ج6 - ف119

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السادس/ القسم الثاني

 

119- (مَثَل الكَرْمة وحرّيّة الاختيار)

 

04 / 05 / 1946

 

«السلام لكم يا أصدقائي، كم الربّ صالح. فقد شاء لنا أن نجتمع مِن أجل وجبة أخويّة. إلى أين كنتم ذاهبين؟» يسوع يَسأَل الرُّعاة السابقين، فيما كان يشقّ طريقه إلى دغل لحماية نفسه مِن الحرّ.

 

«بعضنا ذاهب نحو البحر، والبعض نحو الجبال. لقد أتينا إلى هنا معاً، متزايدين في العدد شيئاً فشيئاً، على اعتبار أن مجموعات أخرى كانت قد انضمّت إلينا على طول الطريق» يقول دانيال، الذي كان في السابق راعياً في لبنان.

 

«نعم، ونحن الاثنين نودّ الذهاب وصولاً إلى حرمون الكبير، كي نغذّي قلوبنا حيث كنّا نغذّي قطعاننا» يقول رفيقه بنيامين.

 

«إنَّها فكرة جيّدة. أنا سوف أذهب إلى الناصرة لبعض الوقت، وبعدها سأكون في كفرناحوم وبيت صيدا حتّى قمر أيلول (سبتمبر). أقول لكم ذلك كي تجدوني عند الحاجة. اجلسوا ودعونا نجمع أطعمتنا معاً كي نتقاسمها بعدل.»

 

يفعلون ذلك باسِطين كلّ... 'ثرواتهم' على قطعة مِن القماش: قِطع خبز، أجبان، أسماك مملّحة، زيتون، بعض البيض، تفّاحات طازجة... ويوزّعون الطعام بفرح كما كانوا قد بَسَطوه بفرح، بعدما قدَّمَ يسوع وبارَكَ.

 

كَم هم سعداء بوليمة الحُبّ غير المتوقّعة هذه! لقد نسوا التّعب والحرّ، تائهين في بهجة الاستماع ليسوع، الذي يَستَعلِم عمّا فَعَلوه، والذي يقدّم لهم النّصائح، أو يروي عليهم ما كان قد فَعَلَه. وعلى الرغم مِن أن تلك الساعة شديدة الحرارة، ليوم مُتّقِد كهذا، تدفع بالمرء للشعور بالنعاس الشديد. إلّا أنّهم متنبّهين لدرجة أن لا أحد منهم يستسلم للنوم. وبعدما انتهت الوجبة، وتمّ جمع ما بقي مِن طعام وتقسيمه إلى أجزاء متساوية فيما بينهم، فإنّهم ينتقلون إلى أكثف جزء مِن أقرب دغل على التلّة. يجلسون حول يسوع في ظلّ الأشجار، ويرجونه كي يَروي لهم مَثَلاً جميلاً، بحيث يتّخذوه كقاعدة عمليّة للحياة والتعليم.

 

إنّ يسوع، الذي جَلَسَ مواجهاً لمرج ابن عامر، الذي هو الآن مجرّد مِن المحاصيل، إنّما الغني بالكُروم والبساتين، يجول بنظره في ذاك المنظر، كما لو أنّه يبحث عن موضوع فيما يراه. إنّه يبتسم. لقد وَجَدَه. إنّه يبدأ بسؤال عام: «إنَّ الكروم جميلة في هذا السهل، أليست هي كذلك؟»

 

«نعم، إنّها جميلة جدّاً. إنّها مُثقَلة على نحو غير عاديّ بالعناقيد الآخذة بالنضوج. فقد أُحسِن الاعتناء بها. ولهذا فإنَّ مردودها هو بتلك الوفرة والجودة.»

