ج4 - ف121

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الرابع / القسم الأول

 

121- ("على المرء أن يكون حبّه كاملاً ليكون قائداً بقداسة")

 

20 / 08 / 1945

 

الساعة نفسها إنّما في اليوم التالي.

 

يعقوب الذي لَم يَزَل في خُلوته على منحدر الجبل، وهو متقفِّص ورأسه مُنحَنٍ حتّى يكاد يُلامِس ركبتيه المرتفعتَين اللتين يُبقي عليهما هكذا بذراعيه، يَغرَق في تأمُّل عميق، أو إنَّه ينام. لستُ على يقين. أمّا ما هو أكيد فهو أنّه لا يُحِسّ بما يجري حوله، أي بمعركة ناشِبة بين طائِرَين كبيرين، وهُما لسبب ما خاصّ بهما يتعاركان بِضَراوة في المرج الصغير. أظنُّهما ديكَيّ جَبَل أو ديكَيّ الخلنج أو تدرجين (Faisans) إذ إنّهما في ضخامة ديك فتيّ، وفي ريشهما كلّ الألوان، إنّما ليس لهما عُرف، بل مجرّد قبّعة مِن الجّلد الأحمر كالمرجان على قمّة الرأس وعلى الخدّين، وأؤكّد لكم أنّه وإن يكن الرأس صغيراً، فإنّ المنقار كالمسمار الفولاذيّ. الريش يتطاير في الهواء والدم يسيل على الأرض في صَخَب عنيف يُسكِت الزّقزقات والصّافرات ورجرجات الأصوات على أغصان الأشجار. فقد يكون العصافير يُراقِبون المبارَزة الوحشيّة…

 

يعقوب لا يَسمَع شيئاً، بينما يسوع، على العكس، يَسمَع ويَنـزل مِن القمّة حيث كان قد صَعَد، ومُصفِّقاً بيديه، يُبعِد المتقاتِلَين اللذين يَفرّان والدماء تسيل منهما، الواحد صوب المنحدر، والآخر إلى قمّة شجرة بلّوط، وهناك يُعيد ترتيب ريشه المنتفِش والمختلِط. لا يرفع يعقوب رأسه، حتّى للصوت الذي يُحْدِثُه، يسوع الذي، وهو يبتسم، يسير بضعة خطوات أخرى، ويتوقّف وسط المرج الصغير. ويبدو وكأنّ ثوبه قد تلوَّن بالأحمر مِن الجهة التي يبدو فيها الغَسَق غارقاً في حُمرّة شديدة، حتّى لَتَحسب السماء تشتعل. ومع ذلك فيعقوب حتماً لا ينام، إذ ما أن يَهمس يسوع، بالضبط يَهمس: «يعقوب تعال هنا»، حتّى يرفَع رأسه المستَنِد إلى ركبتيه ويفكّ تشابُك ذراعيه، ويَنهَض ويَمضي إلى يسوع.

 

يَقِف في مواجهته، على مسافة خطوتين، ويَنظُر إليه. ويسوع كذلك يَنظُر إليه، جادّاً، ومع ذلك يُشجِّع يعقوب بابتسامة ليست مِن الشفاه ولا مِن العينين، ومع ذلك فهي واضحة جليّة. يُمعِن النَّظَر إليه كما لو أنّه كان يريد قراءة أدقّ تفاصيل ردود الفِعل والتأثّرات لدى ابن عمّه ورسوله الذي، كالأمس، إذ يُحِسّ أنّه على عَتَبَة تجلٍّ، يَشحب لونه، ويزداد شحوبه لدرجة أنّ لون وجهه يُصبِح بلون ثوبه الكتّاني عندما يرفع يسوع ذراعيه ويضع يديه على كتفيّ يعقوب، ويستمرّ هكذا بذراعيه الممدودتين. حينئذ يبدو يعقوب وكأنّه أُضحية بحقّ. لا يُلوّن وجهه المتنبّه سوى عينيه الناعمتين الكستناويّتين الداكنتين ولحيته البنّيّة.

