ج6 - ف103

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السادس/ القسم الأول

 

103- (يسوع في وليمة السنهدرينيّ والفرّيسيّ)

 

10 / 04 / 1946

 

يَدخُل يسوع إلى بيت مضيفه، البعيد قليلاً عن الهيكل إنّما في اتّجاه المنطقة التي في أسفل "توفّيت (Tophet)".

 

بيت مُفعَم وجاهة، قليل الزينة، لِـمُمارِس واجباته الدينيّة متشدّد، وحتّى لِـمُمارِس متطرّف. أظنُّ أنّ المسامير ذاتها موضوعة بالعدد والوضعيّة الموصوفة في بعض الشرائع الستّمائة وثلاث عشرة. لا رسم على الأقمشة، لا زينة على الجدران، لا تحفة... لا شيء مِن هذه الأشياء الصغيرة التي تَجِدها في بيت يوسف ونيقوديموس وفرّيسيّي كفرناحوم أنفسهم لتجميل البيت. كلّ أرجاء هذا البيت تنضح بروح سيّدها نفسه. جليديّة، بقدر ما هي مجرّدة مِن كلّ زينة. قليل التزيين في المفروشات الداكنة والثقيلة، المربّعة مثل التوابيت. منفّر. بيت لا يستقبل، بل يَضغط على الداخل إليه بشكل عدوانيّ.

 

وحِلقِيّا يجعله يلاحظ ذلك ويتفاخر. «هل ترى، يا معلّم، كم أنا مراعٍ لواجبات الاحترام؟ كلّ شيء يُعبِّر عن ذلك. انظر: ستائر دون رسومات، مفروشات دون زخارف، لا شيء مثل مزهريات منحوتة أو أعمدة إنارة تُشبِه الزهور. كلّ شيء موجود إنّما منظّم حسب الشريعة: "لا تجعل لكَ منحوتات، ولا لوحات لما هو في العلاء في السماء ولا في الأسفل على الأرض، ولا في الماء تحت الأرض". هكذا هو الحال في بيتي وفي ثيابي وستائر بيتي. أنا، مثلاً، لا أوافق تلميذكَ (الاسخريوطيّ) على هذه الأشغال على الرداء أو المعطف. ستقول لي: "كثيرون يرتدون كذلك". ستقول: "إنّها مجرّد يونانيّة". حسناً! إنّما مع هذه الزوايا وهذه الأشكال، فذلك يُذكِّر كثيراً بالسمات المصريّة. يا للهول! أرقام شيطانيّة! علامات استحضار أرواح! رمز بعلزبول! لا يشرّفكَ يا يهوذا بن سمعان، أن تحملها، ولا لكَ يا معلّم، أن تسمح له بذلك.»

 

يُجيب يهوذا بابتسامة استهزاء. ويُجيب يسوع بتواضع: «أنا أسهر على ألاّ تكون علامات فظاعة في القلوب أكثر مِن كون العلامات على الثياب. ولكنّني سوف أرجو، بل أرجو تلميذي مِن الآن أن يلبس ثياباً أقلّ تزييناً كيلا يُشكِّكَ أحداً.»

 

كان مِن يهوذا حركة حسنة: «حقّاً، لقد قال لي معلّمي مرّات عدّة إنّه يفضّل ثياباً أكثر بساطة. إنّما أنا... أفعل ما أشاء لأنّه هكذا يروق لي أن أرتدي.»

 

«سيّئ، سيّئ جدّاً أن يُعطي جليليّ الدروس ليهوديّ، سيّئ جدّاً لكَ أنتَ الذي كنتَ مِن الهيكل... آه!» يُبدي حِلقِيّا شكوكه ورفاقه جوقة معه.

 

أضحى يهوذا تَعِباً مِن إظهار الصلاح. يُجيب: «آه! إذاً فسيكون هناك العديد مِن الأمور لإزالتها منكم يا مَن أنتم مِن السنهدرين! إذا كان مِن الواجب عليكم إزالة كلّ الرسوم التي تغطّي ملامح نفوسكم، فسيكون مظهركم حزيناً للغاية.»

 

«كيف تتكلّم؟»

 

«كمن يعرفكم تمام المعرفة.»