 

«لا بدّ وأنّها كانت غِراساً غالية الثّمن...» يُلمّح يسوع. ثم يَختم قائلاً: «على اعتبار أنّ السهل مُقسّم إلى أراضٍ مملوكة مِن قِبَل فرّيسيّين أثرياء، فلا بدّ أن يكونوا قد زرعوها بِغِراس ذات جودة عالية، مِن دون الالتفات إلى التكاليف.»

 

«آه! لن يكون مُجدياً شراء أجود الغِراس، إن لم تتمّ مواصلة الاعتناء بها بعد ذلك. إنَّني خبير بذلك لأنَّني أزرع الكروم في كلّ الأراضي العائدة لي. إنّما إن لم أبذل الجهد، أو بالأحرى، إن لم أكن قد بذلتُ الجهد، كما لا يزال إخوتي يواصلون فِعل ذلك حتّى الآن، فصدّقني يا معلّم، لم أكن لأستطيع أن أقدّم لكَ في موسم القطاف عناقيد شبيهة بعناقيد العام الماضي» يقول رجل قويّ البُنية، يبلغ مِن العمر حوالي الأربعين عاماً، والذي أعتَقِد بأنّه سبق لي أن شاهدتُه، إنّما لا أتذكّر اسمه.

 

«معكَ حقّ يا كِلْيوباس. فإنّ سرّ الحصول على ثمار جيّدة يكمن كلّه في العناية بأملاكنا» يقول رجل آخر.

 

«ثمار جيّدة وكذلك أرباح وافرة. فإذا ما أعطت الأرض فقط ما أُنفِق عليها، فسوف يكون ذلك أيضاً بمثابة استثمار فاشل للمال. فالأرض يجب أن تُنتِج رأس المال الذي أنفقناه، مضافاً إليه الرّبح الذي يُمكّننا مِن زيادة ثروتنا. فيجب أن نضع في اعتبارنا بأنّه على الأب أن يُقَسِّم ملكيته بين أولاده. وبأنّه مِن مُلكية واحدة، سواء كانت أرض أو مال، يجب إنشاء عدّة حصص، حصّة لكل ابن، كي يَترُك لكلّ واحد منهم ما يؤمّن معيشته. وأعتقد بأنّه لا يمكن توجيه أيّ لوم إلينا فيما إذا قمنا بزيادة أملاكنا لصالح أولادنا» يصرّ كِلْيوباس.

 

«لا، لن يكون هناك أيّ لوم، فيما إذا حقَّقتَ ذلك بعمل شريف وبطريقة شريفة. فإذن أنتَ تريد القول إنّه وبالإضافة إلى زراعة غِراس ذات جودة عالية، فإنّه مِن الضروريّ أن نعتني بها جيّداً كي نجني منها الأرباح؟»

 

«بل إنَّني متأكّد مِن ذلك! فكي تُرى أولى العناقيد... لأنّها تستغرق وقتاً، كما تعلم! فعلى المرء أن يعمل وأن يتحلّى بالصبر، ريثما تظهر أوّلاً الأوراق على الأغصان اليافعة. ولاحقاً، وعندما يشتدّ عودها وتُثمِر، فعلى المرء أن ينتبه إلى أنّه لا توجد أغصان عديمة الفائدة، أو حشرات ضارّة، وبأنَّ النباتات الطفيليّة لا تُفقِر التربة. وعليك أن تضمن عدم اختناق أغصان الكرمة بأوراق الشجيرات الضارّة واللبلاب، كما يجب تشكيل فجوة دائرية في التربة حول ساق الكرمة، كي ينفذ الندى، وكي يتجمّع الماء ويبقى لأطول فترة ممكنة ليروي النبتة، وعليك وضع السماد ... إنّه عمل شاقّ! ولكنّه ضروريّ، حتى إن لم يكن ممتعاً.

