ج2 - ف55
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثاني / القسم الأول
55- (اليوم التالي في بيت الناصرة)
28 / 01 / 1945
أرى مريم حافية القدمين ونشيطة، تروح وتجيء في البيت في الساعات الأولى مِن النهار. وهي تبدو بثوبها السماويّ كفراشة لطيفة تُلامِس بصمت الجدران والأشياء. تقترب مِن الباب المؤدّي إلى الشارع وتفتحه بهدوء، دون أن تُحدِث جَلَبَة، وتتركه نصف مفتوح بعد أن تُلقي نظرة على الشارع الذي ما زال مُقفِراً. تعيد الترتيب، تفتح الأبواب والنوافذ. تَدخُل إلى المشغل الذي ومنذ هَجر النجّار له، ما زالت فيه أَشغَال مريم. وتَشرَع هنا أيضاً بالعمل. تغطّي بعناية قطعة قماش لم ينته نسيجها بعد، وتبتسم لفكرة في ذهنها، وهي تَنظُر إليها.
تَخرُج إلى الحديقة. وتتجمّع طيور الحمام على كتفيها. تُرفرف وتنتقل مِن كتف إلى آخر لتجد المكان الأفضل، مُشاجِرة وغيّورة في حبّ صاحبتها، وترافقها إلى كوخ لحفظ المؤونة التي تأخذ منها بعض الحبوب للطيور وتقول: «هنا، اليوم هنا. بلا صَخَب، فإنّه تَعِب للغاية!» ثمّ تأخذ طحيناً وتذهب إلى غرفة صغيرة قرب التنّور. وتَشرَع بصنع الخبز. تعجنه وتبتسم. آه! يا لابتسامة الأُمّ اليوم! تَحسَبها الأُمّ الشابّة كما كانت عليه يوم الميلاد. إلى هذا الحدّ يُعيد الفرح لها شبابها. تأخذ بعض العجين وتضعه جانباً وتغطّيه، ثمّ تُعاوِد عملها بنشاط أكثر، ولقد فَتَح لون شعرها بسبب طبقة رقيقة مِن الطحين توضّعت عليه.
تَدخُل مريم التي لحلفى بهدوء: «أإلى العمل منذ الآن؟»
«نعم، أَصنَع الخبز، وانظري: فطائر العسل التي تروق له كثيراً.»
«اهتمّي بها، فهناك الكثير مِن العجين لأجل الخبز. سأعجنه لكِ.»
مريم التي لحلفى قويّة البنية وشعبيّة المظهر، تَعجن الخبز بقوّة، بينما تمزج مريم العسل والسمن في الحلوى، وتصنع منها دوائر تضعها على صفيحة.
«لستُ أدري كيف العمل لإخبار يوضاس... يعقوب لا يجرؤ... والآخرون...» وتتنهّد مريم التي لحلفى.
«سيأتي اليوم سمعان بطرس. فهو يأتي دائماً في غداة اليوم التالي للسبت حاملاً سمكاً. سنرسله في إثر يوضاس.»
«إذا رَضِيَ أن يذهب إلى هناك...»
«آه! سمعان لا يقول لي أبداً: لا.»
«السلام لهذا اليوم، يومكما.» يقولها يسوع وهو يَظهَر.
تقفز المرأتان لدى سماع صوته.
«هل استيقظتَ الآن؟ لماذا؟ كنتُ أودُّ لو تنام أكثر...»
«لقد نمتُ نوم طفل، يا أُمّي، أنتِ التي لم تنامي...»
«نظرتُ إليكَ، كنتُ أتأمّلكَ وأنتَ تنام... كنتُ أفعل ذلك عندما كنتَ طفلاً. كنتَ دائم الابتسام وأنتَ نائم... وكانت ابتسامتكَ تدوم مدى اليوم كلّه مثل جوهرة على قلبي... ولكنّكَ الليلة لم تكن تبتسم يا بني. بل كنتَ تتنهّد كَمَن أصابه كَدَر...» وتَنظُر إليه بحزن.