 

«يا معلّم! ولكن هل تسمعه؟»

 

«أَسمَع وأقول بوجوب التواضع مِن الطرفين، ولدى كليكم الحقيقة. وتسامح متبادل. وحده الله كامل.»

 

«أحسنتَ قولاً، أيّها الرابّي.» يقول أحد الأصدقاء... صوت خجول، منفرد، في المجموعة الفرّيسيّة والحبريّة.

 

«بئس القول، على العكس.» يجيب حِلقِيّا «فتثنية الاشتراع واضحة في لعناتها. تقول: "ملعون كلّ مَن يجعل له صوراً منحوتة أو مصهورة، أشياء مُنكَرَة، صنيعة أيدي حرفيّين و..."»

 

«ولكنّها ثياب وليست منحوتات.» يُجيب يهوذا.

 

«اصمت أنتَ. فمعلّمكَ يتكلّم. كُن مستقيماً يا حِلقِيّا وميّز. ملعون مَن صَنَعَ أوثاناً، إنّما ليس مَن يرسم ناسخاً ما وَضَعَ الخالق مِن جمال في الخليقة. فنحن نقطف الزهور أيضاً للزينة...»

 

«أنا لا أقطفها ولا أودُّ أن أراها تزيّن الغرف. الويل لنساء بيتي إذا ما ارتكبن هذه الخطيئة، حتّى وإن يكنّ في غرفهنّ. فيجب عدم الإعجاب بغير الله.»

 

«فكرة صحيحة. الله وحده. إنّما مِن الممكن تمجيد الله حتّى في زهرة، بالاعتراف أنّه هو صانع هذه الزهرة.»

 

«لا! لا! وثنيّة! وثنيّة!»

 

«يهوديت تزيّنت وكذلك إستير لهدف مقدّس...»

 

«نساء! والنساء محتقرات على الدوام. ولكن أرجوك يا معلّم أن تدخل غرفة الوليمة بينما أنسحب للحظة، إذ عليَّ التحدّث إلى أصدقائي.»

 

يُوافِق يسوع دون مناقشة.

 

«يا معلّم...  أتنفّس بسوء!...» يهتف بطرس.

 

«لماذا؟ هل تشعر بسوء؟» يَسأَل البعض.

 

«لا، بل متضايق... كَمَن وَقَعَ في فخ.»

 

«لا تضطرب وكونوا جميعكم حذرين للغاية.» ينصح يسوع.

 

يظلّون في مجموعة وواقفين إلى أن يعود الفرّيسيّون يتبعهم خُدّام.

 

«إلى الموائد، دون تأخير. لدينا اجتماع ولا يمكننا التأخّر.» يُصدِر حِلقِيّا أمره ويُحدّد الأمكنة بينما يُقطّع الخدّام اللحوم.

 

يسوع إلى جانب حِلقِيّا وبطرس بجانبه. يُقدّم حِلقِيّا الطعام، وتبدأ الوجبة بصمت رهيب…

 

إنّما بعد ذلك يتبادلون الكلمات الأولى الموجّهة طبيعيّاً إلى يسوع، إذ يُهمَل الاثنا عشر كما لو أنّهم لم يكونوا موجودين.

 

الأوّل الذي يَسأَل هو أحد أحبار الشريعة. «يا معلّم، هل أنتَ إذاً على يقين مِن كونكَ كما تقول؟»

 

«لستَ أنا مَن أتفوّه به. الأنبياء قالوا هذا قبل أن أكون فيما بينكم.»

 

«الأنبياء!... أنتَ الذي تُنكر أنّنا قدّيسون، هل يمكنك اعتبار عبارتي حسنة إذا ما قلتُ إنّه يمكن لأنبيائنا أن يكونوا متفاخرين؟»

 

«الأنبياء قدّيسون.»

 

«ونحن لا، أليس كذلك؟ إنّما انظر كيف صفنيا يجمع الأنبياء بالكَهَنَة في إدانته لأورشليم: "أنبياؤها متفاخرون أهل غدرات. كهنتها نجّسوا القدس، خالفوا الشريعة." (صفنيا 3/4). أنتَ تتّهمنا بذلك باستمرار. فإذا كنتَ موافقاً للنبيّ في القسم الثاني ممّا يقول، عليكَ الموافقة على القسم الأوّل كذلك، وإقرار أنّه لا يمكننا الاعتماد على كلام قاله متفاخرون.»

