ج9 - ف14
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: ماري حلمي وفيكتور مصلح.
الجزء التاسع
14- (العشاء الفصحيّ)
09 / 03 / 1945
بداية آلام الخميس المقدّس.
الرُّسُل، وعددهم عشرة، يعملون بهمّة على إعداد العلّيّة.
يهوذا متسلّقاً المنضدة، ينظر إذا ما كان الزيت متوفّراً في جميع أسرجة المصباح الكبير الّذي يشبه تويج زهرة الفوشيا المزدوجة، ذلك أنّ الساق المتدلّي محاط بخمسة مصابيح شبيهة بالبتلات، ثمّ دور ثان، أخفض منه، أشبه بتاج حقيقيّ بشعلات صغيرة، ثمّ هناك أخيراً ثلاثة مصابيح نحيلة معلّقة بسلاسل تشبه مِدقّات الزهرة المضيئة.
ثمّ يقفز إلى الأرض ويساعد أندراوس في وضع الأواني بفنّ على المائدة الّتي مُدَّ عليها مَفرَش في غاية الرقّة. وأسمع أندراوس يقول: «يا له مِن كتّان رائع!»
والاسخريوطيّ: «واحد مِن أفضل ما لدى لعازر. وقد شاءت مرثا بشكل حتميّ أن تجلبه.»
«وهذه الكؤوس؟ وهذه الجرار إذن؟» يراقب توما الّذي وضع الخمر في الجرار الثمينة وهو ينظر إليها بإعجاب، ناظراً إلى نفسه كما المرآة في بطونها الدقيقة، ويلمس مقابضها المنقوشة بعين خبير.
«مَن يدري أيّة قيمة لها، إيه؟» يَسأَل يهوذا الاسخريوطيّ.
«مشغولة بالمطرقة. أبي يصاب بالجنون إن رآها. أوراق الفضّة والذهب تُلوى بالحرارة بسهولة. ولكن أن تُشتَغَل هكذا... يمكن في لحظة ما أن يخرب العمل كله. يكفيها ضربة سيّئة. تلزم القوّة مع الخفّة في نفس الوقت. هل ترى المقابض؟ إنّها مُشَكَّلة مِن الكتلة نفسها. ليست ملحومة. أشياء ثمينة... فَكِّر في كلّ البُرادة وبقايا الترقيق الّتي تُهدَر. لا أعرف إن كنتَ تفهمني.»
«إيه! بلى أفهم! فهذا مثلما يفعل النحّات.»
«تماماً هو هذا.»
الجميع يُبدون إعجابهم، ثمّ يرجعون إلى عملهم. هذا يضع المقاعد وآخر يعدّ خزائن الأطباق.
يدخل بطرس وسمعان معاً.
«آه! أخيراً أتيتما! أين ذهبتما مِن جديد؟ بعد أن وصلتما مع المعلّم ومعنا، عاودتما الهرب.» يقول الاسخريوطيّ.
«مُهمّة أخرى قبل أن يحين الوقت.» يجيب سمعان باختصار.
«هل أنتَ مكتئب؟»
«أعتقد أنّ مع ما سمعناه في هذه الأيّام، ومِن هذه الشفاه الّتي لم نسمعها تكذب قط، فهناك سبب وجيه.»
«ومع رائحة النتانة هذه لـ.... حسن، اصمت يا بطرس.» يدمدم بطرس بين أسنانه.
«أنتَ أيضاً! تبدو لي مجنوناً منذ بضعة أيّام. وجهكَ مثل أرنب برّي يشعر أن وراءه ابن آوى.» يجيب يهوذا الاسخريوطيّ.
«وأنتَ، لكَ خطم نمس. أنتَ أيضاً، لستَ كثير الجمال منذ عدّة أيّام. تنظر بطريقة... لكَ حتّى عين منحرفة... مَن تنتظر أو ماذا تأمل أن ترى؟ تبدو مفعماً بالثقة، تريد إظهار ذلك، لكنّكَ تبدو كَمَن ينتابه خوف.» يجيب بطرس.
«آه! مِن جهة الخوف!... حتّى أنتَ لستَ بطلاً بالتأكيد!»
«لا أحد منّا بطل يا يهوذا. أنتَ تحمل اسم المكابيّ، ولكنّكَ لستَ هو. أنا أقول، مع أنّ اسمي: "الله يُنعِم"، ولكنّي أُقسِم لكَ أنّني أحمل في ذاتي رعشة مَن يحمل شقاء، وبالأخصّ مَن هو مجرّد مِن نعمة الله. إنّ سمعان بن يونا، الّذي تغيّر اسمه إلى "الصخرة"، هو الآن مائع مثل الشمع قرب النار. لم يعد متحكّماً بإرادته. ذاك الّذي لم أره قطّ يرتعش في أعنف العواصف! يبدو متّى وبرتلماوس وفليبس وكأنّهما يسيران وهما نائمان. أخي وأندراوس لا يفعلان سوى التنهّد. ابنا العم، اللذان لديهما ألم القربى مع ألم حبّ المعلّم، انظر إليهما. يبدوان وقد شاخا. توما فقد مرحه. وسمعان يبدو وكأنّه عاد الأبرص المنهك قبل ثلاث سنوات بقدر ما حفره الألم، أحسبه متآكلاً، ممتقعاً، ذليلاً.» يجيبه يوحنّا.
«نعم، لقد أثّر علينا كلّنا بسوداويّته.» يلاحظ الاسخريوطيّ.
«ابن عمّي يسوع، معلّمي وربّي وربّكم، سوداويّ هو وليس سوداويّاً. إن كنتَ تريد القول، بهذا التعبير، إنّه حزين بسبب الآلام الشديدة الّتي تسبّبها له إسرائيل كلّها، والّتي نراها، وللألم الآخر المخفيّ الّذي يراه هو وحده، فأقول لكَ: "أنتَ على صواب". ولكن إن استخدمتَ هذا التعبير لتقول إنّه مجنون، فأنا أمنعكَ.» يقول يعقوب بن حلفى.
«أوَليست الفكرة السوداويّة الراسخة ضرباً مِن الجنون؟ لقد درستُ أنا أيضاً أموراً وثنيّة، وأعلم. لقد بذل الكثير مِن ذاته. وروحه الآن منهك.»
«وهذا معناه العته [الخبل]. أليس كذلك؟» يسأل ابن العم الآخر يوضاس، الهادئ في الظاهر.
«هو كذلك تماماً! كان والدك قد رأى صواباً، فهو بارّ بذاكرة مقدّسة، وأنتَ تشبهه في البرّ والحكمة! إنّ يسوع، المصير المحزن لمنـزل عريق مغرق في القِدم ومبتلى بالهرم النفسيّ، كان له ميل لهذا المرض على الدوام. قد بدأ خفيفاً، ثمّ تفاقم شيئاً فشيئاً. قد رأيتَ كيف هاجم الفرّيسيّين والكَتَبَة، الصدّوقيّين والهيروديّين. لقد جعل حياته مستحيلة مثل طريق مغطّى بشظايا صوّان. وهو الّذي وضعها بذاته. نحن... قد أحببناه طالما الحب أخفى لنا ذلك. إنّما أولئك الّذين أحبّوه دون أن يعبدوه: والدك، أخوكَ يوسف، وسمعان في البداية، بالصواب رأوا... كان علينا أن نفتح عيوننا لدى سماعهم. على العكس، فقد أغوتنا كلّنا فتنته اللطيفة كمريض. والآن... واحسرتاه!»
يوضاس تدّاوس، الّذي هو بحجم الاسخريوطيّ، هو في مواجهته تماماً ويبدو كأنّه يستمع إليه بهدوء، ينتفض بعنف، وبظاهر يد قويّة، يرمي يهوذا على أحد المقاعد، وبغضب مُسَيطَر عليه، دون انفجار صوت، وإذ ينحني ينفخ في وجهه الجبان، ولا تظهر على يهوذا أيّة ردّة فعل، ربّما خوفاً مِن أن يكون تداوس على علم بجريمته: «هذا مِن أجل العته، أيّها الدنيء! ولأنّه فقط قريب، ولأنّه مساء الفصح لا أخنقكَ. ولكن فكّر، فكّر جيّداً! إن أصابه شرّ ولم يعد موجوداً هنا كي يوقف عزمي، فلن ينقذكَ أحد. وكما لو كان الحبل على رقبتكَ، ستقوم هاتان اليدان الأمينتان والقويّتان لنجّار مِن الجليل وسليل لرامي المقلاع على جليات بتلك المهمّة. قف. أيّها الفاسق المائع! وانتبه لسلوككَ.»
يقف يهوذا، ممتقعاً، دون أدنى ردّة فعل. وما يدهشني، أنّه لم ينفعل أحد لتصرّف تدّاوس الجديد. بل على العكس!... مِن الواضح أنّهم جميعاً يوافقونه.
ما كاد الجوّ يسكن حتّى دخل يسوع. يقف أمام عتبة الباب الصغير الّذي تمرّ قامته الفارعة منه بصعوبة، يضع رجله على المسطّح الصغير، وبابتسامته الوديعة والحزينة، يقول وهو يفتح ذراعيه: «السلام معكم.» صوته متعب كمن يعاني نفسيّاً وجسديّاً.
ينـزل، ويداعب الرأس الأشقر ليوحنّا الّذي جرى إلى جانبه. وكما لو كان يجهل كلّ شيء، يبتسم لابن عمّه يوضاس ويقول لابن عمّه الآخر: «أُمّكَ ترجوكَ أن تكون لطيفاً مع يوسف. لقد سأل النساء للتوّ عن أخباري وأخباركَ. آسف لأنّني لم أسلّم عليه.»
«ستفعل غداً.»
«غداً؟... لكن سيكون لديَّ دائماً الوقت لرؤيته... آه! يا بطرس! أخيراً سنبقى معاً قليلاً! منذ أمس، وأنتَ تبدو لي مثل شعلة المستنقعات، أراكَ، ثمّ لا أعود أراكَ. اليوم يمكنني القول إنّني تقريباً فقدتُكَ. أنتَ أيضاً يا سمعان.»
«شَعْرنا الّذي بياضه أكثر مِن سواده يمكنه أن يؤكّد لكَ أنّنا لم نغب بسبب رغبة جسديّة.» يقول سمعان بجدّية.
«رغم أنّ... في كلّ الأعمار يمكن لهذا الجوع أن يكون... الكهول! أسوأ مِن الشباب...» يقول الاسخريوطيّ مهاجماً.
ينظر إليه سمعان ويهمّ بالردّ. لكنّ يسوع ينظر إليه أيضاً ويقول: «هل لديكَ ألم في أسنانكَ؟ خدّكَ الأيمن متورّم وأحمر.»
«نعم، أتألّم. ولكنّه لا يستحقّ الاهتمام به.»
الآخرون لا يقولون شيئاً، وينتهي الموضوع بهذا الشكل.
«هل قمتم بما يلزم؟ أنتَ يا متّى؟ وأنتَ يا أندراوس؟ وأنتَ يا يهوذا، هل فكّرتَ في التقدمة للهيكل؟»
الأوّلان، وكذلك الاسخريوطيّ يقولون: «كلّ ما قُلتَه لنقوم به اليوم فعلناه. فاطمئنّ.»
«لقد حملتُ باكورات لعازر إلى يُوَنّا امرأة خُوزي لأجل الأطفال. لقد قالوا لي: "تلك التفاحات كانت أفضل!" كان فيها طعم الجوع، تلك! وكانت تفاحاتكَ.» يقول يوحنّا مبتسماً وحالماً.
يبتسم يسوع أيضاً لذكرى…
«لقد رأيتُ نيقوديموس ويوسف.» يقول توما.
«هل رأيتَهما؟ هل تكلّمتَ معهما؟» يَسأَل الاسخريوطيّ باهتمام مبالغ فيه.
«نعم. ما الغريب في هذا؟ يوسف زبون جيّد لأبي.»
«لم تقل هذا مِن قبل... ولهذا أنا مندهش!...» يحاول يهوذا أن يزيل الانطباع، الّذي كان قد أحدثه مِن قبل، عن قلقه بشأن لقاء يوسف ونيقوديموس مع توما.
«يبدو لي غريباً عدم مجيئهما إلى هنا لتقديم الاحترام لكَ. لا هما ولا خُوزي ولا مَنَاين... ولا أحد مِن...»
ولكنّ الاسخريوطيّ بضحكة زائفة، يقاطع برتلماوس ويقول: «التمساح يتخفّى في الأرض عند اللزوم.»
«ماذا تقصد؟ إلامَ تلمح؟» يَسأَل سمعان بعدوانيّة لم يسبق له أن كان بها.
