ج3 - ف81
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثالث / القسم الثاني
81- (العِظات والمعجزات في أشقلون)
15 / 07 / 1945
طاعَة منهم للأمر الذي تَلَقّوه، تَفِد مجموعات الرُّسُل، الواحدة تلو الأخرى، إلى جانب باب المدينة. يسوع ليس هناك بعد، ولكنّه لا يتأخّر في الوصول عَبْر درب يُحاذي الأسوار.
«لقد أصاب المعلّم نجاحاً.» يقول متّى. «انظروا إلى ابتسامته.»
يَمضون للقائه، ويَخرُجون معاً مِن الباب، ويُعاوِدون مسيرتهم على الطريق الرئيسيّة، تَحفّ بها السّباخة (زراعة البقول في السّباخ) التي في الضاحية.
يَسأَلهم يسوع: «حسناً، كيف جَرَت الأمور؟ ماذا فعلتم؟»
«سيّئة للغاية.» يقول الاسخريوطيّ وبرتلماوس معاً.
«لماذا؟ ما الذي حَصَل معكم؟»
«كانوا على وشك أن يَرجُمونا. فكان لزاماً علينا أن نَهرُب. لِنَرحَل عن بلدة البربر هذه. ولنمضِ إلى حيث يحبّوننا. فأنا لن أتكلّم هنا بعد الآن، ولَم أَكُن أصلاً أودُّ الكلام، ولكنّني، بعدئذ، تَرَكتُ لنفسي العَنان، وأنتَ، لَم تُسانِدني. ومع ذلك، فالأمور هذه تَعرِفها أنتَ...» الاسخريوطيّ غاضب.
«ولكن ما الذي جرى لكَ؟»
«هيه! كنتُ قد ذهبتُ مع متّى ويعقوب وأندراوس. ذهبنا إلى ساحة القُضاة، ذلك أنّ هناك هو موعد التقاء الناس المتميِّزين الذين يملكون الوقت ويُضيِّعونه في الاستماع إلى مَن يتحدّثون. وقد قرّرنا أن يتحدّث متّى، باعتباره الأكثر اعتياداً على التحدّث إلى العشّارين وزبائنهم. وبدأ بالتوجّه إلى رَجُلين يتنازعان على مسألة عَقَّدَتها مشاكل الإرث: "لا تُبغِضا بعضكما مِن أجل ما يَفسد ولا يمكنكم حمله معكم إلى الحياة الأخرى. بل إنّما أحِبّا بعضكما لتتمتّعا بالخيرات الأبديّة التي تُكتَسَب بدون أيّ نِزاع سوى النِّـزاع مع الميول السيّئة التي ينبغي الانتصار عليها لِنُصبح ظافِرين ونَحصَل على الخير". هذا ما كنتَ تقوله، أليس كذلك؟ ثمّ كان يُتابِع عندما اقتَرَب اثنان أو ثلاثة للاستماع: "أنصِتوا إلى الحقّ الذي يُعلِّم العالم، ذلك لكي يَحصَل على السلام. تَرَون أنّنا نتألّم لذلك، بسبب اهتمامات مُفرِطة بالأشياء التي تَفنَى. ولكنّ الأرض ليست كلّ شيء. هناك السماء، وفي السماء يوجد الله، كما يوجد الآن على الأرض مسيحه. وهو الذي أَرسَلَنا لِنُبشِّركم بأنّ زمن الرحمة قد أتى، ولَم يَعُد بإمكان الخاطئ القول:”لَن يُنصِت إليَّ“، ذلك أنّه، إذا كان نادماً ندامة حقيقيّة، فَسَينال الغفران، ويُستجاب له، ويُصبِح محبوباً ومَدعوّاً إلى ملكوت الله".
