ج5 - ف50

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الخامس/ القسم الثاني

 

50- (البرصاء التي شُفِيَت)

 

14 / 12 / 1945

 

السهل في الضفة الشرقيّة مِن الأردن، بسبب الأمطار المتواصلة، يبدو وكأنّه قد أَصبَحَ بحيرة، خاصّة في المنطقة التي يتواجد فيها يسوع مع الرُّسُل. منذ قليل عَبَروا سيلاً نازلاً مِن الروابي المجاورة في مجرى ضيّق، وهو يبدو كعَرَمة عملاقة (العرمة سدّ يبنى في وجه الموج) مِن الشمال إلى الجنوب على طول نهر الأردن، تقطعه هنا وهناك وديان ضيّقة لتصريف السيول الحتميّة. يبدو أنّ سلسلة طويلة مِن الروابي أَوجَدَها الله لتحيط بوادي الأردن الكبير مِن هذه الجهة. أقول إنّها سلسلة رتيبة طالما الانحناءات متساوية ويصل ارتفاعها إلى العلوّ ذاته. الجماعة الرَّسوليّة بين السيلين الأخيرين المتدفّقين قرب شواطئ النهر، وبالتالي فمجراهما أكبر، خاصّة مِن جهة الجنوب المهيب بسبب حجم المياه التي يجرفها مِن الجبال، وحيث المياه العَكِرة تتدافع بصخب صوب الأردن. والنهر، بدوره، يُصدِر صوتاً رائعاً حيث انحاءاته الطبيعيّة، يمكنني القول اختناقاته المتواصلة، أو وصول رافد، تُحدِث احتقان المياه. فيسوع في شِبه الـمُنحَرِف هذا الـمُتشكّل مِن المجاري المائيّة الثلاثة الـمُزبِدة، ومِن غير السهل انتزاع قدميه مِن ذلك الوحل.

 

مزاج الرُّسُل أكثر اضطراباً مِن النهار. فكلّ منهم يريد الإدلاء برأيه. وكلّ كلمة تُخفي لوماً تحت عَرَض النصيحة. إنّها ساعة الـ: «كنتُ قد قُلتُها.» «لو تمّ اتّباع نصيحتي.» الخ، الخ. كلمات جارحة للغاية لِمَن اقتَرَفَ خطأ، وهو يُعاني الآن مِن جرّاء فعلته.

 

هناك مَن يقول: «كان الأجدر لو تمّ اجتياز النهر مِن على ارتفاع يوازي بيللا، والمضيّ مِن الجهة الأخرى الأقلّ صعوبة»، أو «كان مِن المستحسن أخذ العربة تلك! لقد تظاهَرنا بالشجاعة، إنّما بعد ذلك...» وأيضاً: «لو كُنّا بقينا فوق الجبال، لما غرقنا في هذا الوحل!»

 

يقول يوحنّا: «أنتم أنبياء الماضي. مَن كان يستطيع توقُّع استمرار هطول المطر هذا؟»

 

«إنّه الفصل. يُمكن توقّع ذلك.» يقول برتلماوس بأسلوب الحِكَم.

 

«في السنوات السابقة، لم يكن الأمر هكذا قبل الفصح. لقد أتيتُ إليكم بينما لم يكن قدرون ممتلئاً بالتأكيد، وفي العام الماضي كنا قد ابتُلينا بالجفاف حتّى. فأنتم يا مَن تتذمّرون، ألا تتذكّرون العطش الذي عانينا منه في سهل فلسطين؟» يقول الغيور.

 

«هه! هذا طبيعي! الحكيمان يقولان ذلك ويجعلانه على المسامع!» يقول يهوذا الاسخريوطيّ متهكّماً.

 

«اصمت، أرجوكَ. أنتَ لا تعرف سوى الانتقاد، ولكن متى حان الوقت للتحدّث إلى أحد الفرّيسيّين أو ما شابه، تَخرَس وكأنّ لسانكَ قد عُقِد.» يقول تدّاوس غاضباً.

 

«نعم، إنّه على حقّ. لماذا لم تردَّ بكلمة واحدة، في القرية الأخيرة، على الثعابين الثلاثة؟ ولقد كنتَ تَعلَم أنّنا كنّا كذلك في جيسكالا وفي ميرون، مُحتَرِمين ومطيعين، وأنّه إلى هناك كان هو، هو بالذات، مَن أراد الذهاب، ذلك أنّه يجلّ الرابّيين الكبار الراحلين. ولكنّكَ لم تتكلّم! وأنتَ تعرف كم يُطلَب منّا بإصرار احترام الشريعة والكَهَنَة. ولكنّكَ لم تتكلّم! والآن تتكلّم. الآن، لأنّ الأمر يتعلّق بالسخرية مِن الأفضل بيننا وانتقاد ما يَفعَل المعلّم.» يُتابع أندراوس الجَّلود (الحليم) في العادة، وهو اليوم عصبيّ المزاج بحقّ.

 

«صَهْ. فيهوذا على خطأ، وهو صديق الكثيرين، الكثيرين جدّاً مِن السامريين...»

 

«أنا؟ مَن هُم؟ اذكر أسماءهم إن استطعتَ.»

 

«نعم، يا صديقي. كلّ الفرّيسيّين، والصدّوقيّين، وذوي السلطان الذين تتباهى بصداقتهم والذين يعرفونكَ، وهذا واضح! أنا لا يُلقون عليَّ التحية مطلقاً. أمّا أنتَ فبلى.»

