ج9 - ف6
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: ماري حلمي وفيكتور مصلح.
الجزء التاسع
6- (الاثنين السابق للفصح، I- النهار)
31 / 03 / 1947
يَخرج يسوع باكراً مِن خيمة أحد الجليليّين، هناك على هضبة بستان الزيتون، حيث يجتمع عدد كبير مِن الجليليّين بمناسبة الاحتفال. المعسكر نائم بأكمله تحت ضوء القمر الّذي يختفي ببطء، وهو يلفّ ببياض فضّيّ الخيام، الأشجار والمنحدرات، والمدينة الّتي تنام في الأسفل…
يمرّ يسوع بثقة ودون جَلَبَة بين الخيام، وبمجرّد خروجه مِن المعسكر، ينـزل بسرعة عبر سُبُل شديدة الانحدار إلى جَثْسَيْماني، يجتازها، يخرج منها، يتجاوز الجسر الصغير على القدرون، ذلك الشريط الفضّيّ الّذي يغنّي للقمر، يصل إلى الباب الّذي يحرسه الجنود. ربّما تلك الحراسة الليليّة هي تدبير احترازي مِن قِبَل الوالي على الأبواب المغلقة. الجنود الأربعة، يتكلّمون فيما هم جالسون على صخور ضخمة، وُضِعت كما مقاعد أمام السور القويّ، ويَصْطلون على نار مِن أغصان تعكس نوراً مُحمرّاً على الدروع اللامعة والخوذات الصلبة، الّتي تَبرز مِن تحتها وجوه تختلف قسماتها الإيطاليّة كثيراً عن تلك اليهوديّة.
«مَن يمضي هناك!» يقول الأوّل، الّذي يرى قامة يسوع الممشوقة تتبدّى مِن خلف زاوية مسكن متواضع قريب مِن الباب، ويمسك بقضيب الرمح الّذي ينتهي بحربة مُدبّبة، الّذي كان يسنده على الحائط قربه، ويقف في وضع نظاميّ، ويقتدي به الآخرون. يقول دون أن يترك ليسوع فرصة الردّ: «لا يمكن الدخول. ألا تعرف أنّ الهزيع الثاني على وشك الانتهاء؟»
«أنا يسوع الناصريّ. إنّ أُمّي في المدينة، وأنا ذاهب إليها.»
«آه! الرجل الّذي أقام ميت بيت عنيا! بحقّ جوبيتر! أخيراً سأراه!» ويقترب منه لينظر إليه بفضول، ملتفّاً حوله كما ليتأكّد أنّه ليس بخيال، بغريب، بل هو بحقّ رجل مثل سائر الناس، ويقول: «آه! يا للآلهة! إنّه جميل كأبولّو، إنّما مثلنا تماماً! لا عصا له، ولا قضيب، ولا أيّة علامة تشير إلى قدرته!» إنّه حائر. وبصبر ينظر إليه يسوع، مبتسماً بوداعة.
الآخرون، الأقلّ فضولاً -الّذين ربما رأوا يسوع مِن قبل- يقولون: «كان مِن المستحسن لو كان هنا عند منتصف الهزيع الأوّل، عندما حَملوا إلى المقبرة تلك الشابّة الجميلة الّتي ماتت هذا الصباح. لكنّا نراه يقيمها...»
يعيد يسوع ما قاله بهدوء: «هل يمكنني الذهاب إلى أُمّي؟»
ينتفض الجنود الأربعة. الأكبر سنّاً يتكلّم: «الأمر بحقّ هو عدم السماح لأحد بأن يمرّ، ومع ذلك أنتَ تمرّ. مَن يدفع أبواب الهادس يمكنه أن يدفع أبواب مدينة مغلقة. أنتَ لا تحرّض على الثورات. والموانع تسقط أمامكَ. حاول ألاّ يراكَ أحد مِن الدوريّات في الداخل. افتح يا ماركوس جراتوس. وأنتَ اعبر بدون ضجة. نحن جنود وعلينا أن نطيع...»
«لا تخافوا. إنّ طيبتكم لن تتحوّل إلى عقاب لكم.»
يفتح أحد الجنود بحذر باباً صغيراً في البوّابة الهائلة ويقول: «اعبر بسرعة. الهزيع يوشك على الانتهاء، وسيحلّ مكاننا آخرون...»
«السلام لكم.»
«نحن رجال حرب...»
«حتّى في الحرب، السلام الّذي أعطيه يدوم، لأنّه سلام النَّفْس.»
ويغيب يسوع في ظلمة القنطرة المفتوحة في ثخانة السور. ويعبر بصمت مِن أمام مهجع الحراسة الّذي يسمح بمرور نور يرتعش لمصباح زيت مِن الباب المفتوح، فانوس عاديّ معلّق بحلقة في السقف المنخفض، ممّا يسمح برؤية أجساد الجنود النائمين على حصائر ممدودة على الأرض، والمتدثرين بمعاطفهم، وأسلحتهم إلى جانبهم.
أصبح يسوع داخل المدينة... لم أعد أراه، بينما أرى عودة جنديّين مِن الأربعة السابقين ينظران فيما إذا ابتعد، قبل الدخول وإيقاظ النائمين لمبادلة المناوبة.
«لم يعد يُرى... ماذا يقصد بتلك الكلمات؟ أودّ لو أعرف.» يقول الأصغر سنّاً.
«كان يجب عليكَ سؤاله. فهو لا يحتقرنا. اليهوديّ الوحيد الّذي لا يحتقرنا ولا يضيّق علينا بأيّة طريقة.» يجيبه الآخر الّذي في كامل قوّة سنّه.
«لم أجرؤ. أنا، فلاح مِن بينفنت، أتكلّم مع مَن يقولون عنه الله؟»
«إله على حمار؟ ها! ها! ربّما كان سكيراً مثل باخوس [إله الخمر والسُّكر الروماني]، يمكن أن يكون كذلك. ولكنّه ليس سكيراً. أعتقد أنّه لا يشرب حتّى Mulsum (نبيذ معتّق بالعسل). ألا ترى كم هو شاحب ونحيل؟»
«ومع ذلك فاليهود...»
«نعم، هم يشربون، رغم أنّهم يتظاهرون بالعكس! وسُكارى مِن نبيذ هذه الأراضي القويّ ومُسكِراتها، فقد رأوا إلهاً في إنسان. صدّقني: الآلهة أسطورة. الأولمب فارغ، وليس للأرض إله.»
«لو كانوا سمعوكَ!...»
«أنتَ ما زلتَ طفلاً لدرجة أنّكَ غير مؤهّل ولا تعرف أنّ قيصر بذاته لا يؤمن بالآلهة، ولا الأحبار يؤمنون، ولا الكهّان، ولا العرّافون، ولا خدّام المعبد، ولا عذارى الآلهة فيستا، ولا أحد؟»
«وإذاً لماذا...»
