ج5 - ف35

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الخامس/ القسم الأول

 

35- (نبوءة حول بطرس ومارغزيام. الأعمى في بيت صيدا)

 

01 / 12 / 1945

 

لم يعودوا يسيرون، بل يركضون في الفجر الجديد الأكثر إشراقاً ونقاءً مِن السابق. الندى يلمع في كلّ مكان، والبتلات المتعدّدة الألوان تُمطِر على الرؤوس والمروج لتضفي عليها ألواناً جديدة مِن أوراق الزهور المتساقطة، إلى جانب الألوان التي لا عدد لها للزهيرات المنتصبة على سوق الضفاف والحقول، لتتأجّج ماسات جديدة على غريسات العشب الجديد. يركضون وسط تغريد العصافير العاشقة، ووشوشات النسيم العليل والمياه الرقراقة التي تتنهّد وتُدَوزِن، وهي تنساب بين الأغصان، وتُداعِب الشعير والحنطة التي تنمو يوماً إثر يوم، أو وهي تسيل بين الضفاف، حانية بلطف السُّوق التي تُلامِس المياه الصافية. يَجرون كما لو أنّهم كانوا ماضين إلى لقاء الحبّ. حتّى الأكبر سنّاً مثل برتلماوس ومتّى وفليبّس والغيور يشاركون الشباب فرح استعجالهم. وهكذا هو الأمر بين التلاميذ، حيث الأكبر سنّاً يُنافِسون الشباب في سرعة المسير.

 

لم يكن الندى قد جفّ على المروج عندما وصلوا إلى تخوم بيت صيدا المحصورة في مساحة صغيرة بين البحيرة والنهر والجبل. ومِن غابة في الجبل يَهبط، عَبْر مَسلَك، شابّ وقد انحنى تحت حِمل حطب. يهبط برشاقة، يكاد يجري، وبسبب وضعيته، لا يَلحَظ الرُّسُل... يُنشِد سعيداً، وهو يجري تحت حِمله، وما أن يَصِل إلى الطريق العامّة، على مشارف منازل بيت صيدا، يرمي حِمله على الأرض وينتصب ليرتاح، وقد أَرسَلَ شعره الأسود القاتم إلى الوراء. إنّه طويل وممشوق القامة، قويّ البنية، ذو أعضاء رشيقة ونحيلة. ووجه شابّ وسيم.

 

«إنّه مارغزيام» يقول أندراوس.

 

«أمجنون أنتَ؟ هذا رجل.» يُجيبه بطرس.

 

ويَضع أندراوس يديه حول فمه ويناديه بصيحات قويّة. والشابّ، الذي كان قد انحنى ليلتقط حِمله مِن جديد، بعد أن شدّ حزامه حول جلبابه القصير الذي لا يكاد يبلغ ركبتيه، والمفتوح عند الصدر بالطبع، لأنّه ضيّق جدّاً، يلتفت باتّجاه مَصدَر الصوت ويرى يسوع وبطرس والآخرين الذين ينظرون إليه، وهُم يَقِفون قرب مجموعة مِن أشجار الصفصاف التي تتدلّى أغصانها لتنغمس في مياه نهر عريض، يتدفّق إلى يسار الأردن قبل بحيرة الجليل، وهو عند حدود البلدة بالضبط. يترك حِمله لِيُرمَى مِن جديد، يرفع ذراعيه ويصيح: «ربّي! أبي!» وينطلق جرياً.

 

ولكنّ بطرس أيضاً يجري، يجتاز مخاضة النهر، دون حتّى أن ينزع حذاءه، مكتفياً فقط برفع ثيابه، ثمّ يركض على الطريق الترابية تاركاً آثار حذائه الرطب على الأرض الجافة.

 

«أبي!»

 

«ابني الحبّيب!»

 

ها قد أَصبَحَ الواحد بين ذراعيّ الآخر. مارغزيام بحقّ أطول مِن بطرس، وشعره الأسود قد انسَدَلَ على وجه بطرس أثناء قُبلته الوَدودة، ولكنّه يبدو وكأنّه أكبر منه نظراً إلى رشاقته. حينئذ يُفلِت مارغزيام مِن هذا العناق اللطيف ويُعاوِد الجَّري باتّجاه يسوع الذي اجتاز النهر ويتقدّم ببطء، يحيط به رُسُله.