 

«يا رابّي إسرائيل أجبني. إذا كان في بعض الأسطر فيما بعد يقول صفنيا: "ترنّمي وابتهجي يا ابنة صهيون... قد نَزَعَ الربّ الأقضية عليكِ... مَلِك إسرائيل الربّ في وسطكِ." هل يَقبَل قلبكَ هذا الكلام؟»

 

«أَعتزّ بترديده وأنا أحلم بذاك اليوم.»

 

«ولكنّه كلام نبيّ، متفاخر، وبالتالي...»

 

يَمكُث حَبر الشريعة للحظة مذهولاً. يَهرَع صديق له لنجدته. «لا يمكن لأيّ كان الشكّ بأنّ إسرائيل ستسود. فليس واحد، بل كلّ الأنبياء والشيوخ هم الذين قالوا هذا الوعد مِن الله.»

 

«وما مِن أحد مِن الشيوخ والأنبياء إلّا وقد أشار إلى ما أكونه.»

 

«آه! حسناً! ولكنّنا لا نملك الأدلّة! قد تكون، أنتَ كذلك، متفاخراً. ما الدليل الذي تُقدِّمه لنا بأنّكَ مَسيّا، ابن الله؟ أعطني أَجَلاً لأتمكّن مِن الحُكم على ذلك.»

 

«لن أكلّمكَ عن موتي الذي وَصَفَه داود وإشَعياء، ولكنّني أكلّمكَ عن قيامتي.»

 

«أنتَ؟ أنتَ؟ تقوم؟ ومَن يجعلكَ تقوم؟»

 

«بالتأكيد لستم أنتم، ولا الحَبر، ولا الـمَلِك، ولا الطبقات، ولا الشعب. إنّما سأقوم بذاتي.»

 

«لا تُجدّف أيّها الجليليّ، ولا تكذب!»

 

«أنا لا أعمل غير تمجيد الله وقول الحقيقة. ومع صفنيا أقول لكَ: "انتظرني يوم قيامتي." حتّى ذلك الحين يمكنك أن تشكّ، يمكنكم جميعاً أن تفعلوا، كما يمكنكم العمل على إدخال الشكوك في الشعب. ولكنّكم لن تعودوا تستطيعون ذلك عندما الأزليّ الحيّ، بعد الفِداء، يقوم بذاته كي لا يموت بعد. الديّان الذي لا يُمَسّ، الـمَلِك الكامل بصولجانه وعدله يملك ويدين إلى نهاية الدهور، ويستمرّ في الـمُلك في السماء إلى الأبد.»

 

«ولكن ألا تعلم أنّكَ تتحدّث إلى أحبار وسنهدريّين؟» يقول حِلقِيّا.

 

«وبالتالي؟ أنتم تستجوبونني، وأنا أجيبكم. أنتم تُظهِرون الرغبة في المعرفة. وأنا أوضح لكم الحقيقة. أنتَ الذي مِن أجل رسم على ثوب ذَكَّرتَ باللعنة التي في تثنية الاشتراع، ألن تُذكِّرني بلعنته الأخرى: "ملعون مَن يَضرب قريبه بالخفية."»

 

«أنا، لا أضربكَ. أُقدِّم لكَ طعاماً.»

 

«لا. ولكنّ الأسئلة الماكرة هي ضربات في الظهر. انتبه يا حِلقِيّا، إذ إنّ لعنات الله تتوالى، والتي ذكرتُها تتبعها هذه الأخرى: "ملعون مَن يَقبَل الهدايا ليحكم على بريء بالموت."»

 

«في هذه الحال أنتَ مَن يَقبَلها، أنتَ، ضيفي.»

 

«أنا لا أدين، حتّى المذنبين إذا ما اهتدوا.»

 

«لستَ عادلاً إذاً.»

 

«لا. إنّه عادل. إذ يَعتَبِر أنّ التائب يستحق الغفران، ولأجل ذلك لا يدين» يقول ذلك الرجل الذي أيّد يسوع في صحن (باحة) الدار.

 

«اسكت يا دانيال! أتبغي أن تعرف في ذلك أكثر منّا؟ أم إنّ أحداً أفسَدَكَ وعليه ما يزال الكثير للبتّ فيه، وهو لا يفعل أيّ شيء يساعدنا على البتّ فيما يخصّه؟» يقول أحد الأحبار.

