ج8 - ف2

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثامن

 

2- (اليهود مع مرثا ومريم)

 

19 / 12 / 1946

 

على الرغم مِن أنّها منسحقة ألماً وتعباً، فإنّ مرثا لا تزال سيّدة المنزل الّتي تعرف الترحيب والاستقبال، مانحة التكريم بامتياز كامل لسيّدة المنزل الحقيقيّة. وهكذا، الآن، وبعد أن قادت هذه المجموعة إلى إحدى القاعات، فهي تعطي أوامرها لجلب المرطّبات المعتادة، كي يحظى الضيوف بأكثر ما يمكن مِن الراحة.

 

الخُدّام يَدورون مازِجين مشروبات ساخنة أو خموراً فاخرة، ومقدِّمين فواكه رائعة، تُمُوراً شقراء كالياقوت الأصفر، زبيباً، شيئاً يشبه عنبنا، حيث العناقيد كاملة ورائعة، عسل سائل، الكلّ في قوارير، أقداح، صحون، أطباق فاخرة. ومرثا تراقب بحذر لئلاّ يُهمَل أحد، لا بل إنّها تدقّق في ما يقدّمه الخدّام، وفقاً للأعمار، وكذلك ربّما وفقاً للأشخاص، الّذين تعرف أذواقهم. وهكذا فهي تُوقِف خادماً، كان ذاهباً نحو حِلقِيّا مع قارورة مملوءة بالنبيذ وكأس، وتقول له: «طوبيا، ليس نبيذاً، بل ماء بالعسل وعصير تمر.» ولآخر: «بالتأكيد يوحنّا يفضّل النبيذ. قَدِّم له نبيذ الزبيب الأبيض.» وهي بذاتها تُقدّم للكاتب المسنّ حنانيا حليباً ساخناً، المحلّى بوفرة بعسل ذهبي قائلةً: «إنَّه جيد لسعالكَ. لقد ضحّيتَ كي تأتي، لا سيّما وأنّكَ مريض، في هذا اليوم البارد. إنّني متأثّرة برؤيتكم مهتمّين لهذه الدرجة.»

 

«إنّه واجبنا يا مرثا، إنّ أوكيريا تنتمي لعرقنا. يهوديّة حقيقية كانت قد كَرَّمتنا كلّنا.»

 

«إنّ الثناء الموجّه للذكرى الـمُبَجَّلة لأُمّي يمسّ قلبي، سوف أردّد هذه الكلمات للعازر.»

 

«لكنّنا نريد أن نلقي عليه التحيّة. هكذا صديق عزيز!» يقول حِلقِيّا بتدليسه المـعتاد بينما يقترب منها.

 

«تُلقون عليه التحيّة؟ ذلك غير ممكن، إنّه مُنهَك للغاية.»

 

«آه! لن نزعجه. أليس كذلك، أنتم كلّكم؟ يكفينا وداع مِن عند عتبة غرفته» يقول فيلكس.

 

«لا أستطيع، حقّاً لا أستطيع. إنّ نيقوميدوس يعارض الإرهاق والانفعالات.»

 

«نظرة خاطفة على صديقنا الـمحتضر لا يمكن أن تقتله يا مرثا» يقول كالّاستشيبونا. «سوف يحزننا كثيراً ألاّ نُلقي عليه التحيّة!»

 

مرثا مضطربة، متردّدة. تنظر نحو الباب، ربّما لترى إذا ما كانت مريم تأتي لـمساندتها. لكنّ مريم غائبة.

 

اليهود يلاحظون اضطرابها هذا، وصادوق، الكاتب، يُلمّح بذلك إلى مرثا: «يبدو أنّ مجيئنا يوتّركِ يا امرأة.»

 

«لا. على الإطلاق. تَفَهَّموا ألمي. لأشهر وأنا أعيش بالقرب مِن الـمحتضر و… لم أعد أعرف… ما عدتُ أُحسِن التصرّف كما في ما مضى في الاحتفالات...»

 

«آه! هذا ليس احتفالاً! لم نكن حتّى لنريد أن تكرّمينا لهذه الدرجة! لكن ربّما… ربّما تريدين أن تخفي عنّا شيئاً ما، ولذلك أنتِ لا تدعيننا نرى لعازر، وتمنعيننا مِن الذهاب إلى غرفته. هه! هه! معلوم! إنّما لا تخافي! إنّ غرفة المريض هي ملاذ مقدّس لأيّ كان، ثقي بذلك...» يقول حِلقِيّا.