 

«يعقوب، يا أخي، هل تَعلَم لماذا أردتكَ هنا لنكون وحدنا فأُحدّثكَ بعد ساعات مِن الصلاة والتأمّل؟»

 

يبدو أنّ يعقوب المتأثّر جدّاً يَجِد صعوبة في الإجابة، ولكنّه في النهاية يَفتَح شفتيه لِيُجيب بصوت منخفض: «لتمنَحني تثقيفاً خاصّاً؛ أو مِن أجل المستقبل، أو لأنّني أقلّهم جدارة وأهليّة. أشكركَ منذ الآن، حتّى ولو كان ذلك مِن أجل ملامة. إنّما صَدِّقني يا معلّمي وربّي: إذا ما كنتُ بطيئاً وغير جدير، فإنّما ذلك بسبب افتقاري للوسائل، وليس بسبب نقص في العزيمة.»

 

«ليست مَلامة، بل تَعليماً، نعم، مِن أجل الزمن الذي لا أعود فيه معكم. خلال الأشهر الأخيرة فكَّرتَ في قلبكَ كثيراً بما قُلتُهُ لكَ يوماً، في أسفل هذا الجبل. وعندما وعدتكَ بالمجيء هنا معكَ، لم يكن فقط للحديث عن إيليّا النبي، ولا مِن أجل النَّظَر مِن هنا إلى البحر الذي يتلألأ في اللّانهاية، إنّما مِن أجل أن أُحدِّثكَ عن بَحر آخر، أكبر مِن هذا، بحر متبدِّل وخَؤون أكثر مِن هذا البحر الذي يبدو اليوم أكثر سكوناً مِن بِركة، والذي يمكن، وفي غضون ساعات، أن يبدأ بابتلاع الـمَراكِب والناس في جوعه النَّهِم. ولم تبارحكَ الفِكرة التي قلتُها لكَ آنذاك، فِكرة أنّ المجيء إلى هنا له علاقة بمصيركَ المستقبليّ. وإن تَكُن تزداد الآن شحوباً لدى رؤيتكَ أنّه مصير ثقيل، إرث مُفعَم بمسؤوليّة تجعل البَطَل يرتَجِف، مسؤوليّة ورسالة يجب أداؤها بكلّ القداسة الممكنة في إنسان لكيلا يُخيّب أمل إرادة الله. لا تَخَف يا يعقوب. لا أبغي دماركَ، وإذا ما اخترتُكَ أنا لهذا، فإنّ في ذلك إشارة بأنّ ما مِن ضَرر لكَ فيه، بَل مَجد فائق الطبيعة. اسمعني يا يعقوب. إجعل السلام في داخلكَ بفعل استسلام جميل لي، لتتمكّن مِن سماع وتذكُّر كلامي.

 

لن تتاح لنا فرصة أن نكون هكذا وحدنا بعد الآن، وبالروح المهيّأ هكذا لسماع بعضنا. وككلّ الناس الذين يُقِيمُون زماناً على الأرض، سوف أمضي. سوف تنتهي إقامتي، ولكن بطريقة مختلفة عن بقيّة الناس، إنّما ينبغي أن تنتهي، ولن أكون إلى جانبكم بعد إلّا بروحي الذي، أؤكّد لكم، أنّه لن يترككم مطلقاً.

 

أمّا أنا، فسوف أمضي، بعد إعطائكم كلّ ما هو ضروريّ لانتشار مَذهَبي في العالم، بعد إتمام التضحية والحصول على النِّعمة. وبها وبنار الحكمة سوف تتمكّنون مِن فِعل ما يبدو لكم الآن ضرباً مِن الجنون والشبهة حتّى لمجرّد تصوّره.

 

سوف أمضي وتبقون أنتم. والعالم الذي لم يُدرِك المسيح لَن يُدرِك رُسُل المسيح. وأنتم كذلك ستكونون مضطَهَدين ومشتَّتين كالناس الأكثر خَطَراً على مصالح إسرائيل. ولكن بما أنكم تلاميذي، ينبغي لكم أن تَسعَدوا لإصابتكم ببلايا معلّمكم ذاتها.

 

قلتُ لكَ ذات يوم مِن نيسان (أبريل): "سوف تكون الذي بَقِيَ مِن أنبياء الربّ". ولقد أَدرَكَت أُمّكَ إلى حدّ ما معنى تلك الكلّمات، بتأثير روحانيّ. ولكنّها سوف تتحقّق فيكَ قبل أن تتحقّق في رُسُلي الآخرين.