«لماذا الطقوس؟ لأنّها ترضي الشعب وتفيد الكَهَنَة وتخدم قيصر كي يكون مُطاعاً كما لو كان إلهاً أرضيّاً تمسكه آلهة الأولمب باليد. ولكن أوّل مَن لا يؤمنون به هم الّذين نجلّهم كسفراء للآلهة. أنا بيرونيّ (بيرون هو فيلسوف رومانيّ مؤسّس الارتيابيّة). وقد جلتُ حول العالم. لقد اكتسبتُ خبرات كثيرة. لقد ابيَضّ شعر رأسي عند صدغيّ ونضج فكري. وكوّنتُ لنفسي قانوناً مِن ثلاثة مبادئ: حُبّ روما، آلهة واحدة ويقين واحد، وصولاً للتضحية بحياتي. وعدم الإيمان بشيء لأنّ كلّ ما يحيط بنا وَهْم هو. ما عدا الوطن المقدّس والّذي لا يفنى. ويجب أن نشكّ حتّى في ذواتنا أنفسها، لأنّه ليس أكيداً حتّى أنّنا أحياء. المشاعر والعقل لا يكفيان للتأكّد مِن تَوَصّلنا لمعرفة الحقيقة، والحياة والموت لهما نفس القيمة، لأنّنا لا نعرف ما هي الحياة وما هو الموت.» يقول أحدهم متصنّعاً فلسفة ارتيابيّة لكائن متفوّق…
ينظر إليه الآخر، متردّداً. ثمّ يقول: «أنا على العكس أؤمن. وأودّ أن أعرف... أن أعرف مِن ذلك الرجل الّذي مرّ منذ قليل. هو بالتأكيد يعرف الحقيقة. إذ يَخرج منه شيء ما غريب. وكأنّه نور يخترقكَ!»
«فلينقذكَ إسكولاب [آلهة الطبّ]! أنتَ مريض! لقد صعدتَ منذ وقت قصير مِن الوادي إلى المدينة، والـحُمَّيات [جمع حُمّى] تصيب بسهولة مَن يقومون بهذه الرحلة وهم بعد غير متأقلمين مع هذه المنطقة. إنّكَ تهذي. تعال. لا شيء سوى الخمر الساخن والتوابل لتتعرّق ويخرج منكَ سمّ الحُمّى الأردنيّة...» ويدفعه نحو مهجع الحراسة.
ولكنّ الآخر يتخلّص منه قائلاً: «لستُ مريضاً. لا أريد خمراً مُـخَدِّراً. أريد السهر هناك، خارج الأسوار (ويشير إلى داخل الحصن) وانتظار الرجل المدعوّ يسوع.»
«إن كنتَ لا تملّ هذا الانتظار... سأذهب لإيقاظ هؤلاء لتبديل نوبة الحراسة. وداعاً...»
ويدخل بصخب إلى مهجع الحراسة لإيقاظ رفاقه، وهو يصيح: «لقد حانت الساعة. هيّا، أيّها التنابل الكسالى! إنّني متعب!...» ويتثاءب بجلبة وتذمّر لأنّهم تركوا النار تنطفئ وشربوا الخمر الساخن كلّه «الضروريّ جدّاً في تجفيف ندى فلسطين...»
الآخر، الجنديّ الشّابّ، المستند إلى الحائط الّذي يلامسه القمر مِن جهة المغيب، ينتظر أن يعود يسوع على أعقابه. والنجوم تسهر على أمله....
في تلك الأثناء وصل يسوع إلى منـزل لعازر على تلّ صهيون، ويقرع. يفتح له لاوي.
«أنتَ يا معلّم؟! السيدات نائمات. لماذا لم تُرسِل خادماً إذا كنتَ محتاجاً إلى شيء؟»
«لم يكونوا ليسمحوا له بالمرور.»
«آه! هذا صحيح! إنّما أنتَ كيف مررتَ؟»
«أنا يسوع الناصريّ، وقد سمح لي الجنود بالمرور. إنّما يجب ألاّ يقال هذا يا لاوي.»
«لن أقول ذلك... هم أفضل مِن كثيرين منّا!»
«قُدني إلى حيث تنام أُمّي ولا توقظ أحداً سواها بالمنـزل.»
«كما تريد يا ربّ. فلقد أصدر لعازر الأمر لجميع الّذين يديرون المنازل بإطاعتكَ في كلّ شيء، بلا نقاش، ولا تأخير. كان بالكاد قد بزغ الفجر عندما أتى بالأمر أحد الخدّام، بل العديد مِن الخدّام، إلى كلّ المنازل... الطاعة والصمت. وسنفعل... لقد أعدتَ إلينا السيّد...»
الرجل يهرع بسرعة عبر ممرّات واسعة كما أروقة، في قصر لعازر الرائع على تلّ صهيون، والمصباح الّذي في يده ينير بطريقة مدهشة الأثاث والمفارش الّتي تزيّن تلك الممرّات الواسعة. الرجل يتوقّف أمام باب مغلق: «هنا أُمّكَ.»
«يمكنكَ الانصراف.»
«والمصباح؟ ألا تريده! يمكنني العودة في الظلام. أنا معتاد على المنـزل. فلقد وُلِدتُ فيه.»
«اتركه ولا تُخرِج المفتاح مِن الباب. سأخرج على الفور.»
«أنتَ تعرف أين تجدني. سأغلقه احتراساً. ولكنّني سأكون متأهّباً لأفتح لكَ الباب عندما تأتي.»
يبقى يسوع بمفرده. يقرع بخفّة، دقة خفيفة بحيث لا يمكن سوى لمستيقظ أن يسمعها.
صوت في الغرفة، كصوت كرسيّ يُزاح، ووقع خطىً خفيف، وصوت هامس: «مَن الطارق؟»
«أنا يا أُمّي. افتحي لي.»
يُفتح الباب على الفور. ضوء القمر هو الضوء الوحيد الّذي ينير الحجرة الساكنة وتمتدّ أشعّته إلى السرير الّذي لم يُمَسّ. مقعد إلى جانب النافذة المفتوحة على مصراعيها على سرّ الليل.
«ألم تنامي بعد؟ الوقت متأخّر!»
«كنتُ أصلّي... تعال يا بنيّ، اجلس هنا حيث كنتُ أنا.» وتشير إلى الكرسيّ القريب مِن النافذة.
«لا يمكنني المكوث. لقد جئتُ أصحبكِ للذهاب إلى إليز، في ضاحية عوفل، إنّ أناليا قد ماتت. ألم تكونوا تعلمون بعد؟»
«لا. لا أحد... متى يا يسوع؟»
«بعد مروري.»
