذين مِن كفرناحوم ومعهم آخرون، بعدما أغروه بوعود خَلّابة بالعَظَمَة لكلّ الأسرة، وبرؤيتهم أنّه كان قليل الـمَيل إلى الرُّضوخ لمقترحاتهم -لقد كانوا ينتظرون منه أن يجبركَ وأن يجبرني على جعلكَ تَقبَل التاج- لقد فضحوا أنفسهم عندما تحوّلوا إلى التهديد...التهديدات الـمُبَطَّنة المعتادة التي يستخدمونها. سكاكين حادّة مغلّفة بصوف ناعم يجعلها تبدو غير مؤذية... وَرَدَّ يوسف قائلاً: "أنا الأكبر سنّاً، لكنّه راشد، ولا يبدو لي أنّ في عائلتي أغبياء ومجانين. وبما أنّه قد أَصبَحَ راشداً منذ ما يقارب العشرين سنة، وهو يدرك ما يفعل. إذاً فاذهبوا واسألوه، وإذا ما رَفَضَ، فدعوه بسلام. إنّه مسؤول عن أعماله."
بعدها جاء عدد مِن تلاميذكَ، وقد كانت عشية السبت تحديداً... أتحدّق بي يا بنيّ؟ اسمح لي بألّا أذكر أسماءهم، إنّما اسمح لي بأن أطلب منكَ أن تغفر لهم... إنّ ابناً كان قد رَفَعَ يده بوجه أبيه العجوز، ولاويّاً كان قد دَنَّسَ المذبح ويخاف مِن غضب يهوه، ما كانا ليكونا مثلما كانوا... لقد أتوا مِن كفرناحوم حيث كانوا يبحثون عنكَ... كانوا قد أتوا عبر طريق البحيرة مِن كفرناحوم إلى مجدلا، ومِن ثمّ إلى طبريّا آمِلين أن يعثروا عليكَ. وقد التقوا بهَرْماس واستفانوس، اللذين كانا ذاهبين نزولاً إلى أورشليم مع آخرين بعدما حلّا ضيفين على غَمَالائيل لبضعة أيّام. لا أريد أن أكرّر ما قالوه، وما كانوا يريدون أن يقولوه، وكانوا يتحرّقون لأن يقولوه لكَ. لكنّ كلامهم فَاقَمَ ألم التلميذين اللذين قد ضَلّا إلى حدّ الانضمام لأولئك الذين يريدون خيانتكَ بالدَّهن بِـمَسح زائف. يوسف كان عندي عندما أتوا، وقد كان ذلك أمراً حسناً. آه! إنّ يوسف لم يصل إلى النور بعد، لكنّه بالفعل عند بزوغ خيوط فجره الأولى. يوسف أَدرَكَ الفخ و... عزيزنا يوسف مُولَع بكَ بشدّة الآن. إنّه يحبّكَ، لا أجرؤ على القول: بحقّ، إنّما على الأقلّ كَبِكر يعاني لمعاناتكَ، يسهر على سلامتكَ، يعرف أعداءكَ…
هذا هو سبب عِلمي بما فعلوه بكَ يا بنيّ. إنّه ألم... وفرح، لأنّ أكثر مِن واحد قد عرفوكَ على حقيقتكَ. هذا الألم والفرح لي ولكَ. ونحن نغفر للجميع، أليس كذلك؟ لقد غَفَرتُ بالفعل لأولئك الّذين نَدِموا، بقدر ما هو مسموح لي بأن أغفر.»
«أُمّاه، كان بإمكانكِ أن تغفري لهم أيضاً بالنيابة عنّي. لأنّني قد غَفَرتُ لهم إذ رأيتُ قلوبهم. إنّهم بشر... لقد أَحسَنتِ القول!... إنّما بي أيضاً فرح رؤية يوسف يمضي قُدُماً نحو فجر النور الحقّ...»