 

فالعنب، الكثير الحلاوة، والجميل جدّاً، لدرجة أنّ كلّ عنقود يبدو كما لو أنّه تشكيلة مِن الحجارة الكريمة الثمينة، لا ينمو على النحو الأمثل إلّا بامتصاص السماد الأسود كريه الرائحة. قد يبدو ذلك مستحيل التصديق، ولكنّها الحقيقة! كما يجب على المرء التخفيف مِن الأوراق كي تسطع الشمس على العناقيد، وعندما ينتهي القطاف، فيجب على المرء تشذيب الكروم، وربطها وتقليمها، وتغطية الجذور بالقش والزّبل، لحمايتها مِن الصقيع، وأيضاً خلال الشتاء يجب على المرء أن يراقبها، كي يتبيّن فيما إذا كانت الريح، أو لصّ ما قد تسبّبا بنزع الدعامات، وفيما إذا كانت عوامل الطقس قد تسبّبت بارتخاء الغصينات التي بواسطتها تتمسّك الأغصان بالدعامات... آه! هناك دوماً ما يجب القيام به حتّى تموت الكرمة نهائيّاً... وحتّى عندها يظلّ هناك ما يجب فِعله، فيتوجّب اقتلاعها مِن التربة، ثمّ تنظيف التربة مِن كلّ بقايا الجذور، كي تكون التربة جاهزة لاستقبال نبتة جديدة. وهل تعلم كم على المرء أن يعمل بِرَويّة، وبيدين رشيقتين وعينين متنبّهتين، لتحرير أغصان الكرمة الميتة، والمتشابكة مع أغصان الكروم التي لا تزال حيّة؟ فإذا ما قام المرء بذلك باستعجال أو رعونة، فكم سوف يُسبّب مِن ضرر! على المرء أن يكون متمرّساً كي يقوم بذلك!...

 

الكروم؟ إنّها كما الأبناء! فقبل أن يصبح الابن رجلاً، كم ينبغي على المرء أن يعمل بجدّ كي يبقيه سليم الجسم والعقل!...

 

إنّما أنا أتكلّم طوال الوقت بحيث لم أدعكَ تتكلّم... فقد وعدتنا بأن تروي لنا مَثَلاً...»

 

«في الحقيقة أنتَ كنتَ قد رويتَ مَثَلاً بالفعل. سوف يكون كافياً أن تطبّق استنتاجكَ الأخير، بعد وضع النُّفوس محلّ الكروم...»

 

«لا يا معلّم! أنتَ مَن يجب أن يتكلّم. أنا... أنا كنتُ قد قلتُ أشياء بلا معنى، ونحن لسنا قادرين على أن نقوم بالعمل التطبيقيّ مِن تلقائنا...»

 

«حسناً. أَنصِتوا:

 

عندما لا نكون سِوى مجرّد أَجِنّة في بطون أُمّهاتنا، فإنَّ الله يخلق نَفْساً في السماء كي يجعل مِن الإنسان الذي سوف يُولَد شبيهاً به، ثمّ ينفخها في الجسد الذي كان يتشكّل في الرّحم. وعندما يحين وقت ولادة ذلك الإنسان، فإنّه يُولَد بتلك النّفْس، والتي تكون -وحتّى يبلغ سن الإدراك- كما الأرض المتروكة مِن قِبَل مالكها. ولكن عندما يَصِل الإنسان إلى سن الإدراك، فإنّه يبدأ بالتفكير، وبالتمييز بين الخير والشر. ومِن ثمّ يبدأ بإدراك أنّ لديه كَرْماً بإمكانه أن يفعل به ما يشاء، ثمّ يصبح مدركاً بأنّ لديه أيضاً كَرَّاماً مسؤولاً عن ذاك الكرم: أي إرادته الحرّة.

 

وفي الحقيقة أنّ الحريّة في توجيه النّفْس، والتي منحها الله للإنسان، الذي هو ابنه، هي كما خادم فاعِل، أعطاه الله للإنسان، الذي هو ابنه، كي يساعده على جعل كَرْمه، أي نفسه، خصباً.