«هدوءاً! هدوءاً! ماذا بكم؟ إنّها الأمسية الفصحيّة! لم نحظَ أبداً بمثل هذه الأبّهة الّتي تليق بأكل الحَمَل. فلنأكل إذاً العشاء بروح سلاميّ. أرى أنّني سبّبتُ لكم اضطراباً شديداً بتعاليمي في الأمسيات الأخيرة هذه. ولكن أترون؟ لقد انتهيتُ! الآن لن أسبّب لكم المزيد مِن الاضطراب. لم يُقَل كلّ ما يتعلّق بي. فقط الأساسيّ منه. الباقي... ستدركونه فيما بعد. سيقال لكم... نعم. سيأتي مَن يقوله لكم. يوحنّا، اذهب مع يهوذا وآخر لجلب أواني التطهير. ثمّ فلنجلس إلى المائدة.» يقول يسوع في رقّة ممزّقة.
يوحنّا مع أندراوس، يوضاس تداوس مع يعقوب، يجلبون الآنية الكبيرة، ويسكبون فيها الماء ويقدّمون المنشفة ليسوع ولرفاقهم الّذين يفعلون معهم الشيء نفسه. الآنية [حوض مِن المعدن] توضَع في ركن.
«والآن إلى أماكنكم. أنا هنا، وهنا (إلى اليمين) يوحنّا، وعلى الجانب الآخر الوفيّ لي يعقوب. أوّل تلميذين لي. بعد يوحنا، صخرتي القويّة، وبعد يعقوب، ذاك الّذي مثل الهواء، لا نلاحظه ولكنّه دائماً حاضر ويعزّي: أندراوس. بجانبه، ابن العم يعقوب. ألا تتذمّر يا أخي الوديع إن أعطيتُ المكان الأوّل للأوائل؟ أنتَ ابن أخ البار، الّذي ترفرف روحه وتحوم عليَّ في هذه الأمسية أكثر مِن أيّ وقت آخر. لتحظَ بالسلام، يا أبا ضعف طفولتي، البلوطة الّتي ارتاح في ظلّها الأُمّ والابن! ليكن لكَ السلام! وبعد بطرس: سمعان... سمعان، تعال إلى هنا لحظة. أريد أن أحدّق في وجهكَ الوفيّ... ففيما بعد لن أراكَ إلاّ بصعوبة لأنّ الآخرين سيحجبون عنّي وجهكَ الفاضل. شكراً يا سمعان. مِن أجل كلّ شيء.» ويعانقه.
سمعان، حينما يتركه، يعود إلى مكانه واضعاً يديه على وجهه في تعبير عن الحزن.
«مقابل سمعان، عزيزي برتلماوس، اثنان مِن النـزاهة والحكمة ينعكسان على بعضهما. حسناً كونهما معاً، وإلى جانبه، أنتَ يا أخي يوضاس. هكذا أراكَ... وسيبدو لي وكأنّني في الناصرة... عندما كانت تجمعنا بعض الاحتفالات معاً على مائدة واحدة... وأيضاً في قانا... هل تذكر؟ كنّا معاً. احتفال... حفلة عرس... أوّل معجزة... الماء المحوَّل خمراً... اليوم أيضاً احتفال... واليوم أيضاً ستكون معجزة... الخمر سيغيّر طبيعته... ويصبح...»
يستغرق يسوع في أفكاره، رأسه منحن، وكأنّه منعزل في عالمه السرّي. ينظر إليه الآخرون ولا يتكلّمون.
يرفع رأسه ثانية ويحدّق بيهوذا الاسخريوطيّ، الّذي يقول له: «ستكون قبالتي.»
«هل تحبني إلى هذه الدرجة؟ أكثر مِن سمعان، حتّى تريدني دائماً قبالتكَ؟»
«للغاية. أنتَ قلتَ.»
«لماذا يا معلّم؟»
«لأنّكَ أنتَ الّذي عملتَ مِن أجل هذه الساعة أكثر مِن الجميع.»
يلقي يهوذا نظرة مختلفة على المعلّم ورفاقه. على الأوّل نظرة إشفاق، وعلى الآخرين نظرة انتصار.
«وإلى جانبكَ، متّى مِن جهة ومِن الأخرى توما.»
«إذاً متّى عن يساري، وتوما عن يميني.»
«كما تريد، كما تريد.» يقول متّى. «يكفيني أن يكون مخلّصي قبالتي.»
«الأخير فيلبّس. هاكم، أترون؟ مَن ليس له مكان الشرف إلى جانبي، فله الشرف أن يكون قبالتي.»
يسوع، وهو واقف في مكانه، يسكب الخمر في الكأس الكبير الموضوع أمامه (الجميع أمامهم كؤوس طويلة، إنّما هو لديه كأس أكبر كثيراً، إضافة إلى المشابه للكؤوس الأخرى. يُفتَرَض أنّه الكأس الطقسيّ). يرفعه، يقدّمه ويضعه.
ثمّ جميعاً معاً يسألون بنغمة مزمور: «لماذا هذا الطقس؟» سؤال له صيغة خاصّة، يُفهم على أنّها طقسيّة.
يسوع، كما ربّ عائلة، يجيب: «هذا اليوم يذكّر بحرّيتنا مِن مصر. مبارك يهوه الّذي خلق ثمرة الكرمة.» ويشرب جرعة مِن هذا الخمر الّذي قدّمه ويمرّر الكأس للآخرين. ثمّ يقدّم الخبز، يقسمه ويوزّعه، ثمّ الخضار المغموسة في الصلصة الحمراء الموضوعة في أربع مِن الأواني.
وبمجرد أن انتهى هذا الجزء مِن الوجبة، يرتّلون المزامير جوقة.
يُجلَب مِن الخزانة طبق الحَمَل المشوي الكبير ويوضع على المائدة أمام يسوع.
بطرس الّذي يؤدّي دور... الصوت الأوّل للجوقة، إن شئتم، يَسأَل: «لماذا هذا الحمل المقدَّم هكذا؟»
«في ذكرى إسرائيل حين افتُدي بالحمل المذبوح. لم يمت البكر حيث كان الدم يلمع على قائمتيّ الباب والساكف (الجزء الّذي يلي تاج العمود). وبعد ذلك، وبينما كانت مصر تبكي أولادها البكور الموتى، بدءاً مِن القصر الملكي حتّى أوضع كوخ، بدأ اليهود، يقودهم موسى، مسيرتهم تجاه أرض الحريّة والوعد. أحقاؤهم مشدودة، ونعالهم في أرجلهم والعصا في اليد، تعجّل شعب إبراهيم السير مرتلين ترانيم الفرح».
يقف الجميع وينشدون: «حين خرج إسرائيل مِن مصر وبيت يعقوب مِن وسط الشعب البربريّ، صارت اليهوديّة ملاذه.» الخ.
الآن، يقطع يسوع الحَمَل، ويسكب كأساً جديدة، ويمرّرها بعد أن يشرب منها. ثمّ يرتّل أيضاً: «أيّها الأولاد، سبّحوا الربّ. فليكن مباركاً اسم الأزليّ الآن ودائماً على مرّ العصور. مِن المشرق إلى المغرب فليُمَجَّد اسمه.» إلخ.
يوزّع يسوع الأجزاء، منتبهاً إلى أن يأخذ كلّ واحد قسماً طيّباً، تماماً كأب لعائلة بين الأولاد الأعزّاء عليه جميعهم. إنّه مهيب، حزين قليلاً، فيما يقول: «شهوة اشتهيتُ أن آكل هذا الفصح معكم. هذه رغبة رغباتي مذ كنتُ مِن الأزل "المخلّص". كنتُ أعلم أنّ هذه الساعة تسبق الأخرى، والفرح ببذل ذاتي، كان يضع هذه التعزية في المقدّمة قبل استشهادي... شهوة اشتهيتُ أن آكل هذا الفصح معكم لأنّني لن أذوق ثمرة الكرمة حتّى يأتي ملكوت الله. حينئذ سأجلس مِن جديد مع المختارين إلى وليمة الحَمَل، لعرس الأحياء مع الحيّ. ولكن سيأتي إليه فقط مَن كانوا متواضعين وأنقياء القلب مثلي.»
«يا معلّم، قلتَ قبل قليل أنّ مَن ليس له شرف المكان إلى جانبكَ، فله شرف أن يكون قبالتكَ. إذاً كيف نعرف مَن هو الأوّل بيننا؟» يَسأَل برتلماوس.
«الجميع ولا أحد. مرّة... كنّا عائدين متعبين... مع غثيان حقد الفرّيسيّين. ولكنّكم لم تكونوا تعبين مِن المناقشة بينكم عمّن هو الأعظم... وطفل جرى بالقرب منّي... واحد مِن أصدقائي الصغار... وبراءته لَطّفت اشمئزازي مِن أشياء كثيرة. لم تكن هذه آخر بشريّتكم العنيدة. أين أنتَ الآن يا صغيري بنيامين صاحب الإجابة الحكيمة الّتي أوتيتَها مِن السماء، ذلك أنّكَ الملاك الّذي كنتَه، فالروح كان يكلّمكَ؟ قد قُلتُ لكم آنذاك: "إن أراد أحد أن يكون أوّلاً، فليكن الأخير وخادم الكلّ". وأعطيتُكم كَمَثَل الطفل الحكيم. الآن أقول لكم: "ملوك الأمم يسودونهم. والشعوب الـمُضطَهَدة، رغم كراهيّتهم لهم، يهلّلون لهم، ويدعونهم الملوك ’المحسنين‘ و’آباء الوطن‘، ولكنّ الكراهية تكمن تحت مظهر الاحترام الكاذب". فلا يكن الأمر هكذا بينكم. بل ليكن الأكبر فيكم كالأصغر، والرئيس كالخادم. مَن بالفعل هو الأكبر؟ هل هو الجالس على المائدة، أم الّذي يخدم؟ هو الجالس على المادة. ومع ذلك أنا أخدمكم. وعمّا قليل سأخدمكم أكثر بعد. إنّكم مَن كنتم معي في المحن، وأنا أعدّ لكم مكاناً في ملكوتي، عندما سأكون فيه مَلِكاً وفقاً لمشيئة أبي، لتأكلوا وتشربوا على مائدتي الأبديّة، وتجلسوا على العروش لتدينوا أسباط إسرائيل الاثني عشر. إنّكم قد لبثتم معي في المحن... وليس سوى هذا ما يمنحكم العظمة في عينيّ الآب.»
«والّذين سيأتون؟ ألن يكون لهم مكان في الملكوت؟ نحن فقط؟»
«آه! كم مِن أمير في بيتي! كلّ الّذين كانوا مخلصين للمسيح في تجارب الحياة سيصيرون الأمراء في ملكوتي. لأنّ الّذين ثابروا حتّى النهاية في بلوى الوجود سيصيرون مماثلين لكم أنتم، الّذين ثبتّم معي في محني. إنّني أتماثل في الّذين يؤمنون بي. إنّ الألم الّذي أعانقه مِن أجلكم ولكلّ الناس أعطيه كتعليم للمختارين بشكل خاصّ. مَن سيكون مخلصاً لي في الألم سيكون واحداً مِن مطوبيّ المماثلين لكم، أيا أحبّائي.»
«نحن ثابرنا حتّى النهاية.»
«أتظنّ هذا يا بطرس؟ وأنا أقول لكَ إنّ ساعة المحنة لم تأتِ بعد. سمعان، سمعان بن يونا، هو ذا الشيطان قد طلب أن يغربلكم مثل الحنطة. وأنا صلّيتُ لأجلكَ لئلاّ يتزعزع إيمانكَ. وأنتَ متى تبت، فثبّت إخوتكَ.»
«أنا أعلم أنّي خاطئ. ولكنّي سأكون وفيّاً لكَ حتّى الموت. لم تكن لي تلك الخطيئة، ولن تكون أبداً.»
«لا تكن متكبّراً يا عزيزي بطرس. هذه الساعة ستُغيّر أموراً لا حصر لها، قد كانت قبلاً هكذا والآن ستصير مختلفة. كم مِن أمور!... تجلب وتفرض ضرورات جديدة. أنتم تعرفون ذلك. قُلتُها لكم دائماً، حتّى عندما كنّا نمضي في دروب منعزلة، يرتادها اللصوص: "لا تخافوا، لن يصيبكم أيّ شرّ لأنّ ملائكة الربّ معنا. لا تهتمّوا لشيء." هل تتذكّرون حينما كنتُ أقول لكم: "لا تقلقوا بشأن ما تأكلون أو ما تلبسون. إنّ الآب يعلم ما نحن بحاجة إليه؟" كنتُ أقول لكم أيضاً: "الإنسان أفضل كثيراً مِن عصفور ومِن الزهرة الّتي هي اليوم نبتة وغداً هي تبن. ومع ذلك يعتني الآب كذلك بالزهرة وبالعصفور الصغير. فهل لكم أن تشكّوا إذاً في عنايته بكم؟" وكنتُ أقول لكم أيضاً: "أعطوا كلّ مَن يسألكم، والذي يهينكم، قدّموا له خدّكم الآخر". كنتُ أقول لكم: "لا تحملوا مالاً ولا عصا". لأنّني علّمتُكم المحبّة والثقة. أمّا الآن... الآن هو ليس ذاك الزمن. الآن أقول لكم: "هل أعوزكم شيء إلى الآن. هل أُهِنتم أبداً؟"»
«لا شيء يا معلّم. أنتَ وحدكَ أُهِنتَ.»