وفي تلك الأثناء، كان أناس كثيرون قد اجتَمَعوا. وكثيرون كانوا يَستَمِعون باحترام، وآخرون يَطرَحون الأسئلة، مِمّا جَعَلَ متّى يَضطَرِب. أنا، لا أُعطي إجابة أبداً أثناء الحديث، كيلا أَقطَعهُ. بل أُكلِّم وأُجيب كُلّاً بمفرده في النهاية. فليتذكَّروا ما يريدون قوله ولِيَصمتوا. ولكنّ متّى كان يبغي الإجابة في الحال!... ونحن أيضاً كُنّا نُسأَل. وكان هناك كذلك مَن كانوا يَضحَكون باستهزاء قائلين: "هو ذا مجنون آخر، بالتأكيد، قادم مِن جِحر إسرائيل ذاك. فَكُلّ مِن اليهود هو عكرش (عشب ضار بالزَّرع) يَجتَاح كلّ شيء! هي ذي، هي ذي قصصهم الأزليّة! فَهُم، لديهم الله كَعَرَّاب. تسمعهم! إنّ الله على حَدّ سيفهم وعلى لسانهم الـمَشحوذ. ها هُم! ها هُم الآن يُحَدِّثوننا عن مسيحهم. مجنون آخر سَيَقضّ مَضاجِعنا، ومِثله كان دائماً على مَرّ العصور. فَلِيُصبه الطاعون، هو وكلّ سُلالته!"
حينذاك، نَفَذَ صبري. أَرجَعتُ متّى الذي كان يُكمِل الحديث مبتسماً، وكأنّهم كانوا يُجِلّونَه، وبدأتُ الحديث مُستَنِداً إلى إرميا: "هي ذي المياه تَطغى مِن الشمال وتَصير سيلاً طافِحاً... ولدى سماع الضجيج، ذلك أنّ العِقاب الذي سَيُنـزِله بكم الله، أيّها النسل المؤذي، سوف يَهدُر كصوت السَّيل، إنّما سيكونون جنود وسلاح الأرض وراجِمي السماء السماويّين، يُحرِّكهم أمر رؤساء شعب الله لمعاقبتكم على عِنادكم. لدى سماعكم إيّاهم تَفقُدون قوّتكم، وكلّ شيء لكم يتخلّى عن كبريائكم: شجاعتكم وأذرعتكم ومشاعركم، كلّ شيء. ستكونون مُبادين، بقايا ملاذ الخطيئة، باب الجحيم! هل استَعَدتم عجرفتكم لأنّ هيرودس أعاد إنشاءكم؟ ولكنّكم ستكونون قد اجتُثِثتُم حتّى تَغدوا صُلعاً على نحو لا يمكن علاجه. سوف تُضرَبون بكلّ أنواع العقاب في مدنكم وقراكم، في وديانكم وسهولكم. فالنبوءة لَم تَمُت بعد..." وكنتُ أريد المتابعة، ولكنّهم قاموا علينا، وبِفَضل عَرَبة بَعَثَتها العناية الإلهيّة، مَرَّت عَبْر إحدى الطرق، تَمَكنّا مِن النجاة بأنفسنا، لأنّ الحجارة كانت قد بدأت تتطاير. لقد ضَرَبوا الجِّمال والجمَّالين، وتَبِع ذلك مشاجرة، فتسلّلنا نحن. وقَبَعنا بعد ذلك ساكِنين في إحدى ساحات الضاحية. آه! لن أعود إلى هنا، أنا...»
«ولكن اعذرني، لقد أهَنتَهم! وهي غلطتكَ! الآن يمكن إدراك سبب إقبالهم على طردنا بشكل عدائيّ!» يقول نثنائيل ويُتابِع: «اسمع يا معلّم. نحن، أي سمعان بن يونا وفليبّس وأنا، ذَهَبنا مِن جهة البُرج الـمُطلّ على البحر. وقد كان هناك بَحَّارة ورَبَابِنة يَحملون البضائع إلى قبرص واليونان وإلى ما أبعد منها كذلك، ويَستَنـزِلون اللّعنات على الشمس والغبار والتَّعَب. كانوا يَلعَنون قَدَرَهم كفلسطينّيين، عبيد، كانوا يقولون إنّهم جبابرة، وكان بإمكانهم حينذاك أن يَكونوا مُلوكاً. وكانوا يَشتُمون الأنبياء والهيكل، ونحن جميعاً. كنتُ أريد المضيّ مِن هناك، ولكنّ سمعان لَم يَشَأ، بل كان يقول: "لا، على العكس! إنّ هؤلاء الخَطَأَة هُم بالضبط مَن ينبغي أن نُقَرِّبهم. المعلّم يفعل ذلك، وعلينا فعله، نحن كذلك". "تحدَّث إذاً أنتَ". قُلنا، فليبّس وأنا. فقال سمعان: "وإذا لم أُجِد التصرّف؟" أَجَبنا: "حينئذ نساعدكَ".