 

وإن لم يكن الإنسان لِيَجهَد بذاته كي يصبح غنياً، وكي يبني لذاته مستقبلاً أبديّاً مِن رخاء فائق الطبيعة، وإذا ما كان يتلقّى كلّ شيء مِن الله، فما الذي سوف يجعله مستحقّاً كي تُخلَق نفسه مجدّداً بالقداسة، بعدما كان لوسيفورس قد أَفسَدَ القداسة الأولى الممنوحة بلا مقابل مِن الله للأبوين الأوّلين؟

 

إنّها بالأساس مِنّة عظيمة، أن يمنح الله للبشر، الذين سقطوا بفعل إرث الخطيئة الأصليّة، إمكانيّة أن يستحقّوا مكافأة وأن يصبحوا قدّيسين. المكافأة في أن يُولَدوا مرّة ثانية، مِن خلال إرادتهم لذلك. أي أن يولدوا ثانيةً بالطبيعة الأولى للإنسان الكامل، بتلك الطبيعة الكاملة التي كان الخالق قد مَنَحَها لآدم وحواء، ولأولادهما، فيما لو أنّ الأبوين الأوّلين كانا قد بقيا منزّهَين عن الخطيئة الأصليّة. فعلى الإنسان الذي سقط، أن يعود ويصبح كاملاً مجدّداً مِن خلال إرادته الحرّة.

 

الآن، ماذا يحدث للنُّفوس؟ هذا ما يحدث. الإنسان يعهد بنفسه إلى إرادته، إرادته الحرّة، التي تبدأ بزراعة أرض الكَرْم التي كانت قد بقيت لوقت طويل مجرّد قطعة أرض بلا كُرُوم، إنّها أرض خصبة، ولكنّ الغِراس ليست بعد صُلبَة، فهي تكون خلال السنوات الأولى لنموّها مجرّد أغصان نحيلة، وقد نبتت عليها زهور هزيلة: أي الصَّلاح الغريزيّ لطفل هو صالح لأنّه ما يزال ملاكاً غير مُدرِك للخير والشرّ.

 

قد تسألون: "كم مِن الوقت يبقى على هذه الحال؟". نحن بالعادة نقول: للأعوام الستّة الأولى. إنّما في الحقيقة أنّ هناك حالات إدراك مبكّر، بحيث يكون فيها الأطفال مسؤولين عن أفعالهم قبل سنّ السادسة. فهناك حالات يكون فيها الأطفال مسؤولين عن أفعالهم حتّى في سنّ الثالثة، أو الرابعة، وهم مسؤولون لأنّهم يعلمون ما هو الخير والشرّ المتعلّق بتلك الحالات، ولهم الحريّة في أن يشاؤوا الخير أو الشرّ. وفي اللحظة التي يصبح فيها الطفل قادراً على التمييز بين الأفعال الصالحة والأفعال الشرّيرة، فعندها يكون الطفل مسؤولاً، إنّما ليس قبل ذلك. لهذا فإنّ المعاق ذهنيّاً، حتّى لو كان عمره مائة عام، هو غير مسؤول، إنّما الأوصياء هُم المسؤولون بدلاً عنه، والذين يجب عليهم أن يراقبوه بمحبّة، ويحرصوا على القريب الذي قد يتأذّى بفعل قريبهم المصاب بالعته أو الجنون، بحيث لا يؤذي نفسه والآخرين.

 

لذلك فإنَّ الله لا يحتسب أخطاء المعتوه أو المجنون، لأنّهم، للأسف، مجرَّدين مِن الإدراك. لكنّنا الآن بصدد الحديث عن أولئك الذين يتمتّعون بالإدراك، والسليمين عقليّاً وجسديّاً.