 

«أعلم أنّكم أنتم العلماء وأنا مجرّد يهوديّ بسيط، لا أعلم حتّى لماذا تريدونني غالباً فيما بينكم...»

 

«ولكن لأنّكَ قريب! سهل ذلك على الإدراك! وأنا، أودُّ أن يكون أقربائي جميعهم قدّيسين وحكماء! لا يمكنني السماح بجهل ما يخصّ الكِتاب والهالاخاه [Halakha] والمدراش [Midrash] والهاجادا [Haggada]. ولا أحتمل ذلك. يجب معرفة كلّ شيء، ومراقبة كلّ شيء...»

 

«وأنا أقرّ بجميلكَ لكلّ هذه العناية. إنّما أنا، المزارع البسيط، وقد أصبحتُ قريبكَ على غير استحقاق، لم أهتمّ بمعرفة الكِتاب والأنبياء سوى للحصول على تعزية في حياتي. وببساطة مَن ليس عالماً، أعترف لكَ أنّي أتعرّف في الرابّي على المَسيّا، وقد سبَقَه السابق الذي أشار لنا إليه... ويوحنّا، لا يمكنكَ نكرانه، كان يتملّكه روح الله.»

 

فترة صمت. إنكار أنّ يوحنّا كان معصوماً عن الخطأ، لم يريدوه. ولا الاعتراف كذلك بأنّه معصوم.

 

حينئذ قال آخر: «هيّا... لنقل إنّ السابق هو سابق هذا الملاك الذي أَرسَلَه الله ليهيّئ طريق المسيح. و... لنفترض أنّ في الجليليّ، قداسة كافية تجعلنا نعتبر أنّه هو هذا الملاك. بعده يأتي زمن المَسيّا. هل تبدو لكم فكرتي مُرضية للجميع؟ هل تقبلها يا حِلقِيّا؟ وأنتم، يا أصدقائي؟ وأنتَ أيّها الناصريّ؟»

 

«لا.» «لا.» «لا.» والّلاءات الثلاث كلّها تأكيد.

 

«كيف؟ لماذا لا توافقون؟»

 

يصمت حِلقِيّا، ويصمت أصدقاؤه. فقط يسوع، يُجيب صارماً: «لأنّني لا أستطيع الموافقة على خطأ. أنا أكثر مِن ملاك. الملاك كان المعمدان، سابق المسيح، والمسيح هو أنا.»

 

صمت جليديّ، مُطَوَّل. حِلقِيّا، مُسنِداً مرفقه على الطاولة، وخدّه على يده، يفكّر، متصلّباً، منغلقاً، كما جميع أهل بيته.

 

يلتفت يسوع ويرمقه بنظرة، ثمّ يقول: «حِلقِيّا، حِلقِيّا، لا تخلط الشريعة والأنبياء مع الترّهات!»

 

«أرى أنّكَ قرأتَ فِكري. إنّما لا يمكنكَ الإنكار أنّكَ ارتكبتَ خطيئة بتجاوزكَ التعليم.»

 

«كما أنتَ، وبمكر، بالتالي بارتكابكَ خطيئة أعظم، قد تجاوزتَ واجب الضيافة، وفعلتَ ذلك عن قصد. ألهيتَني ثمّ أرسلتَني إلى هنا، بينما كنتَ تتطهّر مع أصدقائكَ، وأثناء عودتكَ، رجوتَنا أن نُسرع بسبب اجتماع كان لديكَ، وكلّ ذلك لتقول لي: "ارتكبتَ خطيئة."»

 

«كان بإمكانكَ تذكيري بواجبي تقديم ما تتطهّر به.»

 

«هناك أمور كثيرة كان بإمكاني تذكيركَ بها، ولكنّ ذلك لا يفيد سوى بجعلكَ أكثر تجاوزاً وعدوانيّة.»

 

«لا. قُلها، قُلها. نريد الاستماع إليكَ و...»