حينذاك مضى سمعان، مبتسماً، صوب بَحَّارَين يتصبّبهما العَرَق، وكانا قد جَلَسا على حزمة كبيرة، لأنّهما لم يَستطيعا رَفعَها إلى المركب، وقال لهما: "هي ثقيلة، أليس كذلك؟" "عدا كونها ثقيلة، فإنّنا مُنهَكان مِن التعب. ويجب إنجاز التَّحميل، لأنّ المعلّم يريد ذلك. فهو يَبغي رفع المرساة لحظة الجزر الجزئي، لأنّ البحر، هذا المساء، سيكون هائجاً أكثر، ويجب تحاشي الصخور البحريّة لتحاشي الخطر". "صخور في البحر؟" "نعم، حيث يُزبِد الماء. إنّها ممرات سيّئة". "التيّارات، أليس كذلك؟ نعم! ريح الظهيرة تنعطف وتصطدم بالتيّار..." "هل أنت بَحّار؟" "صياد في المياه الحلوة، ولكنّ المياه هي المياه على الدوام، والريح هي الريح. فأنا كذلك غَرِقتُ أكثر مِن مَرّة، وغَرِقَت الحمولة إلى الأعماق أكثر مِن مرّة. إنّ مهنتنا جميلة ولكنّها صعبة قاسية. إنّما لكلّ أمر وجهان: الوجه الجميل والوجه الخبيث، الجيّد والسيّئ. فما مِن مكان ليس فيه سوى الأشرار، ولا مِن سُلالة ليس فيها سوى المجرمين. بقليل مِن النوايا الحَسَنة يتمّ الاتفاق دائماً، وفي كلّ مكان نَجِد أناساً طيّبين. هيّا! أودُّ مساعدتكم". ونادى سمعان فليبّس قائلاً: "هيّا أَمسِك ذاك الطرف، وأنا هذا، وسيقودنا هذان البحّاران هناك على المركب، صوب العَنبَر".
لَم يَكن الفلسطينيّان لِيُريدا، ولكنّهما تَرَكانا نَفعَل. وحالما أَصبَحَت الحزمة في مكانها، وكذلك حُزَم أخرى كانت على السطح، شَرَعَ سمعان في الإشادة بالمركب، كما يَعلَم فِعلها، وفي تمجيد البحر، والمدينة التي تُرى مِن البحر جميلة، وفي الاهتمام بالملاحة في البحار، وفي مدن القوميّات الأخرى. وكان الجميع قد أحاطوا به، وشَكَروه وأَثنوا عليه... حتّى إن أحدهم سأل: "ولكن مِن أين أنتَ؟ أَمِن منطقة النيل؟" "لا مِن بحر الجليل، ولكن، كما تَرَون، لستُ نمراً". "صحيح، هل تبحث عن عَمَل؟" "نعم". "أنا آخذكَ إن أردتَ. أرى أنّكَ بحار كفؤ". يقول المعلّم. "على العكس، أنا الذي آخذكَ". "أنا؟ ولكن، ألم تَقُل لي إنّكَ تبحث عن عَمَل؟" "صحيح، وعملي هو إيصال الناس إلى مسيح الله. وأنتَ إنسان، إذن أنا مُتكَفِّل بكَ". "ولكنّني فلسطينيّ". "وماذا يعني هذا؟" "هذا يعني أنّكم تَكرَهوننا، وتَضطَهِدوننا منذ أزمنة سحيقة. فرؤساؤكَ قالوا ذلك لنا دائماً...". "أَهُم الأنبياء؟ ولكنّ الأنبياء الآن أصوات لَم تَعُد تَصيح. لَم يَعُد الآن سِوى يسوع القدّوس الوحيد العظيم. وهو لا يَصيح، ولكنّه يدعو بلهجة الصَّداقة. هو لا يَلعَن، بل يُبارِك. لا يُنـزل العاهات، بل يَجعَلها تختفي. هو لا يَكرَه، بل إنّما على العكس، يُحبّ الجميع ويريدنا أن نحبّ حتّى أعداءنا. فلن يكون في مملكته غالب ولا مغلوب، لن يكون حرّ ولا عبد، لا صديق ولا عدوّ. لن تعود تلك التصنيفات التي تُوَلِّد الشرّ، والتي نَشَأَت مِن الشرّ الإنسانيّ. ولن يكون سِوى تلاميذه، أَيْ أُناس يَحيَون في الحبّ، في الحريّة، في الانتصار على كلّ ما هو ثقيل ومؤلم. أرجوكم آمِنوا بكلامي، وارغَبوا به، هو. النبوءات كُتِبَت، ولكنّه، هو أعظم مِن الأنبياء، وبالنسبة إلى الذين يحبّونه، فالنبوءات لا وجود لها بعد الآن. هل تَرَون تلك المدينة الجميلة التي هي مدينتكم؟ سوف تَرَونها أجمل في السماء إذا ما تمكّنتم مِن أن تحبّوا سيّدنا، يسوع، مسيح الله".