«كنتُ تَعِباً يا أُمّي. فالعالم ليس كهذا البيت الذي كلّ ما فيه نزاهة وشرف وحبّ. أنتِ... أنتِ تَعلَمين مَن أكون، ويمكنكِ إدراك ما يعنيه لي الاحتكاك بالعالم. إنّ ذلك كَمَن يسير على طريق نَتِنة ومُوحِلة. فحتّى ولو كان متنبّهاً، فقليل مِن الوحل يرتدّ عليه، والنّتانة تخترق أنفه، حتّى ولو حاوَلَ عدم التنفس... وإذا كان هذا المرء إنساناً مُحبّاً للنظافة والهواء النقيّ، فيمكنكِ أن تتصوّري إذا ما كان هذا يُكَدِّره...»
«نعم يا بنيّ، أُدرِك ذلك. ولكنّ هذا يؤلمني. وأن أعلم أنّكَ تُعاني...»
«الآن أنا معكِ، ولستُ أُعاني. إنّها الذكرى... ولكنّها تفيد في جعل فرح كَوني معكِ أجمل وأبهى.» وينحني يسوع ليُقَبِّل أُمّه. ويُلاطِف مريم الأخرى التي تَدخُل مُحمرّة مِن جراء إشعالها التنّور.
«يجب إخبار يوضاس.» فهذا ما يَشغل بال مريم التي لحلفى.
«لا داعي لذلك، لأنّ يوضاس سيكون هنا اليوم.»
«كيف تعرف ذلك؟»
يبتسم يسوع ويصمت.
«يا بنيّ، في مثل هذا اليوم مِن كلّ أسبوع، يأتي سمعان بطرس حاملاً لي السمك الذي يتمّ اصطياده في الصباح الباكر، وهو يَصِل مع نهاية الساعة الأولى. سوف يكون سعيداً اليوم. إنّ سمعان طيّب وصالح. هو يساعدنا عندما يكون هنا. أليس كذلك يا مريم؟»
«سمعان رجل نزيه وصالح.» يقول يسوع. «ولكنّ سمعان الآخر أيضاً، الذي سوف تَرَينه عما قليل، ذو قلب كبير هو. سأذهب لملاقاتهم، فإنّهم على وشك الوصول.»
يَخرُج يسوع، بينما تعود المرأتان، بعد إخراج الخبز مِن التنّور، إلى البيت حيث تَنتَعِل مريم صندلها وتعود بثوب كتّاني أبيض.
يمضي بعض الوقت، وفي تلك الأثناء تقول مريم التي لحلفى: «لَم تنهي هذا العمل في وقته.»
«سأنهيه بسرعة، وسيحتمي يسوعي به دون تَحَمُّل ثِقل على رأسه.»
يُدفَع الباب مِن الخارج: «أُمّي، ها هم أصدقائي. ادخلوا.»
ويَدخُل التلاميذ والرُّعاة جماعة. يدا يسوع على كتفي راعيين يقودهما إلى الأُمّ: «ها هما ابنان يبحثان عن أُمّ. كوني فَرَحهما يا امرأة.»
«أحيّيكما... أنتَ؟ لاوي... وأنتَ؟ لا أعلم، إنّما حسب العمر، ولقد حدَّثَني عنكَ، فأنت حتماً يوسف. هذا الاسم عَذب ومقدّس في هذا البيت. تعال، تعاليا. أقول لكما بكلّ سرور: بيتي يستقبلكما، وأُمّ تُعانقكما كُرمى لما كنتما، أنتَ مِن خلال أبيكَ، لِما كُنتُما تُكِنّان مِن الحبّ لطفلي.»
ولقد كان ذلك بالنسبة للرُّعاة روعة ونشوة.
«أنا مريم، نعم، لقد رأيتَ الأُمّ السعيدة. أنا هي. والآن أيضاً أنا سعيدة لرؤية ابني وسط قلوب وفيّة أمينة.»
«وهذا هو سمعان، يا أُمّي.»
«كنتَ مستحقّاً للنعمة لأنّكَ صالح. أَعلَم ذلك. فلتكن نعمة الله معكَ دائماً.»
وسمعان، الـمُطَّلِع أكثر على عادات العالم، ينحني حتّى يُلامِس الأرض، ويداه متصالبتان على صدره، يحيّي: «السلام عليكِ يا أُمّ النِّعمة الحقيقيّة، ولستُ أطلب مِن الله الأزليّ شيئاً آخر، الآن وقد عَرفتُ النور وعرفتُكِ، ذلك أنّ انعكاسه لأَعذَب وأَلطَف مِن انعكاس ضوء القمر.»