 

«والادّعاء عليَّ أمام عظيم الكَهَنَة. لأجل ذلك ذَكَّرتُكَ باللعنة الأخيرة وما قبل الأخيرة. أعلم ذلك. أنا أعرفكم. أنا هنا، مجرّد مِن السلاح، في وسطكم. أنا هنا، في عزلة عن الشعب الذي يحبّني، والذي لا تجرؤون على الهجوم عليَّ أمامه. ولكنّني لستُ خائفاً. ولكنّني لن أخضع لإساءات ولن أرتَكِب دناءات. أقول لكم خطيئتكم، وخطيئة كلّ طبقتكم، وخطيئتكم أيّها الفرّيسيّون، مُراقِبو الشريعة، مزيَّفو الطهارة، أيّها الأحبار، الحكماء المزيّفون، يا مَن تَخلطون وتمزجون بإرادتكم الخير الحقيقيّ والمزيّف، يا مَن تفرضون وتتطلّبون الكمال مِن الآخرين حتّى في الأمور الخارجيّة ولا تتطلّبون مِن أنفسكم شيئاً. أنتم تتّهمونني، بالطبع مع مضيفكم ومضيفي، أنّني لم أغتسل قبل الأكل. أنتم تعلمون أنّني قادم مِن الهيكل حيث لا يمكن بلوغه إلاّ بعد التطهّر مِن القذارات ومِن غبار الطريق. هل تريدون إذاً القول بأنّ المكان المقدّس فاسد؟»

 

«نحن تطهّرنا قبل الذهاب إلى المائدة.»

 

«ونحن قد فُرِض علينا: "هيّا انتظروا". وبعد ذلك: "إلى المائدة دون تأخير." بين جدرانكَ الخالية مِن الرسوم كان هناك مخطّط: الإيقاع بي. أيّة يد خطّته على الجدران، الدافع لاتّهام ممكن؟ أروحكَ أم سلطان آخر يقوده وتُنصِت إليه؟ حسناً اسمعوا جميعكم.»

 

ينتَصِب يسوع واقفاً، ويداه مُستَنِدَتان على الطاولة، ويبدأ طعناته: «أنتم أيّها الفرّيسيّون، تغسلون ظاهر الكأس والصحفة، وتغسلون الأيدي والأقدام، كما لو أنّ على الكؤوس والأواني والأيدي والأقدام أن تدخل في روحكم الذي تحبّون إعلان أنّه طاهر وكامل. إنّما لستم أنتم، بل على الله أن يُعلِن ذلك. حسناً اعلموا بماذا يفكّر الله عن روحكم. إنّه يُفكِّر بأنّه ممتلئ كذباً، ورجساً وعنفاً، إنّه ممتلئ خبثاً ولا يمكن لشيء مِن الخارج أن يُفسِد ما هو الفساد بذاته.»

 

يَرفَع يده اليمنى عن الطاولة ويبدأ بالقيام بحركات لاشعوريّة بينما يتابع: «ولكنّ الذي عمل روحكم كما عمل جسدكم، ألا يمكنه التطلّب، أقلّه بنسبة متساوية، أن تحترموا الداخل كما تحترمون الخارج؟ أيّها الحمقى الذين تُبدِّلون القيمتين وتعكسون الأهمّيّة، ولكن ألا يريد تعالى اهتماماً بالروح، وهو الذي خَلَقَه على صورته، والذي بالفساد يخسر الحياة الأبدية، أكثر مِن اليد والقدم، حيث يمكن للأوساخ أن تُغسل بسهولة، وحتّى وإن بقيتا وسختين فلا تأثير لذلك على طهارة الداخل؟ هل يمكن لله أن يهتمّ بنظافة الكأس والصحفة في الوقت الذي لا نَفْس لهما، ولا يمكن أن يكون لهما تأثير على نفسكم؟

 

أَقرَأ فكركَ، يا سمعان بويتوس. لا. لا يَفرض نفسه. ليس مِن قبيل الاهتمام بالصحّة، لحماية الجسد، الحياة، اتّخاذكم هذه العنايات، ممارستكم هذه التطهيرات. خطيئة الجسد، وكذلك خطايا النَّهَم، الإفراط في الأكل، الفِسق، هي أكثر أذيّة على الجسد مِن القليل مِن الغبار على الأيدي أو على آنية. ومع ذلك تمارسونها دون الاكتراث لحماية وجودكم والحفاظ على عائلتكم. وترتكبون الخطايا بأشكال عدّة إذ، عدا إفساد روحكم وجسدكم، تبديد المادّة، قلّة احترام ذويكم، أنتم تُسيئون إلى الربّ بتدنيس جسدكم، هيكل روحكم، حيث ينبغي وجود عرش الروح القدس؛ وتسيئون كذلك إلى الربّ بالخطيئة التي ترتكبونها، مع الاعتبار بأنّ لكم تعود الحماية مِن الأمراض التي تتأتّى مِن القليل من الغبار، كما لو أنّ الله لم يكن بمقدوره التدخّل لحمايتكم مِن الآلام الجسديّة إذا ما التجأتم إليه بروح نقيّ.