هكذا كان يتحدّث سمعان، بِأِلفة وَوَحي مَعاً. وكان الجميع يُنصِتون إليه بانتباه واحترام. نعم، باحترام. ثُمّ أَقبَلَ، مِن إحدى الطرقات، أناس يَزعَقون، مُسَلَّحين بالعصيّ والحجارة، فَرَأونا وتَعَرَّفوا علينا، مِن ثيابنا، كَوننا غرباء. الآن أُدرِك، غُرباء مِن السلالة ذاتها التي أنتَ منها، يا يهوذا، وظَنّوا أنَّنا مِن عصبتكَ. لو لم يَحمِنا رجال المركب، لَكُنّا "في الطَّراوة" الآن! فَأَنزَلوا زورقاً، وأَبعَدونا في البحر. وأَنزَلونا على الشاطئ قرب الحدائق، حيث كُنّا ظُهراً، وعُدنا مِن هناك، مع أولئك الذين يقطفون الزهور لأغنياء البلدة. أمّا أنتَ، يا يهوذا، فإنّكَ تُخرِّب كلّ شيء! ما هذه الطُّروحات الـمُهينة؟»
«إنّها الحقيقة.»
«إنّما يجب معرفة مَدى ملاءمتها. فبطرس كذلك لَم يَتفوَّه بالأكاذيب، ولكنّه عَرف كيف يتحدّث!» قال نثنائيل.
«آه! أنا حاولتُ لَعِب دور المعلّم، وأنا أُفكِّر: "هو يكون لطيفاً هكذا. إذاً أنا كذلك..."» يقول بطرس ببساطة.
«أمّا أنا فأُحبّ الأسلوب العنيف لأنّه مَلَكيّ أكثر.»
«فِكرَتكَ الثابتة! إنّكَ على خطأ يا يهوذا. والمعلّم يُحاوِل إصلاح هذه النقطة فيكَ، ولكنّكَ لا تتجاوَب مع الإصلاح. فإنّكَ أنتَ كذلك، مُعانِد في الخطأ مثل أولئك الفلسطينيّين الذين تذهب لمواجهتهم.» يَعتَرِض سمعان الغيور.
«متى أَصلَحَني في هذه النقطة؟ ثُمّ لكلّ طريقته التي يَعمَل بموجبها.»
ولدى سماع هذه الكلمات يَقفِز سمعان الغيور. يَنظُر إلى يسوع الذي يَصمت، والذي، بنظرته الموحية، يُجيب بابتسامة خفيفة تُعبِّر عن موافقته.
«هذه ليست حجّة.» يقول يعقوب بن حلفى بهدوء. ويتابع: «نحن هنا لِنُقوِّم أنفسنا، قبل تقويم الآخرين. فالمعلّم كان قبل كلّ شيء معلّمنا. ولم يكن ليكون كذلك لو لَم يَشأ أن نُغيِّر عاداتنا وأفكارنا.»
«كان معلّمنا في الحكمة.»
«كان؟ بل ما يزال كذلك.» يقول تدّاوس بصراحة.