 

«ليس هناك ما نخفيه في غرفة شقيقنا. ليس هناك شيء مخبّأ فيها. ليس فيها سوى رجل يحتضر، والّذي مِن باب الرحمة يجب تجنيبه كلّ ذكرى مؤلمة. وأنتَ يا حِلقِيّا، وأنتم كلّكم ذكريات مؤلمة للعازر.» تقول مريم بصوتها المتناغم الرائع، فيما تظهر عند العتبة، وهي تزيح بيدها الستارة الأرجوانيّة.

 

«مريم!» تئنّ مرثا متوسّلةً، لِتُوقفها.

 

«لا شيء يا أختي. دعيني أتكلّم...» ثمَّ تُخاطِب الآخرين: «ولإزالة كلّ شكّ، أحدكم -ستكون ذكرى واحدة فقط مِن الماضي تعود لتُسبّب الألم- ليأتِ معي، فيما إذا كانت رؤية محتضر لا تجعله يشمئزّ، وإذا كانت الرائحة النتنة لجسد يموت لا تُسبّب له الغثيان.»

 

«وأنتِ ألستِ ذكرى تسبّب الألم؟» يقول ساخراً الهيروديّ، الّذي كنتُ قد رأيتُه قبلاً لا أدري أين، الّذي يترك ركنه ويقف قُبالة مريم.

 

مرثا تتأوّه، مريم تبدو مثل نسر قلق. عيناها تومضان. إنّها تستقيم بعنفوان، ناسيةً الإرهاق والحزن اللذين كانا يحنيانها، وبملامح مَلِكَة مُهانة تقول: «نعم. أنا كذلك ذكرى. إنّما ليس للألم كما تقول. أنا ذكرى لرحمة الله. ولعازر يموت بسلام وهو يراني، لأنّه يعلم بأنّه يستودع روحه بين يديّ الرحمة اللامتناهية.»

 

«ها! ها! ها! لم تكوني لتتكلّمي هكذا في الماضي! فضيلتكِ! يمكنكِ أن تُظهِريها لأولئك الّذين لا يعرفونكِ...»

 

«إنّما ليس لكَ، أليس كذلك؟ على العكس، سوف أضعها تماماً نُصبَ عينيكَ، كي أقول لكَ بأنّنا نغدو شبيهين بِمَن نعاشر. وعليه، للأسف، كنتُ بجواركَ، وكنتُ مثلكَ. الآن أنا بجوار القدّوس، وأنا أصبح مستقيمة.»

 

«ما تهدّم لا يمكن إعادة بنائه يا مريم.»

 

«بالفعل، أنتَ، أنتم كلّكم، لم يَعُد بمقدوركم أن تُعيدوا بناء ماضيكم. لا يمكنكم إعادة بناء ما قد هدمتموه، لا أنتَ الّذي تثير اشمئزازي، ولا أنتم الّذين أهنتم أخي، في زمن الألم، والآن، لغرض غامض، تريدون أن تُظهِروا بأنّكم أصدقاؤه.»

 

«آه! أنتِ وَقِحة يا امرأة. قد يكون الرابّي أخرج منكِ العديد مِن الشياطين، لكنّه لم يجعلكِ وديعة!» يقول شخص يبلغ حوالي الأربعين عاماً.

 

«لا يا يوناثان بن حنّان. هو لم يجعلني ضعيفة. إنّما أقوى وبجسارة مَن هو شريف، مَن أراد أن يعود شريفاً مجدّداً، ويقطع كلّ ارتباط مع الماضي ليبدأ حياة جديدة. هيّا! مَن سيأتي لرؤية لعازر؟» إنّها آمرة كَمَلِكة، تُهيمن عليهم كلّهم بصراحتها، إنّها بلا رحمة حتّى تجاه نفسها. مرثا، على العكس، إنّها منقبضة، الدموع تملأ عينيها اللتين تحدّقان في مريم بتوسّل كي تصمت.

 

«آتي أنا!» يقول حِلقِيّا، متنهّداً كأنّه ضحيّة، وهو مُخادِع  مِثل حيّة.

 

يَخرُجان معاً. الآخرون يُخاطِبون مرثا: «أختكِ!... ما تزال بتلك الشخصيّة. لا يجدر بها. يلزمها الكثير لتُكفِّر» يقول أوريل، الرابّي الّذي شُوهِد في جيسكالا، الّذي ضرب يسوع بحجر.