 

يا يعقوب، سوف يتشتّت الجميع إلّاكَ، وهذا حتّى يدعوكَ الربّ إلى سمائه. سوف تبقى في الحقل الذي اختاركَ الربّ إليه بِفَم إخوتكَ، أنتَ سليل الـمُلوك، في المدينة الـمَلَكيّة، لترفَع صولجاني وتتحدّث عن الـمَلِك الحقيقيّ. مَلِك إسرائيل والعالم بحسب مُلْك فائق لا يُدرِكه أحد، سِوى الذين كُشِفَ لهم. سيكون زمن تحتاج فيه إلى القوّة والثبات والصبر والحكمة التي بلا حدود.

 

ينبغي أن تكون عادلاً بمحبّة، بإيمان بسيط وطاهِر مثل إيمان طفل، وفي الوقت ذاته واسِع العِلم، كمعلّم حقيقيّ، لِتَدعَم الإيمان الـمُحارَب في قلوب كثيرة، وبأمور كثيرة مناقضة لـه، ولِتَدحَض أخطاء المسيحيّين المزيّفين والحَذَق المذهبيّ (التَّشدُّد التّافه) لإسرائيل العتيق، الأعمى منذ الآن، والذي سوف يزداد عَماه بعد قَتله النُّور، والذي سوف يشوّه الكلّمات النبويّة وحتّى وصايا الآب الذي أتيتُ منه، لِيُقنِع نفسه ويَحصَل على السلام، ويُقنِع العالَم، بأنّ الذي تحدَّثَ عنه الأحبار والأنبياء لَم يَكُن أنا. بل إنّما، على العكس مِن ذلك، فأنا لم أكن سِوى إنسـان مسكين، واهِم، وبأحسن الأحوال، مَجنون، أمّا بالنسبة للأقلّ تشدُّداً مِن إسرائيل العتيق، فمجرّد هرطوقيّ مُسـتَحوَذ عليَّ.

 

أرجو منكَ حينئذ أن تكون أنا ذاتي آخَر. لا، ليس مستحيلاً! بل هذا ممكن. ينبغي لكَ أن يكون يسوعكَ حاضراً في قلبكَ على الدوام، وكذلك أفعاله وكلمته وآثاره. كما لو أنّكَ في قالب صلصال يستخدمه السَّكَّابون لأخذ طَبعَة للمعدن المصهور، فينبغي لكَ أن تَنصَهِر فيَّ. سوف أكون حاضراً على الدوام، حاضراً وَحَيّاً مِن أجلكم أيّها الأوفياء لي لدرجة أنّه سيُصبِح بإمكانكم أن تتّحدوا بي، أن تُصبِحوا أنا ذاتي آخَر. يكفي أن تُريدوا ذلك. أمّا أنتَ، أنتَ يا مَن كنتَ معي منذ نعومة أظفاري، ويا مَن استقيتَ غِذاء الحِكمة مِن يديّ مريم، قَبْل أن تستقيه منيّ، ويا مَن أنتَ ابن أخ الرجل الأكثر استقامة في إسرائيل، فينبغي لكَ أن تكون مسيحاً كاملاً...»

 

«لا يمكنني يا سيّدي! كَلِّف بذلك أخي، كَلِّف يوحنّا، كَلِّف سمعان بطرس،كَلِّف سمعان الآخر. أمّا أنا فلا يا سيّدي! لماذا أنا؟ ماذا فعلتُ لأستحقّ ذلك؟ ألا تَرى أنّني رجل مسكين للغاية ولا أستطيع القيام سوى بعمل واحد: أن أحبّكَ حبّاً عظيماً وأؤمن بكلّ ما تقول؟»

 

«ليوضاس مَزاج متصلّب جدّاً. وهذا يكون مناسباً جدّاً حيث الأمر يتطلّب محاربة الوثنيّة، وليس هنا حيث يَجِب جَلْب الناس إلى المسيحيّة وهُم بالأساس شعب الله، ويظنّون أنفسهم حتماً أنّهم في الطريق الصحيحة. ليس هنا حيث يجب إقناع كلّ الذين، لإيمانهم بي، سوف يَخيب أملهم بسبب تتابُع الأحداث. ليس هنا حيث يجب إقناعهم أنّ مملكتي ليست مِن هذا العالم، بل إنّما هي مملكة روحانيّة بالكامل، إنّه ملكوت السموات الذي تكون التهيئة له بحياة مسيحيّة، أي حياة تكون الأرجحيّة فيها للقِيَم التي للروح.