 

«أنتَ تغار مِن ذلك! ولكنّني واحد مِن الهيكل، أمّا أنتَ فلا.»

 

«الحمد لله، أنا صيّاد سمك. نعم. وأفتخر بذلك.»

 

«صيّاد سمك أحمق لدرجة أنّه لم يعرف أن يتوقّع طقساً كهذا.»

 

«لا! بل لقد قُلتُها: "قمر نيسان (أبريل)، مع هكذا رطوبة، لهو أمر يُنبِئ بأمطار غزيرة"» يقول بطرس بأسلوب الحِكَم.

 

«آه! على هذا كنتُ أنتظركَ! وأنتَ، يا يوضاس بن حلفى، ماذا تقول في ذلك؟ وأنتَ، يا أندراوس؟ حتّى بطرس، الرئيس، ينتقد المعلّم!»

 

«أنا، في الحقيقة، لا أنتقد أحداً، بل أروي مثلاً.»

 

«وهو، لِمَن يُجيد السَّمَع، انتقاد ولوم.»

 

«نعم... ولكن، يبدو لي أنّ ذلك كلّه لا يجدي نفعاً في تجفيف الأرض. الآن نحن فيها، وعلينا المكوث. فلنحافظ على نَفَسنا لإخراج أقدامنا مِن هذا المستنقع.» يقول توما.

 

ويسوع؟ يسوع يَصمت. يتقدّم قليلاً وهو يتخبّط في الوحل، أو وهو يبحث عن مَعابِر حيث يطفو العشب. ولكن حتّى هناك، يكفي السير فيها حتّى تَصِل المياه إلى منتصف الساق، كما لو أنّ القَدَم قد داست كيس هواء بدل حزمة العشب. يَصمت، يَدَعهم يتكلّمون، مُستائين، بشراً، ليس أكثر مِن بَشَر، أقلّ انزعاج يجعلهم سريعي الغضب وظالمين.

 

إنهم الآن قرب السيل في أقصى الجنوب. يسوع يَرَى رجلاً على طول الشاطئ الغارق يمتطي بغلاً. يَسأَل: «أين الجسر؟»

 

«في الأعلى. أَمُرُّ عليه أنا أيضاً. الآخر، في الأسفل، الجسر الروماني، تغمره المياه الآن.»

 

دَفق آخر مِن التذمّر... ولكنّهم يُسرِعون في اتّباع الرجل الذي يتحدّث إلى يسوع.

 

يقول: «مِن الأفضل لكَ، مع ذلك، المضيّ صوب الجبل.» ويضيف: «عُد إلى السهل عند مجرى الماء الثالث بعد يَبُّوق. حينذاك تكون عند المخاضة. إنّما أسرع، لا تتوقّف لأن النهر يرتفع مِن ساعة إلى أخرى. يا له مِن طقس سيّئ! الصقيع أوّلاً ثمّ الماء. وغزير بهذا الشكل. إنّه عقاب مِن الله. ولكنّه عدل! عندما لا يُرجَم الذين يطعنون في الشريعة، يُنـزِل الله عقابه. ولدينا مِن هؤلاء الناس! أنتَ جليليّ، أليس كذلك؟ إذن فأنتَ تعرف الناصريّ الذي يَهجره الصالحون لأنّه سبب كلّ شرّ. كلامه يَجلب الصاعقة! العقاب! يجب الاستماع إلى ما يرويه عنه أولئك الذين كانوا معه. الفرّيسيّون مُحِقّون في ملاحقته. مَن يدري أيّ لصّ هو! إنّه مخيف كبعلزبول. كنتُ راغباً في المضيّ للاستماع إليه، ذلك أنّه في البداية كان قد قيل لي عنه الكثير مِن الثناء. ولكنّها... كانت أحاديث مِن أفراد عصابته. وكلّهم أناس عديمو الذمّة مثله. الصالحون يهجرونه، وحسناً يفعلون. أنا، مِن جهتي، لن أذهب لأراه. وإذا ساقتني الصدفة إليه، فسأرميه بالحجارة كما يَفرض علينا الواجب تجاه المجدِّفين الكافِرين.»

 

«ارجمني إذن، فأنا يسوع الناصريّ. لن أفرّ ولن ألعنكَ. لقد أتيتُ لافتداء العالم بإراقة دمي. ها أنا ذا. قدّمني ضحيّة، إنما كن بارّاً.»

 

يقول يسوع ذلك فاتحاً قليلاً ذراعيه الممدودتين صوب الأرض. يقول ذلك على مهل، وبحزن. ولكنّه لو كان لَعَنَه، لما كان أثَّر في الرجل إلى هذه الدرجة التي جعلته يشدّ فجأة الأَعِنّة، ممّا جَعَل البغل ينحرف حتّى كاد أن يَسقُط مِن الضفّة في النهر الـمُزبِد. يُمسِك يسوع اللجام ويوقِف الدابّة في الوقت المناسب لِيُنقِذ الرجل والبغل معاً. لا يكفّ الرجل عن ترديد: «أنتَ! أنتَ!...» ولدى رؤيته الحركة التي أَنقَذَته يصيح: «ولكنّني قلتُ إنّني سأرجمكَ... ألا تفهم؟»

 

«وأنا قلتُ إنّني سأسامحكَ، وبأنّني حتّى سأتألّم مِن أجلكَ، لافتدائكَ. فهذا هو الـمُخلِّص.»