 

إذن، كنّا نقول بأنّ الإنسان يعهد بكرمه غير المزروع إلى كَرَّامه: أي إرادته الحرّة، التي تبدأ بزراعته. والنَّفْس، التي هي الكَرْم، لها صوت، وهي تُسمِعه للإرادة الحرّة. إنّه صوت فائق الطبيعة، ويغذّيه صوت آخر فائق الطبيعة، صوت لا يبخل به الله على النُّفوس: والذي هو صوت الأرواح الحارسة التي يُرسِلها الله، صوت الحكمة، صوت الذكريات فائقة الطبيعة، والتي تتذكّرها كلّ نَفْس، حتّى مِن دون أن يكون وعي الإنسان مدركاً تماماً لوجودها. والكَرْمة (النَّفْس) تتحدَّث إلى الإرادة الحرّة، بصوت لطيف ومُتوَسِّل، راجية إيّاها كي تزرعها بِغِراس جيّدة (فضائل صالحة)، وبأن تكون فاعلة وحكيمة، كي لا تستحيل أرض الكَرْم دغلاً برّياً مِن شجيرات شائكة عقيمة ومؤذية، حيث تُعشّش الحيّات والعقارب، وحيث تستوطن الثعالب، وحيث النّموس وكلّ ذوات الأربع المتوحّشة تحفر جحورها. فالإرادة الحرّة ليست دائماً كَرّاماً صالحاً، فهي ليست دائماً تحرس الكرم أو تحميه بسياج مُحكَم، أي بإرادة صالحة مَنيعة، أي فاعلة في حماية النُّفوس مِن اللصوص، ومِن الطفيليّات، ومِن كلّ ما هو ضارّ، ومِن الرياح القويّة التي قد تتسبّب بسقوط البراعم الصغيرة للنوايا الصالحة، التي كانت بالكاد قد بدأت تتحوّل إلى فضائل.

 

آه! كم يتطلّب أن يكون عالياً ومنيعاً ذاك السّياج الذي يحيط بالقلوب كي يحميها مِن الشرّ! كم يجب أن يكون المرء متنبّهاً كي يضمن بألّا يُختَرَق، وأيضاً بألّا يُحدِث أحد فيه ثغرات كبيرة بحيث تدخل الشهوات مِن خلالها، ولا ثغرات صغيرة مُخادعة عند قاعدته، بحيث تتسلَّل عبرها الأفاعي: التي هي الرذائل السبع الرئيسيّة! كم هو ضروريّ أن نُقلّب نفوسنا، أن نحرق أعشابها الضّارة، أن نشذّبها، أن نحرثها، أن نُسمّدها، أن نعتني بها، مِن خلال الإماتات الجسديّة وحبّ الله والقريب. ومِن الضروريّ أن نُراقِب بعينين جاحِظَتَين ومُتَّقدتين، وبعقل شديد اليَقَظَة، الغِراس التي تبدو أنّها في حالة جيّدة، كي لا تتحوّل إلى غِراس سيّئة، وفيما إذا حدث ذلك، أن نقتلعها بلا شفقة. لأنّ نبتة واحدة فقط، إنَّما مثاليّة، هي أفضل مِن نبتات كثيرة عديمة الجدوى أو الضارّة.

 

لدينا قلوب، فلدينا إذاً كُروم مزروعة على الدوام، إنّما التي قد تُزرَع فيها غِراس جديدة مِن قِبَل كَرَّام فوضويّ، بحيث يُكدِّس فيها نباتات جديدة: فهو يريد أن يقوم بهذا العمل، وأيضاً بذاك، لديه أفكار، التي هي ليست بالضرورة شرّيرة، إنَّما التي يهملها فتصبح شرّيرة، وتسقط على الأرض، ثمّ تفسد وتموت... كم مِن الفضائل تهلك لامتزاجها بالأمور الحسّيّة، وأيضاً لكونها لم تُزرَع جيّداً، وكلّ ذلك، وباختصار، بسبب أنّ الإرادة الحرّة لم تكن مدعومة بالمحبّة! وكَم مِن اللصوص يَدخُلون ليسرقوا، ليعبثوا، ليقتلعوا، لأنَّ الضمير ينام بدلاً مِن أن يبقى متيقّظاً، لأنّ الإرادة تضعف وتفسد، لأنّ الإرادة الحرّة تُغوَى، وبدلاً مِن أن تظلّ حرّة، فهي تُصبح عبدة للشرّ.