«أنتم ترون إذاً أن كلمتي كانت صادقة. ولكنّ الربّ قد دعا ملائكته جميعاً الآن. إنّها ساعة الشياطين... إنّ ملائكة الربّ يغطّون عيونهم بأجنحتهم الذهبيّة، يستترون ويتألّمون لأنّ أجنحتهم ليس لها لون الغمّ، ذلك أنّها ساعة حداد، حداد قاسٍ، انتهاك مقدّسات... لا ملائكة على الأرض هذا المساء. هم أمام عرش الله يُغطّون بأناشيدهم لعنات العالم قاتل الله وبكاء البريء. ونحن وحدنا... أنتم وأنا: بمفردنا. والشياطين هم سادة الساعة. كذلك سنأخذ الآن مظاهر ومعايير الناس المساكين الّذين يرتابون ولا يحبّون. الآن مَن له كيس فليأخذ أيضاً خُرْجاً، ومَن ليس له سيف فليبع رداءه وليشترِ واحداً، لأنّ ذلك أيضاً قد قيل عنّي في الكتب وينبغي له أن يتمّ: "قد أُحصيَ مع الأثمة". ففي الحقيقة كلّ ما يختصّ بي له غايته.»
سمعان، الّذي نهض ليذهب إلى الصندوق حيث وضع رداءه الثمين -فبالفعل في هذا المساء يلبس الجميع أفضل ملابسهم، ومعهم بالتالي في أحزمتهم الفاخرة خناجرهم، المرصّعة والقصيرة جدّاً، الأقرب إلى السكاكين منها إلى الخناجر- يأخذ سيفين، سيفين حقيقيّين، طويلين، لهما انحناءة خفيفة، ويحضرهما إلى يسوع: «أنا وبطرس مسلّحان هذا المساء. معنا هذان، أمّا الآخرون فليس معهم سوى الخنجر القصير.»
يسوع يتناول السيفين، يتفحّصهما، يستلّ أحدهما مِن غمده ويجرّب مدى حدّة نصله على أحد أظافره. مشهد غريب، ورؤية ذلك السلاح الوحشيّ بين يديّ يسوع تعطي انطباعاً أكثر غرابة بعد.
«مَن أعطاكما إيّاهما؟» يَسأَل الاسخريوطيّ فيما يسوع يراقب بصمت. ويظهر يهوذا وكأنّه على شوك…
«مَن؟ أُذكّركَ أن أبي كان نبيلاً، وذا سلطان.»
«ولكن بطرس...»
«وبعد؟ منذ متى ينبغي أن أقدّم حساباً عن الهدايا الّتي أريد أن أقدّمها لأصدقائي؟»
يرفع يسوع رأسه بعد أن يعيد السلاح إلى غمده ويرجعه إلى الغيور.
«حسناً، هذا يكفي. أحسنت بأخذهما. إنّما الآن، قبل أن نشرب الكأس الثالث. انتظروا لحظة. قد قُلتُ لكم إنّ الأكبر فيكم كالأصغر وإنّني الخادم على هذه المائدة، وسأخدمكم أكثر بعد. إلى الآن أعطيتُكم غذاء. خدمة للجسد. والآن أريد أن أعطيكم غذاء للروح. هو ليس طَبَقاً مِن الطقس القديم. بل هو ينتمي إلى الطقس الجديد. لقد شئتُ أن أعتمد قبل أن أصبح "المعلّم". فمن أجل نشر الكلمة كان هذا العماد كافياً. أمّا الآن فالدم سيُهرق. إذا يلزم عماد جديد حتّى لكم، أنتم الّذين قد تطهّرتم، على يد المعمدان، في زمانه، وكذلك اليوم في الهيكل. ولكنّ هذا لا يكفي أيضاً. تعالوا أطهّركم. أوقفوا العشاء. هناك شيء أكثر سموّاً وأكثر ضرورة مِن الطعام المعطى ليملأ المعدة، حتّى وإن كان طعاماً مقدّساً مثل طعام الطقس الفصحيّ. إنّه روح نقيّ، مهيّأ لتلقّي نعمة السماء الّتي تنـزل الآن كي تجعل لها عرشاً فيكم وتمنحكم الحياة. تمنح الحياة لمن كان طاهراً.»
ينهض يسوع، ويجعل يوحنّا ينهض ليسهل خروجه مِن مكانه، ويذهب إلى صندوق ويخلع ثوبه الأحمر ليطويه ويضعه على الرداء المطويّ آنفاً، ويأتزر بمنشفة كبيرة، ثمّ يذهب إلى حوض آخر ما يزال فارغاً ونظيفاً. يصبّ فيه ماء ويحمله إلى وسط الغرفة، بجوار المائدة، ويضعه على أحد المقاعد. ينظر إليه الرُّسُل مندهشين.
«ألا تسألوني ماذا أفعل؟»
«نحن لا نعرف. أقول لكَ إنّنا قد تطهّرنا.» يجيب بطرس.
«وأنا أكرّر لكَ، هذا لا أهمّية له. تطهيري يلزم كي يجعل الطاهر أكثر طهراً.»
ويركع، ويحل سير نعل الاسخريوطيّ ويغسل قدميه الواحدة بعد الأخرى. إنّه مِن السهل القيام بذلك، إذ إنّ المتّكآت متوضّعة بشكل تكون فيه الأقدام باتّجاه الخارج. يهوذا منذهل ولا يقول شيئاً. وفقط حينما يسوع، قبل أن يُلبِسه حذاءه في القدم اليسرى ويقف، يقوم بحركة تقبيل قدمه اليمنى الّتي كانت آنذاك مُنتَعلة، يسحب يهوذا قدمه بسرعة ويضرب بنعله الفم الإلهيّ. يفعل ذلك بغير قصد. لم تكن ضربة قويّة، ولكنّها تسبّب لي ألماً شديداً. يبتسم يسوع، وللرسول الّذي يسأله: «هل أذيتُكَ؟ لم أكن أريد... سامحني.» يجيب «لا، يا صديقي، لقد قمتَ به بغير سوء نيّة وهذا لا يسيئني.» ينظر إليه يهوذا… نظرة مرتعشة، هاربة....
ثمّ ينتقل يسوع إلى توما، ثمّ فليبس... يتبع الجهة الضيقة مِن المائدة ويصل إلى ابن عمه يعقوب. يغسله، وأثناء نهوضه يُقبّله في جبهته. ينتقل إلى أندراوس الّذي يحمرّ خجلاً ويبذل جهداً كيلا يبكي، يغسله، يلاطفه كطفل، ثمّ إلى يعقوب بن زَبْدي الّذي لا يكفّ عن التمتمة: «آه! يا معلّم! يا معلّم! يا معلّم! أنتَ تتلاشى، يا معلّمي السامي!» يوحنّا كان قد حلّ سير نعليه وبينما ينحني يسوع كي يمسح له قدميه، ينحني ليقبّل له شعره. أمّا بطرس!... فليس سهلاً إقناعه بهذا الطقس!
«أأنتَ تغسل رجليّ؟ لا تفكّر بذلك! طالما أنا حيّ، لن أسمح بذلك. أنا دودة، وأنتَ الله. لكلٍّ منّا مكانته.»
«الّذي أعمله أنا لا يمكنكَ أن تفهمه الآن. ولكنّكَ ستفهمه فيما بعد. دعني أفعل.»
«كلّ ما تريده يا معلّم. هل تريد أن تقطع رقبتي؟ اقطعها. أمّا أن تغسل رجليّ فلن يكون أبداً.»
«آه! يا سمعاني! ألا تعلم أنّه إن لم أغسلكَ فلن يكون لكَ نصيب في ملكوتي؟ سمعان، سمعان! أنتَ محتاج لهذا الماء مِن أجل نفسكَ والطرق الكثيرة الّتي عليكَ سلوكها. ألا تريد أن تأتي معي؟ إن لم أغسلكَ، فلن تأتي إلى ملكوتي.»
«آه! يا ربي المبارك! اغسلني إذن بالكامل! رجليّ، يديّ ورأسي!»
«إنّ الّذي اغتسل، مثلكم، لا يحتاج إلاّ إلى غسل الأرجل، لأنّه طاهر كلّه. أمّا الأرجل... فالإنسان بأرجله يمضي في القذارات. وهذا ليس بشيء، فكما قلتُ لكم، ليس ما يدخل ويخرج مع الطعام هو الّذي يلوّث، وليس ما يعلق بالأرجل في الطريق هو الّذي ينجّس الإنسان. بل ما يُحتَضن ويُنضَج في قلبه ويصدر منه لينجّس أفعاله وأعضاءه. وأرجل الإنسان ذي النَّفْس الدنسة تمضي إلى الخلاعات، إلى الفسق، إلى التجارات المحرَّمة، إلى الجرائم... فهي إذن مِن بين أعضاء الجسم، الّتي تحتاج بالأكثر إلى التطهير... مع العينين، والفم... آه! أيّها الإنسان! الإنسان! الكائن الكامل يوماً، الأوّل! ثم أُفسِد للغاية مِن قِبَل المغوي! ولم يكن فيكَ خبث أيا أيّها الإنسان ولا خطيئة!... والآن؟ كلّكَ خبث وخطيئة، وما مِن جزء فيكَ لا يخطئ!»
يغسل يسوع قدميّ بطرس، يقبّلهما، ويبكي بطرس ويأخذ بين يديه الضخمتين يديّ يسوع، وييمرّرهما على عينيه ليقبّلهما بعد ذلك.
سمعان أيضا يخلع نعليه ويستسلم للغسل دونما كلام. ولكن بعدها، عندما يهمّ يسوع بالانتقال إلى برتلماوس، يركع سمعان ويقبّل قدميّ يسوع قائلاً: «طهّرني مِن برص الخطيئة كما طهّرتَني مِن برص الجسد، حتّى لا أُخزى ساعة الدينونة، يا مخلّصي!»
«لا تخف يا سمعان. ستأتي إلى المدينة السماويّة أبيض كالثلج.»
«وأنا يا ربّ؟ لبرتلماوس العجوز ماذا تقول؟ أنتَ رأيتَني تحت ظلّ الّتينة وقرأتَ قلبي. والآن ماذا ترى، وأين تراني؟ طمئن عجوزاً مسكيناً يخشى ألاّ تكون لديه القوّة والوقت ليصل إلى ما تشاء أن يكون.» برتلماوس في غاية التأثّر.
«أنتَ أيضاً لا تخف. لقد قُلتُ آنذاك: "هذا إسرائيليّ حقيقيّ لا غشّ فيه". والآن أقول: "هذا مسيحيّ حقيقيّ أهل بالمسيح". أين أراكَ؟ على عرش أبديّ، لابساً الأرجوان. سأكون دائماً معكَ.»
هو دور يوضاس تدّاوس. هذا، حينما يرى يسوع عند قدميه، لا يتمالك نفسه، فيميل برأسه على ذراعه الّذي على المائدة ويبكي.
«لا تبكِ يا أخي الوديع، أنتَ تبدو الآن كمن عليه أن يتحمّل نزع عصب منه ويبدو لكَ عدم تمكّنكَ التحمّل. ولكنه سيكون ألماً قصيراً. ثمّ... آه! ستصبح سعيداً لأنّكَ تحبّني. أنتَ تُدعى يوضاس، وأنتَ مثل يوضاسنا الكبير: كعملاق. أنتَ الّذي تحمي. أفعالكَ أفعال أسد وشبل يزأر. ستكتشف الكفرة فيتراجعون أمامكَ، والجائرون يرتعدون. أنا، أعلم. كن شجاعاً. وسيضمّنا ثانية اتّحاد أبديّ وتكتمل قرابتنا في السماء.» ويُقبّله هو أيضاً في جبهته مثل ابن العم الآخر.
«أنا خاطئ يا معلم. ليس لي...»