 

ولكنّ الذي خَلَقَ الداخل ألم يكن هو الذي خَلَقَ الخارج وبالتبادل؟ أوَليس الداخل هو الأكثر نُبلاً ويحمل بالأكثر خاتم الشبه الإلهيّ؟

 

افعلوا إذن أفعالاً تليق بالله وليس دناءات لا ترقى لما يفوق الغبار الذي لأجله ومنه جُعِلَتْ، مِن الغبار المسكين الذي هو الإنسان المعتَبر كمخلوق حيوانيّ، طين أَخَذَ شكلاً ويعود تراباً تُشتّته رياح القرون. افعلوا أفعالاً تدوم، تكون أفعالاً مُلوكيّة ومقدّسة، أفعالاً تُكلّلها البركة الإلهيّة. افعلوا أفعال محبّة، أدّوا الصَّدَقة، كونوا نزيهين، كونوا طاهرين بأفعالكم ونواياكم، وكلّ شيء لكم يكون طاهراً دون اللجوء إلى ماء الوضوء.

 

إنّما ماذا تظنّون أنفسكم؟ أنّكم مراعون للشريعة لأنّكم تؤدّون العُشر عن التوابل. لا، الويل لكم أيّها الفرّيسيّون، يا مَن تؤدّون العُشر عن النعناع والسذاب والكمّون والخردل والشمرة وباقي الأعشاب، وتتجاوزون بالتالي عن الحقّ وحبّ الله. تأدية العشور واجب ويجب القيام به، إنّما هناك واجبات أسمى يجب إتمامها هي كذلك. الويل لِمَن يراعي الأمور الخارجيّة ويتجاوز عن الداخليّة المرتكزة على حبّ الله والقريب. ويل لكم أيّها الفرّيسيّون، لأنّكم تُحبّون المجلس الأوّل في المجامع والمجالس والتحيّات في الساحات العامّة، ولا تفكّرون في القيام بأعمال تُكسِبكم مكاناً في السماء وتجعلكم أهلاً لاحترام الملائكة. إنّكم تشبهون القبور الخفيّة على الذين يحاذونها ولا يشعرون بالاشمئزاز، إنّما يشمئزّون لو كانوا قادرين على رؤية محتوياتها. ومع ذلك فالله يرى الأمور الأكثر سرّيّة ولا يخطئ عندما يدينكم.»

 

يقاطعه أحد أحبار الشريعة، الذي يقف بدوره ليعارضه: «يا معلّم، أنتَ تهيننا نحن كذلك؛ وهذا لا يناسبكَ لأنّنا بالتالي يُفتَرَض فينا أن ندينكَ.»

 

«لا. ليس أنتم. لا يمكنكم إدانتي. أنتم مَن تُدانون ولستم مَن تَدينون، ومَن يَدينكم هو الله. يمكنكم التكلّم، إصدار أصوات بشفاهكم. ولكنّ أعظم الأصوات لا تَبلُغ السماء ولا تصل إلى أقاصي الأرض. بعد مسافة قليلة، هو الصمت... وبعد وقت قليل، النسيان. إنّما دينونة الله صوت يدوم وليست عرضة للنسيان. قرون وقرون مرّت مذ دان الله لوسيفوروس وحَكَمَ على آدم، ولكنّ صوت هذا الحُكم لم يُكبَت، ولكنّ نتائج هذا الحُكم ما تزال قائمة. وإذا كنتُ قد أتيت الآن لجلب النعمة للناس، عن طريق التضحية الكاملة، الحُكم على فِعل آدم يبقى كما هو وسيبقى يُدعى على الدوام "الخطيئة الأصليّة". سوف يُفتَدى الناس، سوف يُغسَلون بتطهير يفوق كلّ ما سواه. ولكنّهم سيُولَدون مع هذه السمة، لأنّ الله حَكَمَ بوجود هذه السمة على كلّ مولود مِن امرأة، ما عدا الذي وُلِدَ ليس مِن عَمَل بشر إنّما مِن الروح القدس، والمصانة والمقدّس مسبقاً، البتولين إلى الأبد. الأولى لتتمكّن مِن أن تكون أُمّ الله، الثاني ليتمكّن مِن أن يكون السابق للبريء بولادته طاهراً، بفعل إنعام مُسبَق مِن استحقاقات المخلّص الفادي اللانهائيّة.