«يا للمناقشات الفارغة. ما يزال كذلك؟ نعم إنّه ما يزال كذلك.»
«وأيضاً هو المعلّم، ليس فقط للحكمة. إنّ تعليمه يَنطَبِق على كلّ ما هو فينا. إنّه كامل، أمّا نحن فغير كامِلين. لِنَجتَهِد إذن في أن نُصبِح مثله.» يَنصَح يعقوب بن حلفى بلطف.
«لستُ أرى بأيّ شيء قد أخطأتُ. لأنّها سلالة مَلعونة، فلقد فَسَد الجميع.»
«لا، لا يمكن قول ذلك.» يهتف توما. «فيوحنّا قد مضى إلى الأكثر تواضعاً: إلى الصيّادين الذين كانوا يَحمِلون رزقهم إلى السوق. وانظر إلى هذا الكيس الرَّطب، إنّه سمك مِن النوع الفاخِر. لقد تَخَلّوا عن ربحهم لِيَمنَحونا إيّاه، وخشية ألّا يبقى صيد الصباح طازجاً حتّى المساء، فقد عادوا إلى البحر وأرادوا أَخذَنا معهم. كان يبدو أنّنا على بحيرة الجليل، وأؤكّد لكَ أنّه إذا كان المكان يُذكِّر بذلك الحَدَث، إذا كانت المراكب التي تغصّ بالوجوه المتنبِّهة تُذكِّر بذلك، فإنّ يوحنّا كان يُذكِّر به أكثر. كان يبدو يسوعاً آخر. كانت الكلمات تَخرُج لذيذة كالعسل، مِن فمه المبتَسِم، ووجهه كان يَشعّ مثل شمس ثانية. كم كان يشبهكَ يا معلّم! وأنا كنتُ متأثّراً مِن ذلك.
لقد مَكَثنا في البحر مدّة ثلاث ساعات، مُنتَظِرين امتلاء الشِّباك الممتدّة بين العوّامات بالسمك، وقد كانت ثلاث ساعات مِن الغبطة. وبعد ذلك كانوا يريدون رؤيتكَ، ولكنّ يوحنّا قال: "أَضرُب لكم موعداً في كفرناحوم"، كما لو كان يقول: "أَضرُب لكم موعداً في ساحة بلدتكم". ومع ذلك وَعَدوا: "سنأتي". وأَخَذوا عِلماً بذلك. وكي لا يُحَمِّلونا حِملاً ثقيلاً مِن السمك، ما كان أمامنا إلّا الممانعة. لقد أعطونا أفضله. هيّا بنا نَشويه. وليمة كبيرة هذا المساء، نُعوِّض بها صوم الأمس.»
«ولكن ما الذي أمكنكَ قوله؟» يَسأَل الاسخريوطيّ حائِراً.
«ما مِن شيء استثنائيّ. لقد تَحَدَّثتُ عن يسوع.» يُجيب يوحنّا.
«ولكن كما تتحدّث عنه أنتَ! كذلك يوحنّا استَشهَدَ بالأنبياء، ولكنّه حَوَّل أقوالهم.» يشرح توما.
«حَوَّل أقوالهم؟» يَسأَل الاسخريوطيّ مذهولاً.