«كنتَ خاطئاً يا متّى. الآن أنتَ الرسول. أنتَ الآن واحد مِن "أصواتي". أبارككَ. هذه الأرجل، كم مِن دروب قطعت لتتقدّم باستمرار، نحو الله... كانت النَّفْس تثيرها وهي تركت كلّ درب ليس دربي. تقدّم. هل تعلم أين ينتهي الدرب؟ في حضن الآب الّذي هو أبي وأبوكَ.»
يسوع يُنهي الغسل. ينـزع المنشفة، يغسل يديه في المياه النظيفة، يلبس ثوبه مِن جديد، يعود إلى مكانه، وبينما يجلس في مكانه يقول: «أنتم الآن طاهرون، إنّما ليس جميعكم. فقط الّذين لديهم الإرادة بأن يكونوا كذلك.»
يحدّق بيهوذا الاسخريوطيّ الّذي يتظاهر بأنّه لا يسمع، فهو منشغل بالشرح لرفيقه متّى كيف أنّ أباه قرّر أن يرسله إلى أورشليم. محادثة عبثية هدفها الوحيد أن يتمالك يهوذا نفسه، الّذي، رغم جرأته، يشعر بعدم الارتياح.
يسكب يسوع النبيذ للمرّة الثالثة في الكأس المشتركة. يشرب ويسقيهم. ثمّ يُنشد والجميع يردّدون معه كجوقة: «أُحِبّ لأنّ الربّ يسمع صوت تضرّعي، لأنّه يميل أذنه إليّ. فأدعوه مدّة حياتي. كانت آلام الموت تحيط بي.» الخ. لحظة توقّف ثمّ يعاود الإنشاد: «آمنتُ، ولذلك تكلّمتُ. ولكنّني تذلّلتُ جدّاً. كنتُ أقول في اضطرابي: "كلّ إنسان كاذب".» يحدّق بيهوذا. صوت يسوعي، المتعب هذا المساء، يستعيد قوّته عندما يهتف: «ثمين في عينيّ الربّ موت القدّيسين.» و «لقد حطّمتَ قيودي. فلكَ أذبح ذبيحة الحمد داعياً اسم الربّ.» الخ. وقفة قصيرة أخرى عن الإنشاد ثمّ يستأنف: «سبّحوا الربّ، يا جميع الأمم؛ امدحوه يا جميع الشعوب. لأنّ رحمته قد عظمت علينا وحقيقة الربّ تدوم إلى الأبد.» وقفة قصيرة أخرى ثمّ مزمور طويل: «احتفوا بالربّ لأنّه صالح، لأنّ إلى الأبد رحمته...»
يهوذا الاسخريوطيّ يخطئ في الإنشاد للغاية بحيث إنّ توما، لمرّتين، يعيده للنغمة بصوته القويّ الجهير ويحدّق فيه. آخرون أيضاً ينظرون إليه لأنّه بشكل عام يجيد النغمة، فَمِن صوته أدركتُ أنّه متفاخر في هذا كما في كلّ شيء آخر. ولكن هذا المساء! بعض الجُمَل تزعجه إلى درجة أن يخطئ في الإنشاد، وكذلك نظرات يسوع الّذي يشدّد على بعض الجُمَل. وإحداها: «الاعتصام بالله خير مِن الاتّكال على البشر.» وأخرى: «إذ دُفِعتُ ترنّحتُ وكدتُ أسقط ولكنّ الربّ آزرني.» وأخرى: «لن أموت بل سأحيا وأُحدّث بأعمال الربّ.» وفي النهاية هاتان الجملتان، اللتان أقولهما الآن، واللتان تخنقان الصوت في حلق الخائن: «الحجر الّذي رذله البنّاؤون هو صار رأساً للزاوية.» و«مبارك الآتي باسم الربّ!»
ينتهي المزمور، وبينما يسوع يقطع قطعاً مِن الحَمَل ويقدّمها، متّى يَسأَل يهوذا الاسخريوطيّ: «لكن هل تشعر بسوء؟»
«لا. دعني وشأني. لا تنشغل بي.»
يهزّ متّى كتفيه.
يوحنّا، الّذي سمع، يقول: «المعلّم أيضاً ليس بخير. ما بكَ يا يسوعي؟ صوتكَ ضعيف، كصوت مريض أو كمن بكى كثيراً.» ويعانقه تاركاً رأسه على صدر يسوع.
«هو تكلّم كثيراً فقط، كما أنا قد مشيتُ كثيراً وأصابني برد.» يقول يهوذا بعصبيّة.
ويسوع، دون أن يردّ عليه، يقول ليوحنّا: «أنتَ أصبحتَ تعرفني... وتعرف ما الّذي يتعبني...»
انتهى تقريباً الحَمَل. ويسوع، الّذي أكل قليلاً جدّاً وشرب جرعة واحدة في كلّ مرة مِن الكأس، بينما شرب ماءً كثيراً كما لو كان محموماً، يستأنف الكلام: «أريد أن تدركوا ما صنعتُ الآن. قُلتُ لكم ليكن الأوّل كالأخير، وسأعطيكم طعاماً ليس للجسد. طعام التواضع هو الّذي أعطيتُكم مِن أجل روحكم. أنتم تدعونني: معلّماً وربّاً. حسناً تقولون، لأنّي كذلك. فإن كنتُ أنا قد غسلتُ أرجلكم، فعليكم أنتم أيضاً أن تفعلوا ذلك لبعضكم البعض. أعطيتُكم الـمَثَل حتّى إنّكم كما صنعتُ أنا بكم تصنعون أنتم أيضاً. الحقّ أقول لكم: ليس عبد أعظم مِن سيّده ولا رسول أعظم مِن مُرسِله. اجتهدوا في فهم هذه الأشياء. وبعد ذلك، إذ فهمتموها، فطوبى لكم إذا عملتم بها. إنّما لن تكونوا جميعكم مطوّبين. أنا أعرفكم. أعرف مَن اخترتُ. لستُ أتكلّم عن جميعكم بالطريقة ذاتها، ولكنّي أقول ما هو حقّ. ومِن جهة أخرى يجب أن يتمّ ما كتب عنّي: "إنّ الّذي أكل الخبز معي قد رفع عليّ عقبه". أقول كلّ هذا لكم قبل أن يكون، حتّى لا تشكّوا فيّ. ومتى تمّ كلّ شيء تؤمنون أكثر أنّي أنا هو. إنّ الّذي يقبلني يقبل الّذي أرسلني: الآب القدّوس الّذي في السماوات، والّذي سيقبل مَن سأُرسلهم له سوف يقبلني أنا. ذلك أنّي أنا مع الآب وأنتم معي... أمّا الآن فلنكمل الطقس.»
يَسكب مِن جديد النبيذ في الكأس المشتركة، وقبل أن يشرب منها ويجعلهم يشربون، يقف ويقف الجميع معه ويرتّل مِن جديد أحد المزامير السابقة: «آمنتُ ولذلك تكلّمتُ...» ثمّ بعده آخر لا ينتهي. جميلاً... ولكن بلا نهاية! أظنّني وجدته، ببدايته والطول، في المزمور 118 (119 حسب الطبعة). يرتّلونه هكذا. فقرة كلّهم معاً، ثمّ كلّ واحد بدوره يقول آية والآخرون قطعة معاً، وهكذا حتّى النهاية. أظنّهم في النهاية قد عطشوا!
يجلس يسوع، ولم يتمدّد. يظلّ جالساً. مثلنا، ويتكلّم: «الآن وقد تمّ الطقس القديم، أحتفل بالطقس الجديد. لقد وعدتُكم بمعجزة حبّ. وهذا أوان اجتراحها، ومِن أجلها اشتهيتُ هذا الفصح. مِن الآن فصاعداً، هو ذا القربان الّذي سيقدَّم في طقس محبّة متواصل. لقد أحببتُكم مدى حياة الأرض يا أصدقائي الأعزّاء، أحببتُكم مدى الأبديّة يا أبنائي، وأريد أن أحبّكم إلى النهاية. ما مِن شيء أعظم مِن هذا. تذكّروه. أنا أمضي، ولكن سنبقى متّحدين على الدوام بفضل المعجزة الّتي أتمّها الآن.»
يأخذ يسوع رغيف خبز كاملاً، ويضعه على الكأس الممتلئ. يبارك ويقدّم الخبز والكأس، ثمّ يقسم الخبز ثلاث عشرة قطعة ويعطي واحدة لكلّ مِن الرُّسُل قائلاً: «خذوا وكلوا. هذا هو جسدي. اصنعوا هذا لذكري أنا الّذي أمضي.» يعطي الكأس قائلاً: «خذوا واشربوا. هذا هو دمي. هذا هو كأس العهد الجديد في الدم وبدمي، الّذي سيُراق مِن أجلكم لمغفرة خطاياكم وليعطيكم الحياة. افعلوا هذا لذكري.»
يسوع حزين للغاية. كلّ ابتسامة، كلّ أثر للنور، لِلَون قد فارقه. وجهه وجه محتضر. الرُّسُل ينظرون إليه في كرب.
ينهض يسوع قائلاً: «لا تتحرّكوا. سأرجع على الفور.» ويأخذ القطعة الثالثة عشرة مِن الخبز، يأخذ الكأس ويخرج مِن العليّة.
«هو ذاهب إلى أُمّه.» يهمس يوحنّا.
يتنهّد يوضاس تدّاوس: «يا لها مِن امرأة مسكينة!»
ويَسأَل بطرس بصوت منخفض: «هل تعتقد أنّها تعلم؟»
«إنّها تعلم كلّ شيء. هي قد علمت كلّ شيء على الدوام.»
يتكلّم الجميع بصوت منخفض جدّاً كأنّهم في حضرة ميت.
«ولكن هل تعتقدون أنّه بالحقيقة...» يَسأَل توما الّذي ما يزال يرفض التصديق.
«وهل تشكّ في ذلك؟ إنّها ساعته.» يجيب يعقوب بن زَبْدي.
«فليعطنا الله القوّة لنكون أوفياء.» يقول الغيور.
«آه! أنا...» يهمّ بطرس بالكلام. ولكنّ يوحنّا الّذي يرصد يقول: «صه! ها هو ذا.»
يدخل يسوع. وفي يديه الكأس الفارغ. بالكاد في قاعه أثر مِن النبيذ، وتحت ضوء المصباح يبدو حقّاً وكأنّه دم.
يهوذا الاسخريوطيّ، الّذي أمامه الكأس، ينظر إليه كالمفتون، ثمّ يدير بصره. يراقبه يسوع، ويرتعش بحيث يوحنّا المتّكئ على صدره يحسّ برعشته فيهتف: «ولكن قل! أنتَ ترتعش...»
«لا. أنا لا أرتعش مِن الحمّى... لقد قُلتُ لكم كلّ شيء وأعطيتُكم كلّ شيء. لم يكن بإمكاني أن أعطيكم المزيد. لقد أعطيتُكم ذاتي.»
ليديه حركتهما الوديعة، في البدء هما مضمومتان، والآن تنفصلان وتتباعدان بينما يخفض رأسه كما ليقول: «اعذروني، إن كنتُ لا أستطيع المزيد. الأمر هو هكذا.»
«لقد قُلتُ لكم كلّ شيء، وأعطيتُكم كلّ شيء. وأكرّر. الطقس الجديد قد أُكمِل. افعلوا هذا لذكري. غسلتُ لكم أرجلكم كي أعلّمكم أن تكونوا متواضعين وأنقياء كمعلّمكم. إذ الحقّ أقول لكم أنّه على التلاميذ أن يكونوا كما المعلّم. تذكّروا هذا، تذكّروه. حتّى عندما تبلغون المراتب العليا، تذكّروا هذا. ليس تلميذ أعظم مِن المعلّم. وكما غسلتُكم، افعلوا ذلك فيما بينكم. أي أحبّوا بعضكم كإخوة، بمساعدة الواحد للآخر، محترمين بعضكم بعضاً، مع كون كلّ واحد قدوة للآخر. وكونوا أنقياء. كي تكونوا أهلاً لأكل الخبز الحيّ النازل مِن السماء وتكون فيكم بواسطته القدرة على أن تكونوا تلاميذي في عالم عدوّ سيكرهكم بسبب اسمي. لكنّ واحداً منكم ليس نقيّاً. واحد منكم سيخونني. مِن ذلك روحي مضطرب بشدّة... يد الّذي يخونني معي على هذه المائدة، ولا محبّتي، ولا جسدي ولا دمي ولا كلامي يردّونه ويجعلونه يتوب. أنا أغفر له، وأنا ذاهب إلى الموت مِن أجله أيضاً.»
ينظر التلاميذ إلى بعضهم مرتعدين. يتفحّصون بعضهم، مشتبهين الواحد بالآخر. يحدّق بطرس بالاسخريوطيّ في استعادة لكلّ شكوكه. يوضاس تدّاوس يهبّ واقفاً فجأة كي ينظر بدوره إلى الاسخريوطيّ مِن فوق متّى.