«وهذا هو يهوذا الاسخريوطيّ.»
«لي أُمّ، ولكنّ حبّي لها يتلاشى أمام الإجلال الذي أُحِسُّ به تجاهكِ.»
«لا، ليس لي، بل له، فَعِلَّة وجودي أنا، هو وجوده هو. لا أريد شيئاً لنفسي. وإن طلبتُ شيئاً فلأجله هو فقط. أَعلَم كم كَرَّمتَ ابني في الـمَوطِن. ولكنّي أقول لكَ أيضاً: فليكن قلبكَ هو المكان الذي منه يتلقّى كلّ إكرام منكَ. لذا فأنا أبارككَ بقلب أُمّ.»
«قلبي بتصرّف ابنكِ. خضوع السعادة هو. فقط الموت يمكنه إلغاء وفائي له.»
«وهذا هو يوحنّا يا أُمّي.»
«شعرتُ بالاطمئنان منذ اللحظة التي عَلِمتُ فيها أنّكَ مع يسوع. أنا أعرفكَ، ونفسي مطمئنّة مذ عرفتُ أنّكَ مع ابني. فلتكن مباركاً يا سبب سكينتي.» وتُقَبِّله.
ويُسمَع مِن الخارج صوت بطرس الأجشّ: «ها هو سمعان المسكين يحمل سلامه و...» ويَدخُل ويتسمّر في مكانه. إنّما بعدئذ، يرمي أرضاً السلّة الـمُكوَّرة التي كان يحملها على ظهره، ويرتمي هو أيضاً على الأرض قائلاً: «آه! ربّي الأزليّ! مع ذلك... لا، لم يكن يَجدر بكَ أن تفعل بي ذلك، يا معلّم! أن تكون هنا... ولا تُعلِم سمعان المسكين! فليبارككَ الله يا معلّم! آه! كَم أنا سعيد! لم يكن بوسعي البقاء هنا بدونكَ!» ويُداعِب يده دون أن يصغي ليسوع الذي يقول له: «انهض يا سمعان، انهض!»
«أَنهَض، نعم. إنّما مع ذلك... قُل إذن أنتَ، أيّها الوَلَد! (المقصود بالوَلَد هنا هو يوحنّا). كان بمقدوركَ الإسراع في إخباري! الآن اذهب فوراً إلى كفرناحوم لتنقل البُشرى إلى الآخرين... وأوّلاً إلى بيت يوضاس. سيَصل ابنكِ يا امرأة، وبسرعة. تخيّل نفسكَ أرنباً برّياً والكلاب في إثركَ.»
يمضي يوحنّا وهو يبتسم.
أخيراً يَنهَض بطرس. ويستمرّ بمسك يد يسوع الطويلة بيديه القصيرتين والضخمتين بالأوردة البارزة ويُقَبِّلها دون أن يتركها على الرغم مِن أنّه يريد تقديم السمك الذي في السلّة على الأرض. «إيه! لا. لا أودُّ أن تذهب مرّة أخرى بدوني، أبداً. فلا انتظار لوقت طويل بعد الآن دون رؤيتكَ! سوف أتبعكَ كما يتبع الظلّ الجسد والحبل الـمِرساة. أين كنتَ أيّها المعلّم؟ كنتُ أتساءل: "أين يكون؟ ماذا يعمل؟ وهذا الطفل يوحنّا، هل سيعرف الاعتناء به؟ هل سيسهر على ألّا يجعله يَتعَب كثيراً؟ على ألّا يبقى دون طعام؟" إيه! أعرفكَ جيّداً!... لقد نَحِلتَ! نعم نَحِلتَ أكثر. لم يَعتَنِ بكَ جيّداً! سوف أقول له أن... ولكن أين كنتَ يا معلّم؟ لا تقول شيئاً!»
«أَنتَظَر، لعلّكَ تترك لي مجالاً للكلام.»
«صحيح. ولكن... رؤيتكَ مثل خمر جديدة. رائحتها تَصعَد إلى الرأس. آه! يا يسوعي!» ويكاد بطرس يبكي مِن الفرح.