 

يَنظُر إليه الرجل مِن جديد، يَهمز البغل ويمضي مسرعاً. يفرّ... يَخفض يسوع رأسه…

 

ويَشعُر الرُّسُل بالحاجة إلى نسيان أمر الوحل والمطر وكلّ المآسي الأخرى لمواساته. يُحيطون به ويقولون له: «لا تحزن! فنحن لسنا في حاجة إلى رعاع، وهذا واحد منهم. فليس سوى سخيف تافه يمكنه أن يُصدِّق الوشايات التي تُطلَق ضدّكَ، ويخاف منكَ.»

 

ويقولون كذلك: «ومع ذلك، يا لهذا التهوّر، يا معلّم! ماذا لو تسبَّبَ لكَ بالأذى؟ لماذا القول إنّكَ يسوع الناصريّ؟»

 

«لأنّها الحقيقة... هيّا بنا إلى الجبال كما نَصَحَنا. سَنُضيّع يوماً، ولكنّكم سَتَخرجون مِن المستنقع.»

 

«وأنتَ كذلك.» يَعتَرِضون.

 

«آه! بالنسبة إليَّ هذا لا يهمّ. إنّ مستنقع النفوس المائتة هو الذي يؤلمني.» وتَسيل دمعتان مِن عينيه.

 

«لا تبكِ، يا معلّم. نحن نتذمّر، ولكنّنا نحبّكَ كثيراً. لو كان بإمكاننا مواجهة الذين يذمّونكَ! لكنّا ننتقم لكَ.»

 

«بل تُسامِحون، كما أُسامِح أنا. إنّما دعوني أبكي. أنا ابن الإنسان، في النهاية! وأن ألقى الخيانة، والنكران، والهجر، فهذا يُسبِّب لي الألم!»

 

«انظر إلينا، انظر إلينا. نحن قليلو العدد وطيّبون. لن يخونكَ ولن يهجركَ أيّ منّا. ثِق بذلك، يا معلّم.»

 

«بعض الأشياء، يجب حتّى عدم ذكرها! مُسيء هو لنفسنا التفكير أنّه يمكننا خيانتكَ!» يهتف الاسخريوطيّ.

 

ولكنّ يسوع حزين. يَصمُت، وتسيل دموع ببطء على خديه الشاحبين بوجهه التَّعِب والنحيل.

 

يَقتَرِبون مِن الجبال. «هل سنصعد إلى الأعلى أم نُحاذي أسفل الجبل؟ هناك قُرى في منتصف المنحدر. انظر. على جانبيّ النهر.» يَلفتون انتباهه.

 

«إنّ الليل يهبط. فلنحاول الوصول إلى إحدى القرى. هذه القرية أو تلك، لا فرق.»

 

يوضاس تدّاوس الذي يملك عينين ممتازتين، يُدقّق النَّظَر في السفوح. يدنو مِن يسوع ويقول: «عند الحاجة، هناك صدوع في الجبل. هل تراها هناك؟ سوف نحتمي فيها. وذلك سيكون أفضل مِن الوحل.»

 

«سنُضرم ناراً.» يقول أندراوس ليجعلهم يصعدون.

 

«بحطب رطب؟» يَسأَل يهوذا الاسخريوطيّ بسخرية.

 

لا يُجيبه أحد. يُتمتِم بطرس: «أُبارك الأزليّ لعدم كون النساء ومارغزيام معنا.»

 

يَجتازون الجسر القديم جدّاً، الكائن في عمق الوادي، ويَسلكون الجانب الجنوبي متَّبِعين درباً متّجهاً صوب إحدى القرى. يهبط الليل بسرعة، حتّى إنّهم يُقرِّرون اللجوء إلى مغارة كبيرة لتحاشي هطول مطر غزير. وقد تكون مغارة يلجأ إليها الرُّعاة، ذلك أنّ فيها عَلَفاً وغائطاً وموقداً غير مُتقَن.

 

«لا يمكن أن يقوم هذا مقام السرير. إنما لإحراقه في النار...» يقول توما مشيراً إلى الأغصان الصغيرة الملوّثة المبعثرة على الأرض مع سرخسيّات جافّة وأغصان عرعر أو ما شابه. يدفعها بعصا إلى الموقد، يُكدِّسها ويُضرِم فيها النار.

 

مِن النار ينبعث دخان كريه الرائحة، وهو ممتزج بروائح العفص والعرعر. ومع ذلك فتلك الحرارة ممتعة، ويجتمع الكلّ على شكل نصف دائرة، وعلى ضوء النار المتراقصة، يأكلون الخبز والجبن.

 

«كان بالإمكان محاولة الوصول إلى القرية.» يقول متّى وقد تجلَّد وبُحّ صوته.

 

«آه! اسمع! لتكرار القصّة التي حَصَلَت منذ ثلاث ليال؟ هنا لا أحد سيطردنا. سنبقى جالسين على هذا الحطب ونُضرِم ناراً ما استطعنا. الآن، حسب ما هو ظاهر، الحطب متوفّر! انظر، انظر! وكذلك القشّ!... إنّه اصطبل بحقّ، بالتأكيد مِن أجل الصيف أو مِن أجل الترحال. إلى أين الذهاب مِن هنا؟ خُذ غصناً مشتعلاً، يا أندراوس، أودُّ أن أرى.» يَطلب بطرس الذي يدور بقصد الاكتشاف. وأندراوس يُطيع. ويَنسَلاّن عَبْر ممرّ ضيّق موجود في جدار المغارة.

 

«انتبهوا لئلا تكون هناك حيوانات خبيثة!» يصيح الآخرون. «أو برص.» يقول تدّاوس.