«نعم. فأنتَ قد استخلَصتُ مِن أقوال الأنبياء ما هو لاذع، بينما هو استَخلَصَ اللطيف. لأنّ قسوتهم ذاتها، في النهاية، هي حبّ، حبّ مُخصّص، عنيف، إنّما حبّ على الدوام، مُوَجَّه إلى النُّفوس التي يريدونها كُلّها مُخلِصة للربّ. لستُ أدري إذا ما كنتَ أنتَ، صاحب الامتياز بين الكَتَبَة، قد فَكَّرتَ في ذلك يوماً. أمّا أنا فبلى، كَوني صائِغاً. فحتّى الذهب نَطرقه ونجعله في البوتقة لِنَجعله أجمل. ليس على سبيل البُغض، بل إنّما بِحُبّ. وهكذا يتصرّف الأنبياء مع النُّفوس. أُدرِك ذلك، بالضبط لأنّني صائِغ. أَخَذَ يقرأ في نبوءة زكريا، حول موضوع حدرك ودمشق، وحين وَصَلَ إلى تلك النقطة: "فترى أشقلون فتخاف وغزّة فتتوجّع جدّاً وكذلك عَقْرُون لأنّ رجاءكَ قد تبدَّدَ. ويهلك الـمَلِك من غزّة". شَرَعَ يَشرح للجميع كيف حَصَلَ كلّ ذلك لأنّ الإنسان انسَلَخَ عن الله، ولدى الكلام عن مجيء المسيح، الذي هو مَغفِرة الحبّ، وَعَدَ أنّه، عِوَضاً عن المملكة الفقيرة التي كان يتمنّاها أبناء الأرض لبلدهم، فإنّ الناس الذين سَيَتبعون المسيح في مَذهبه، سيتوصَّلون إلى الحصول على مملكة أزليّة لا نهاية لها في السماء. قَول ذلك ليس بِذي بال، أمّا الاستماع إليه! فقد كان يبدو لنا أنّنا نستمع إلى موسيقا، ونسمو، وتَحمِلنا الملائكة. وها هُم الأنبياء الذين تَسَبَّبوا لكَ بضربات العصيّ، قد مَنَحونا سَمكاً ممتازاً.
يَصمت يهوذا مُحتاراً.
«وأنتم؟» يَسأَل المعلّم ابني عمّه والغيور.
«لقد مَضَينا إلى الورشات حيث يَعمَل الجلافيط (نجَّاري السُّفن). فلقد فَضَّلنا، نحن كذلك، المضيّ إلى المساكين. إنّما كان هناك كذلك فلسطينّيون أغنياء يُراقِبون بِناء قواربهم. لَم نَكُن نَعلَم مَن الذي سيتحدّث، حينئذ، كالأطفال، لَعبنا لعبة النّقاط. فَمَدَّ يوضاس سبعة أصابع، وأنا أربعة، وسمعان إصبعين، مما جَعَلَ يوضاس يَكسَب، فتحدَّثَ هو.» يَشرح يعقوب بن حلفى.
«ماذا قلتَ؟» يَسأَل الجميع.
«عَرَّفتُ عن نفسي بصراحة، قائلاً إنّني أَطلُب مِن كَرَم ضيافتهم التَّكَرُّم بِتَقَبُّل كلمة الزائر الذي يَرى فيهم إخوة، كون الأصل والنهاية مُشتَرَكين، أَمّا الرجاء فغير مُشتَرَك، ولكنّه مُفعَم حبّاً بإمكانيّة إيصالهم إلى بيت الآب، ودعوتهم "إخوة" إلى الأبد في فرح السماء العظيم. بعد ذلك قُلتُ: "قيل بلسان نبيّنا صيفنيا: ويكون ساحل البحر مراعي... فهناك يَرعون قطعانهم وفي بيوت أشقلون عند المساء يَضطَجِعون". وتَوَسَّعتُ بالفكرة قائلاً: "الراعي الأعظم أَصبَحَ فيما بينكم، مُتسلِّحاً، ليس بالسِّهام، بل بالحُبّ. يمدّ لكم ذراعيه، ويدلّكم على مراعيه المقدَّسة. لا يتذكّر الماضي إلّا لكي يُحدِّث الناس عن الألم العظيم الذي يُسبِّبونه لأنفسهم، مثل أطفال مجانين، بالبُغض والحقد. بينما كان بمقدورهم تحاشي الكثير مِن الألم، بالحُبّ المتبادَل، بما أنّهم إخوة. سوف تُصبِح هذه الأرض مَوطِن الرُّعاة القدّيسين، خادِمي الرَّاعي الأعظَم، الذين أَصبَحوا يَعلَمون الآن أن مراعيهم الأكثر خصوبة ستكون هنا، وكذلك القطعان الأفضل، وقلوبهم، في مساء العُمر، يمكنها أن تستريح وهي تُفكِّر بقلوبكم، وبقلوب أبنائكم، بأكثر ألفة مِن بيوت الأصدقاء، ذلك أنّ المعلّم سيكون يسوع، سيّدنا". وقد فَهِموا قصدي. وسَألوني، أو بالحريّ طَرَحوا علينا الأسئلة، فَرَوى سمعان قصّة شفائه، وأخي تَحدَّثَ عن طيبتكَ وصلاحكَ تجاه الفقراء المساكين. والدليل هو هذا: هِبة مُعتَبَرة للفقراء الذين نلتقيهم على دربنا. بالنسبة إلينا أيضاً، لَم يُسئ إلينا الأنبياء...»