«بعد مروركَ! إذاً فقد كنتَ لها الملاك الـمُحرِّر؟! هذه الأرض كانت سجناً لها! هي سعيدة! أودّ أنا أن أكون محلّها! هل ماتت... بشكل طبيعيّ؟ أقصد: ليس على أثر بليّة؟»
«ماتت مِن فرح المحبة. قد علمتُ عندما كنت في طريق صعودي إلى الهيكل. تعالي معي يا أُمّي. نحن لا نخشى التدنّس لتعزية أُمّ تلقّت بين ذراعيها ابنتها المتوفّاة بسبب فرح فائق الطبيعة... إنّها عذراؤنا الأولى! تلك الّتي ذهبت إليكِ في الناصرة، لكي تلقاني وتطلب منّي ذلك الفرح... إنّها أيّام بعيدة وهادئة.»
«أمس الأوّل كانت تغنّي مثل عصفور القرقب المغرم وكانت تعانقني وهي تقول: "أنا سعيدة!" وكانت متلهّفة لمعرفة كلّ شيء عنكَ. كيف كَوَّنكَ الله. كيف اختارني. وأوّل خطواتي كعذراء مكرّسة... الآن فهمتُ. أنا جاهزة يا بنيّ.»
مريم، وهي تتكلّم، تشبك ضفائرها المتدلّية على كتفيها، والّتي كانت تُظهِرها في غاية الشباب، ووضعت وشاحها ومعطفها.
يَخرجان بأقلّ ضجّة ممكنة. لاوي ما يزال قرب الباب. ويشرح: «لقد فضّلتُ ذلك... بسبب زوجتي... النساء فضوليّات. وكانت لتسألني مائة سؤال. هكذا هي لا تعرف...»
يفتح، وهو على وشك الإغلاق. يقول يسوع: «قبل نهاية هذا الهزيع سأعود بأُمّي.»
«سأسهر هنا قريباً. لا تقلق.»
«السلام لكَ.»
يسيران عبر الشوارع الصامتة، الخالية، الّتي ينسحب منها القمر ببطء وهو ما يزال ينير قمم المنازل العالية لرابية صهيون. الأكثر ضياء هي ضاحية عوفل بمنازلها الصغيرة الأكثر انخفاضاً وتواضعاً.
ها هو منـزل أناليا، مغلق، مظلم، صامت. ورود ذابلة ما زالت على درجتيّ سلّم البيت، قد تكون تلك الّتي ألقتها العذراء قبل موتها، أو الّتي سقطت مِن نعشها…
يسوع يقرع الباب. يقرع مِن جديد....
صوت فتح نافذة مِن أعلى. صوت حزين: «مَن الطارق؟»
«مريم ويسوع الناصريّ.» تجيب مريم.
«آه! آتي!...»
انتظار قصير ثمّ صرير مزاليج تتحرّك. يُفتح الباب ليظهر الوجه المنكسر لإليز، الّتي تستند بألم على قائمة الباب، وعندما تفتح مريم ذراعيها لدى دخولها، ترتمي على صدرها بشهقات ضعيفة ممّن بكت كثيراً حتّى لم يعد بكاؤها يُسمَع.
يُغلِق يسوع الباب وينتظر بصبر حتّى تُسَكّن أُمّه هذا الحزن الشديد. هناك غرفة قريبة مِن الباب. يدخلونها، وقد حمل يسوع المصباح الّذي وضعته إليز على بلاط المدخل قبل فتحها الباب.
يبدو أنّ بكاء الأُمّ لا نهاية له. ووسط الشهقات المبحوحة، تتحدّث إلى مريم. الأُمّ تتكلّم مع الأُمّ. ويقف يسوع بجوار الحائط، صامتاً… إليز لا تستكين إلى هذا الموت، الّذي حدث هكذا... وفي ألمها، تُلقي السبب على صموئيل، الخطيب الّذي حنث بيمينه: «لقد كسر قلبها، ذاك الملعون! لم تكن تبوح بذلك، بالتأكيد كانت تعاني مَن يعلم منذ متى! وفي الفرح، في الهتاف، انفتح قلبها. فليكن ملعوناً على الدوام.»
«لا يا عزيزتي. لا. لا تلعني. الأمر ليس هكذا. لقد أحبّها الله كثيراً حتّى إنّه أرادها في سلامه. لكن وإن تكن قد ماتت بسبب صموئيل -ما ليس هو، إنّما فلنفترضه لحظة- ففكّري بالموت المغبوط الّذي حظيت به، وقولي إنّ الفِعل السيّئ قد أتاح لها موتاً سعيداً.»
«لن أحظى بها بعد أبداً! لقد ماتت! ماتت! أنتِ لا تدرين معنى فقدان ابنة! أمّا أنا فقد ذقت طعم هذا الألم مرّتين. لقد كنتُ قد بكيتُها ميتة حينما شفاها ابنكِ. أمّا الآن... الآن... هو لم يَعُد! لم يُشفِق... لقد فقدتُها! فقدتُها! هي في القبر الآن، طفلتي! أتدرين ماذا تعني رؤية نِزاع وَلَد؟ والعِلم أنّه يجب أن يموت؟ رؤيته ميتاً في حين كان الاعتقاد أنّه قد شفي وهو قويّ؟ أنتِ لا تدرين. ولا يمكنكِ الحديث عنه... كانت جميلة مثل وردة تتفتّح عند شروق الشمس بينما كانت تتزيّن هذا الصباح. أرادت أن ترتدي الثوب الّذي كنتُ قد عملتُه لها ليوم عرسها. وكانت تريد أن تتكلّل مثل العروس. ثمّ فَضَّلَت أن تحلّ طوق الزهور وانتزاع أوراقها لتلقيها على ابنكِ، وكانت تغنّي! تغنّي! وقد ملأ صوتها البيت. كانت بهيّةً مثل الربيع. كان الفرح يجعل عينيها تلمعان مثل النجوم، وشفتيها المفتوحتين على بياض أسنانها كانتا بلون أرجواني مثل حَبّ الرمان، وكانت وجنتاها ورديّتين ونضرتين مثل وردتين جديدتين قد جَمَّلهما الندى. ثمّ صارت بيضاء مثل زنبقة على وشك التفتّح. ووهنت على صدري كساق مكسور... لا كلام! لا أنفاس! لا لون! لا نظرة! ساكنة، جميلة كملاك الله، ولكن بلا حياة. أنتِ تجهلين حزني، يا مَن تتمتّعين بانتصار ابنكِ وترينه سليماً وقويّاً! لماذا لم يرجع؟ بماذا كَدَّرَته هي، وأنا معها، حتّى لا يرحم توسّلي؟»
«إليز! إليز! لا تتكلّمي... فالألم يجعلكِ عمياء وصمّاء... إليز، أنتِ لا تعرفين معاناتي. ولا البحر العميق الّذي سيستحيله ألمي. لقد رأيتِها ساكنة جميلة متصلّبة في السلام. بين ذراعيكِ. أنا... أنا منذ أكثر مِن ثلاثين عاماً أتأمّل ابني، وما وراء جلده الناعم النقيّ الّذي أتأمّله وألاطفه، أرى جراح رجل الآلام الّذي سيصبحه ابني. أتعلمين، أنتِ يا مَن تقولين إنّني أجهل معنى رؤية ابن يذهب مرّتين إلى الموت، ويَلِجه مرّة ويسكن في سلام، أتعلمين معنى رؤية أُمّ، طوال سنوات عديدة، لهذه الرؤيا؟ رؤية ابني! ها هو. يلبس الأحمر وكأنّه خارج مِن حمّام دم. وقريباً، خلال وقت قليل، قبل أن يكلح وجه ابنتكِ في القبر، سأراه يلبس قرمز دمه البريء، الدم الّذي منحتُه له. وإذا أنتِ تلقّيتِ ابنتكِ على صدركِ، فهل تعلمين مدى شدّة ألمي وأنا أرى ابني يموت كمجرم على خشبة؟ انظري إليه، مخلّص الكلّ! بالروح والجسد، إذ إنّ جسد الـمُخَلَّصين مِن قِبَله لن يفسد وسيُطوَّب في ملكوته. وانظري إليّ! انظري إلى هذه الأُمّ الّتي ساعة بعد ساعة تصاحب وتقود ابنها إلى التضحية! -آه! لن أعيقه خطوة واحدة!- أنا يمكنني أن أفهمكِ، أيّتها الأُمّ المسكينة. ولكن افهمي أنتِ قلبي! لا تكرهي ابني. أناليا لم تكن لتتحمّل نزاع ربّها. وربّها جعلها مغبوطة في ساعة ابتهاج.»