 

يجري الإقناع بفضل وَداعة ثابتة. والويل لِمَن يُمسِك بِخِناق الناس ليُقنِعهم. لأنّ الـمُكرَهين سوف يقولون "نعم" في حينها لِيُفلتوا مِن الخَنق، ولكنّهم بعد ذلك يَفرّون دون الرغبة في العودة، رافِضين كلّ حِوار. إن لم يكن حول المنحرفين، ولكن فقط الضالّين. هاربين بغية التسلّح وقتل كلّ مَن يريد إقناعهم بمذاهب مختلفة عن مذاهبهم، وإن يكن ذلك مجرّد انحراف أو تعصّب.

 

وسوف تكون محاطاً بالمتعصّبين: متعصّبين بين المسيحيّين ومتعصّبين بين الإسرائيليّين. الأوّلون يريدون منكَ القيام بأعمال عُنف أو أقلّه السماح بالقيام بها، إذ إنّ إسرائيل العتيق، بتشدّداته وقيوده، سيحرّك فيهم أيضاً ذَيله السّامّ. والآخرون سوف يَسيرون ضدّكَ وضدّ الآخرين كما في حرب مقدّسة للدفاع عن العقيدة القديمة وشعاراتها وشعائرها. وسوف تكون وسط هذا البحر كما وسط العاصفة.

 

ذاك هو مصير القادة. وأنتَ سـوف تكون قائداً بالنسبة للذين سيكونون في أورشليم التي أَصبَحَت مسيحيّة بيسوعكَ. سيكون عليكَ معرفة أن يكون حبّكَ كاملاً للتمكّن مِن أن تكون قائداً بقداسة. لن تكون اللّعنات هي السلاح المستخدم، بل قلبكَ هو ما سيكون عليكَ استخدامه في مواجهة أسلحة ولعنات اليهود. لا تسمح لنفسك أبداً بالاقتداء بالفرّيسيّين في اعتبار الوثنيّين كالزِّبل. فَمِن أجلهم كذلك أنا أتيتُ، لأنّه، في الحقيقة، لو كان مجيئي مِن أجل إسرائيل فقط، لكان تلاشي الله في جسد قابل للموت غير متناسب. وإذا كان حقّاً أنّ حبّي جَعَلَني أتجسَّـد، حتّى بِفَرَح، مِن أجل خلاص ولو نَفْس واحدة، فإنّ العدل، الذي هو مِن صفات الله، يَفرُض أن يتلاشى اللّامتناهي مِن أجل لا تناهِ: الجنس البشريّ كلّه.

 

ينبغي لكَ كذلك أن تكون وديعاً معهم لكي لا تُبعِدهم، مُقتَصِراً على كونكَ ثابتاً في المذهب، وإنّما متساهلاً مع الأشكال الأخرى للحياة التي لا تُشبِه الأشكال التي لنا، وهي كلّها مادّيّة، إنّما دون جَرح الروح. سيكون لِزاماً عليكَ أن تُحارِب كثيراً مع الإخوة، لأنّ إسرائيل مغلّف بأكمله بالممارسات، وكلّها خارجية، كلّها لا طائل منها، لأنّها لا تُغيّر الروح. أمّا أنتَ فعلى العكس، ليكن جلّ اهتمامكَ في الروح وحده، وعَلِّم الآخرين أن يكونوا كذلك. لا تتوقّع أن يُغيِّر الوثنيّون عاداتهم في الحال. أنتَ كذلك، لَن تُغيِّر عاداتكَ دُفعة واحدة. لا تَبقَ مُثبَّتاً في رصيفكَ البحري، إذ، مِن أجل الحصول على الحطام مِن البحر وجلبه إلى الـمَشاغِل لإعادة تأهيله مِن أجل حياة جديدة، يجب الإبحار، وليس المكوث في المكان الواحد. وعليكَ المضيّ في البحث عن الحطام. فإنّكَ سوف تَجِده في الوثنيّة وكذلك في إسرائيل. وعلى طَرَف البحر العظيم الواسع، هناك ستَجِد الله فاتحاً ذراعيه لكلّ مخلوقاته، إن تكن غنيّة بأصلها كالإسرائيليّين، أو كانت فقيرة لأنّها وثنيّة.