«نعم. كان يأمل بأن يراكَ. مِن الـمُستَحسَن أن تراه. لقد كان غائباً اليوم حتّى المغيب. وسوف يكون حزيناً لعدم رؤيتكَ. إنّما سيكون بوسعه ذلك في أورشليم.»
«لا يا أُمّي. لن أبقى في أورشليم بحيث يراني الناس. يتوجّب عليَّ أن أُبشّر المدينة والقرى المحيطة بها، وقد أُطرَد على الفور في حال عَثَروا عليَّ. لذلك سيكون عليَّ أن أتصرّف كَمَن يفعل شرّاً، في حين أنّني لا أريد سوى فِعل الخير... لكنّ الأمر هو هكذا.»
«فإذن، ألن ترى يوسف؟ سوف يغادر غداً لعيد المظالّ. كان بإمكانكما أن تسافرا معاً...»
«لا أستطيع...»
«أَهُم بالفعل يضطهدونكَ إلى هذا الحدّ يا بنيّ؟» كم هناك مِن انقباض للنَّفْس في صوت الأُمّ!
«لا يا أُمّي. لا. ليس أكثر مِن ذِي قبل. كوني مطمئنّة. بل حتّى... أرواح صالحة تأتي إليَّ. وآخرون، غير الصالحين، يتوقّفون للتفكير، فيما قبلاً كانوا يَضربون دونما سبب، التلاميذ آخذون في الازدياد، الأقدم منهم يزدادون ثقافة، الرُّسُل يصبحون أكثر كمالاً. أنا لا أتحدّث عن يوحنّا: فهو كان دوماً نعمة قد مَنَحَها لي الآب، ولكنّني أقصد سمعان بن يونى وآخرين. يمكنني القول بأنّ سمعان يتغيّر يوماً إثر يوم مِن الإنسان الّذي كان عليه إلى رسول، وأنتِ تعلمين ما الّذي أعنيه. وهو يمنحني فرحاً كثيراً. ونثنائيل وفيلبّس يتحرّران مِن قيود أفكارهما. وتوما و... إنّما ما الّذي أقوله؟ كلّهم. نعم، صدّقيني. كلّهم صالحون في الوقت الحاضر: إنّهم فرحي. عليكِ أن تطمئنّي عندما تعلمين بأنّني معهم: إنّهم الأصدقاء، الـمُعزّون، المحامون عن ابنكِ. أتمنّى لو أنّكِ كنتِ مُصانة ومحبوبة هكذا!»
«آه! أنا لديَّ مريم، لديَّ زوجتا يوسف وسمعان وهما بذاتهما وأولادهما. لديَّ حلفى الطيّب. ومِن ثمّ، مَن في الناصرة لا يحبّ مريم الناصرية؟ ينبغي أن تكون مطمئنّاً... إنّ قرية بأسرها تحبّ أُمّكَ.»
«لكنّهم لا يحبّونني بعد، باستثناء البعض. أنا أَعلَم، وإنّني مُدرِك بأنّ محبّتهم لكِ مطبوعة بالشّفقة الّتي يشعر بها الإنسان تجاه أُمّ مجنون ومتشرّد. وأنتِ تعلمين بأنّني لستُ كذلك وبأنّني أحبّكِ. تعلمين أنّ الانفصال عنكِ هو، لن أقول الأعظم، بل هو الطاعة الـمُستَحبَّة الأكثر إيلاماً الّتي يطلبها منّي الآب...»