«حسناً» يقول يسوع لِيُشدِّد مِن عزيمتهم. «في المرّة الثانية سوف يتصرّف يهوذا بشكل أفضل. لقد ظَنَّ أنّه يتصرّف بشكل جيّد بتصرّفه هكذا. وطالما هو قد تَصَرَّفَ بهدف نبيل، فهو لم يخطئ بأيّ شكل. وأنا مسرور منه كذلك. فالرسالة ليست عملاً سهلاً، إنّما يمكن تَعَلُّمه. شيء واحد كَدَّرَني، هو أنّني لم أحصل على هذا المال قَبل أن أجِدكُم. فقد كنتُ سأستَخدِمه لعائلة في العَوز.»
«يمكننا العودة إلى الوراء. فما زال لدينا متَّسَع مِن الوقت... ولكن، اعذرني يا معلّم. كيف التقيتَها؟ ماذا فَعَلتَ أنتَ؟ أحقّاً لا شيء؟ ألم تُبشِّر؟»
«أنا؟ قُمتُ بنـزهة. وبِصَمتي قُلتُ لِزانية: "أَقلِعي عن خطيئتكِ". والتقيتُ طفلاً مُشاغباً قليلاً، وبَشَّرتُه بِتَبادل الهدايا، أعطيتُهُ البكلة التي وَضَعَتها مريم سالومة على ثوبي في بيت عنيا، وهو أعطاني هذا الشُّغل.» ويُخرِج يسوع الدمية الكاريكاتوريّة المنحوتة مِن ثوبه. يَنظُر الجميع ويَضحَكون. «ثُمّ ذَهَبتُ لمشاهدة السجّادات الرائعة التي يَصنَعها واحد مِن أشقلون لبيعها في مصر وأمكنة أخرى... ثُمّ واسيتُ طفلة فَقَدَت أباها، وشَفَيتُ لها أُمّها. وهذا كلّ شيء.»
«وهل يبدو لكَ هذا قليلاً؟»
«نعم، لأنّه كان لا بُدَّ مِن المال كذلك، ولَم يكن لديَّ.»
«ولكن، هيّا بنا نعود، نحن الذين لَم نُسبِّب الإحراج لأحد.» يقول توما.
«وسَمَككَ؟» يُمازحه يعقوب بن زَبْدي.
«السَّمَك؟ ها هو. فامضوا، أنتم يا مَن أصابتكم اللعنة، إلى العجوز الذي يَستَضيفنا، وابدأوا التحضير. أمّا نحن، فإنّنا ماضون إلى المدينة.»
«نعم» يقول يسوع. «إلّا أنّني أَدُلُّكم على البيت مِن بعيد. سوف يكون هناك أُناس، ولن أذهب لأنّهم سيَسْتَبقونني هناك، ولا أريد المساس بشعور الـمُضيف الذي ينتظرنا، بالتخلُّف عن دعوته. فالإخلال بالأدب هي ضدّ المحبّة دائماً.»
يَخفض الاسخريوطيّ رأسه أكثر، ويَحمَرّ وجهه، ويتبدَّل لونه، لِتَذَكُّره كَم مِن مرّة وَقَعَ في تلك الخطيئة.
يُتابِع يسوع: «أنتم اذهبوا إلى البيت وابحَثوا عن الطفلة. فَمَا مِن بنت صغيرة سواها، ولا يمكنكم أن تُخطِئوها. سوف تُعطونَها هذا المبلغ، وتقولون لها: "هذا يُرسِله الله لكِ ولأُمّكِ ولإخوتكِ الصغار، لأنّكِ عَرفتِ أن تُؤمِني. ولا شيء سوى ذلك. وعُودوا في الحال. هيّا.»
ويَنقَسِم المجموع: يسوع ويوحنّا وابنا العمّ يَمضون إلى المدينة، بينما يَقصد الآخرون بيت السَّبَّاخ الفلسطينيّ.