 

بعد برهة يَصِل صوت بطرس. «تعالوا! تعالوا! هنا الوضع أفضل. إنّه نظيف وجافّ، وفيه مقاعد خشبيّة وحطب. ولكنّه قصر ملكيّ بالنسبة إلينا! اجلبوا أغصاناً مشتعلة لإضرام النار في الحال.» يُفتَرض أن يكون بحقّ ملجأ للرُّعاة. هذا القسم هو الذي يستريح فيه الرعاة وينامون، بينما يتناوبون في الآخر على السهر في حراسة القطيع. هي حُفرة في الجبل، صغيرة، وقد تكون مِن صنع الإنسان، أو أقلّه وَسَّعَها ودَعَّمَها بأعمدة معدَّة لتثبيت القبّة. غطاء للموقد بدائي يتّصل بالمغارة الأولى ويسمح بتسريب الدخان في ذاك الاتّجاه. هناك دفوف وقشّ على طول الجدران حيث غُرِسَت مسامير جوفاء الرأس لتعليق المصابيح، الثياب أو الحقائب.

 

«ولكن هذا ملائم جدّاً! هيّا، ولِنُضرم ناراً كثيراً! سوف نتدفّأ ونُجفّف المعاطف. فلننزع الأحزمة، ولنجعل منها حبلاً لتعليق المعاطف.» يَأمُر بطرس، وبعد ذلك يُصلح وضع الدفوف ويقول: «والآن سوف نتناوب، فيمكننا النوم بينما يغذّي أحدنا النار لنتمكّن مِن الرؤيا والتدفئة. يا لها مِن نعمة مِن الله!»

 

يُتمتِم يهوذا بين أسنانه. يلتفت بطرس غاضباً. «بالمقارنة مع مغارة بيت لحم التي وُلِد فيها المعلّم، تُعتَبَر هذه قصراً ملكيّاً. وإذا كان هو قَد وُلِدَ في مثل تلك الظروف، فبإمكاننا تمضية ليلة هنا.»

 

«إنّها حتّى أحلى مِن كهوف أربيلا. فهناك لم يكن مِن شيء جميل سوى قلبنا، وكان أفضل مِن الآن.» يقول يوحنّا الذي يغوص في ذكرى صوفيّة.

 

«وأيضاً هي أفضل كثيراً مِن تلك التي كانت تأوي المعلّم حينما كان يستعدّ للتبشير.» يقول الغيور بصرامة، وهو ينظر إلى الاسخريوطيّ كما ليقول له أن يَصمُت.

 

لكي يُنهي الحديث يقول يسوع: «وهي، بلا مقارنة، أكثر دفئاً وأكثر راحة مِن تلك التي كَفَّرتُ فيها عنكَ، يا يهوذا بن سمعان، في شهر تيبت (ديسمبر-يناير) ذاك

 

«تكفير عنّي؟ لماذا؟ لم تكن هناك حاجة إلى ذلك.»

 

«في الحقيقة علينا، أنتَ وأنا، أن نُمضي حياتنا في التكفير لتحريركَ مِن كلّ ما يُثقِل كاهلكَ. وأيضاً هذا لا يكفي.»

 

التكفير، المعَبَّر عنه بهدوء وبكثير مِن التحديد، يكون له وقع الصاعقة على الجمع الـمُرَوَّع... يَخفض يهوذا رأسه وينسحب إلى إحدى الزوايا. فهو لا يجرؤ على إظهار أيّة ردّة فعل.

 

بَعد بُرهة يُصدِر يسوع أمراً: «أنا، سوف أسهر. سأهتمّ بالنار. أمّا أنتم فناموا.»

 

وبعد قليل، على توقُّد الحطب، يتآلف التنفّس الثّقيل للاثنيّ عشر رسولاً المتعبين، الممدّدين على الدفوف في التبن. وعندما يَسقُط التبن ليجعلهم بغير غطاء، ينهض يسوع ويفرده مجدّداً فوق النيام، عَطوفاً كأُمّ. ومع ذلك فهو يبكي حين يتأمّل، أثناء نومهم، وجوه البعض المغلَقة، أو الساكنة أو المغتاظة. يَنظُر إلى الاسخريوطيّ الذي يبدو، حتّى في نومه، مُستَهزِئاً، متوعّداً، وقبضتاه مشدودتان... يَنظُر إلى يوحنّا الذي ينام ويده تحت خدّه، وقد غطّى شعره الأشقر وجهه، وإلى خدّيه الورديّين، ساكناً وكأنّه طفل في مهده. يَنظُر إلى وجه بطرس النـزيه، ووجه نثنائيل الصارم، ووجه الغيور المجدور، وذاك الارستقراطيّ الذي لابن عمّه يوضاس، ويتوقّف طويلاً في تأمّل وجه يعقوب بن حلفى الذي هو يوسف الناصريّ الفتيّ. يبتسم وهو يستمع إلى منولوج توما وأندراوس اللَّذين يبدوان وكأنّهما يتحدّثان إلى المعلّم. يُغطّي بعناية متّى الذي يتنفّس بصعوبة، آخذاً بعض القشّ ليدفئه أمام النار ويفرده على قدميّ متّى. يبتسم لدى سماعه يعقوب الذي يُعلِن: «آمنوا بالمعلّم وستكون لكم الحياة»... ويستمرّ في تبشير شخصيّات في الحلم. وينحني لالتقاط صرّة يحتفظ فليبّس فيها بذكريات عزيزة، ويُعيدها بهدوء إلى مكانها، تحت رأسه. وأثناء الفواصل الزمنيّة، يتأمّل ويصلّي...