 

مرثا، تحت وقع تلك الكلمات، تستردّ قوّتها وتقول: «الله غفر لها، كلّ مغفرة أخرى لا قيمة لها بعد هذه. وحياتها الحاليّة هي مثال للعالم.» إنّما سرعان ما تسقط جرأة مرثا وتتحوّل إلى دموع. إنّها تُنوح باكيةً: «إنّكم متوحّشون! تجاهها… وتجاهي… لا رأفة لديكم لا تجاه الألم الماضي، ولا تجاه الألم الراهن. لماذا أتيتم؟ للإساءة والإيلام؟»

 

«لا يا امرأة، لا. لقد جئنا فقط لإلقاء التحيّة على اليهوديّ العظيم الّذي يحتضر. وليس لأيّ سبب آخر! يجب ألاّ تُسيئي تفسير نوايانا الطيّبة. لقد علمنا مِن يوسف ونيقوديموس بتفاقم الحالة وأتينا… مثلهما، وهما الصديقان الحميمان للرابّي وللعازر. لماذا تُريدان مُعاملتنا بشكل مُختلف، نحن الّذين نحبّ الرابّي ولعازر مثلهما؟ إنّكما لستما عادلتين، هل يمكنكِ ربّما القول بأنّهما، إضافة ليوحنّا، ألعازر، فيلبّس، يشوع ويواكيم، لم يأتوا ليستعلموا عن حالة لعازر، وبأنّ مَنَاين لم يأتِ أيضاً؟...»

 

«أنا لا أقول شيئاً. إنّما أنا مندهشة كونكم تعرفون كلّ شيء جيّداً. لم أكن أفكّر أنّ حتّى خصوصيّة المنازل مراقبة مِن قِبَلكم، لم أكن أعلم بوجود شريعة جديدة بالإضافة إلى الشرائع الـ 613: للتحقيق والتجسّس على الشؤون الخاصّة للعائلات… آه! عذراً! إنّني أُهينكم! الحزن يثير جنوني، وأنتم تُفاقِمونه.»

 

«آه! نحن نتفهّمكِ يا امرأة! ولأنّنا فكّرنا بأنّكما كنتما مضطربتين، جئنا لنقدّم لكما نصيحة جيّدة. أَرسِلا في طلب المـعلّم. فالبارحة قد أتى سبعة برص ليباركوا الربّ لأنّ الرابّي كان قد شفاهم. استدعياه أيضاً مِن أجل لعازر.»

 

«أخي ليس أبرصاً.» تصيح مرثا بتشنّج. «ألهذا السبب تريدون رؤيته؟ ألهذا السبب جئتم؟ لا، إنّه ليس أبرصاً! انظروا إلى يديّ. إنّني أعتني به منذ سنوات وليس هناك برص عليَّ. جلدي محمرّ بسبب الطيوب، إنّما ليس عندي برص. ليس عندي...»

 

«اهدئي! اهدئي يا امرأة. ومَن يقول لكِ بأنّ لعازر أبرص؟ ومَن يشكّ بارتكابكما هكذا خطيئة شنيعة، الّتي هي إخفاء أبرص؟ وهل تظنّين أنّه وعلى الرغم مِن كلّ نفوذكم، بأنّنا ما كنّا لنعاقبكم لو ارتكبتم خطيئة؟ نحن قادرون حتّى على أن ندوس على جسد أب وأُمّ، زوجة وأولاد، في سبيل أن تظلّ الشرائع مُطاعة. أنا أقول لكِ ذلك. أنا، يوناثان بن عوزيل.»

 

«ولكن بالتأكيد! الأمر هو هكذا! والآن نقول لكِ، بدافع الخير الّذي نريده لكِ، بدافع المحبّة التي كنّا نكنّها لأُمّكِ، بدافع المحبّة التي نكنّها للعازر، استدعيا الـمعلّم. هل تهزّين رأسكِ؟ أتعنين بأنّه قد فات الأوان على ذلك؟ كيف؟ ألا تؤمنين به، أنتِ، مرثا، التلميذة الـمُـخلِصة؟ هذا أمر خطير! هل بدأتِ تشكّين أنتِ أيضاً؟» يقول أرخيلاوس.

 

«أنتَ تجدّف أيّها الكاتب، أنا أؤمن بالمـعلّم كما أؤمن بالله الحقّ.»

 

«لماذا لا تريدين الـمحاولة إذن؟ هو قد أقام الموتى… أو على الأقلّ هذا ما يقال… أيمكن ألاّ تعلمي أين هو؟ إن أردتِ، نحن سوف نبحث عنه، نحن سوف نساعدكِ» يلمّح فيلكس.

 

«ولكن لا! بالتأكيد في منزل لعازر معلوم أين يكون الرابّي. قولي ذلك صراحة يا امرأة، ونحن سوف ننطلق ونبحث عنه ونأتيكِ به، وسوف نكون حاضرين عند اجتراح الـمعجزة لنبتهج معكِ، معكم كلّكم.» يقول صادوق مُـجَرِّباً.