 

لقد قُلتُ: "سـوف تُحبّون قريبكم". والقريب ليس فقط مَن تَجمَعُنا به صلة الرحم أو الـمُواطَنَة. فالإنسان المنتمي إلى أحد الأصقاع الشماليّة القصوى، والذي لا تَعرفون شكله هو أيضاً قريبكم، والذي يَنظُر الآن إلى شَفَق في بلاد مجهولة بالنسبة إليكم، أو الذي يسير على الثلج في جبال آسيا الأسطوريّة، أو الذي يشرب مِن نهر يشقّ طريقه وسط الغابات المجهولة في مركز أفريقيا هو قريبكم كذلك. ولو أتاكَ عابد شمس، أو مَن يتّخذ التمساح النَّهِم إلهاً، أو مَن يظنّ نفسه الحكيم المتقمّص الذي عَرِفَ أن يرى الحقيقة، ولكن دون إدراك الكمال، ولا مَنح الخلاص للمؤمنين به، أو حتّى إنسان عافَ الحياة في روما أو أثينا، وقد أتاكَ طالباً التعرّف إلى الله، فلا يمكنكَ، بل ليس لكَ أن تقول لهم: "أطردكم لأنّ اقتيادكم إلى الله يُعدّ تَدنيساً".

 

فلتتذكّر دائماً أنّهم لا يَعرِفون، بينما إسرائيل يَعرِف. ومع ذلك، في الحقيقة، كثيرون في إسرائيل هُم الآن، وسوف يكونون، أكثر وثنيّة، وأكثر وحشيّة مِن الوثنيّة الأكثر بربريّة في العالم، صحيح أنَّهم لا يقدّمون الأضحيات البشريّة لهذا أو ذاك مِن الأصنام، بل يُقدّمونها لذواتهم، لكبريائهم، وهم المتعطّشون للدم بعد أن يتأجّج في داخلهم عَطَش لا يُروَى سوف يدوم حتّى انقضاء الدهور. ولا يطفئه سوى إعادة الشرب مِن جديد، وبإيمان، ممّا أَضرَمَ ذلك العطش. ولكن حينئذ سوف تكون نهاية العالم كذلك، إذ إنّ آخِر مَن سـيقول: "نؤمن أنّكَ الله والمسيح" سيكونون الإسرائيليّين، رغم كلّ ما قَدَّمتُ مِن براهين عن ألوهيّتي وما سوف أُقدِّم.

 

ستسهَر وتتنبّه كيلا يكون إيمان المسيحيّين باطلاً، فهو سوف يكون باطلاً إذا ما كان مجرّد كلام وممارسات نِفاقيّة. الروح هو الذي يَحيَى. والروح يغيب عن الممارسات الآليّة أو الريائيّة المجرَّدة مِن الروح النَّشِط، فهذا ليس سوى إيمان متصنّع وليس الإيمان الحقّ. ماذا ينفع الإنسان إن كان يُرتِّل التسابيح لله في اجتماع جماعة المؤمنين، وكل سلوكه فيما بعد كان إهانة لله، الذي لا يمكن أن يكون لعبة في يد المؤمن، بل إنّما هو، وفي أبوّته، يَحتَفِظ على الدوام بامتيازاته كإله ومَلِك؟

 

اسهر وتنبّه لكيلا يأخذ أحد مكاناً ليس له. الله يمنحكَ النور حسب وضعكَ. لن يُقصِّر الله في منحكَ النور، شرط ألّا تكون النِّعمة قد أُطفِئَت في داخلكَ بسبب الخطيئة. كثيرون يحبّون سماع مَن يناديهم "بالمعلّم". ولا يوجد سوى معلّم واحد: الذي يكلّمكَ؛ ومعلّمة واحدة: الكنيسة التي تُخلِّده. في الكنيسة، يُصبح معلِّمين، أولئك الذين سيكرَّسون بمهمّة خاصّة في التعليم. حينئذ سيوجَد بين المؤمنين مَن، بإرادة الله وقداستهم الشخصيّة، أي بإرادتهم الصالحة، سيأخذهم تيّار الحكمة وسيتكلّمون. وسيكون هناك آخرون، دون أن يكونوا حكماء بذواتهم، إنّما لكونهم طَيِّعين كالأدوات بين يديّ الفنان، سيتحدّثون باسـم الفنّان، ويُردِّدون، كالأطفال الطيّبين ما يقول لهم الآب أن يقولوا، حتّى دون إدراك مدى فحوى ما يقولون. وأخيراً سيكون هناك، مَن يتكلّمون كما لو إنّهم معلِّمون، وبِرَوعة تُغوي البسيطين، ولكنّهم سيكونون متكبّرين، مع قساوة في القلب، حسودين، سريعي الغضب، كاذبين، فاسقين.