 

...أوّل المستيقظين كان الغيور. يرى يسوع الذي ما يزال قرب النار المتأجّجة في المغارة الدافئة. وحينما يرى كوم الحطب الذي تحوّل إلى لا شيء تقريباً، يُدرِك أنّ ساعات طويلة قد مرَّت. يَنـزل مِن سريره، ويسير إلى يسوع على أطراف أصابعه: «يا معلّم، ألا تأتي لتنام؟ أنا سأسهر.»

 

«إنّه الفجر يا سمعان. منذ لحظة خرجتُ. ورأيتُ السماء التي بدأت بالابيضاض.»

 

«ولكن لماذا لم تنادنا؟ أنتَ تَعِب كذلك!»

 

«آه! يا سمعان! كنتُ في حاجة ماسّة إلى التفكير... والصلاة.» ويَسند رأسه على صدر سمعان.

 

والغيور، واقف أمامه وهو جالس، يلاطفه ويتنهّد. ثمّ يَسأَله: «تُفكِّر في أيّ شيء، يا معلّم؟ أنتَ لستَ في حاجة لأن تُفكِّر. أنتَ تَعلَم كلّ شيء.»

 

«التفكير ليس في ما ينبغي أن أقوله، بل في ما ينبغي أن أفعله. أصبحتُ منـزوع السلاح تجاه العالم الـمُخادِع، ذلك أنّني لا أملك خُبث العالم وخِداع الشيطان. العالم ينتصر... وأنا تَعِب للغاية...»

 

«وحزين. ونحن لنا يد في بعض ذلك، يا أيّها المعلّم الصالح الذي لا نستحقّه. اغفر لي، واغفر لرفاقي. أقول ذلك نيابة عن الجميع.»

 

«أحبّكم كثيراً... أتألّم كثيراً... لماذا غالباً ما لا تفهمونني؟»

 

نِقَاشهما يُوقِظ يوحنّا الأقرب إليهما. يَفتَح عينيه الزرقاوين ويَنظُر حوله متعجّباً، ثمّ يتذكّر ويَنهَض مسرعاً لِيُصبح خلف الاثنين اللذين يتحدّثان. وهكذا يَسمَع كلام يسوع: «كي تُصبِح كلّ الأحقاد وعدم الإدراك بالنسبة إليَّ أشياء يمكن تحمّلها، يكفيني حبّكم، إدراككم... وأنتم على العكس لا تفهمونني... وهذا هو عذابي الأوّل. إنّه ثقيل! ثقيل! ولكنّه ليس خطأكم. أنتم بشر... سيكون ألمكم أنّكم لم تفهموني عندما لا يعود بالإمكان أن تُصلِحوا شيئاً... وبسبب ذلك، ولأنّكم ستدفعون حينذاك غالياً ثمن ما هو سطحيّ لديكم الآن، ما هو وضيع، ما هو ضيّق، أسامحكم وأقول مسبقاً: "اغفر لهم يا أبتِ لأنّهم لا يَدرون ماذا يفعلون، ولا الألم الذي يُسبِّبونه لي".»

 

ينتقل يوحنّا إلى الأمام؛ إنّه يجثو على ركبتيه ويُقبِّل ركبتي يسوع الحزين، وتَدمع عيناه عندما يُتمتِم: «آه! يا معلّمي!»

 

رأس يسوع ما يزال على صدر الغيور الذي ينحني لِيُقبِّل شعره قائلاً: «ومع ذلك نحبّكَ كثيراً! ولكن نودُّ لو تكون لدينا القُدرة على الدفاع عنكَ، الدفاع عن أنفسنا، الانتصار. نحن نَشعُر بالضعف لرؤيتكَ إنساناً، خاضعاً للناس، للتقلّبات، للبؤس، للخُبث، لمتطلّبات الحياة... نحن بُلَهاء. ولكنّ الأمر هو هكذا. بالنسبة إلينا أنتَ الـمَلِك، الظافر، الإله. ولم نتوصّل إلى إدراك سموّ إنكار ذاتكَ، خضوعكَ لأمور كثيرة حُبّاً بنا. ذلك أنّكَ أنتَ وحدكَ الذي تعرف أن تحبّ. نحن لا نعرف...»

 

«نعم، يا معلّم. سمعان يُجيد القول. نحن لا نعرف أن نحبّ كما يحبّ الله: أنتَ. وما هو صلاح لا متناه، حبّ لا متناه، نَعتَبِره ضُعفاً، ونستغلّه... نَمِّ حُبّنا، زِد حبّكَ، يا مَن أنتَ نبع الحبّ، واجعله يفيض كما تفيض الأنهار في هذه الآونة، اجعله يَلِج إلى داخلنا، أَشبِعنا منه كما هي الحقول على مدى الوادي. ليس ضروريّاً امتلاك الحكمة، القيمة والوجاهة لنكون كاملين كما تريدنا. يكفي امتلاك الحبّ... يا ربّي، أنا أُقرّ بذلك باسم الجميع: نحن لا نعرف أن نحبّ.»