 

وأنا، أقول لكم إنّ الله يدينكم، ويحكم عليكم بقوله: "الويل لكم يا أحبار الشريعة، إذ تُحمِّلون الناس أحمالاً لا يطيقون حملها، بجعلكم مِن الوصايا الأبويّة العشر المعطاة منه تعالى لشعبه عقاباً." وهو بحبّ كان قد أعطاها، ليساعد بدليل مضبوط الإنسان، الوَلَد الأزليّ، الجاهل والمتهوّر. وأنتم بدل السيور التي كان الله يَدعَم بها خلائقه بمحبّة، ليفسح لها المجال للتقدّم على طريقه والوصول إلى قلبه، قد استبدلتموها بـجبال مِن الحجارة الحادّة، الثقيلة، المعذِّبة، متاهة مِن الأحكام، كابوس مِن الوساوس، تُحطِّم الإنسان، تُضلِّله، توقفه، تجعله يخاف مِن الله وكأنّه عدوّ. تزرعون العوائق في مسيرة القلوب صوب الله. تُبعِدون الآب عن أبنائه. تُنكِرون، بأحمالكم الثقيلة، هذه الأبوّة اللطيفة، المباركة والحقيقيّة. ولكنّكم، مِن جانبكم، هذه الأحمال التي تفرضونها على الآخرين، لا تلمسونها، حتى ولا بأطراف أصابعكم. تظنّون أنفسكم مبرَّرين لمجرّد فرضها. ولكن، أيّها الحمقى، ألا تعلمون أنّكم ستُدانون على ما تحكمون أنّه ضروريّ للخلاص؟ ألا تعلمون أنّ الله سيقول لكم: "كنتم تقولون بأنّ كلامكم كان مقدّساً، كان عادلاً. حسناً، أنا أيضاً، أعتبره كذلك. وبما أنّكم فرضتموه على الجميع، وحكمتم على إخوتكم بحسب الطريقة التي تَقبَّلوه بها ومارَسوه، فها أنا ذا، أدينكم بحسب كلامكم، وبما أنّكم لم تفعلوا ما قلتم بفعله، فأنتم مدانون"؟

 

الويل لكم يا مَن تَبنون القبور للأنبياء الذين قتلهم آباؤكم. وماذا؟ أتظنّون أنّكم بذلك تخفّفون خطيئة آبائكم؟ تمحونها في عيون الذرّيّة؟ لا، على العكس مِن ذلك، أنتم تشهدون أنّ آباءكم قاموا بتلك الأفعال. ليس ذلك وحسب، إنّما تقرّون بها، مستعدّين للاقتداء بها، بإقامة قبر فيما بعد للنبيّ الـمُضطَهَد، للتمكّن مِن القول: "لقد أكرمناه". أيّها المراؤون! لأجل ذلك قالت حِكمة الله: "سأرسل لهم أنبياء ورُسُلاً، وهم سيقتُلون بعضاً ويَضطَهِدون الآخرين، للتمكّن مِن أن يُطلب مِن هذا الجيل دم كلّ الأنبياء المراق منذ بداية العالم وبالتالي، مِن دم هابيل إلى دم زكريّا الذي قُتل ما بين المذبح وقدس الأقداس". نعم، الحقّ الحقّ أقول لكم إنّ دم القدّيسين هذا كلّه سيُطلب الحساب عنه مِن هذا الجيل الذي لا يعرف التعرّف على الله حيث هو، ويَضطَهِد البارّ ويَطعَن قلبه، لأنّ البار هو بمثابة المواجهة الحيّة لجورهم.