 

بينما أقول لكَ أن تتقبّل كلام الحكماء في الربّ، وأطفال الروح القدس الساميين، وحتّى مساعدتهم في إدراك عُمق الكلام الإلهي، لأنّهم، وإن كانوا حامِلي الصوت الإلهيّ، فإنّكم، أنتم رُسُلي، تَبقون على الدوام معلِّمي كنيسـتي، وعليكم أن تَهبُّوا لمساعدة ومؤازرة الذين هُم مُنهَكون بشكل فائق الطبيعة، بالغنى الثقيل والفتّان الذي وَضَعَه الله فيهم لِيَحملوه إلى الإخوة، وبالطريقة ذاتها أقول: ارفض الكلام الكاذب للأنبياء الكَذَبَة الذين لا تتطابق حياتهم مع مَذهَبي. فسلامة الحياة والوداعة والطهارة والمحبّة والتواضع لن ترتكب الخطأ أبداً لدى الحكماء وأصوات الله الصغيرة (البُسطاء الذين يتكلم الله بأصواتهم). في حين ستُرتَكب دائماً لدى الآخرين.

 

اسهر وتيقّظ كيلا يكون هناك حسد ونميمة ضِمن جماعة المؤمنين، ولا ضغينة ولا روح انتقام. اسهر وتيقّظ لكيلا يتفوّق الجسد على الروح. فلا يمكن لِمَن لا يسيطر الروح لديه على الجسد أن يتحمّل الاضطهادات.

 

يا يعقوب، أَعلَم أنّكَ ستفعل ذلك، ولكن عِد أخاكَ أنّكَ لن تخيّب أمله.»

 

«ولكن سيّدي، ربّي! أخشى أمراً واحداً: ألّا أكون أهلاً لذلك. ربّي، أرجوك كَلِّف أحداً غيري بهذه المهمّة.»

 

«لا. لا يمكنني...»

 

«سمعان بن يونا يحبّكَ وتحبّه...»

 

«سمعان بن يونا ليس يعقوب بن داود.»

 

«يوحنّا! يوحنّا، الملاك المثقّف. اجعله خادمكَ في هذا الأمر.»

 

«لا. لا يمكنني. فلا سمعان ولا يوحنّا يمتلكان ذلك اللا شيء، الذي هو مع ذلك بغاية الأهمية لدى الناس: صِلَة القُربى. فأنتَ قريبي. وبَعدَ... بَعدَ التنكُّر لي، فإنّ القِسم الأفضل مِن إسرائيل سوف يُحاوِل نيل الغفران مِن الله ومِن ذاته، وذلك بمحاولته التعرّف إلى الربّ الذي كان قد لَعَنَه في ساعة شيطانيّة، وفيما إذا كان أحد مِن أقاربي مِن الأسرة ذاتها في مكاني، فسوف يبدو لهم أنّهم نالوا الغفران، وبالتالي القُدرة على وضع أنفسهم على طريقي. يا يعقوب، على هذا الجبل تحقَّقَت أمور عظيمة جدّاً. فهنا، نار الله التَهَمَت: ليس فقط المحرقة والحطب والحجارة، بل إنّما حتّى الغبار والماء الذي كان في الحفرة. يا يعقوب، هل تظنّ أنّ الله لَم يَعُد يستطيع فِعل مِثل تلك الأشياء بإضرام والتهام كلّ ما هو مادّيّ في يعقوب-الإنسان، ليجعل منه يعقوب-نار الله؟ لقد تحدّثنا بينما الغسق حَوَّلَ حتّى ثيابنا إلى لهب. وهكذا، هل تظنّ أنّ العربة التي حملت إيليّا كانت أكثر أم أقلّ بهائاً؟»

 

«أكثر بهائاً بكثير، لأنّها كانت مصنوعة مِن نار سماويّة.»