إليز أمام هذا البوح كفّت عن البكاء. تحدّق بمريم، بوجه شهيد شاحب مبلّل بدموع صامتة، تنظر إلى يسوع الّذي ينظر إليها بإشفاق... وتنـزلق عند قدميّ المسيح وهي تئنّ: «ولكنّها ماتت! ماتت، يا ربّ! كزنبقة، كزنبقة مكسورة. الشعراء يقولون عنكَ إنّكَ تسعد بين الزنابق! آه! حقّاً، أنتَ يا مَن وُلِدت مِن الزنبقة-مريم، وتنـزل كثيراً إلى الرياض الـمُزهِرة، ومِن الورود القرمزيّة تصنع زنابق بيضاء، وتجمعها وترفعها مِن العالم. لماذا؟ لماذا يا ربّ؟ أليس مِن العدل أن تتمتّع أُمّ بالوردة الّتي وُلِدَت منها؟ لماذا إطفاء القرمز في برودة بياض موت الزنبق؟»
«الزنابق! سوف تكون رمزاً للواتي سوف يحببنني كما أحبّت أُمّي الله. روضة الـمَلِك الإلهي البيضاء.»
«ولكن نحن الأُمّهات سنبكي. نحن الأُمّهات لنا الحقّ بأولادنا. لماذا انتزاعهم مِن الحياة؟»
«ليس هذا ما أريد قوله يا امرأة. البنات سيبقين، إنّما مكرّسات للمَلِك مثل العذارى في قصور سليمان. تذكّري النشيد... وسيصرن عرائس محبوبات، على الأرض وفي السماء.»
«ولكنّ ابنتي ماتت! ماتت!» ويُستأنَف البكاء المفجع.
«أنا هو القيامة والحياة. مَن يؤمن بي، ولو مات، فسيحيا، والحقّ أقول لكِ إنّه لن يموت إلى الأبد. ابنتكِ حيّة. هي تحيا للأبد لأنّها آمنت بالحياة. موتي سيكون لها حياة كاملة. لقد عرفت فرح الحياة فيَّ قبل أن تعرف ألم رؤيتي مُنتزعاً مِن الحياة. إنّ ألمكِ يجعلكِ عمياء وصمّاء. لقد أصابت أُمّي في قولها ذلك. ولكن قريباً ستقولين ما أَرسَلتُ أقوله لكِ هذا الصباح: "في الحقيقة كان موتها نعمة مِن الله". ثقي بذلك يا امرأة. الهول ينتظر هذا المكان. وسيأتي يوم تقول فيه الأُمّهات المصابات مثلكِ: "المجد لله الّذي جنّب أولادنا هذه الأيّام". والأُمّهات غير المصابات سيصرخن للسماء: "لماذا يا الله، لم تُـمِت أولادنا قبل هذه الساعة؟" ثقي بذلك يا امرأة. صدّقي كلامي. لا ترفعي بينكِ وبين أناليا سور الفصل الحقيقيّ: ذاك الّذي هو اختلاف الإيمان. أترين؟ كان بإمكاني ألاّ آتي. أنتِ تعرفين كم يكرهونني. لا يخدعنّكِ انتصار ساعة!... كلّ ركن منعزل يمكن أن يُخفي لي فخّاً. وقد أتيتِ وحيداً، ليلاً، كي أعزّيكِ وأقول لكِ هذا الكلام. إنّني أشفق على ألم أُمّ. ولكن مِن أجل سلام نفسكِ آتي كي أقول لكِ هذا الكلام. كوني في سلام! في سلام!»
«امنحنيه أنتَ يا ربّ! أنا لا أستطيع! لا أستطيع في ألمي أن أمنح نفسي السلام. أمّا أنتَ، يا مَن تهب الحياة للأموات والصحّة للمحتضرين، هب السلام لقلب أُمّ ممزّق.»
«فليكن لكِ ذلك يا امرأة. لكِ السلام.» يضع يديه مباركاً إيّاها ومصلّياً عليها في صمت. ومريم قد ركعت بدورها بجوار إليز وهي تحيطها بذراعها.
«الوداع يا إليز. إنّني أمضي...»
«ألن نرى بعضنا ثانية يا ربّ؟ أنا لن أخرج مِن البيت لأيّام عديدة وأنتَ ستذهب بعد الاحتفالات الفصحيّة. أنتَ... ما يزال فيكَ شيء ما مِن ابنتي... لأنّ أناليا... لأنّ أناليا كانت تعيش فيكَ ولكَ.» وتبكي، بهدوء أكثر، ولكن كم هي تبكي!
ينظر إليها يسوع... يمسح شعر رأسها الشائب. يقول لها: «سترينني ثانية.»
«متى؟»
«بعد ثماني ليال.»
«وهل ستعزيني بعد؟ تباركني لتمنحني القوّة؟»
«قلبي يبارككِ بكلّ ملء محبّتي للّذين يحبّونني. تعالي يا أُمّي.»
«بنيّ، لو تسمح لي فإنّني أودّ البقاء بعد مع هذه الأُمّ. فالألم موج يرتدّ بعد ابتعاد مُعطي السلام... سأعود في الساعة الأولى. لستُ أخشى الذهاب بمفردي، أنتَ تعرف ذلك. وتعرف أنّني أمرّ وسط جيش مِن الأعداء مِن أجل تعزية أخ لي في الربّ.»