«نعم يا بنيّ! أنا أَعلَم. إنّما أنا لستُ أتذمّر مِن أيّ شيء. بالتأكيد أنا أودُّ، بل أُفَضِّل أن أكون معكَ، على الطرق الـمُوحِلة، مُعَرَّضة للرياح، نائمة في العَراء، مُضطَهَدة، مُتعَبَة، بلا منزل ومَوقِد، دون خبز، كما هو حالكَ غالباً، بدلاً مِن أن أكون في بيتي، بينما أنتَ بعيد، ولا أَعلَم كيف هو حالكَ، حينما أُفكّر فيكَ. ولو كنتَ معي وأنا معكَ، لكنتَ ستعاني أقل وأنا كنتُ سأعاني أقلّ... لأنّكَ ابني وبوسعي دوماً أن أضمّكَ بين ذراعيَّ وأحميكَ مِن البرد، مِن قَسوة الأحجار، وفوق كلّ شيء مِن القلوب القاسية، بمحبّتي، على صدري، بذارعيَّ. إنّكَ ابني. لطالما ضَمَمتُكَ إلى قلبي في المغارة، في السفر إلى مصر، وفي طريق العودة، دوماً حينما كان يمكن لغدر الفصول والبشر أن يؤذيكَ. لماذا لا يمكنني القيام بذلك الآن؟ ألربّما لم أعد أُمّكَ، ألأنّكَ الآن الإنسان؟ أما عاد للأُمّ أن تكون كلّ شيء لابنها، لأنّه لم يعد صغيراً؟ أعتقد بأنّني لو كنتُ معكَ فلن يكونوا قادرين على إيذائكَ... لأنّه ما مِن أحد... لا. إنّني ساذجة... إنّكَ الفادي... والبشر، لقد لاحَظتُ ذلك، ليس لديهم رحمة حتّى تجاه أُمّهاتهم بالذات... لكن دعني آتي معكَ. بالنسبة لي كلّ شيء أفضل مِن أن أكون بعيدة عنكَ.»
«لو كان البشر أفضل، لكنتُ عُدتُ إلى الناصرة. إنّما حتّى الناصرة... لا يهمّ. سوف يأتون إليَّ. في الوقت الحاضر سوف أمضي إلى الآخرين... ولا يمكنني اصطحابكِ معي. لن أعود إلى هنا إلّا عندما يُدرِكون مَن أنا. إنّني الآن ماضٍ إلى اليهوديّة... سوف أذهب إلى الهيكل... ومِن ثمّ سأبقى في تلك المنطقة... سوف أجول في السامرة مرّة ثانية. سوف أعمل حيث الكثير مِن العمل الذي يتعين إنجازه. كذلك يا أُمّي، أنصحكِ بأن تكوني مستعدّة كي تنضمّي إليَّ قريباً في أوائل الربيع، وأن تمكثي قريباً مِن أورشليم. فسوف يكون مِن الأسهل لنا أن نلتقي. سوف أمضي مجدّداً إلى المدن العشر عدّة مرّات وسوف نلتقي مجدّداً... آمُل ذلك. إنما مِن حيث المبدأ، سوف أبقى في اليهوديّة. إنّ أورشليم هي النعجة الأكثر حاجة إلى رعاية لأنّها حقّاً أكثر عِناداً مِن كبش عجوز، وأكثر عدوانيّة مِن تيس برّيّ. إنّني ذاهب إلى هناك لنشر الكلمة مثل الندى الذي لا يكلّ أبداً مِن النزول على قَحطِها...»
يسوع يَنهَض، يتوقّف وينظر إلى أُمّه التي تُحدّق به بانتباه، يفتح فاه ثمّ يهزّ رأسه قائلاً: «ما يزال هناك ما يُقال قبل الأمر الأخير... أُمّاه، إذا ما كان يوسف يريد التحدّث إليَّ، فليكن عند فجر يوم ما بعد الغد على الطريق التي تمضي مِن الناصرة إلى يزرعيل عبر جبل طابور. سأكون هناك وحدي أو مع يوحنّا.»
«سأُبلّغه ذلك يا بنيّ.»
يَسود صمت، صمت مُطبِق، لأنّ الطيور قد كَفَّت عن التشاجر على الأغصان الـمُورِقة، وأيضاً الريح قد هدأت بينما يَعتم الغسق بازدياد. وبعدها، يسوع، الذي يبدو أنّه قد وَجَدَ صعوبة في قول الكلمات الأخيرة: «أُمّاه، الاستراحة قد انتهت... قُبلة يا أُمّي. وبركتكِ.» يتبادلان القُبلات ويباركان بعضهما البعض.