 

«وفَكّر إذن ماذا يصبح القلب في حال أَصبَحَ ناراً حينما يصبح الله فيه، إذ إنّ الله يريد تخليد كلمته في الكرازة ببشرى الخلاص.»

 

«ولكن أنتَ، أنتَ، كلمة الله، الكلمة الأزليّة، لماذا لا تبقى؟»

 

«لأنّني الكلمة وجسد. فباعتباري الكلمة عليَّ التثقيف، وباعتباري جسداً فعليَّ الافتداء.»

 

«آه! يا يسوعي، ولكن كيف ستَفتَدي؟ إلى لقاء ماذا أنتَ ماضٍ؟»

 

«يا يعقوب تذكَّر الأنبياء.»

 

«ولكن ألم يكن كلامهم رمزيّاً؟ هل يمكن لكَ، يا كلمة الله، أن تُسـاء معاملتكَ مِن البشر؟ ألم يَقصدوا أنّ الشهادة ستكون لألوهيّتكَ، لكمالكَ، ولا شيء أكثر، لا شيء أكثر مِن ذلك؟ إنَّ أُمّي قَلِقَة بشأني وبشأن يوضاس، أمّا أنا فبشأنكَ وبشأن مريم، كما أنَّني قَلِق كذلك بشأننا نحن الضعفاء جدّاً. يسوع، يسوع، لو  تمكَّنَ منكَ الإنسان، أفلا تظنّ أنّ الكثيرين مِنّا قد يظنّونك مذنباً ويبتعدون، وقد خاب أملهم بكَ؟»

 

«أنا متأكّد مِن ذلك. سوف يَحدُث اضطراب يُؤلِّب مضاجع كلّ تلاميذي. ولكنّ السلام يعود فيما بعد، بل حتّى يعود ترابط أفضل الفرق التي يحلّ عليها، بعد تضحيتي وانتصاري، روح الحكمة والقوّة: الروح الإلهي.»

 

«يا يسوع، لِكيلا يَثنى شيء مِن عَزمي، وكي لا أشكّ في الساعة المريعة، قُل لي: ماذا سيفعلون بكَ؟»

 

«إنّه لأمر عظيم ذاك الذي تَطلبه.»

 

«قُله لي يا سيّدي.»

 

«معرفة ذلك بالتحديد سيسبّب لكَ ألماً مبرّحاً.»

 

«لا يهمّ. باسم الحبّ الذي جَمَعَنا...»

 

«إنَّما يجب ألّا يَعلَم أحد بذلك.»

 

«قُله لي، وبعد ذلك اجعلني لا أتذكّره حتّى ساعة يتمّ. حينذاك أَعِدهُ إلى ذاكرتي كما الساعة. هكذا لن يجعلني أيّ شيء أشُكُّ، ولن أُصبِح عدوّاً لكَ في أعماق قلبي.»

 

«ذلك لن ينفع في شيء، إذ إنّكَ أنتَ كذلك سوف تستسلم للزَّوبَعة.»

 

«قُله لي يا سيّدي!»

 

«سوف أُتَّهم، وتَطالني الخيانة، فيَقبضون عليَّ، ويُعذّبونني ويَحكمون عليَّ بالموت على الصليب.»

 

«آه! لا، لا!» يَصرُخ يعقوب ويَعضّ ذاته كما لو كان هو مَن سيُحكَم عليه بالموت. «لا!» يُكرِّر: «إذا فَعَلوا بكَ ذلك، فما الذي سيفعلونه بنا نحن؟ وكيف يمكننا متابعة عملكَ؟ لا يمكنني، لا يمكنني قبول المهمّة التي تَحفَظها لي... لا يمكنني!... لا يمكنني! إذا متَّ أنتَ فسأموت أنا مُجرَّداً مِن كلّ قوّة. يا يسوع، يا يسوع! اسمعني. لا تتركني بدونكَ. عِدْني، عِدْني بذلك على الأقلّ!»