«فليكن كما تريدين. سأمضي. فليكن الله معكما.»
يَخرج بلا ضجّة، مُغلِقاً خلفه باب الغرفة وباب المنـزل. يعود صوب الأسوار، إلى باب أفرايم أو باب الفضلات أو الزبل، لأنّني مرّات كثيرة سمعتُهم يشيرون إلى هذين البابين بهذه الأسماء الثلاثة، ربّما لأنّ أحدهما ينفتح على طريق أريحا، الّتي هي بالتالي طريق تقود إلى أفرايم، والآخر لأنّه قريب مِن وادي هنّوم حيث يحرقون قمامة المدينة، وهما متشابهان كثيراً حتّى إنّني لا أميّز بينهما.
لقد شرعت السماء بالابيضاض مِن جهة الشرق، رغم أنّها مازالت مرصّعة بالنجوم. تلفّ الطرقات شبه عتمة أكثر إعياءً مِن ظُلمة الليل الّتي كان القمر يلطّفها بنوره الأبيض.
لكنّ الجنديّ الرومانيّ له عينان حادّتان، وما أن يرى يسوع يتقدّم نحو الباب، حتّى يذهب للقائه.
«تحيّة. لقد انتظرتُكَ...» يتوقّف متردّداً.
«تكلّم دونما خوف. ماذا تريد منّي؟»
«أن أعرف. لقد قلتَ: "السلام الّذي أعطيه يبقى حتّى أثناء الحرب، لأنّه سلام النَّفْس". أودّ معرفة ماهيّة هذا السلام، وما تكون النَّفْس. كيف يمكن للإنسان الّذي في حرب أن يكون في سلام؟ عندما يُفتَح معبد جانوس، يُغلَق الّذي للسلام. لا يمكن أن يكون الأمران معاً في العالم.» يتكلّم وهو يستند إلى سور مخضرّ لحديقة صغيرة، في شارع صغير ضيّق مثل درب وسط الحقول، رطب، كئيب، مظلم، وسط منازل متواضعة. وفيما عدا لمعان خفيف يُظهِر الخوذة المصقولة، فلا شيء آخر يُرى مِن المتكلّمَين. إنّ الظل يغلّف الوجهين والجسدين في ظُلمة واحدة.
صوت يسوع يرنّ عذباً ومشرقاً بفرحه لإلقاء بِذرة نور في الوثنيّ: «في العالم، حقّاً، إنّ الحرب والسلام لا يمكن أن يجتمعا معاً. فالواحد يقصي الآخر. إنّما في رجل الحرب يمكن أن يوجد السلام حتّى ولو كان يخوض حرباً مأموراً بها. يمكن أن يوجد سلامي. لأنّ سلامي يأتي مِن السماء ولا تجرحه قرقعة الحرب ووحشيّة المذابح. فهو، كأمر إلهيّ، يجتاح الأمر الإلهيّ الّذي في داخل الإنسان، والّذي يُدعى نَفْس."
«إلهيّ؟ في داخلي؟ القيصر إلهيّ. أنا ابن فلاّح. والآن أنا جنديّ بلا رتبة. إن أصبحتُ شجاعاً، قد أصبح قائد مائة. ولكن أن أصبح إلهيّاً، لا.»
«فيكَ يكمن جزء إلهيّ: النَّفْس. وهي تأتي مِن الله، مِن الله الحقيقيّ. فهي أيضاً إلهيّة، لؤلؤة حيّة في الإنسان، وتتغذّى مِن الأشياء الإلهيّة والحيّة: الإيمان، السلام، الحقّ. لا تقلقها الحرب. الاضطهاد لا يجرحها. الموت لا يقتلها. فقط الشرّ، فِعل السيّئات، يجرحها أو يقتلها، ويحرمها أيضاً مِن السلام الّذي أعطيه أنا. ذلك أنّ الشرّ يفصل الإنسان عن الله.»
«وما هو الشرّ؟»
«البقاء في الوثنيّة وعبادة الأصنام بعدما يُعلمنا صلاح الله الحقيقيّ وجود الله الحقّ. عدم محبّة الأب، الأُمّ، الإخوة والقريب. السرقة، القتل، العصيان، الفسق، الكذب. هذا هو الشرّ.»
«آه! إذاً أنا لا يمكنني أن أحظى بسلامكَ! فأنا جنديّ ومأمور بأن أقتل، إذاً ليس لنا خلاص؟!»
«كن عادلاً في الحرب كما في السلم. أكمل واجبكَ بلا وحشيّة ولا نهم. وفي أثناء الحرب والغزو فكّر أنّ عدوّكَ شبيه لكَ، وأنّ لكل مدينة أُمّهاتها وصباياها مثل أُمّكَ وأخواتكَ، وكن شجاعاً دون أن تكون شرساً. وبذلك لن تفارق العدالة والسلام، وسلامي يبقى فيكَ.»
«وبعد ذلك؟»
«وبعد ذلك؟ ماذا تقصد؟»
«بعد الموت؟ ماذا يحصل للخير الّذي صنعتُه، وللنَّفْس الّتي تقول عنها إنّها لا تموت إن لم تفعل شرّاً؟»
«تحيا، تحيا مزيّنة بالخير الّذي صنعتَه، في سلام بهيج، أعظم مِن ذاك الّذي يتمتّع به المرء على الأرض.»
«إذاً، واحد فقط كان قد صنع الخير في فلسطين! فهمتُ.»
«مَن؟»
«لعازر بيت عنيا. نَفْسه لم تمت!»
«في الحقيقة هو بارّ. ومع ذلك كثيرون يشبهونه ويموتون دون أن يقوموا، ولكنّ نفسهم تحيا في الله الحقّ. ذلك أنّ النَّفْس لها مقام آخر، في ملكوت الله. ومن يؤمن بي سيلج هذا الملكوت.»
«حتّى أنا، الرومانيّ؟»
«حتّى أنتَ، إن آمنتَ بالحقّ.»
«وما هو الحقّ؟»
«أنا هو الحقّ، والطريق المؤدّي إلى الحقّ، وأنا الحياة وأهب الحياة، لأنّ مَن يتقبّل الحقّ يتقبّل الحياة.»
يفكّر الجنديّ الشاب... يصمت... ثمّ يرفع وجهه. وجه شاب ما يزال نقيّاً، وله ابتسامة صافية، مشرقة. يقول: «سأحاول تذكّر هذا ومعرفة المزيد أيضاً. فذلك يسعدني...»
«ما اسمكَ؟»
«فيتال مِن بينيفنت. مِن أرياف المدينة.»
«سأتذكر اسمكَ. اجعل روحكَ حيويّاً بحقّ مغذّياً إيّاه بالحقّ. وداعاً. الباب يُفتَح. سأخرج مِن المدينة.»
«تحيّة!»