ولكنّ الاسخريوطيّ مليء بالثقة! بدوره يحدّق بمتّى كما لو كان يشكّ فيه، ثمّ يحدّق بيسوع ويبتسم وهو يَسأَل: «ألعلّي أنا أكون هو؟» يبدو الأكثر تأكّداً مِن نزاهته وأنّه يتكلّم هكذا كيلا يُسقِط الحوار.
يكرّر يسوع حركته قائلاً: «أنتَ تقول ذلك، يا يهوذا بن سمعان. لا أنا. بل أنتَ الّذي تقول ذلك. أنا لم أذكر اسمكَ. لماذا تتّهم نفسكَ؟ اسأل محذّركَ الداخليّ، ضميركَ الإنسانيّ، الضمير الّذي منحكَ إيّاه الله الآب كي يقودكَ كإنسان، وتنبّه إن كان يتّهمكَ. ستعرف ذلك قبل الجميع. ولكن إن كان يطمئنكَ، فلماذا تقول كلاماً وتفكّر بأمر هو محرّم حتّى الحديث عنه أو التفكير فيه على سبيل المزاح؟»
يتكلّم يسوع بهدوء. يبدو كأنّه يدعم البحث المطروح كما يمكن لعالـِم أن يفعل في صفّه. الاضطراب شديد. لكنّ هدوء يسوع يسكّنه.
في هذه الأثناء بطرس، الأكثر شكّاً بيهوذا -ربّما تدّاوس هو كذلك أيضاً، ولكنّه يبدو أقلّ، مجرّداً مِن سلاحه كما هو عليه بسبب تماسك الاسخريوطيّ- يجذب يوحنّا مِن كمّه، وعندما يلتفت يوحنّا الّذي التصق بيسوع وهو يسمعه يتكلّم عن الخيانة، يهمس له: «اسأله مَن يكون.»
يعود يوحنّا إلى وضعيّته، وفقط يرفع رأسه كما ليُقبّل يسوع، وفي الوقت نفسه يهمس له في أذنه: «يا معلّم، مَن هو؟»
ويسوع بهدوء بالغ، رادّاً له القبلة في شعره: «هو الّذي سأعطيه قطعة الخبز الّتي أغمسها.»
وإذ يأخذ رغيفاً ما يزال كاملاً، ليس ممّا بقي مِن ذاك الّذي استخدمه في الافخارستيا، يقتطع منه لقمة كبيرة، ويغمسها في طبق مرق الحَمَل، ويمدّ ذراعه مِن فوق المائدة ويقول: «خذ يا يهوذا. أنتَ تحبّ هذا.»
«شكراً يا معلم. نعم أحبّ هذا.» وإذ لم يكن يعرف ما هذه اللقمة، يأكلها، بينما يوحنّا، المرتعد، يغلق عينيه حتّى لا يرى ضحكة الاسخريوطيّ الرهيبة وهو يأكل بملء فمه قطعة الخبز الّتي تدينه.
«حسناً! اذهب الآن وقد أسعدتُكَ.» يقول يسوع ليهوذا. «كلّ شيء تمّ، هنا. (يركّز كثيراً على هذه الكلمة) ما يبقى بعد لتفعله في مكان آخر فافعله عاجلاً يا يهوذا بن سمعان.»
«سأطيعكَ فوراً يا معلّم. وبعدها سألقاكَ في جَثْسَيْماني. أنتَ ذاهب إلى هناك كما دائماً، أليس كذلك؟»
«أنا ذاهب إلى هناك... كما دائماً... نعم.»
«ماذا لديه ليفعله؟» يَسأَل بطرس. «أيذهب بمفرده؟»
«لستُ طفلاً.» يمزح يهوذا الّذي يلبس رداءه.
«دعه يذهب. أنا وهو نعلم ما يجب فِعله.» يقول يسوع.
«نعم، يا معلّم.» ويصمت بطرس. ربّما يظنّ أنّه أخطأ بالشكّ في رفيقه. ويده على جبهته، يفكّر.
يسوع يضمّ يوحنّا إلى قلبه ويلتفت ليهمس له في شعره: «لا تقل شيئاً لبطرس الآن. ستكون فضيحة لا جدوى منها.»
«الوداع يا معلّم. الوداع يا أصدقاء.» يحيّي يهوذا.
«الوداع.» يقول يسوع.
وبطرس: «أحيّيكَ يا ولد.»
يوحنّا، ورأسه يكاد يكون على صدر يسوع، يهمس: «شيطان!» فيسمعه يسوع وحده ويتنهّد.
هنا يتوقّف كلّ شيء، ولكنّ يسوع يقول: «أتوقّف رحمة بكِ. سأعطيكِ نهاية العشاء في وقت آخر.»
[تكملة العشاء]
بضعة دقائق مِن الصمت التامّ. يسوع حاني الرأس، وهو يداعب عفويّاً شعر يوحنّا الأشقر.
ثمّ ينتفض. يرفع رأسه، ويدير بصره، مع ابتسامة تُسَرّي عن التلاميذ. يقول: «فلنغادر المائدة ونجلس كلّنا بجوار بعضنا، كما أبناء كُثُر حول أبيهم.»
يحملون المتّكآت الّتي كانت خلف المائدة (تلك الّتي ليسوع، يوحنّا، يعقوب، بطرس، سمعان، أندراوس وابن العمّ يعقوب) ويحملونها إلى الجهة الأخرى.
يجلس يسوع على متّكئه، دائماً بين يعقوب ويوحنّا. ولكن حينما يرى أندراوس وقد ذهب ليجلس في المكان الّذي تركه الاسخريوطيّ، يهتف: «لا، ليس هناك.» صرخة مندفعة لم تنجح فطنته المفرطة في منعها. ثمّ يتمالك نفسه وهو يتكلّم هكذا: «لا ضرورة لأماكن كثيرة. فبالبقاء جالسين، يمكن الاعتماد على هذه فقط. إنّها تكفي. أريدكم قريبين جدّاً.»
هم الآن كما بهذا التشكيل U ويسوع في الوسط وبمواجهته الطاولة، الخالية مِن الطعام الآن، ومكان يهوذا.
يعقوب بن زَبْدي ينادي بطرس: «اجلس هنا. أنا أجلس على هذا الكرسي الصغير، عند قدميّ يسوع.»
«ليبارككَ الله يا يعقوب! كنتُ أرغب بذلك كثيراً!» يقول بطرس، ويلتصق بمعلّمه الّذي يصبح هكذا ملتصقاً بيوحنّا وبطرس، ويعقوب عند قدميه.
يبتسم يسوع: «أرى أنّ الكلام الّذي قيل مِن قبل بدأ يفعل فِعله. الإخوة الطيّبون يتحابّون. وأنا كذلك أقول لكَ يا يعقوب: "ليبارككَ الله". هذه الحركة كذلك لن ينساها الأزليّ، وستجدها هناك في العلى.
أنا أستطيع كلّ ما أطلبه. قد رأيتُم ذلك. كانت تكفي واحدة مِن رغباتي حتّى يحقّق الآب للابن أن يعطي ذاته طعاماً للإنسان. بما جرى للتوّ قد تمجّد ابن الإنسان، ذلك أنّه شهادة على القدرة على اجتراح هكذا معجزة غير الممكنة إلاّ لأصدقاء الله. وكلّما كانت المعجزة أعظم كلما توثّقت وتعمّقت هذه الصداقة الإلهيّة. إنّها معجزة، بشكلها، وديمومتها وطبيعتها، بامتدادها والحدود الّتي تصل إليها، هي أقوى ما يمكن أن يكون. أقول لكم ذلك: إنّها قويّة للغاية، فائقة الطبيعة، لا يمكن لإنسان متكبّر أن يدركها، وقليلون جدّاً هم الّذين يفهمونها كما يجب أن تُفهَم، وكثيرون يتهاونون فيها. ماذا أقول إذاً؟ إدانة لهم؟ لا. أقول: الرحمة!
ولكن كلّما عظمت المعجزة، عظم المجد الّذي يعود على مجترحها. إنّ الله نفسه هو الّذي يقول: "هو ذا، محبوبي قد أراد ذلك وناله، وأنا الّذي منحتُه له، لأنّه يمتلك نعمة كبيرة أمام عينيّ". وهنا يقول: "له نعمة لا حدود لها كما المعجزة الّتي أتمَّها لانهائيّة". كما المجد الّذي يعود إلى مجترح المعجزة من قِبَل الله، هناك المجد الّذي يعود إلى الآب من قِبَل مجترحها. ذلك أنّ كلّ مجد روحيّ، آتٍ مِن الله، يعود إلى منبعه. ومجد الله، رغم أنّه غير متناهٍ، فهو ينمو باستمرار ويتألّق في مجد قدّيسيه. ولهذا أقول لكم: كما أنّ ابن الانسان قد تمجّد مِن الله، كذلك الله قد تمجّد مِن ابن الإنسان. قد مجّدتُ الله في ذاتي. وبدوره، الله سيمجّد ابنه فيه. وسوف يمجّده قريباً.
فلتتهلّل أنتَ العائد إلى كرسيّكَ، أيا أيّها الجوهر الروحيّ للأقنوم الثاني! تهلّل، يا أيّها الجسد الّذي سيصعد بعد طول منفى في الوحل. وليس جنّة آدم، بل جنّة الآب السامية هي الّتي ستُعطى لكَ كمسكن. وإذا كان قد قيل بأنّ الشمس قد توقّفت بأمر مدهش مِن الله، على لسان إنسان، فما الّذي سوف لا يحدث للكواكب حينما ترى معجزة جسد ابن الإنسان وهو يصعد ويجلس عن يمين الآب في كماله كمادّة ممجّدة؟ يا أبنائي، أنا معكم زماناً يسيراً. وأنتم، بعد ذلك، تطلبونني، كما يطلب اليتامى أباهم الميت. ستذهبون وأنتم تبكون، تتكلّمون عنه وعبثاً ستقرعون قبره الأبكم، ثمّ أيضاً، ستقرعون أبواب السماء اللازورديّة، بنفسكم المندفعة الّتي تتوسّل باحثةً عن المحبّة، قائلين: "أين هو يسوعنا؟ نحن نريده. بدونه لم يعد نور في العالم، لا فرح، ولا محبّة. فأعيدوه لنا، أو دعونا ندخل. نريد أن نكون حيث يكون". ولكنّكم لا تقدرون الآن أن تأتوا حيث أذهب. لقد قُلتُ ذلك أيضاً لليهود: "بعد ذلك ستطلبونني، ولكن حيث أذهب أنا لا تقدرون أنتم أن تأتوا". وأقوله لكم أيضاً.
فكّروا بأُمّي... ولا حتّى هي تقدر أن تأتي حيث أنا ذاهب. مع أنّني تركتُ أبي كي آتي إليها وأكون يسوع في أحشائها الطاهرة. مع أنّني مِن الّتي لم تُمَسّ أتيتُ في انخطاف ولادتي النورانيّ. ومِن محبّتها الّتي غدت حليباً تغذّيتُ. نَـمَوتُ بالطهر والمحبّة، ذلك أنّ مريم قد غذّتني مِن بتوليّتها الّتي أخصبتها المحبّة الكاملة الّتي تحيا في السماء. مع أنّني بها كبرتُ مكلّفاً إيّاها أتعاباً ودموعاً... ومع ذلك أطلب منها بطولة لم يتمّ التحلّي بها على الإطلاق، والّتي مقارنة بها تكون تلك الّتي ليهوديت وياعيل بطولات نساء مسكينات يقارعن خصمهنّ قرب نبع قريتهنّ. ومع أنه لا يماثلها أحد عندما يتعلّق الأمر بمحبّتها لي. وبالرغم مِن ذلك، أتركها وأذهب إلى حيث هي لن تأتي إلاّ بعد وقت طويل. وبالنسبة إليها لا أعطيها الوصيّة الّتي أعطيها لكم: "قدّسوا أنفسكم سنة بعد سنة، شهراً إثر شهر، يوماً تلو يوم، ساعة فساعة، لتتمكّنوا مِن أن تأتوا إليّ عندما تأتي ساعتكم". إنّها الممتلئة نعمة والمفعمة قداسة. إنّها المخلوقة الّتي نالت كلّ شيء وأعطت كلّ شيء. ليس هناك ما يُضاف أو يُنـزع. إنّها الشهادة الأقدس لما يستطيعه الله.