 

«أَعِدُكَ بأن آتي لمؤازرتكَ بروحي، عندما أتحرّر بالقيامة المجيدة مِن حدود المادّة. أنا وأنتَ سنكون واحداً، كما الآن وأنتَ بين ذراعيّ» إذ بالفعل قد استسلَمَ يعقوب وهو يبكي على صدر يسوع.

 

«كُفَّ عن البكاء. فلنخرج مِن ساعة النشوة هذه، الـمُنيرة والـمُرهِقة، كَمَن يَخرُج مِن ظلال الموت متذكّراً كلّ شيء سِوى ما معنى أن يموت، فالرعب الذي يجمّدكَ ويدوم دقيقة، هو الذي يدوم أجيالاً كفعل تمّ. تعال، أعانقكَ هكذا لأساعدكَ في نسيان حِمْل مصيري كإنسان. وسوف تتذكّر ذلك في الوقت المناسب، كما طلبتَ أنتَ. هاكَ، إنّني أقبّلكَ على فمكَ الذي ينبغي له أن يُردِّد كلامي على الناس في إسرائيل، وعلى قلبكَ الذي ينبغي له أن يُحِبّ كما قلتُ، وهنا على الصّدغ حيث الحياة تنتهي مع آخر كلمة إيمان بي مُحِبّة. وكذلك سآتي يا أخي الذي أُحِبُّ، إلى جانبكَ في لقاء جماعات المؤمنين، في ساعات التأمّل، في سـاعات الخطر، وفي ساعة الموت! لا أحد، ولا حتّى ملاككَ سـوف يتلقّى نفسكَ، بل أنا، بِقُبلة، هكذا...»

 

ويَظلاّن متعانِقَين طويلاً، ويبدو يعقوب وكأنّه يغفو في فَرَح قُبلات الله التي جَعَلَته ينسى ألمه.

 

وعندما يُعاوِد رفع رأسه، يعود يعقوب بن حلفى، الهادئ والطيّب، الذي يُشبِه كثيراً يوسف عروس مريم. يبتسم يسوع ابتسامة أكثر إشراقاً، حزينة قليلاً، إنّما ابتسـامة كثيرة العذوبة.

 

فلنتناول طعامنا، يا يعقوب، ولِنَنَم بعدئذ تحت النجوم. وسوف ننـزل إلى الوادي عند تباشير الصباح الأولى... لنمضي وسط الناس...» ويتنهّد يسوع... ولكنّه ينتهي إلى الابتسام: «... وإلى جانب مريم.»

 

«وماذا عساي أقول لأُمّي يا يسوع؟ وللرِّفاق؟ فَلَن يَدَعونَي مِن غير أسئلة...»

 

«يمكنكَ أن تقول لهم كلّ ما قُلتُه لكَ عندما جعلتُكَ تتأمّل في إجابات ايليّا النبيّ التي ردّ بها على آخاب، وعلى الشعب على الجبل، وعلى قُدرَة المحبوب مِن الله في الحصول على ما يريد مِن الشعب ومِن كلّ العناصر، غِيرَته الأَكَّالة لأجل الربّ، وكيف جعلتُكَ تتأمّل أنّ بالسلام وفي السلام نَسمَع الله ونخدمه. سوف تقول لهم إنّه كما قُلتُ لكم أنتم: "تعالوا"، بالطريقة ذاتها التي فَعَلها ايليّا بمعطفه الذي ألقاه على أليشع، أمّا أنتم فبمعطف المحبّة، سوف تتمكّنون مِن أن تَكسَبوا للربّ خُدّاماً لله جُدُداً. أمّا المنشَغِلون على الدوام، فقل لهم كيف جعلتُكَ تُلاحِظ التحرّر الـمُفرِح مِن أمور الماضي الذي يشير إليه أليشع بانفصاله عن الثيران والعَرَبة. قُل لهم كيف جعلتُكَ تتذكّر أنّ الذين يريدون الحصول على معجزات ببعلزبول، فإنّ ما يَنجم عنهم شرّ هو وليس خيراً، كما حَصَلَ لأخزيا (Ochosias) جرّاء كلمة إيليّا. قُل لهم أخيراً كيف وعدتُكَ أن ستأتي نار الحبّ المطهِّرة إلى الذي يظلّ وفيّاً حتّى الموت لِتَحرق نقائصه وتقوده مباشرة إلى السماء. أمّا ما تبقّى فهو لكَ وحدكَ.»