يمضي يسوع بسرعة صوب الباب ويسلك بسرعة الطريق المؤدّية إلى القدرون وجَثْسَيْماني ومِن هناك إلى مخيّم الجليليّين.
وسط زيتون الجبل، يلاقي يهوذا الاسخريوطيّ، الّذي يصعد هو أيضاً بسرعة إلى المخيّم الّذي يستيقظ.
يقوم يهوذا بحركة تكاد تكون حركة ذُعر وقد وجد نفسه في مواجهة يسوع. يسوع يحدّق فيه، دون أن يتكلّم.
«ذهبتُ أحمل الطعام إلى البرص. ولكنّي... وجدتُ اثنين في هنّوم، وخمسة في سلوام. الآخرون، برئوا. إنّهم ما يزالون هناك، ولكنّهم برئوا، لدرجة أنّهم طلبوا منّي إعلام الكاهن. كنتُ قد نـزلتُ في الصباح الباكر لأكون حرّاً بعدها. فالأمر سيسبّب جلبة. لأنّ عدداً كبيراً جدّاً مِن البرص قد برئوا معاً بعد أن باركتهم بحضور أناس كثيرين!»
يسوع لا يتكلّم. يدعه يتكلّم... لم يقل له لا: "أحسنت صنعاً"، ولا أيّ شيء آخر يشير إلى عمل يهوذا أو المعجزة، ولكنّه إذ يتوقّف فجأة ويحدّق بالرسول، يَسأَله: «وإذاً؟ ما الّذي تبدّل بعدما تركتُ لكَ الحرّية والمال؟»
«ماذا تقصد؟»
«هذا ما أقصده: أسألكَ إذا ما كنتَ قد تقدّستَ منذ أن أعدتُ لكَ الحرّية والمال. وأنتَ تفهمني... آه! يهوذا! تذكّر! تذكّر هذا دائماً: كنتَ أنتَ مَن أحببتُ أكثر مِن كلّ الآخرين، وبالمقابل كان لي منكَ محبّة أقلّ ممّا أعطاه لي الآخرون. بل كانت كراهية أكبر، لأنّها كراهية مِن شخص عاملتُه كصديق، كراهية أكثر شراسة مِن أشرس فريسيّ. وتذكّر أيضاً هذا: أنّني ولا حتّى الآن أكرهكَ، بل وفيما يتعلّق بابن الإنسان، فأنا أسامحكَ. اذهب الآن. لم يعد هناك ما يُقال بيننا. كلّ شيء قد عُمِل...»
يودّ يهوذا أن يقول شيئاً ما، ولكنّ يسوع بإشارة آمرة يشير إليه بالتقدّم... ويهوذا، محنيّ الرأس كالمهزوم يتقدّم…
عند حدود معسكر الجليليّين كان الرُّسُل الأحد عشر وخادما لعازر قد أصبحوا متأهّبين.
«أين كنتَ يا معلم؟ وأنتَ يا يهوذا؟ هل كنتما معاً؟»
يسبق يسوع يهوذا بالإجابة: «كان لديّ ما أقوله لبعض القلوب. يهوذا ذهب إلى البرص.. ولكنّهم برئوا جميعاً إلاّ سبعة.»
«آه! لماذا ذهبتَ؟ كنتُ أريد المجيء أنا أيضاً!» يقول الزيلوتي.
«كي يكون حرّاً الآن في المجيء معنا. هيّا بنا. سندخل المدينة مِن باب القطيع. فلنسرع.» يقول أيضاً يسوع.
ينطلق في المقدّمة، مارّاً ببستان الزيتون الّذي يقود مِن المعسكر، الواقع في منتصف الطريق تقريباً بين بيت عنيا وأورشليم، إلى الجسر الصغير الآخر الّذي يعبر القدرون بالقرب مِن باب القطيع.
منازل لفلاحين متناثرة على المنحدرات، وفي الأسفل، بالقرب مِن ماء السيل، تينة مشعّثة تتدلّى فوق النهر. يتّجه يسوع إليها ويبحث بين أوراقها الكثيفة النضرة لعلّه يجد بعض ثمار الّتين الناضجة. ولكنّ الّتينة ذات الأوراق الكثيرة، عديمة النفع هي، فلا ثمرة واحدة على أغصانها. «إنّكِ مثل قلوب كثيرة في إسرائيل. لا تحملين اللطف ولا الشفقة لابن الإنسان. لا يكن لكِ ولا ثمرة واحدة مِن بعد، ولا يشبع منكِ أحد فيما بعد.» يقول يسوع.
يتبادل الرُّسُل النظرات. غضب يسوع على النبتة العقيمة، الّتي هي ربّما برّية، يذهلهم. ولكنّهم لا ينبسون ببنت شفة. وفقط بعد حين، بعد أن عبروا القدرون، يَسـأَله بطرس: «أين أكلتَ؟»
«ولا في أيّ مكان.»
«آه! إذاً أنتَ جائع! ها هو هناك راعٍ يرعى بعض الماعز. سوف أطلب منه حليباً لأجلكَ. سأسرع.» ويمضي بخطى واسعةً ويعود بهدوء مع إناء قديم مليء بالحليب.
يشرب يسوع ويعيد الوعاء للراعي الصغير الّذي رافق بطرس، وهو يلاطفه…
يدخلون المدينة ويصعدون إلى الهيكل، وبعد تقديم واجب العبادة للربّ، يرجع يسوع إلى الباحة حيث يعطي الرابّيون دروسهم.
يحيط به الناس، وتُقدّم له أُمّ أتت مِن سنتيوم ابنها المصاب بالعمى بسبب مرض ما، على ما أظنّ. عيناه بيضاوان كما لو أنّه مصاب بساد واسع على الحدقة أو غشاوة.
يشفيه يسوع بلمس محجري العينين بأصابعه. ثمّ يبدأ الكلام مباشرة.
«رجل اشترى أرضاً وغرس كرماً، بنى بيتاً للكرّامين، برجاً للمراقبة، أقبيةً للمؤن ومعاصر عنب، وأوكل حفظه لكرّامين كان يثق بهم. ثمّ مضى بعيداً.
ولماّ حان الوقت الّذي يمكن للكروم أن تعطي فيه ثمارها، وأثمرت الكروم، أرسل سيّد الكرم خدّامه إلى الكرّامين ليأخذ عائدات الجني الحاصل. إلاّ أنّ الكرّامين أحاطوا بهؤلاء الخدّام، فضربوا بعضهم بالعصيّ، ورجموا بعضاً بحجارة ثقيلة أصابتهم بجروح جسيمة، وقتلوا بعضاً منهم. والّذين أمكنهم الرجوع أحياء إلى السيّد، قصّوا عليه ما حدث لهم. فعالجهم السيّد وعزّاهم، وأرسل خدّاماً آخرين أكثر عدداً. ففعل الكرّامون بهم كما فعلوا بالأوّلين.