 

مرثا حائرة، تكاد تستسلم للإغراء. الآخرون يلحّون بينما هي تقول: «أنا لا أعلم أين يكون… أنا حقّاً لا أعلم… لقد رحل منذ بضعة أيّام وقام بوداعنا كَمَن يرحل لفترة طويلة… كان سيكون تعزية لي أن أعلم أين هو… لو على الأقل كنتُ أعلم ذلك… لكنّني في الحقيقة لا أعلم...»

 

«أيّتها المرأة المسكينة! لكنّنا سوف نساعدكِ… سوف نأتيكِ به.» يقول كورنيليوس.

 

«لا! فذلك ليس ضروريّاً. الـمعلّم… أنتم تتحدّثون عنه، أليس كذلك؟ الـمعلّم قال بأنّه يتوجّب علينا أن نرجو إلى أبعد ما يمكن الرجاء، وبالله وحده. ونحن سوف نفعل ذلك.» تقول بصوت هادر مريم الّتي عادت مع حِلقِيّا، الّذي يفارقها حالاً وينحنى ليتكلّم مع الفرّيسيّين الثلاثة.

 

«إنّما هو يحتضر، حسبما أسمع!» يقول أحدهم، الّذي هو دوراس.

 

«ومع ذلك؟ فليمت! أنا لن أُعرقل حكم الله ولن أعصى الرابّي.»

 

«وبماذا تريدين أن ترجي بعد الموت، أيّتها المعتوهة؟» يسخر الهيروديّ.

 

«ماذا؟ الحياة!» الصوت هتاف إيمان مُطلَق.

 

«الحياة؟ ها! ها! كوني صريحة. تعرفين أنّ قدرته هي بلا قيمة أمام موت حقيقيّ، وبسبب محبّتكِ البلهاء نحوه فإنّكِ لا تريدين لذلك بأن يظهر.»

 

«أُخرجوا، كلّكم! كان على مرثا أن تفعل ذلك. لكنّها تخشاكم. أنا أخشى فقط الإساءة لله، الّذي غفر لي. فإذاً أقول لكم ذلك عوضاً عن مرثا. أُخرجوا، كلّكم. ما مِن مكان في هذا المنزل لِمَن يكرهون يسوع المسيح. إلى الخارج! إلى جحوركم المـظلمة! الكلّ إلى الخارج! وإلاّ فسوف أجعل الخـُدّام يطردونكم مثل قطيع صعاليك نجسين.»

 

إنّها مَهيبة في غضبها. اليهود يلوذون بالفرار، جبناء إلى أقصى الحدود، مِن أمام هذه المرأة. حقاً إنّ تلك المرأة تبدو كرئيس ملائكة غاضب…

 

القاعة تفرغ، ونظرات مريم، كلّما اجتاز أحدهم العتبة مارّاً مِن أمامها، تُحدِث مذراة غير ماديّة، تحتها يجب أن ينحني كبرياء اليهود المغلوبين. القاعة تصبح خالية أخيراً.

 

مرثا تنهار على السجّادة وتنفجر بالبكاء.

 

«لماذا تبكين يا أختاه؟ لا أرى مبرّراً لذلك...»

 

«آه! لقد أَهَنتِهم… وهم أهانوكِ، أهانونا… والآن سوف يثأرون… و...»

 

«ولكن اصمتي، أيّتها المرأة الجزعة البلهاء! ممّن تريدينهم أن يثأروا؟ مِن لعازر؟ قبلها عليهم أن يتشاوروا، وقبل أن يقرّروا… آه! لا يُنتَقَم مِن ميّت! منّا؟ أنحن بحاجة إلى خبزهم كي نعيش؟ لن يمسّوا أملاكنا. إنَّ ظلّ روما يُخيّم فوقها. ومِن أيّ شيء إذن؟ وحتّى لو كانوا قادرين على فِعل ذلك، ألسنا شابّتين وقويّتين؟ ألسنا قادرتين على العمل؟ أليس يسوع فقيراً؟ ألم يكن يسوعنا عاملاً؟ ألن نكون أكثر شبهاً به، إن كنّا فقيرتين وعاملتين؟ يتوجّب عليكِ أن تكوني فخورة إن أصبحتِ كذلك! تأمّلي ذلك! أطلبيه مِن الله!»

 

«إنَّما ما قالوه لكِ...»

 

«ها! ها! ما قالوه لي! هو الحقيقة. إنّني أقوله لنفسي كذلك. لقد كنتُ دَنِسة. أمّا الآن فأنا نعجة الراعي الصغيرة! والماضي قد مات. هيّا، تعالي إلى لعازر.»