إنّما كي تتيقّنوا أنّ فيكم إمكانيّة القدرة على اللحاق بي، ونسيان ألم حداد الافتراق عن يسوعكم، أعطيكم وصيّة جديدة. أن تحبّوا بعضكم بعضاً. كما أحببتُكم أنا كذلك أحبّوا أنتم بعضكم بعضاً. بهذا يعرف الجميع أنّكم تلاميذي. حينما يكون لأب أولاد كثيرون، كيف يُعرَف أنّهم أبناؤه؟ ليس إلى حدّ كبير بالمظهر الجسدي -لأنّه قد يوجد مَن يتشابهون فيما بينهم دون أن يكون بينهم علاقة دم أو وطن- بل بالمحبّة المشتركة للعائلة، تجاه الأب وفيما بينهم. وكذلك بموت الأب لا تتفكّك العائلة الطيّبة، لأنّ لها نفس الدم الّذي يأتي مِن بذرة الأب، ويربطهم بروابط لا يحلّها حتّى الموت، لأنّ المحبّة أقوى مِن الموت، فإن أحببتم بعضكم حتّى بعد أن أكون قد غادرتكم، سيعرف الجميع أنّكم أبنائي وبالتالي تلاميذي، وأنّكم إخوة لكم أب واحد.»
«ربّي يسوع، لكن إلى أين تذهب؟» يَسأَل بطرس.
«أذهب إلى حيث لا تقدر الآن أن تتبعني. ولكنّكَ ستتبعني فيما بعد.»
«ولماذا ليس الآن؟ لقد تبعتُكَ دائماً مذ قلتَ لي: "اتبعني". لقد تركتُ كلّ شيء دونما ندم... إذ، لو كنتَ ذهبتَ بلا سمعانكَ المسكين، تاركاً إيّاي بدونكَ، يا مَن أنتَ كلّ شيء بالنسبة لي، بينما أنا تركتُ مِن أجلكَ الخيرات القليلة الّتي كانت لديّ، فلا يكون هذا حسناً ولا عدلاً مِن قِبَلك. هل تذهب إلى الموت؟ حسناً. إنّما أنا أيضاً آتي. فلنذهب معاً إلى العالم الآخر. ولكن قبل ذلك سأكون قد دافعتُ عنكَ. إنّني مستعدّ لأن أبذل حياتي لأجلكَ.»
«أتبذل حياتكَ لأجلي؟ الآن؟ الآن لا. في الحقيقة، آه! الحقّ أقول لكَ: قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات. الآن ما زال الهزيع الأوّل. ثمّ يأتي الثاني... ثمّ الثالث. وقبل أن يصيح الديك تنكر ربّكَ ثلاث مرات.»
«مستحيل يا معلّم! أنا أصدّق كلّ ما تقول. لكن ليس هذا. أنا واثق مِن نفسي.»
«الآن في هذه اللحظة أنتَ واثق، إنّما ذلك لأنّي ما زلتُ معكَ. الله معكَ. ولكن عمّا قليل الله المتجسد سيُقبَض عليه ولا يعود معكم. والشيطان، بعد أن يثقل كاهلكم -ثقتكَ نفسها هي حيلة مِن الشيطان، عبء يثقلكَ- سيرعبكم. وسيلمّح لكم: "الله غير موجود. أنا موجود". وحيث أنّ بصيرتكم ستعمى بسبب الهلع، ستلبثون مدركين، وستفهمون أنّه حين يكون إبليس هو سيّد اللحظة، فيكون الخير ميتاً والشرّ فاعلاً، والروح منهاراً والبشريّة منتصرة. حينذاك ستبقون كالمحاربين بلا قائد، يتعقّبكم العدو، وفي رعبكم كمهزومين ستحنون ظهوركم أمام الغالب، وكي لا تُقتَلوا تُنكِرون البطل الساقط. ولكن أرجوكم ألّا تضطرب قلوبكم. آمنوا بالله، وآمنوا بي أيضاً. آمنوا بي بعكس كلّ المظاهر. فليؤمن برحمتي وبرحمة الآب الّذي يبقى كما الّذي يهرب. الّذي يصمت كما الّذي سيفتح فمه ليقول: "لا أعرفه". ثقوا أيضاً بغفراني. وآمنوا أنّه مهما تكن تصرّفاتكم في المستقبل، في الخير وفي مذهبي، وبالتالي في كنيستي، فهي ستعطيكم المكان نفسه في السماء. في منزل أبي مساكن كثيرة. لو لم يكن الأمر كذلك لكنتُ قلتُ لكم ذلك. إنّني أسبقكم لأعدّ لكم مكاناً. أليس هكذا يفعل الآباء الصالحون حينما يريدون أن يصحبوا عائلتهم الصغيرة إلى مكان آخر؟ إنّهم يتقدّمون ليعدّوا المنـزل، الأثاث، المؤن، ثمّ يأتون لأخذ أولادهم الأعزاء. يتصرّفون هكذا بدافع المحبّة، حتّى لا ينقصَ الصغارَ شيءٌ ولا يعانون في البلدة الجديدة. وأنا أتصرّف بالمثل ولنفس السبب، الآن أنا أمضي. وحينما أُعِدّ لكلّ واحد مكاناً في أورشليم السماويّة، سآتي مجدّداً، وسآخذكم معي كي تكونوا معي حيث أكون، حيث لن يكون موت ولا حزن، ولا دموع، ولا صراخ، ولا جوع، ولا ألم، ولا ظلمات، ولا نار، بل فقط نور، سلام، غبطة ونشيد. آه! نشيد السماوات الشاهقة عندما سيجلس المختارون الاثنا عشر على عروشهم مع الأحبار الاثني عشر لأسباط إسرائيل، وينشدون في وهج نار المحبّة الروحيّة، منتصبين على بحر الأنعام، النشيد الأبديّ المدوزن على الهللويا الأبديّة للجيش الملائكيّ… أريد أن تكونوا حيث سأكون أنا. وأنتم تعلمون إلى أين أذهب وتعرفون الطريق.»
«ولكن يا ربّ! لسنا نعلم شيئاً! أنتَ لا تقول لنا أين تذهب. فكيف يمكننا معرفة الطريق الّتي نتّخذها كي نأتي إليكَ ونختصر الانتظار؟» يقول توما.
«أنا الطريق والحقّ والحياة. لقد سمعتموني أقول وأشرح ذلك مرّات عدّة، والحقّ إنّ كثيرين مِن الّذين لم يكونوا يعلمون حتّى بوجود الله، قد تقدّموا على الطريق، على طريقي، وسبقوكم. آه! أين أنتِ، أيّتها النعجة الّتي ضلّت عن الله فأعدتُها إلى الحظيرة؟ وأين أنتِ، يا مَن نفسكِ قامت مِن الموت؟»
«مَن؟ عمّن تتكلّم؟ عن مريم أخت لعازر؟ إنّها في الجوار، مع أُمّكَ؟ هل تريدها؟ أم تريد يُوَنّا؟ بالتأكيد هي في قصرها. ولكن إن شئتَ نذهب لندعوها...»
«لا. ليس هما... بل أفكّر في تلك الّتي لن يُكشَف عنها إلاّ في السماء... وفي فوتينا [المرأة السامرية]... هما قد عثرتا عليّ ولم تحيدا عن طريقي أبداً. للواحدة أشرتُ إلى أنّ الآب هو الله الحقّ وأنّ الروح مثل اللاوي في هذه العبادة الشخصيّة. وللأخرى، الّتي لم تكن تعلم حتّى أنّ لها روحاً، قُلتُ لها: "اسمي هو المخلّص. أنا أخلّص مَن له إرادة صالحة للخلاص. أنا مَن يبحث عمّن ضلّوا كي أمنحهم الحياة، الحقّ والطُّهر. مَن يفتّش عنّي يجدني". والاثنتان قد وجدتا الله... أبارككما. حوّاءتان ضعيفتان صرتما أقوى مِن يهوديت... أنا آتي، أينما كنتما آتي.. أنتما تعزّيانني فلتكونا مباركتين!...»
«أرنا الآب يا ربّ، وسنصير مثلهما.» يقول فيلبّس.
«أنا معكم كلّ هذا الزمان، وأنتَ لم تعرفني بعد يا فليبّس؟ مَن يراني فإنّه يرى أبي. فكيف إذن يمكنكَ القول: "أرنا الآب"؟ ألا تتوصّل إلى الإيمان بأنّي أنا في الآب والآب فيّ؟ الكلام الّذي أكلّمكم به لا أتكلّم به مِن عندي. بل الآب المقيم فيّ يتمّم كلّ أعمالي، أوَما تؤمنون أنّي أنا في الآب والآب فيّ؟ ماذا ينبغي لي أن أقول لكم كي تؤمنوا؟ لكن إن كنتم لا تؤمنون بكلامي، فآمنوا أقلّه بأعمالي. أقول لكم، وأقول لكم ذلك بحقّ: إنّ مَن يؤمن بي سيعمل الأعمال الّتي أنا أعملها، وسيعمل أعظم منها، لأنّي ماض إلى الآب. وكلّ ما تسألون الآب باسمي فأنا سأفعله ليتمجّد الآب في ابنه. وسأفعل ما تسألونه باسم اسمي. اسمي معلوم هو، لما هو عليه بحقّ، لي وحدي، وللآب الّذي ولدني وللروح الّذي ينبثق مِن محبّتنا. وبهذا الاسم كلّ شيء ممكن. فمن يفكّر باسمي بمحبّة يحبّني، وينل. ولكن لا يكفي أن يحبّني. بل يجب أن يحفظ وصاياي كي يحظى بالمحبّة الحقيقيّة. فإنّ الأعمال هي الّتي تشهد للمشاعر، وباسم هذه المحبّة، أسأل الآب، وهو يعطيكم معزّياً آخر ليقيم معكم إلى الأبد، معزّياً لا يستطيع الشيطان ولا العالم أن ينالا منه، روح الحقّ الّذي لا يمكن للعالم أن يتقبّله ولا أن يؤثّر فيه، لأنّه لا يراه ولا يعرفه. سيهزأ به. ولكنّه مهيب وسامٍ لدرجة أن الهزء لا يمكنه أن يبلغه، بينما، إذ هو شفوق فوق كلّ قياس، فسيكون دائماً مع مَن يحبّه، حتّى ولو كان مسكيناً وضعيفاً. أنتم ستعرفونه لأنّه أصبح مقيماً معكم وقريباً سيكون فيكم. لا أترككم يتامى. لقد قُلتُ لكم ذلك سابقاً: "سأعود إليكم". ولكن، قبل أن تحين ساعة قدومي لأخذكم إلى ملكوتي، سآتي. سآتي إليكم. بعد قليل لن يعود العالم يراني. أمّا أنتم فترونني وسترونني لأنّني أحيا وأنتم تحيون، ولأنّني سأحيا وأنتم أيضاً ستحيون. في ذلك اليوم ستعلمون أنّني أنا في أبي، وأنتم فيّ وأنا فيكم. بالفعل مَن يقبل وصاياي ويحفظها فهو الّذي يحبّني، والّذي يحبّني سيحبّه أبي وسيمتلك الله، لأنّ الله محبّة والّذي يحبّ يكون الله فيه. وأنا سأحبّه لأنّي سأرى الله فيه، وسأُظهِر له ذاتي وأجعله يعرفني في أسرار محبّتي وحكمتي وألوهيّتي المتجسّدة. وسيكونون تكرار رجوعي بين أبناء البشر الّذين أحبّهم رغم كونهم ضعفاء وحتّى أعداء. ولكنّ هؤلاء سيكونون ضعفاء فقط. وسأقوّيهم وأقول لهم: "انهض!" سأقول: "هلمّ خارجاً!" سأقول: "اتبعني"، سأقول: "اسمع"، سأقول: "اكتب"... وأنتم مِن بين هؤلاء.»
«لماذا يا ربّ تُظهِر لنا ذاتكَ ولا تُظهِرها للعالم؟» يَسأَل يوضاس تداوس.
«لأنّكم تحبّونني وتحفظون كلامي. مَن سيفعل هذا سيحبّه أبي وإليه سنأتي وعنده سنجعل مقامنا، فيه. بينما الّذي لا يحبّني لا يحفظ كلامي ويعمل بحسب الجسد والعالم. الآن اعلموا أنّ ما قُلتُه لكم ليس كلام يسوع الناصريّ، بل هو كلام الآب لأنّي أنا كلمة الآب الّذي أرسلني. قُلتُ لكم هذه الاشياء وأنا أتحدّث هكذا، معكم، لأنّني أريد أن أعدّكم بنفسي للامتلاك الكامل للحقّ والحكمة. ولكنّكم لا تستطيعون بعد أن تفهموا وتتذكّروا. إنّما حينما سيأتيكم المعزّي، الروح القدس الّذي سيرسله الآب باسمي، حينئذ يمكنكم أن تُدرِكوا، وهو سيعلّمكم كلّ شيء وسيذكّركم بما قُلتُه لكم.