حينئذ قال سيّد الكرم: "سأرسل لهم ابني الحبيب، بالتأكيد سيهابون وريثي".
أمّا الكرّامون، فلمّا رأوه آتياً وعلموا أنّه الوارث، فقد نادى بعضهم بعضاً قائلين: "تعالوا، لنجتمع كي نكون كثرة. ولنَقُده خارجاً، إلى مكان منعزل، ونقتله. فيبقي ميراثه لنا". فاستقبلوه بترحيب زائف، وأحاطوه كما لو للاحتفال به، ثم قيّدوه بعد أن عانقوه، وضربوه بشدّة وبألف سخرية قادوه إلى مكان العذاب وقتلوه.
الآن قولوا لي أنتم. ذاك الأب والسيّد الّذي سيدرك يوماً أنّ ابنه ووريثه لم يرجع، ويكتشف أنّ خدّامه الكرّامين، أولئك الّذين كان قد أعطاهم الأرض الخصبة لكي يزرعوها باسمه، متمتّعين بما هو يحقّ لهم ومعطين لسيّدهم ما هو حقّه، قد قتلوا ابنه، ماذا سيفعل؟» ويحدج يسوع بحدقتيه السفيريتين، كما لو كانت الشمس قد اشعلتهما، أولئك الّذين أتوا، وخاصّة بمجموعات مِن اليهود النافذين، الفرّيسيّين والكَتَبَة المنتشرين وسط الجمع. لا أحد يتكلّم.
«قولوا إذاً! أقلّه أنتم يا رابّيو إسرائيل. قولوا كلمة حقّ تقنع الشعب بالعدالة. أنا قد أقول كلمة لا تكون طيّبة، بحسب تفكيركم. تكلّموا أنتم إذاً، حتّى لا يضلّ الشعب.»
الكَتَبَة يجيبون، مرغمين، هكذا: «سيُعاقِب الأشرار، ويميتهم شرّ ميتة، ويسلّم الكرم إلى كرّامين آخرين يزرعونه له بأمانة، ويعطونه عائد الأرض الّتي أوكلها إليهم.»
«لقد أحستنم القول. جاء في الكتاب: "الحجر الّذي رذله البنّاؤون قد صار رأس الزاوية. مِن قِبَل الربّ كان هذا، وهو عجيب في أعيننا". وحيث أنّ هذا مكتوب وأنتم تعرفونه، وتحكمون بالصواب أن أولئك الكرّامين، قتلة ابن سيّد الكرم الوارث، سيُعاقَبون عقاباً شديداً، وأنّه سيسلم الكرم لآخرين يزرعونه بأمانه، ولذلك أقول لكم: "إنّ ملكوت الله سيُنـزَع منكم ويعطى لأناس يجنون منه الثمار. ومَن سيسقط ’ضدّ‘ (يصطدم بـ) هذا الحجر سيتهشّم، ومَن سيسقط عليه هذا الحجر سيُسحق".»
رؤساء الكَهَنَة، الفرّيسيّون والكَتَبَة، بفعل بطوليّ... بحقّ، لا يُبدون أيّة ردّة فِعل. قويّة هي إرادة الوصول إلى هدف! في أحيان أخرى كثيرة، لأمور أقلّ مِن هذه، قد عارضوه، واليوم حيث يقول لهم الربّ يسوع بصراحة إنّ السُّلطة ستُنـزع منهم، لا ينفجرون بالاتّهامات، ولا يتصرّفون بعنف، ولا يُهدّدون، حملان زائفة صابرة تخفي قلب الذئب غير المتبدّل تحت مظهر وداعة نفاقيّة.
يَكتفون بالاقتراب منه وقد عاود المسير جيئةً وذهاباً وهو يستمع لهذا وذاك مِن الأعداد الغفيرة مِن الحجاج، الّذين تجمّعوا في الباحة الواسعة، حيث كُثُر مِن بينهم يَسأَلونه مشورة بمسائل تخصّ النَّفْس أو أوضاع عائليّة واجتماعيّة، منتظرين أن يتمكّنوا مِن أن يقولوا له شيئاً بعدما سمعوه يعطي رأيه لرجل فيما يخصّ مسألة شائكة تتعلّق بميراث، والّتي قد سبّبت انقساماً وحقداً بين الورثة المختلفين بسبب ابن للأب كان له مِن خادمة في المنـزل وتبنّاه، والأبناء الشرعيّون لا يريدونه بينهم، ولا بمثابة وارث في تقسيم المنازل والأراضي. هم لا يريدون أيّ شيء مشترك مع ابن الزنا، ولا يعرفون حلاًّ للمسألة، لأنّ الأب عند موته قد جعلهم يُقسِمون على أنّ كما قَسَم الخبز دائماً بين الأبناء الشرعيّين وغير الشرعيّ بنفس المقدار، فعليهم أيضاً تقاسم الإرث معه بنفس المقدار.
يقول يسوع لِمَن يَسأَله باسم الإخوة الثلاثة الآخرين: «ضَحّوا جميعكم بقطعة مِن الأرض، تبيعونها بحيث تجمعون قدراً مِن المال يساوي خُمس الثروة الكاملة، وأعطوه للابن غير الشرعيّ قائلين له: "هذا هو نصيبكَ. لم تُحرَم مما يخصّكَ، ولم نُسئ إلى إرادة والدنا. اذهب وليكن الله معكَ". وكونوا كرماء معطين له زيادة على القيمة المقدّرة لنصيبه. افعلوا ذلك أمام شهود مستقيمين، وبذلك لن يستطيع أيّ كان على الأرض، ولا فيما وراء الأرض، أن يلومكم أو يشكّك فيكم. وستحظون بالسلام بينكم وفي داخلكم، فلا تندمون على عدم طاعتكم لوالدكم، ولا يكون بينكم هذا، البريء بحقّ، الّذي سبّب لكم اضطراباً أكثر مما لو كان قد وُضِع لصّ بينكم.»
يقول الرجل: «إنّ ابن الزنا هذا قد انتزع حقّاً السلام مِن العائلة، الصحّة مِن أُمّنا الّتي ماتت حزناً، ومكانة لا تخصّه.»
«ليس هو المذنب يا رجل. بل الّذي أنجبه. فهو لم يطلب أن يُولَد ليحمل سمة ابن الزنا. قد كانت شهوة أبيكم هي الّتي أنجبته كي يُسبّب له ولكم الألم. كونوا إذاً عادلين تجاه البريء الّذي يدفع بقسوة ثمن خطأ لم يرتكبه. ولا تلعنوا روح أبيكم. إنّ الله قد دانه. وهو لا يحتاج إلى صواعق لعناتكم. كَرّموا والدكم، دائماً، حتّى وإن كان مذنباً، ليس مِن أجل نفسه، ولكن لأنّه مَثّل إلهكم على الارض، وقد أنجبكم بأمر مِن الله وكونه ربّ منـزلكم. الأبوان يأتيان مباشرة بعد الله. تذكّر الوصايا العشر، ولا تخطئ. امض في سلام.»