 

يرتمي مارغزيام على ركبتيه، وذراعاه مرفوعتان، ويقول: «آه! ربّي، بارِك خادِمكَ!»

 

ولكن يسوع ينحني، يُنهضه ويضمّه إلى صدره، مُقبِّلاً إيّاه مِن وجنتيه، متمنّياً له «السلام الدائم والنموّ بالحكمة والنعمة على دروب الربّ.»

 

الرُّسُل الآخرون يُرحِّبون بالشاب، خاصّة منهم الذين لم يكونوا قد رأوه منذ أشهر، ويبتهجون معه لنموّه.

 

أمّا بطرس! أمّا بطرس! لو كان هو الذي أَنجَبَه، لما كان بهذا الرضى! يدور حوله، ينظر إليه، يلمسه ويَسأَل هذا وذاك: «ولكن أليس وسيماً؟ أليس متناسقاً؟ انظر كم هو منتصب القامة! يا لهذا الصدر المرتفع! يا للساقين المستقيمتين!... القليل مِن النحافة مع القليل أيضاً مِن العضلات. ولكنّه واعِد! بالحقيقة هو واعِد! ووجهه؟ انظروا إذا كان ذلك الآدمي الصغير الذي كنتُ أحمله العام الماضي على ذراعيّ! كان يبدو لي آنذاك أنّني أحمل عصفوراً بائساً، ممتقعاً، حزيناً وهَلِعاً... يا لبورفيرا العظيمة! آه! لقد كانت حقّاً عظيمة بعسلها وسمنها وزيتها والبيض وكبد السمك. إنّها تستحقّ أن أقول لها ذلك في الحال. يا معلّم، هل تسمح لي بالذهاب للقائها؟»

 

«اذهب! اذهب! يا سمعان. وسألحق بكَ سريعاً.»

 

ومارغزيام الذي ما يزال يسوع يمسك به مِن يده، يقول: «يا معلّم، بالتأكيد سوف يَطلُب أبي مِن أُمّي تحضير الطعام. فلتسمح لي أن أترككَ لأساعدها...»

 

«اذهب. وليبارككَ الله لأنّكَ تُكرّم اللذين هما بمثابة الأب والأُمّ لكَ.»

 

يبتعد مارغزيام وهو يجري، يحمل حِمله مِن جديد، ويلحق ببطرس ليسير إلى جانبه.

 

«يبدوان وكأنّهما إبراهيم وإسحاق وهما يرتقيان الجبل.» يقول برتلماوس.

 

«آه! يا لمارغزيام المسكين! لم يكن ينقصه إلّا هذا!» يقول سمعان الغيور.

 

«وأخي المسكين! لستُ أدري إذا ما كان يمتلك القدرة على أن يُماثل إبراهيم...» يقول أندراوس. يَنظُر إليه يسوع ثمّ ينظر إلى رأس بطرس الأشيب، الذي يبتعد وإلى جانبه مارغزيام، ويقول: «الحقّ أقول لكم إنّه سيأتي يوم يُسرّ فيه بطرس لعلمه بسجن وضرب وجلد حبيبه مارغزيام، وكونه في خطر الموت، وحيث يتحلّى بالشجاعة ليمدّده بيده على الخشبة كي يُلبِسه أرجوان السماوات، ويخصب الأرض بدم شهادته، حاسداً إيّاه على مصيره، متألّماً لسبب وحيد: لأنّه ليس مكان ابنه، وهو مضطرّ للحفاظ على نفسه كونه قد اختير رئيساً أعلى لكنيستي، إلى أن أقول له: "اذهب ومُت مِن أجلها". أنتم لا تعرفون بطرس بعد. أمّا أنا فأعرفه.»

 

«أتتوقّع الشهادة لأخي ولمارغزيام؟»

 

«هل تتألّم لذلك يا أندراوس؟»

 

«لا، بل أتألّم لأنّكَ لم تتوقّع ذلك لي أيضاً.»