 

«أنتما الاثنان، يا مَن تفهمانني أكثر فأكثر، تَعتَرِفان. أنتما التواضع. ولكنّ التواضع هو حُبّ. إنّما الآخرون لا يَفتَرِقون عنكما في هذه النقطة إلّا بفاصل بسيط. وأنا، سأحطّمه. ذلك أنّني بالفعل الـمَلِك، الظافر، والله. على الدوام. أمّا الآن فأنا ابن الإنسان. وجَبهتي تنحني تحت عذاب إكليلي. فأن أكون ابن الإنسان كان على الدوام إكليلاً مُعذِّباً... شكراً لكما، صديقيّ. لقد واسيتماني. ذلك أنّ مِن محاسن أن أكون إنساناً: أن تكون لي أُمّ مُحِبّة وأصدقاء مُخلِصين. والآن فلنوقظ الرفاق. لقد توقَّفَ هطل المطر والمعاطف جفّت، والأبدان استراحت. كُلوا ولنرحل.»

 

يرفع صوته بتأنٍّ، ولكن: «لنرحل» جاءت أمراً محدّداً. يَنهَض الجميع آسفين على نومهم المتواصل، بينما يسوع ساهر. يجهّزون أنفسهم، يأكلون، يلبسون معاطفهم، يُطفِئون النار ويَخرُجون سالِكِين الدرب الرطب، لبدء الهبوط حتّى بلوغ الطريق القادوميّة المحاذية للشاطئ على المنحدر كي لا تكون بحراً مِن الوحل. ما يزال النور باهتاً، لم تبزغ الشمس ولم يَنجَلِ النهار بعد. ولكن النور كافٍ ليُحدِّدوا وجهتهم.

 

أندراوس وابنا حلفى هُم في المقدِّمة. وفي لحظة معيّنة، يَنحَنون، يَنظُرون ويَعودون راكِضين: «هناك امرأة! تبدو ميتة! تقطع الدرب.»

 

«آه! يا للمشكلة! نبدأ يومنا بشكل سيّئ. ما العمل؟ الآن سوف يتوجَّب التطهُّر كذلك!» هي تذمُّرات النهار الأولى.

 

«هيّا بنا لنرى نحن ما إذا كانت ميتة.» يقول توما ليهوذا الاسخريوطيّ.

 

«أنا قطعاً لا أذهب.» يقول الاسخريوطيّ.

 

«أنا آتي معكَ، يا توما.» يقول الغيور ويتقدّم إلى الأمام. يقتربان، ينحنيان، ويرجع توما إلى الخلف راكضاً وهو يصيح.

 

«قد تكون مقتولة.» يقول يعقوب بن زَبْدي.

 

«أو ميتة مِن البرد.» يُجيب فليبّس.

 

ولكنّ توما يَصِل إليهم وهو يصيح: «إنّها ترتدي ثوب البرص الممزّق...» ولشدّة هَلَعه يبدو وكأنّه رأى الشيطان.

 

«ولكن هل ماتت؟» يَسأَلونه.

 

«مَن يدري! أنا فَرَرتُ.»

 

يَنهَض الغيور ويحثّ الخطى صوب يسوع. يقول: «يا معلّم، هي أُخت مصابة بالبرص. لستُ أدري إذا ما كانت ميتة. لا أظنّ ذلك. يبدو لي أنّ قلبها ما زال يخفق.»

 

«هل لمستَها؟» يَصيح البعض وهُم يبتعدون.

 

«نعم. منذ أن صرتُ تابعاً ليسوع، لم أعد خائفاً مِن البرص. وأنا أُشفِق، ذلك أنّني اعرف ماذا يعني أن يكون المرء أبرصاً. قد تكون المسكينة ضُرِبَت، فهي تنزف مِن رأسها. قد تكون هَبَطَت بحثاً عن الطعام. لو تَعلَمون كم هو مريع أن يموت المرء مِن الجوع، وأن يكون مُكرَهاً على التصدّي للناس في سبيل الحصول على رغيف خبز.»

 

«هل هي مُشوَّهة؟»

 

«لا. لستَ أدري كيف هي وسط البُرص. ليست مصابة بالحرشفة ولا القروح ولا الغنغرينا. قد تكون أصيبت بالبرص منذ فترة وجيزة. تعال يا معلّم، أرجوك. كما بالنسبة إليَّ، ارحم الأخت المصابة بالبرص!»

 

«هيّا بنا. أعطوني خُبزاً وجبناً والقليل مِن النبيذ الباقي لدينا.»

 

«لن تَجعَلها تشرب مِن حيث نشرب نحن!» يهتف الاسخريوطيّ مذعوراً.

 

«لا تجزع. سوف تَشرَب مِن يدي. تعال يا سمعان.»

 

يَقتَرِبان... ولكن الفضول يشدّ الآخرين أيضاً. غير مكترثين بالأوراق المبلّلة التي تُمطِر الماء مِن الأغصان التي يحركونها، ولا مِن الطحالب المبلّلة، يتسلّقون المنحدر لِيُشاهِدوا دون الاقتراب مِن المرأة. يَرَون يسوع الذي ينحني، يُمسِكها مِن تحت ذراعيها، ينقلها ليجعلها تَجلس مُستَنِدة إلى صخرة. تترك رأسها يهوي كما لو كانت ميتة.

 

«سمعان، ارفع لها رأسها كي أتمكن مِن إسقاط قليل مِن الخمر في حلقها.»

 

يطيع الغيور دونما خوف، ويسوع، ويده مرتفعة، يُسقِط بعض قطرات النبيذ بين الشفتين الممتقعتين وشبه المفتوحتين. يقول: «إنّها متجلّدة، البائسة! وهي مبلَّلَة بالكامل.»

 

«لو لم تكن مصابة بالبرص، لكنّا تمكنّا مِن جَلبها إلى حيث كنّا نُقيم.» يقول أندراوس مُشفِقاً.