يقترب منه الكَهَنَة والكَتَبَة ليسألوه: «لقد سمعناكَ. لقد قلتَ الصواب. لم يكن لسليمان أن يقدّم نصيحة أكثر حكمة منها. إنّما الآن قل لنا، أنتَ يا مَن تجترح المعجزات وتعطي أحكاماً لا يمكن سوى لـمَلِك حكيم أن يعطيها، بأيّ سلطان تفعل هذه الأمور؟ مِن أين تأتيكَ هذه القُدرة؟»
يحدّق فيهم يسوع. لم يكن عدوانيّاً أو مُـحتَقِراً، بل كثير المهابة، يقول: «وأنا أيضاً لديّ سؤال أطرحه عليكم، وإذا ما أجبتموني أقول لكم بأيّ سلطان، أنا الإنسان غير المكلّف بسلطان والفقير -لأنّ هذا ما تقصدون- أفعل هذه الأمور. قولوا: معموديّة يوحنّا مِن أين كانت آتية؟ أَمِن السماء أم مِن الإنسان الّذي كان يعطيها؟ أجيبوني. بأيّ سلطان كان يوحنّا يعطيها كطقس تطهير كي يعدّكم لمجيء مَسيّا، لأنّ يوحنّا كان أكثر فقراً، وأكثر جهلاً منّي، وبلا تكليف مِن أيّ نوع، إذ قد أمضى حياته في الصحراء منذ طفولته؟»
يتشاور الكَتَبَة والكَهَنَة فيما بينهم. والناس، بعيون مفتوحة وآذان متنبّهة، على أهبة الاستعداد للاحتجاج والصراخ إذا ما الكَتَبَة حكموا بعدم أهليّة يوحنّا أو إهانة المعلّم، وإذا ما أظهروا عجزهم أمام سؤال رابّي الناصرة، الإلهيّ الحكمة، يكتظّون حولهم. مؤثّر هو الصمت المطبق للجمع الّذي ينتظر الإجابة. إنّه صمت عميق بحيث يمكن سماع الأنفاس وهمسات الكَهَنَة أو الكَتَبَة، الّذين يتواصلون فيما بينهم تقريباً دون كلام، ويراقبون في نفس الوقت الناس، ويتكهّنون مشاعرهم الأقرب إلى الانفجار. وأخيراً، يقرّرون الإجابة. يلتفتون إلى المسيح الذي، إذ يستند إلى أحد الأعمدة، ذراعاه متصالبتان، يتفحّصهم دون أن يغيبوا عن نظره، ويقولون: «يا معلّم، نحن لا نعلم بأيّ سلطان كان يوحنّا يفعل هذا ولا مِن أين كانت معموديّته آتية. لم يكن أحد ليفكّر بسؤال المعمدان عن هذا أثناء حياته، وهو لم يقل ذلك أبداً بشكل عفويّ.»
«ولا أنا سأقول لكم بأيّ سلطان أفعل هذه الأمور.» ويدير لهم ظهره منادياً الاثني عشر، ويشقّ له طريقاً بين الجمع الّذي يهتف له، ويخرج مِن الهيكل.
عندما يصبحون خارجاً، خلف بِركة الغنم، يقول له برتلماوس: «لقد أصبح خصومكَ كثيري الفِطنة. لعلّهم يهتدون إلى الربّ الّذي أرسلكَ ويعترفون بكَ كمَسيّا القدّوس.»
«هذا صحيح. إنّهم لم يناقشوا سؤالكَ ولا إجابتكَ…» يقول متّى.
«ليكن هكذا. فمن الحسن أن تهتدي أورشليم إلى الربّ إلهها.» يقول أيضاً برتلماوس.
«لا توهموا أنفسكم! هذا الجزء مِن أورشليم لن يهتدي أبداً. فهم لم يجيبوا بغير ذلك لأنّهم خافوا مِن الجمع. أنا كنتُ أقرأ أفكارهم رغم عدم سماع أقوالهم الّتي قيلت همساً.»
«ماذا كانوا يقولون؟» يَسأَل بطرس.
«كانوا يقولون التالي. وأرغب أن تعلموا ذلك لكي تعرفوهم بعمق وتتمكّنوا مِن إعطاء مَن سيأتون في المستقبل وصفاً دقيقاً لقلوب الناس في زمني. إن لم يجيبوني فليس لأنّهم اهتدوا إلى الربّ، بل لأنّهم كانوا يقولون فيما بينهم: "إن أجبنا: ’معموديّة يوحنّا تأتي مِن السماء‘، سيجيب الرابّي: ‘إذن فلماذا لم تؤمنوا بما جاء مِن السماء وعَلَّم الاستعداد للزمن المَسيّانيّ؟’، وإن قلنا: ’مِن الناس‘، فسيتمرّد الجمع قائلين: ’فلماذا إذن لا تؤمنون بما قاله يوحنّا، نبيّنا، عن يسوع الناصريّ؟‘ إذاً فمن الأفضل القول: ’لا نعلم‘". هذا ما كانوا يقولونه. ليس لأنّهم كانوا قد رجعوا إلى الله، ولكن بسبب حساب جبان، وكي لا يتوجّب عليهم أن يعترفوا بأفواههم أنّني المسيح، وأنّني أفعل هذه الأمور لأنّني حَمَل الله الّذي تكلّم عنه السابق. ولا أنا قد شئتُ أن أقول لهم بأيّ سلطان أنجز هذه الأمور الّتي أفعلها. فقد سبق أن قلتُ ذلك مراراً كثيرة ضمن هذه الأسوار وفي كلّ فلسطين، ومعجزاتي تشهد أكثر مِن كلامي. الآن لن أقولها بعد بكلامي. سأدع الكلام للأنبياء وأبي، وعلامات السماء. لأنّ الزمن الّتي تُعطى فيها كلّ هذه العلامات قد أتى. تلك الّتي قالها الأنبياء، وحُدّدت برموز في تاريخنا، والّتي قلتُها: علامة يونان؛ هل تذكرون ذلك اليوم في قادش؟ هي العلامة الّتي ينتظرها غَمَالائيل. وأنتَ يا استفانوس، وأنتَ يا هَرْماس وأنتَ يا برنابا يا مَن تركتَ رفاقكَ، اليوم، كي تتبعني، بالتأكيد قد سمعتم الرابّي يتكلم مراراً عن تلك العلامة. حسناً، قريباً تُعطى العلامة.»
يبتعد صاعداً عبر زيتون الجبل، يتبعه أتباعه وكثير مِن التلاميذ (من الاثنين والسبعين) بالإضافة إلى آخرين، مثل يوسف برنابا الّذي يتبعه لكي يسمعه ثانية.