سلامي أترك لكم. سلامي أعطيكم. أعطيكموه ليس كما يعطيه العالم، ولا مثلما أعطيتكموه حتّى الآن: سلام مبارَك ممّن هو مبارَك للمبارَكين. أكثر عمقاً هو السلام الّذي أعطيه لكم الآن. في هذا الوداع، إنّني أنقل لكم ذاتي، روح السلام الّذي لي، كما نقلتُ جسدي ودمي، كي تبقى فيكم قوّة في المعارك الوشيكة. سوف يشنّ الشيطان والعالم حرباً ضدّ يسوعكم. إنّها ساعتهما. فليكن فيكم السلام، روحي الّذي هو روح سلام، ذلك أنّي أنا مَلِك السلام. فليكن فيكم كي لا تكونوا مخذولين. مَن يتألّم وسلام الله فيه يتألّم، إنّما بلا تجديف ولا يأس.
لا تبكوا. قد سمعتُم أيضاً أنّي قُلتُ: "أنا ذاهب إلى الآب ثمّ سأعود". لو كنتم تحبّونني بما يتجاوز الجسد لكنتم تفرحون لأنّي ماضٍ إلى الآب بعد منفى طويل، ماضٍ إلى الّذي هو أعظم منّي ويحبّني. لقد قُلتُه لكم الآن، قبل أن يتمّ، مثلما أخبرتكم عن كلّ آلام الفادي قبل المضيّ إليها، حتّى إذا ما تمّ كلّ هذا، تؤمنون أكثر بي. لا تضطربوا هكذا! لا تجزعوا. قلبكم بحاجة إلى الاتّزان… لم يعد لديّ سوى وقت قليل أكلّمكم به... ومازال لديّ الكثير لأقوله! وإذ قد وصلتُ إلى نهاية المدّة التبشيريّة، يبدو لي وكأنّني لم أقل فيها شيئاً ومازال هناك الكثير الكثير والكثير لعمله. إنّ حالتكم تُفاقِم الإحساس هذا. وماذا أقول إذن؟ أنّي قصّرتُ في واجبي؟ أم إنّكم غلاظ القلوب لدرجة أنّ هذا لم يفِد في شيء؟ هل أشكّ؟ لا. إنّي أتّكل على الله وأوكلكم إليه، أنتم أحبّائي. هو سيتمّ عمل كلمته. لستُ مثل أب يموت وليس له نور آخر سوى البشريّ. إنّني أرجو بالله. ورغم شعوري بتَدافُع كلّ النصائح الّتي أرى أنّكم في حاجة إليها ورؤيتي الوقت يهرب، إلاّ أنّي أمضي مطمئنّاً إلى مصيري. فأنا أعلم أنّ على البذور الساقطة فيكم، سوف ينهمر الندى الّذي يجعلها كلّها تنمو، ثمّ تأتي شمس الباراقليط، فتصير شجرة عظيمة. سيأتي أمير هذا العالم، الّذي ليس لي فِعل شيء معه. وإذا لم يكن ذلك بهدف إتمام الخلاص، فما كان له مِن قدرة عليّ. ولكن يكون هذا ليعلم العالم أنّي أحبّ الآب، وأحبّه حتّى الطاعة الّتي تُخضعني للموت، أنّي أعمل ما أوصاني به.
قد حانت ساعة الرحيل. قوموا، واسمعوا الكلام النهائيّ.
أنا الكرمة الحقيقيّة وأبي الكرّام. كلّ غصن لا يأتي بثمر يقطعه، والّذي يأتي بثمر يشذّبه ليأتي بثمر أكثر. لقد تطهّرتم بكلمتي. اثبتوا فيّ وأنا فيكم كي تستمرّوا بأن تكونوا هكذا. الغصن المنفصل عن الكرمة لا يأتي بثمر. كذلك أنتم إن لم تثبتوا فيّ. أنا الكرمة وأنتم الأغصان. والّذي يثبت متّحداً بي يأتي بثمر كثير. ولكن إن انفصل أحد عنّي، يصبح غصناً جافّاً يُلقى في النار ويُحرَق، إذ دون الاتحاد بي، لا تقدرون أن تعملوا شيئاً. فاثبتوا إذاً فيّ وليثبت كلامي فيكم، ثمّ اسألوا ما تشاؤون فيكون لكم. وهكذا سيتمجّد أبي على الدوام بقدر ما تأتون بثمر كثير وتكونون لي تلاميذاً.
كما أحبّني الآب، كذلك أحببتُكم أنا. اثبتوا في محبّتي الـمُخَلِّصة. بمحبّتكم لي تصبحون مطيعين، والطاعة تُنمّي المحبّة المتبادلة. لا تقولوا إنّني أكرّر ذاتي. أنا عالم بضعفكم، وأريد أن تخلصوا. إنّني أقول لكم هذا كي يكون فيكم الفرح الّذي شئتُ أن أهبكم إيّاه ويكون كاملاً. تحابّوا، تحابّوا! هذه هي وصيّتي الجديدة. أحبّوا بعضكم بعضاً أكثر مما يحبّ كلّ واحد منكم نفسه. ما مِن محبّة أعظم مِن أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبّائه. أنتم أحبّائي وأنا أبذل حياتي مِن أجلكم. اعملوا بما أُعلّمكم وأوصيكم به. لا أسمّيكم عبيداً بعد، لأنّ العبد لا يعلم ما يصنع سيّده، أمّا أنتم فتعلمون ماذا أصنع. أنتم تعلمون كلّ شيء عنّي. ولم أُظهِر لكم نفسي فقط، بل أيضاً الآب والباراقليط، وكلّ ما سمعتُه مِن الله. لستم أنتم مَن اخترتم أنفسكم. بل أنا اخترتكم واصطفيتكم لتمضوا بين الشعوب وتأتوا بثمار فيكم وفي قلوب مَن تبشّرونهم، ولتدوم ثماركم، ويعطيكم الآب كلّ ما تسألونه باسمي.
لا تقولوا: "فإذن إن كنتَ قد اخترتنا، فلماذا اخترت خائناً؟ إذا كنتَ تعلم كلّ شيء، فلماذا فعلتَ هذا؟" لا تسألوا كذلك مَن يكون هذا. فهو ليس بشراً، إنّه شيطان. قُلتُه للصديق الوفيّ وتركتُ الابن الحبيب يقوله. إنّه الشيطان. لو لم يكن الشيطان قد تجسّد، ذلك المقلّد الأبديّ لله، في جسد قابل للموت، لما عرف ذلك الممسوس أن يفلت مِن سلطاني أنا يسوع. قُلتُ "ممسوس". لا. بل هو أكثر كثيراً: لقد تلاشى في الشيطان.»
«أنتَ، يا مَن طردتَ الشياطين، لماذا لم تحرّره؟» يَسأَل يعقوب بن حلفى.
«أتسأل هذا حبّاً لنفسكَ، خوفاً أن تكون هو؟ لا تخف؟»
«أنا إذاً؟»
«أنا؟»
«أنا؟»
«اصمتوا. لن أقول ذاك الاسم. أتصرّف برحمة، وأنتم اصنعوا بالمثل.»
«ولماذا لم تتغلّب عليه؟ ألم تكن تستطيع ذلك؟»
«كنتُ أقدر. ولكن كي أمنع الشيطان من التجَسُّد كي يقتلني، كان عليّ أن أستأصل الجنس البشريّ قبل الفداء. حينئذ مَن أفتدي؟»
«قُله لي يا ربّ، قُله لي!» ينـزلق بطرس على ركبتيه ويهزّ يسوع بجنون، كأنّه كان فريسة للهذيان. «هل أنا؟ هل أنا؟ أأختبر نفسي؟ لا يبدو لي. ولكن أنتَ... قُلتَ إنّي سأنكركَ... وأرتعد... آه! يا للهول لو كنتُ أنا!...»
«لا يا سمعان بن يونا، لستَ أنتَ.»
«لماذا نزعت عنّي اسم "بطرس"؟ هل عُدتُ إذاً سمعان؟ أنتَ ترى هذا؟ أنتَ تقول!... إنّه أنا! ولكن كيف أمكنني ذلك؟ قولوا... قولوا أنتم... متى استطعتُ أن أصبح خائناً؟... سمعان؟... يوحنّا؟... ولكن تكلّموا!...»
«بطرس، بطرس، بطرس! أدعوكَ سمعان لأنّني أتذكّر لقاءنا الأوّل حين كنتَ سمعان. وأفكّر كيف كنتَ مخلصاً دائماً منذ اللحظة الأولى. لستَ أنتَ. أقول لكَ ذلك أنا: الحقّ.»
«مَن إذاً؟»
«ولكنّه يهوذا الاسخريوطيّ! ألم تفهم بعد؟» يصيح تداوس الّذي لم يعد يتمالك نفسه.
«لماذا لم تقل لي هذا مسبقاً؟ لماذا؟» يصرخ بطرس بعد.
«الصمت. إنّه الشيطان. لا اسم آخر له. إلى أين أنتَ ذاهب يا بطرس؟»
«للبحث عنه.»
«اترك في الحال هذا الرداء وذلك السلاح. وإلاّ فينبغي لي أن أطردكَ وألعنكَ؟»
«لا، لا! آه! ربّي! ولكن أنا... لكن أنا... قد أكون مصاباً بالهذيان، أنا؟ آه! آه!» يبكي بطرس وقد ارتمى أرضاً عند قدميّ يسوع.
«أوصيكم أن تحبّوا بعضكم. وأن تغفروا. هل فهمتم؟ إن كان ما يزال بغض في العالم، فلا يكن بينكم إلاّ المحبّة. للجميع. كم مِن الخونة ستلاقونهم على طريقكم! ولكن عليكم ألاّ تبغضوا ولا تردّوا الشرّ بالشرّ. وإلاّ فإنّ الآب سيبغضكم. لقد أحاق بي البغض والخيانة قبلكم. ومع ذلك، أنتم ترون أنّي لا أبغض. لا يمكن للعالم أن يحبّ مَن ليس مثله. إذاً فهو لن يحبّكم. لو كنتم مِن العالم لأحبّكم، ولكنّكم لستم مِن العالم، ذلك أنّني قد انتزعتُكم مِن وسط العالم، لأجل هذا أنتم مبغوضون.
لقد قُلتُ لكم: ليس عبد أعظم مِن سيّده. إن كانوا اضطهدوني فسيضطهدونكم أنتم أيضاً. وإن كانوا سمعوني فيسمعونكم أنتم أيضاً. إنّما هم سيفعلون هذا كلّه بسبب اسمي، لأنّهم لا يعرفون، ولا يريدون أن يعرفوا مَن الّذي أرسلني. ولو لم أكن قد أتيتُ وكلّمتهم، لما كانت لهم خطيئة، أمّا الآن فليس لهم حجّة في خطيئتهم. لقد رأوا أعمالي، وسمعوا أقوالي، ومع ذلك أبغضوني، والآب معي، لأنّني والآب وحدة واحدة مع المحبّة. إنّما هو مكتوب: "أبغضتَني بلا سبب". إنّما متى جاء المعزّي، روح الحقّ الّذي ينبثق مِن الآب، فهو سيشهد لي، وأنتم ستشهدون لي أيضاً، لأنّكم كنتم معي منذ البداية.
أكلّمكم بهذا، حتّى إذا ما أتت الساعة، لا تنهاروا ولا تشّكوا. سيأتي وقت يُخرجونكم فيه مِن المجامع ويظنّ كلّ مَن يقتلكم أنّه يُقرّب لله عبادة. هم لم يعرفوا الآب ولم يعرفوني. بهذا يكمن عذرهم. لم أخبركم بهذا بالتفصيل مِن قبل لأنّكم كنتم كالمواليد الجدد. أمّا الآن فالأُمّ تترككم. أنا ماضٍ. وعليكم أن تألفوا طعاماً آخر. أريد أن تعرفوه.
لا يسألني أحد بعد: "إلى أين تمضي؟" الحزن يكمّ أفواهكم. ومع ذلك، فإنّه مِن الخير لكم أن أمضي، وإلاّ فلن يأتي المعزّي. فأنا الّذي سأرسله لكم. ومتى جاء، وبواسطة الحكمة والكلمة، الأعمال والبطولة الّتي يسكبها فيكم، يقنع العالم بخطيئته قتل الله وبرّ قداستي. والعالم سينقسم بوضوح إلى رافضين، أعداء لله، وإلى مؤمنين. وهؤلاء المؤمنون يكونون أكثر أو أقلّ قداسة، حسب إرادتهم. أمّا دينونة رئيس العالم وخدّامه فستقام. لا أستطيع أن أقول لكم أكثر لأنّكم لا تستطيعون الإدراك بعد. أمّا هو، الباراقليط الإلهيّ، فإنّه سيهبكم الحقيقة الكاملة لأنّه لا يتكلّم مِن عنده، بل سيقول كلّ ما سيكون قد سمعه مِن فِكر الله ويعلن لكم ما يأتي. إنّه سيأخذ ما هو منّي، أي ما هو مِن الآب أيضاً، ويخبركم.