 

«لا ينقص إلّا هذا!» يقول يهوذا غاضباً.

 

«ولكن بلى، هي ليست مصابة بالبرص! لا أثر للبرص عليها.»

 

«عليها الثوب، وهذا يكفي.»

 

في تلك الأثناء، يَفعَل النبيذ فِعله. تُطلِق المرأة تنهيدة تَعِبَة. ويسوع، إذ رآها تَبلَع، يَسكب جرعة نبيذ في فمها. تفتح المرأة عينين تغشاهما الدموع هَلِعَتين. ترى رجالاً. تُحاوِل الوقوف والفرار صائحة: «أنا مصابة! أنا مصابة!» ولكنّ القوّة تخونها. تُغطّي وجهها بيديها. تُتمتِم: «لا ترجموني! لقد نزلتُ لأنّني جائعة... فمنذ ثلاثة أيّام لم يرمِ لي أحد شيئاً...»

 

«هاكِ خبزاً وجبناً. كُلي. لا تخافي. اشربي قليلاً مِن النبيذ مِن يدي.» يقول يسوع وهو يَسكب قليلاً مِن النبيذ في باطن يديه ويُقدِّمه لها.

 

«ولكن ألستَ خائفاً؟» تَسأَل المسكينة مندهشة.

 

«لستُ خائفاً.» يُجيب يسوع. ويبتسم وهو يَنهَض، ولكنّه يبقى قرب المرأة التي تأكل بنهم الخبز والجبن. تبدو وكأنّها حيوان برّيّ جائع. تَنهَج في لهفة لأن تتغذّى.

 

ثمّ، ما أن سَكَنَت الرغبة الحيوانية لأحشائها الفارغة، تَنظُر حولها... تَعدُّ بصوت مُرتَفع: «واحد... اثنان... ثلاثة... ثلاثة عشر... ولكن إذن؟ آه! مَن هو الناصريّ؟ أنتَ، أليس كذلك؟ أنتَ وحدكَ يمكنكَ أن ترأف بِمَن تكون مصابة بالبرص، كما فعلتَ!...» وتجثو المرأة على ركبتيها بصعوبة، بسبب ضعفها.

 

«هو أنا، نعم. ماذا تريدين؟ أن تُشفي؟»

 

«نعم... إنّما قبل ذلك عليَّ أن أقول لكَ شيئاً... كنتُ قد سمعتُ مَن يتحدّث عنكَ. بعض المارّة حَدَّثوني عنكَ مُنذ زمن بعيد... كثيراً؟ لا. كان الخريف. إنّما بالنسبة إلى أبرص... كلّ يوم يقابل سنة... وَددتُ أن أراكَ، ولكن كيف يمكنني المجيء إلى اليهوديّة، إلى الجليل؟ يسمّونني "مجذومة". إنما ليس لديَّ سوى جرح في الصدر، وهذا حَدَثَ بسبب زوجي الذي تزوَّجَني عذراء وسليمة، أمّا هو فلم يكن سليماً. ولكنَّه مِن العُظماء... ويملك كلّ سُلطان. حتّى القُدرة على القول إنّني خُنته بمجيئي إليه مريضة، وعلى أن يُطلّقني هكذا ليتزوّج مِن امرأة أخرى كان مولعاً بها. لقد وَشَى بي كمصابة بالبرص، وبما أنّني كنتُ أبغي نفي التهمة، فقد رَجَموني بالحجارة. هل كان ذلك عدلاً، يا سيّد؟ أمس مساء مَرَّ رجل مِن بيت يابوس، مُعلِناً أنّكَ آتٍ، وأنّه كان ماضياً للقائكَ كي يطردكَ. أنا كنتُ هناك... حيث إنّني كنتُ قد هبطتُ إلى حد المنازل لأنّني كنتُ جائعة. ونَقَّبتُ في المزابل لأُشبِع جوعي...أنا التي كنتُ "السيدة"، قد حاولتُ أن آخُذ مِن الدجاج قليلاً مِن العلف المحمّض...»

 

تبكي... ثمّ تُتابِع: «إنَّ قَلَقي مِن أن يجدوكَ، ولصالحكَ، أقول لكَ: "اهرب!"؛ مِن أجلي، أقول لكَ: "ارحمني!" اجعلني أنسى أنّه، وخلافاً لشريعتنا، فالكلاب والخنازير والدجاج يعيشون قرب بيوت إسرائيل، أمّا الأبرص فمحظَّر عليه الهبوط طلباً لرغيف خبز، وهو محظّر حتّى على امرأة ليست تحمل مِن البَرَص إلا الاسم. وتقدّمتُ لأسأل عن مكان تواجدكَ. في البداية لم يَروني في الظلّ، وقالوا لي: "إنّه يَصعَد عَبْر ضفّة النهر". ولكنّهم رَأوني بعد ذلك ورشقوني بالحجارة بدل الخبز. لقد جريتُ ليلاً لآتي إلى لقائكَ، هَرَباً مِن الكلاب. كنتُ جائعة، أرتجف برداً، وكنتُ خائفة. ولقد سقطتُ حيث وَجَدتَني. هنا ظننتُني مُتُّ. على العكس، لقد التقيتكَ، أنتَ. يا سيّدي، أنا لستُ مصابة بالبرص، ولكنّ هذا الجرح في الثدي هو الذي يمنعني مِن العودة إلى وسط الأحياء. أنا لا أطلب أن أعود أنستاسيا [وردة أريحا] كما في زمن أبي، إنّما على الأقلّ أن أحيا وسط الناس وأن أتبعكَ. أولئك الذين حدّثوني في تشرين الأول (أكتوبر) قالوا لي إنّه كان لديكَ نساء تلميذات، وإنّكَ كنتَ معهنّ... ولكن، قبل كلّ شيء، أَنقِذ نفسكَ. لا تَمُت، أنتَ أيّها الصالح!»