«كذلك أنا، كانت لديَّ الرغبة بأن تكونوا معي جميعكم، حتّى حينما كنتُ مع أصدقاء عزيزين جدّاً. يا بطرس، هذان اثنان قد أحبّاني عندما كان عمري لا يتجاوز الساعات. وأكثر مِن ذلك فلقد عانَيَا الكثير مِن أجلي. وهنا ابن لم يعد له أب ولا أُمّ بسببي. إنّما بكم جميعاً أَصبَح لديه إخوة كثيرون، أليس كذلك؟»
«أتسأل يا معلّم؟ ولكن، ولو حَصَلَ المستحيل وأَحَبّكَ الشيطان، فسوف أحبّه لحبّه لكَ. أنتما أيضاً فقيران، هذا واضح. إذاً فنحن متشابهون. تعاليا أُقَبِّلكما. أنا صياد سمك، ولكنّ قلبي أرقّ مِن قلب زغلول حمام. وهو قلب صادق ومخلص. لا تُلقوا بالاً إذا ما كنتُ صارماً. الصرامة خارجيّاً فقط. أمّا داخليّاً فكلّ شيء سمن وعسل... مع الطيّبين... إذ مع الأشرار...»
«هذا هو التلميذ الجديد.»
«يبدو لي أنّني رأيتُه مِن قَبل...»
«نعم، إنّه يهوذا الاسخريوطيّ، وبفضله استُقبِل يسوع بشكل جيّد في مدينته. أرجوكم أن تحبّوا بعضكم بعضاً، حتّى ولو كنتم مِن مناطق مختلفة. كونوا جميعكم إخوة بالربّ.»
«سوف أتعامل معه كأخ إذا كان هو كذلك. و... نعم...(يَنظُر بطرس إلى يهوذا بإمعان وبعيون واسعة وكأنّه يُوجّه تحذيراً) و... نعم... مِن الأفضل أن أقولها، هكذا تعرفني حالاً وجيّداً. أقول: ليس لديَّ كثير اعتبار لليهود عموماً، وبشكل خاصّ لسكّان أورشليم. ولكنّني نزيه. ويمكنكَ الاعتماد على نزاهتي، فإنّني أضع كلّ أفكاري عنكَ جانباً، ولا أبغي أن أرى فيكَ سوى تلميذ أَخَويّ. والآن عليكَ أن لا تجعلني أغيّر فكرتي وتَصَرُّفي.»
ويَسأَل الغيور مبتسماً: «هل لديكَ هذه الآراء المسبقة عنّي أنا أيضاً يا بطرس؟»
«آه! لم أنتبه لوجودكَ! عنكَ أنتَ؟ آه! عنكَ أنتَ لا. فالنزاهة مُرتَسِمة على مُحيّاكَ. الطِّيبة تَنضَح مِن قلبكَ إلى الخارج، مثل زيت معطَّر عَبرَ إناء مساميّ. ثمّ أنتَ عجوز. وهذه ليست مزيّة دائماً. فأحياناً، كلّما تقدّم السنّ، ازدادت الـمُخاتَلَة والشرّ. ولكنّكَ أنتَ مِن أولئك الذين سلوكهم كالنبيذ الفاخر، كلّما تقدّم بهم السنّ تطهّروا وأصبحوا أكثر صلاحاً.»
ويقول يسوع: «لقد أَصَبتَ يا بطرس. والآن تعالوا لنأخذ قسطاً مِن الراحة تحت العريشة الظليلة، بينما تعمل النساء مِن أجلنا. كم هو جميل التواجد مع أصدقاء! بعد ذلك سوف نمضي معاً عبر الجليل إلى أبعد منه. يعني ليس الجميع. ذلك أنّ لاوي قد شُـفيَ غليلـه، وسـوف يمضي إلى إيلي ليخبره بأنّ مريم تهديه السـلام. أليس كذلك يا أُمّي؟»
«إنّني أباركه وأُبارِك إسحاق والآخرين. لقد وَعَدَني ابني بأن يأخذني معه. وسوف آتي إليكم، أيّها الأصدقاء الأوائل لِطِفلي.»
«يا معلّم، أودُّ لو أنّ لاوي يُبَلِّغ لعازر الرسالة التي تَعلَم.»
«هَيِّئها، يا سمعان، فاليوم احتفال عيد. وغداً مساء سوف يمضي لاوي في الوقت المحدّد ليصل قبل السبت. تعالوا أيّها الأصدقاء.»
يَخرُجون إلى الحديقة الخضراء. وينتهي كلّ شيء.