ما زال لنا وقت قليل نرى فيه بعضنا، بعد ذلك لا تعودون ترونني. ثمّ وقت قليل بعد، ثمّ ترونني.
أنتم تهمسون فيما بينكم وفي قلبكم. اسمعوا مَثَلاً. وهو الأخير لمعلّمكم.
عندما تحمل امرأة ويحين موعد ولادتها، تحزن كثيراً لأنّها تتألّم وتئنّ. ولكن متى ولدت طفلها، وضمّته إلى قلبها، يتوقّف كلّ ألم، والحزن يتحوّل فرحاً، لأنّ إنساناً جاء إلى العالم.
هكذا أنتم. أنتم ستبكون والعالم يهزأ بكم، إنّما بعد ذلك يتحوّل حزنكم إلى فرح. فرح لن يعرفه العالم أبداً. أنتم محزونون الآن، ولكن حينما ترونني مِن جديد، سيمتلئ قلبكم فرحاً لن ينتزعه منكم أحد. فرح مفعم يجعل كلّ احتياج يُسأل للروح والقلب والجسد يتلاشى. ستتغذّون برؤيتي فقط، ناسيين كلّ شيء آخر. ولكن بالضبط اعتباراً مِن تلك اللحظة سيمكنكم أن تطلبوا كلّ شيء باسمي، والآب سيعطيه لكم ليكون لكم فرح أكثر على الدوام. اسألوا، اسألوا وستنالون.
تأتي الساعة الّتي سأستطيع فيها أن أخبركم عن الآب صراحة. ذلك لأنّكم ستكونون قد مكثتم أوفياء في الاختبار وسيكون قد تمّ تجاوز كلّ شيء. ستكون محبّتكم قد أصبحت كاملةً بحيث تمنحكم القوّة في الاختبار. وما سوف ينقصكم، سأكمله آخذاً إيّاه مِن كنـزي العظيم وقائلاً: "أيّها الآب، أنتَ ترى. لقد أحبّوني مؤمنين أنّني أتيتُ منكَ". قد نزلتُ إلى العالم، والآن أتركه وأمضي إلى الآب. وسأصلّي مِن أجلكم.»
«آه! الآن تُفهِم مرادكَ. الآن نعرف ما تريد قوله وأنّكَ عالم بكلّ شيء وتجيب دون أن يسألك أحد. حقّاً إنّكَ مِن الله خرجتَ!»
«أتؤمنون الآن؟ في الساعة الأخيرة؟ سنوات ثلاث وأنا أكلّمكم! ها هو الآن قد بدأ فيكم عمل الخبز الّذي هو الله والخمر الّذي هو دم غير آتٍ مِن إنسان، وهو الّذي سيمنحكم أوّل رعشة تأليه. ستصيرون آلهة إن ثابرتم على محبّتي وفي امتلاكي. ليس كما قال الشيطان لآدم وحواء، ولكن كما أقول لكم أنا. هذه هي الثمرة الحقيقيّة لشجرة الخير والحياة. الشرّ انهزم أمام مَن يأكل منها، ومات الموت. مَن يأكل منها يعش إلى الأبد ويصير "آلهة" في ملكوت الله. أنتم ستصبحون آلهة إن مكثتم فيّ. ومع ذلك... رغم أنّ فيكم هذا الخبز وهذا الدم، ولأنّ الساعة الّتي تتشتّتون فيها قد حانت، فستمضون كلّ منكم في سبيله وتتركونني وحدي... ولكنّي لستُ وحدي. الآب معي. أيّها الآب، أيّها الآب! لا تتركني! لقد قُلتُ لكم كلّ شيء... كي أهبكم السلام، سلامي. ستكونون في ضيق أيضاً. ولكن ثقوا. فإنّي قد غلبتُ العالم.»
يقف يسوع، يفتح ذراعيه على شكل صليب ويقول بوجه منير الصلاة السامية للآب. ويوحنّا يردّدها بالكامل.
يجهش الرُّسُل ببكاء يكاد يكون واضحاً وبجلبة. وفي النهاية ينشدون ترتيلة.
يباركهم يسوع، ثمّ يأمر: «فلنلبس أرديتنا الآن ونرحل. أندراوس، قل لصاحب المنـزل أن يترك كلّ شيء على حاله، بحسب مشيئتي. غداً... ستسعدكم رؤية هذا المكان مِن جديد.» ينظر إليه يسوع. يبدو وكأنّه يبارك الجدران والأثاث وكلّ شيء. ثمّ يلبس رداءه وينطلق، يتبعه التلاميذ. إلى جانبه يوحنّا الّذي يتّكئ عليه.
«ألا تحيّي الأُمّ؟» يَسأَله ابن زَبْدي.
«لا. كلّ شيء قد تمّ. لا تُحدِثوا جلبة.»
سمعان، الّذي أضاء شعلة مِن المصباح، ينير الممرّ الواسع المؤدّي إلى الباب. يفتح بطرس البوّابة باحتراس ويخرجون جميعاً إلى الطريق، ثمّ بمفتاح يقفلون مِن الخارج ويمضون.
تأملات في العشاء الأخير
17 / 02 / 1944
يقول يسوع:
«مِن حدث العشاء، إضافة إلى باعث محبّة إله صار غذاء للبشر، تُستَخلَص أربعة تعاليم رئيسيّة.
أوّلاً: ضرورة أن يطيع أبناء الله الشريعة:
كانت الشريعة تقول بوجوب استهلاك الحَمَل للفصح بحسب الطقس الّذي أعطاه الله لموسى، وأنا الابن الحقيقيّ لله الحقّ، لم أعتبر نفسي، بسبب منـزلتي الألوهيّة، مستثنى مِن الشريعة. على الأرض: كنتُ إنساناً بين الناس ومعلّماً للبشر. وبالتالي كان ينبغي لي إذن أن أؤدّي واجبي كإنسان نحو الله مثل الآخرين بل وأفضل منهم. الحظوة الإلهيّة لا تُعفي مِن الطاعة والاجتهاد صوب قداسة تنمو باستمرار. لو أنّكم تقارنون أرفع قداسة بالكمال الإلهيّ، تجدونها دائماً مليئة بالأخطاء، ومجبرة بالتالي على الاجتهاد لإزالتها والوصول إلى درجة مِن الكمال يشبه كمال الله قدر الإمكان.
ثانياً: قدرة صلاة مريم:
كنتُ الله في الجسد. الجسد الّذي، كي يكون بلا شائبة، كان يملك القوّة الروحيّة ليسود على الجسد. ومع ذلك لا أرفض، بل على العكس أطلب المساعدة مِن الممتلئة نعمة، الّتي، حتّى في ساعة التكفير هذه، وجدت، وهذا صحيح، السماء مقفلة فوق رأسها، ولكن ليس إلى درجة عدم التوصّل إلى انتداب ملاك، هي، مَلِكة الملائكة، كيما تشدّد عزيمة ابنها. آه! ليس لأجلها، الأُمّ المسكينة! هي كذلك تجرّعت مرارة تخلّي الآب، ولكن بآلامها المقدَّمة للفداء نالت لي قدرة تجاوز ضيق بستان الزيتون وتحمّل الآلام إلى النهاية بكلّ أشكالها المتعدّدة العنف، حيث كلّ منها كانت تهدف إلى غسل شكل ووسيلة للخطيئة.
ثالثاً: سيادة النَّفْس واحتمال الإهانة، ومحبّة سامية فوق كلّ شيء، لا يمكن أن تكون إلاّ لهؤلاء الّذين يعيشون جلّ حياتهم في شريعة المحبّة، الّتي كنتُ قد أعلنتُها. الّتي لم أعلنها فقط، بل مارستُها حقّاً:
لا يمكنكم أن تتصوّروا ما كان بالنسبة لي جلوس الّذي كان يخونني على مائدتي، وجوب أن أمنحه ذاتي، وأن أتصاغر أمامه، أن أتقاسم معه الكأس الطقسيّ واضعاً شفتيّ حيث وضعهما هو، وأجعل أُمّي تضعهما. أطبّاؤكم ناقشوا ويناقشون سرعة نهايتي ويرجعون سببه إلى خلل قلبيّ مردّه إلى ضربات الجَلْد. نعم، بفعل تلك الضربات كذلك صار قلبي مريضاً. ولكنّه كان هكذا منذ العشاء. محطّماً، محطّماً في مجهود تحمّل الخائن في جواري. بدأ حينذاك موتي جسديّاً. البقيّة لم تكن سوى تفاقم الاحتضار الّذي كان قد تحقّق. كلّ ما أمكنني عمله، عملتُه، ذلك أنّني لم أكن سوى واحد مع المحبّة. حتّى ساعة ابتعاد الله-المحبّة عنّي، عرفتُ أن أكون محبّة، لأنّني طوال الثلاث والثلاثين سنة قد عشت بالمحبّة. لا يمكن الوصول إلى كمال مثل هذا الّذي يتطلّب الغفران، وتحمّل مَن يخطئ إلينا، دونما الاعتياد على المحبّة. وأنا كنتُ أمتلكه، وتمكّنتُ مِن الغفران وتحمّل آية المسيئين الّذي كان يهوذا.
رابعاً: السرّ يعمل بقدر استحقاقنا لتقبّله. إن جعلنا ذواتنا مستحقّة بالإرادة الثابتة الّتي تحطّم الجسد وتجعل الروح سلطاناً، منتصراً على الشهوات، مُخضِعاً الكائن للفضائل، بشدّه كوتر القوس نحو كمال الفضائل وخاصّة المحبّة.
بالفعل، عندما يحبّ أحدهم، فإنّه يسعى إلى إمتاع مَن يحبّه. يوحنّا، الّذي كان يحبّني كإنسان نقيّ، حصل مِن السرّ على أقصى تحوّل. وقد بدأ مِن تلك اللحظة يصبح النسر الّذي يألف ويسهل عليه الارتفاع إلى سماء الله والتحديق بالشمس الإلهيّة. ولكن الويل لمن يتلقّى السرّ دون أن يكون مستحقّاً له تماماً، بل على العكس يزيد مِن عدم استحقاقه البشريّ بالخطايا المميتة. حينئذ لا يصبح السرّ بذرة وقاية وحياة، بل فساداً وموتاً. موت الروح وانحلال الجسد، الّذي هو "منهك" كما يقول بطرس عن جسد يهوذا. جسد لا يسري فيه الدم، السائل الحيويّ دائماً والجميل في أرجوانيّته، ولكنّ أحشاءه، السوداء بسبب الأهواء جميعها، هي تعفّن ينسكب مِن الجسد المتحلّل كما مِن جيفة حيوان نجس، شيء مقزّز بالنسبة للمارّة. موت مَن يدنّس السرّ هو دائماً موت يائس، وهو لا يعرف بالتالي العبور الهادئ الخاصّ بمن هو في النعمة، ولا العبور البطوليّ للضحيّة الّتي تتألّم بطريقة مبرّحة ولكنّ نظرها مثبّت على السماء والنَّفْس واثقة مِن السلام. موت اليائس يتّسم بالتشنّج والرعب الفظيع، إنّه اختلاج مريع للنَّفْس الّتي تستولي عليها يد الشيطان، الّتي تضيّق عليها كي تنتزعها مِن الجسد وتخنقها بتنفّسها المقزّز. هذا هو الفرق بين الّذي يعبر إلى الحياة الأخرى بعد التغذّي بالمحبّة، بالإيمان، بالرجاء وبكلّ فضيلة أخرى، وبمذهب سماويّ وبالخبز الملائكيّ الّذي يصحبه مع كلّ ثماره، بشكل أفضل إذا كان بحضوره الفعليّ، في الرحلة الأخيرة، وذاك الّذي يموت بعد حياة بربريّة وموت بربريّ لا ينعشه السرّ ولا النعمة. الأوّل هو النهاية الصافية للقدّيس الّذي يفتح له الموت باب الملكوت الأبديّ. والثاني هو السقوط المرعب للمدان الّذي يشعر بانحداره إلى الموت الأبديّ ويعلم في لحظة ما أراد أن يفقده دون أن يعود قادراً على الإصلاح. للأوّل هو الغنى وللآخر هو التجريد. للواحد الفرح وللآخر الرعب.
هذا ما تمنحونه لأنفسكم بحسب إيمانكم ومحبّتكم، أو عدم إيمانكم واحتقار نعمتي. وهذا هو التعليم مِن هذا التأمّل.»