ومِن ثمّ، وفيما ينحني يسوع لالتقاط وِشاح أُمّه، ينادي يوحنّا كما لجعل الكلمات أقلّ وَطأَة، يقول: «عندما تأتين إلى اليهودية اجلبي لي ثوبي الأجمل. ذاك الذي نَسَجتِه لي مِن أجل الأعياد الـمَهيبة. ففي أورشليم يجب أن أكون "المعلّم" بالمعنى الأوسع، وأيضاً أكثر بشريّة بشكل محسوس، لأنّ تلك النُّفوس المنغلقة والرّيائية تنظر إلى الخارج: إلى الثوب، أكثر منه إلى الداخل: المذهب. وهكذا حتّى يهوذا الإسخريوطيّ سوف يكون سعيداً... ويوسف سيكون راضياً وهو يراني بِرِداء مَلَكيّ. آه! سيكون ذلك انتصاراً! والثوب الذي نَسَجتِه سوف يساهم في ذلك...» ويبتسم هازّاً رأسه لتلطيف الحقيقة القاسية الّتي تخفيها تلك الكلمات.
لكنّ الأمر لا ينطلي على مريم. إنّها تنهض وتتّكئ على ذراع يسوع صائحة: «بنيّ!» بحزن يمزّق القلب جَعَلَني أتألّم. يسوع يضمّها وهي تبكي على صدره…
«أُمّي، لهذا السبب أردتُ أن أتكلّم معكِ في ساعة السلام هذه... إنّني أئتمنكِ على سرّي وعلى ما هو أعزّ ما أملك هنا على الأرض. ما مِن أحد مِن تلاميذي يَعلَم بأنّنا لن نعود إلى هنا حتّى يتمّ كلّ شيء. إنّما أنتِ... لا أسرار تُخفى عنكِ... لقد وَعَدتُكِ بذلك يا أُمّي. لا تبكي. ما زال لدينا ساعات كثيرة نقضيها معاً. لهذا أقول لكِ: "تعالي إلى اليهوديّة." فوجودكِ بقربي سوف يعوّضني عن الإعياء الأكثر صعوبة في تبشير أولئك الناس ذَوي القلوب المتحجّرة الّتي تعيق كلمة الله. تعالي مع التلميذات الجليليّات. سوف يكنّ مفيدات جدّاً لي. يوحنّا سوف يُعنى بتأمين مأوى لكِ ولهنّ. لنصلِّ معاً الآن، قبل أن يعود. ومِن ثمّ ستعودين إلى البلدة، وأنا أيضاً سآتي ليلاً...»
يُصلّيان معاً، ويَبلُغان آخر كلمات الأبانا عندما يَظهَر يوحنّا، الّذي، وفي النور الخافت، وعندما يصبح قريباً، يرى باستغراب آثار الدموع على وجه مريم. لكنّه لا يبدي أيّ تعليق. إنّه يحيّي المعلّم ويقول له: «عند الفجر سأكون على الطريق خارج الناصرة... تعالي يا أُمّي. خارج الحرج ما يزال هناك نور، والطريق في الأسفل مضاء بفوانيس العربات السائرة عليه...»
مريم تُقَبّل يسوع ثانيةً وهي تبكي تحت وِشاحها، ومِن ثمّ، بمعونة يوحنّا الّذي يمسكها مِن مِرفَقها، تهبط الدرب، ومِن ثمّ تتّجه نزولاً صوب الوادي.
يسوع يبقى وحده، كي يصلّي، كي يُفكّر، كي يبكي. لأنّ يسوع يبكي فيما يراقب أُمّه تنزل. ثمّ يعود إلى حيث كان قبلاً، ويتّخذ ذات الوضعيّة السابقة، فيما تزداد الظلال والسكون أكثر فأكثر مِن حوله.