 

إنّما انتبهوا! إنَّ الله قد خلقها حرّة، ولكنّها، وبملء حريتها تلك تُصبِح عبدة للشهوات، للخطايا، للشَّبَق، أي للشرّ بالمجمل، للكبرياء، للغضب، للجَّشع، للفجور. التي تمتزج بالبداية مع النباتات الصالحة، ثمّ لا تلبث أن تسود عليها!... إنّها كارثة! فأيّ جفاف أصاب تلك النباتات المحروقة، لأنَّ الناس ما عادت تصلّي، لأنّ الصلاة هي اتّحاد مع الله، وبالتالي فهي ندى العصارات التي تروي النُّفوس! وأيّ صقيع جمَّد جذورها بسبب فقدانها لمحبّة الله والقريب! وأيّ إفقار للتربة، لأنَّ الناس ما عادوا سَمَّدوها بالقناعة والتواضع! وبأيّ تشابُك معقَّد تداخلت الأغصان الصالحة بالسيّئة، لأنّ الناس ما عادت تملك شجاعة التألّم لقطع ما هو ضارّ! هكذا تكون حال النَّفْس التي تزرعها وتحرسها إرادة حُرّة فوضويّة وميّالة نحو الشرّ.

 

أمّا النّفْس التي تعيش إرادتها الحرّة بطريقة منظّمة، أي الخاضعة للشريعة المعطاة بحيث يعرف الإنسان ما هو النّظام، كيف يمارسه، وكيف يحافظ عليه، والتي هي أيضاً أمينة للخير على نحو بطوليّ -لأنَّ الخير يرفع الإنسان ويجعله شبيهاً بالله، في حين أنّ الشرّ يجعله بشعاً وشبيهاً بشيطان- فتلك النّفْس هي كَرْم ترويه مياه الإيمان النقيّة والغزيرة والنافعة، تُظلّله جيّداً أشجار الرجاء، تدفئه شمس الإحسان، تنظّمه الإرادة، تُنضِجه القناعة، تُثبّته الطّاعة، تُشذّبه الصلابة، ترشده العدالة، تحرسه الحكمة والضمير، وتنمو النعمة بفعل كلّ تلك المساعدة، وتنمو القداسة، ويغدو الكَرْم بستاناً رائعاً، حيث يحلّ الله مِن أجل فرحه. شريطة أن يبقى الكَرْم بستاناً مثاليّاً على الدوام وحتّى وفاة الإنسان، بحيث سوف يُحمِّل الله ملائكته عمل هذه الإرادة الحرّة، الصّالحة والمنظّمة، إلى بستان السماوات العظيم والأزليّ.

 

أنتم بالتأكيد تريدون هذا المصير لأنفسكم. فاحرصوا إذن كي لا يغوي الشيطان والعالم والجسد حريّة اختياركم، ويُفسِد نفوسكم. واحرصوا أن تكون فيكم المحبّة، إنَّما ليس حبّ الذات، الذي يُخمِد المحبّة، والذي يجعل النّفْس تحت سطوة كلّ أشكال الشهوانيّة والفوضى. كونوا يقظين حتّى النهاية، قد تُبلِّلكم العواصف، إنَّما لن تؤذيكم، وسوف تمضون إلى ربّكم بالثمار التي تحملونها مِن أجل المكافأة الأبديّة.

 

لقد انتهيتُ. الآن تأمَّلوا وارتاحوا حتّى الغروب، فيما أختلي بنفسي كي أُصلّي.»