 

«أنا لن أموت طالما لم تأتِ الساعة بعد. اذهبي هناك إلى تلك الصخرة. هناك مغارة آمنة. استريحي، وبعد ذلك امضي إلى الكاهن.»

 

«لماذا، يا سيّدي؟» المرأة ترتجف لهفة.

 

يبتسم يسوع: «عودي أنستاسيا [وردة أريحا] التي تُزهِر في الصحراء، والتي تحيا على الدوام حتّى ولو بَدَت ميتة. إيمانكِ أبرأكِ.»

 

تَفتَح المرأة ثوبها قليلاً عند الصدر، تَنظُر وتَهتف: «لم يَعُد مِن أَثَر! آه! ربي وإلهي!» وتَسقُط حتّى تُلامِس جبهتها الأرض.

 

«أعطوها خبزاً وإداماً (زاداً). وأنتَ، يا متّى، أعطِها زوجاً مِن أحذيتكَ. أنا سوف أُعطيها معطفاً كي تستطيع المضيّ إلى الكاهن بعد أن تستريح. أَعطِها الصَّدَقَة كذلك، يا يهوذا، مِن أجل مصاريف التطهير. سوف ننتظرها في جَثْسَيْماني لِنُسلِّمها إلى إليز. فلقد طلبت منّي فتاة.»

 

«لا، يا سيّدي، لن أستريح. سأمضي في الحال، في الحال.»

 

«انـزلي إلى النهر ، إذن، اغتسلي، والبسي المعطف...»

 

«سيّدي.» يقول الغيور، «سوف أعطيه أنا للمجذومة. اسمح لي بذلك، وسأقودها إلى إليز. إنّي أُشفَى مرّة ثانية، وأنا أرى نفسي فيها، سعيداً.»

 

«فليكن كما تريد. أَعطِها ما يلزمها. أيّتها المرأة، اسمعي جيّداً: ستمضين كي تتطهّري، ثمّ تمضين إلى بيت عنيا، تبحثين عن لعازر وتقولين له أن يستبقيك عنده إلى أن أعود. امضي بسلام.»

 

«ربّي! متى يمكنني تقبيل قدميكَ؟»

 

«قريباً. امضي. ولكن اعلمي أنّ الخطيئة وحدها تُسبِّب لي الاشمئزاز. واغفري لزوجكِ، فبواسطته التقيتِني.»

 

«صحيح. إنّني أسامحه. أنا ماضية... آه! سيّدي! لا تتوقّف هنا، حيث يَبغضونكَ. فَكِّر أنّني مشيتُ ليلة كاملة، وأنا مُرهَقة، لآتي وأقول لكَ ذلك، ولو أنّني، بَدَل أن ألتقيكَ التقيتُ آخرين، لكان مِن الممكن أن أُرجَم مِثل حيّة.»

 

«سوف أتذكّر ذلك. امضي، أيّتها المرأة. أحرقي الثوب. رافِقها يا سمعان. سوف نتبعكما. وسوف نلاقيكم عند الجسر.»

 

يفترقون.

 

«الآن، علينا أن نتطهّر. فجميعنا نَجِسون.»

 

«لم تكن مصابة بالبَرَص، يا يهوذا بن سمعان. أنا مَن يقول لكَ ذلك.»

 

«حسناً، أنا سوف أتطهّر. لا أريد نجاسة عليَّ.»

 

«أيها الزنبق الناصِع!» يصيح بطرس. «إذا كان السيّد لا يَعتَبِر نفسه نَجِساً، أفتريد أن تكون أنتَ النَّجِس؟»

 

«وتلك المرأة التي يؤكّد السيّد أنّها لم تكن مُصابة بالبَرَص؟ ولكن ما كان بها، يا معلّم؟ هل رأيتَ الجرح؟»

 

«نعم. إنّه ثمرة فسق رَجُل. ولكنّها لم تكن مصابة بالبَرَص، ولو كان الرجل نزيهاً، لما كان طَرَدَها، لأنّه كان أكثر سقماً منها. ولكنّ الفاجرين يستغلّون كلّ شيء في سبيل إشباع جوعهم. أنتَ يا يهوذا، لو شئتَ، يمكنكَ المضيّ. وسوف نعود لنلتقي في جَثْسَيْماني. وتطهَّر! تطهَّر! وأوّل التطهير خلوص النيّة. أنتَ مُرائي. تذكّر ذلك. ولكن يمكنكَ الذهاب.»

 

«لا، أبقى! بما أنّكَ تقول ذلك أنتَ، فأنا أُصدّق. إذن، فأنا لستُ نَجِساً وسوف أبقى معكَ. تريد القول إنّني فاجر، وإنّني كنتُ أستغلّ الفرصة مِن أجل... أنا سأُثبِتُ لكَ أنّكَ أنتَ حبّي.»

 

ويَهبطون مسرعين.

 

----------

 

15 / 12 / 1945

 

    يقول يسوع: «ضعي بعدها رؤيا "المعجزة في الأردن الفائض"، التي أُعطِيَت لكِ بتاريخ 17 / 09 / 1944.»