 

«الحقّ الحقّ أقول لكم إنّكم ستتسربلون الأرجوان جميعكم، إلّا واحد.»

 

«مَن؟ مَن؟ »

 

«فلندع الصمت على ألم الله» يقول يسوع حزيناً ومَهيباً. ويصمت الجميع خائفين ومشغولي البال.

 

يَلِجون أوّل طريق في بيت صيدا، وسط الحدائق المكتسية اخضراراً جديداً. بطرس، مع آخرين مِن بيت صيدا، يقود أعمى إلى يسوع. مارغزيام ليس هنا: إنّه بالتأكيد يساعد بورفيرا. ومع سكّان بيت صيدا وأهل الأعمى، هناك تلاميذ كثيرون أتوا إلى بيت صيدا مِن سيكامينون [حيفا] ومدن أخرى، ومِن بينهم استفانوس وهَرْماس والكاهن يوحنّا والكاتب يوحنّا وكثيرون غيرهم. (وعلى سبيل الذكر، يا للزحمة! إنّهم كثيرون جدّاً.)

 

«لقد جلبتُهُ لكَ، يا سيّدي. كان ينتظر هنا منذ أيّام عديدة» يشرح بطرس بينما لا يكفّ الأعمى وأهله عن ترديد: «يا يسوع، يا ابن داود، ارحمنا!»، «ضَع يدكَ على عينيّ ابني وهو يُبصِر»، «ارحمني يا ربّ! أنا أؤمن بكَ!»

 

يأخذ يسوع الأعمى مِن يده ويَرجَع به بضعة أمتار ليجعله في مأمن مِن الشمس التي تغمر الطريق الآن. يَسند له ظهره على جدار منزل تكسوه الأوراق، وهو أوّل بيت في البلدة، ويقف في مواجهته. يُبلّل سبّابتيه بلعابه ويفرك له جفنيه بإصبعيه المبلّلتين، بعد ذلك يضغط بيديه على العينين، واضعاً قاعدة اليد في حفرة العين والأصابع في شعر المسكين. يصلّي هكذا، ثمّ ينـزع يديه ويَسأَل الأعمى: «ماذا ترى؟»

 

«أرى رجالاً، بالتأكيد هم أناس. ولكنّني هكذا كنتُ أتخيّل الأشجار تكسوها الأزهار. ولكن بالتأكيد هُم أناس، لأنهّم يتحرّكون ويتقدّمون نحوي.»

 

يضع يسوع يديه ثانية وينـزعهما مِن جديد وهو يقول: «والآن؟»

 

«آه! الآن أرى الفرق واضحاً بين الأشجار المغروسة في الأرض وهؤلاء الناس الذين ينظرون إليَّ... وأراكَ أنتَ! كم أنتَ وسيم! عيناكَ تُشبِهان السماء وشعرك كأشعّة الشمس... أمّا نظرتكَ وابتسامتكَ فَهُما مِن الله. يا ربّ، أعبُدكَ!» ويجثو ليُقبِّل طرف ثوبه.

 

«انهض، وتعال إلى أُمّكَ التي كانت لكَ، على مدى سنوات، نوراً وتعزية، وبفضلها أنتَ لا تعرف سوى الحبّ.»

 

يأخذه مِن يده ويقوده إلى أُمّه الجاثية على بعد خطوات، عابدة إيّاه كما كانت سابقاً تتوسّل إليه.

 

«انهضي يا امرأة. هو ذا ابنكِ. يرى نور النهار، وليكن قلبه مُريداً اتّباع النور الأزليّ. عودا إلى بيتكما. كونا سعيدين، وكونا قدّيسين عرفاناً لجميل الله. إنّما لدى مروركما في القرى، لا تقولا لأحد إنّني أنا مَن شفيتُهُ، لكي لا تتزاحم الجموع هنا وتمنعني مِن الذهاب إلى حيث يقتضي العدل أن أمضي لأحمِل تثبيت الإيمان والنور والفرح لأبناء أبي الآخرين.»

 

وبهمّة، يتوجّه عَبْر مَسلَك يجتاز الحدائق إلى بيت بطرس. يدخله وهو يُلقي على بورفيرا تحيّته العذبة.