 

«لا يا معلّم. يجب ألّا نتأخر في الانطلاق، كي نتمكّن مِن الوصول إلى حيث قد تتواجد بعض المنازل» يقول بطرس.

 

«لماذا؟ مايزال هناك وقت حتّى الغروب!» يقول كُثُر.

 

«أنا لا أفكّر بالغروب أو بالسبت. أنا أُفكّر أنّه خلال ساعة سوف تكون هناك عاصفة شديدة. أتَرَون تلك الغيوم الداكنة التي على شكل الألسنة الحادّة، التي ترتفع على مهل مِن سلسلة جبال السامرة؟ وتلك الغيوم الشديدة البياض، والتي تتقدّم بسرعة مِن الغرب؟ إنّ رياحاً منخفضةً تدفع بتلك الدّاكنة، ورياحاً مرتفعة تدفع بالأُخرى. إنّما حين تصبح هنا فوقنا، فإنَّ الرياح المرتفعة سوف تغدو شرقيّة (الخماسين)، والغيوم الداكنة، الـمُحمّلة بالبَرَد، سوف تنزل وتتصادم مع تلك البيضاء، المحمّلة بالصواعق، وعندها يا لتلك الموسيقى التي سوف تَسمَعونها! هيا بنا، بسرعة! إنَّني صيّاد وبمقدوري قراءة السماء.»

 

يسوع هو أوّل مَن يطيع، وجميعهم ينطلقون بسرعة نحو المنازل الريفيّة في السهل…

 

عند الجسر يلتقون مع يهوذا الذي يصيح: «آه! يا معلّمي! كم عانيتُ مِن دونكَ! ليكن مباركاً الربّ الذي كافأ مثابرتي على انتظاركَ هنا! كيف جرت الأمور في قيصريّة؟»

 

«السلام لكَ يا يهوذا» يُجيب يسوع باختصار، ويضيف: «سوف نتحدّث عندما نصل إلى المنازل. تعال، هناك عاصفة وشيكة.»

 

وبالفعل فإنّ هبّات ريح تبدأ بتشكيل سُحُب مِن غبار الطرق الجافّة، السماء تصبح ملبّدة بغيوم مِن كلّ الأشكال والألوان، ويغدو الهواء أصفَراً ومتّقداً... وأولى القطرات الكبيرة والساخنة والمبعثرة تبدأ بالتساقط، ويشقّ أوّل برق السماء، والتي أصبحت الآن مظلمة تقريباً…

 

يبدأون بالركض مدفوعين برغبة ألّا يتبلّلوا تماماً، ويصلون إلى أوّل منزل بالضبط عندما -وسط دويّ البرق الذي يضرب قريباً منهم- يهطل فيضان مِن المطر والبَرَد على المنطقة، مسبّباً رائحة قوية تنبعث مِن للأرض المبلّلة، ومِن الهواء الـمُشبَع بشحنات البروق المتلاحقة.

 

يَدخُلون. ولحسن الحظّ فإنّ المنزل محاط بالأروقة، ويقطنه فلاّحون مؤمنون بالمسيح. الذين يطلبون بإجلال مِن المعلّم أن يعتبر نفسه كما لو أنّه في بيته، هو ورفاقه.

 

«تصرّف كما لو أنّه بيتكَ، إنّما ارفع يدكَ وشَتّت البَرَد، رحمة بمزروعاتنا» يقولون متجمّعين حول يسوع.

 

يسوع يرفع يده ويبارك كلّ الاتّجاهات الأربعة، فيبقى المطر وحده هو الذي يتابع الهطول مِن السماء، كي يسقي البساتين والكروم والمروج، وكي ينقّي الجوّ المعبّق.

 

«لتكن مباركاً يا ربّ!» يقول ربّ العائلة. «ادخل يا ربّي!»

 

وفيما يستمرّ هطول المطر، يدخل يسوع إلى غرفة واسعة جدّاً، أو مخزن، ويجلس متعباً، يحيط به رُسُله.