 

الويل لكم، يا أحبار الشريعة، الذين استحوذتم على مفتاح المعرفة وأغلقتم هيكلها لمنع الدخول إليه، ولتكون الدينونة بموجبها، ولم تسمحوا للآخرين بالدخول. بالفعل أنتم تعلمون أنّه لو كان الشعب قد تثقّف بالمعرفة الحقيقيّة، أي بالمعرفة المقدّسة، لكان بإمكانه أن يحاسبكم. وإذن أنتم تُفضِّلون أن يبقى جاهلاً لكي لا يحاسبكم. وتكرهونني لأنّني كلمة الحكمة، وتبغون سجني قبل الأوان في سجن، في قبر كي لا أتكلم بعد.

 

ولكنّني سأتكلّم طالما يُرضِي أبي أن أتكلّم. وبالتالي ستكون أفعالي هي التي تتكلّم أكثر مِن كلامي. واستحقاقاتي ستتكلّم حتّى أكثر مِن الأفعال، وسيتثقّف العالم وسيعرف، وسيَحكم عليكم. الحُكم الأوّل عليكم. ثمّ يأتي الثاني، الدينونة الخاصّة لكلّ واحد منكم ساعة موته، وفي النهاية الأخيرة: الدينونة العامة. وستتذكّرون هذا اليوم، هذه الأيّام، وأنتم، أنتم وحدكم ستعرفون الله الرهيب الذي بذلتم قصارى جهدكم لتثيروه كرؤيا كابوس أمام أرواح البسطاء، بينما أنتم، داخل قبركم، سَخرتم منه ومِن الوصيّة الأولى والأساسيّة: تلك التي عن الحب، الأخيرة المعطاة في سيناء، التي لم تحترموها والتي لم تطيعوها.

 

مِن العبث، يا حِلقِيّا، ألاّ يكون لديكَ في بيتكَ لوحات رمزيّة. عبثاً، ألاّ تكون لديكم، أنتم جميعكم، منحوتات في بيوتكم. ففي داخل قلوبكم تملكون الصَّنَم، بل أصنام عدّة. صَنَم الظنّ بأنفسكم بأنّكم آلهة، أصنام شهواتكم. تعالوا، أنتم. فلنرحل.»

 

وبجعله الاثني عشر يسبقونه، يَخرُج في الآخر.

 

صمت…

 

بعد ذلك يُطلِق الذين ظلّوا في المكان صرخة هائلة قائلين معاً: «يجب ملاحقته، أخذه في خطأ، إيجاد أسباب إدانة! يجب قتله!»

 

صمت آخر.

 

ثمّ، يرحل إثنان مشمئزّين من الكراهية وكلام الفرّيسييّن: أحدهما هو قريب حِلقِيّا، والآخر هو الذي دافع عن المعلّم مرّتين. فيما الذين بقوا يتسائلون فيما بينهم: «وكيف؟»

 

صمت آخر.

 

ثمّ، مع انفجار ضحكة ذات بحّة، يقول حِلقِيّا: «على يهوذا بن سمعان التصرّف...»

 

«حسناً! إنّها لفكرة جيّدة، ولكنّكَ أهنتَه!...»

 

«أنا سأهتم بالأمر.» يقول ذاك الذي دعاه يسوع سمعان بويتوس. «أنا وأليعازر بن حنّان... سنعمل على مراوغته...»

 

«قليل مِن الوعود...»

 

«قليل مِن الخوف...»

 

«مال كثير...»

 

«لا. ليس الكثير... وعود، وعود بمال كثير...»

 

«وثمّ؟»

 

«ماذا: وثمّ؟»

 

«هه! ثمّ. بعد انتهاء كلّ شيء، ماذا سنعطيه؟»

 

«ولكن لا شيء! الموت. هكذا... لن يتكلّم.» يقولها حِلقِيّا ببطء ووحشيّة.

 

«هو! الموت...»

 

«هل أصابكَ هلع؟ ولكن! إذا ما قتلنا الناصريّ الذي... هو بارّ... سنستطيع كذلك قتل الإسخريوطيّ الخاطئ...»

 

بعض التردّد…

 

ولكنّ حِلقِيّا، إذ ينهض، يقول: «سنطلب المشورة كذلك مِن حنّان... وسترون أنّه... سيقول عن الفكرة بأنّها جيّدة. وستأتون أنتم أيضاً... آه! ستأتون...»

 

يَخرُج الجميع خلف المضيف الذي يمضي وهو يقول: «ستأتون... ستأتون!»