ج4 - ف159
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الرابع / القسم الثاني
159- (في أربيلا)
04 / 10 / 1945
لدى التوجّه إلى أوّل شخص لسؤاله عن أخبار فليبّس بن يعقوب، يُدرِكون حجم العمل الذي قام به التلميذ الشاب. والتي يسألونها امرأة عجوز متغضّنة، تَحمل بِعَناء جرّة ممتلئة ماء، تُحدّق بعينيها الغائرتين بفعل الزمن في وجه يوحنّا الجميل. لقد طَرَحَ عليها السؤال وهو يبتسم، وقد أَسبَقَه بالقول: «السلام لكِ.» بشكل وديع، لدرجة أنّه استمال العجوز، فقالت: «هل أنتَ مَسيّا؟»
«لا بل رسوله. ها هو ذا آتٍ.»
تضع العجوز جرّتها أرضاً وتمضي في الاتّجاه المشار إليه، لتجثو بعدئذ أمام يسوع.
يوحنّا، وقد بقي وحيداً، مع سمعان، أمام الجرّة التي انقَلَبَت لينسكب نصف محتواها، يبتسم وهو يقول لرفيقه: «يليق بنا أن نأخذ هذه الجرة ونذهب إلى العجوز.» ويهمّ بالفِعل بذلك، بينما يُضيف رفيقه: «وتَصلُح للشرب، فجميعنا يَشعُر بالعطش.»
يَلحَقان بالعجوز التي، إذ لا تعرف ما عليها أن تقول بالتحديد، تستمرّ بترديد: «جميل، الابن القدّيس لأقدس أُمّ!» تجثو وهي تَلتَهِم بعينيها وجه يسوع الذي يبتسم لها قائلاً بدوره: «انهضي أيّتها الأُمّ. ولكن انهضي!» وعندما يَصِلان إليها، يقول لها يوحنّا: «لقد أخذنا جرّتكِ، وقد انسَكَبَت. بقي فيها القليل مِن الماء. إنّما، لو سمحتِ، فإنّنا سنشرب هذا الماء، ومِن ثمّ نملأها.»
«نعم، يا بني، نعم. ويزعجني أنّني لا أملك سوى الماء أُقدّمه لكم. أودُّ لو كان معي حليب، كما حين كنتُ أُطعِم ابني يوضاس، لأقدّم لكم ألذّ ما يمكن أن يوجد على وجه الأرض: حليب أُمّ. أودُّ لو كان معي خمر، مِن أفضل الأنواع، لأمنحكم قوّة. ولكنّ مريان التي لأليشع عجوز وفقيرة...»
«ماؤكِ هو بالنسبة إليَّ خَمر وحليب، لأنّه أُعطِيَ بِحبّ.» يُجيب يسوع وهو يشرب أوّلاً مِن الجرّة التي دَفَعَها إليه يوحنّا. ثمّ يَشرَب الآخرون.
العجوز، التي نهضت أخيراً، تنظر إليهم وكأنّها تنظر إلى الجنّة. وتُلاحِظ أنّهم، عندما فَرغوا مِن الشرب، يَهمّون بإراقة ما بقي مِن الماء، ليذهبوا إلى النبع الجاري في طرف الطريق، عندئذ تعترضهم وهي تمسك بالجرّة قائلة: «لا، لا. إنّ هذا الماء الذي شَرِب منه هو لهو أقدس مِن ماء التطهير. سأحتفظ به بعناية لِيُطهِّروني به عند موتي..» وتُمسِك بالجرّة قائلة: «سآخذها إلى البيت. لديَّ غيرها، وسأملأها. إنّما تعال أوّلاً أيّها القدّيس، لأدلّكَ على بيت فليبّس.» وتُهرول وهي منحنية، والابتسامة على وجهها المتغضّن، وفي عينيها اللتين تتأجّجان فرحاً، تُهرول وهي تمسك بأحد أطراف معطف يسوع بين أصابعها، كما لو كانت تخشى أن يهرب منها، وتتمسّك بالجرّة، مُقاوِمة إلحاح الرُّسُل الذين كانوا يريدون أن يُخفّفوا عنها هذا الحِمل. تُهرول مُغتَبِطة، وهي تَنظُر إلى الطريق الخالية الخاوية، وبيوت أربيلا المغلقة عند بدء حلول المساء، نَظرَة فَاتِحٍ سَعيد بنصره.
أخيراً يتم العُبور مِن ذلك الدرب الفرعي إلى درب آخر أكثر مركزيّة، حيث أُناس يُسرِعون في العودة إلى بيوتهم. يُلاحِظها الناس بدهشة، يُشيرون إليها بأصابعهم، وينادونها. وهي، بعد انتظار تَجَمُّع حلقة لا بأس بها مِن الناس، تصيح: «معي مَسيّا فليبّس. اجروا وانشروا الخَبَر في كلّ مكان، وقبل كلّ شيء في بيت يعقوب. وليكونوا جاهزين لتكريم القدّيس.» تَصيح حتّى ينقطع نَفَسها. إنّها تعرف كيف تجعلهم يُطيعونها. إنّه أوان استلام العجوز صغيرة القدّ والمسكينة، الوحيدة والمغمورة زمام قيادة الشعب. وها هي تَرَى كيف تهتزّ كلّ المدينة لأمرها.
يسوع الذي يَفوقها طولاً كثيراً يبتسم لها، عندما تَنظُر إليه بين آونة وأخرى، ويَضَع يده على رأسها الهَرِم، مُلاطفاً إيّاها كابن، مما يجعلها تطير مِن الفرح.
بيت يعقوب في أحد الشوارع المركزيّة. مفتوح على مصراعيه ومُضاء، بعد الباب ممرّ طويل، يموج فيه الناس ومعهم المصابيح، ويخرجون فرحين، حالما يَظهَر يسوع على الدرب. التلميذ الشاب فليبّس، ثمّ الأُمّ والأب، فالأهل والخُدّام والأصحاب.
يتوقّف يسوع ويَردّ بعظمة على تحيّة يعقوب العميقة، ثمّ ينحني على أُمّ فليبّس التي تُبجِّله جاثية، يُنهِضها ويباركها ويقول لها: «كوني سعيدة على الدوام لإيمانكِ.» ثمّ يُحيّي التلميذ الذي هَرَعَ مع صديقه الذي يُحيّيه يسوع كذلك.
مريان العجوز، رغم كلّ شيء، لا تُفلِت ذيل المعطف، وتُحافِظ على مكانها بالقرب مِن يسوع إلى أن يَهمّوا بوطئ الفناء. حينئذ تئنّ: «البركة لأكون سعيدة! الآن أنتَ تبقى هنا... وأنا أمضي إلى بيتي الفقير... وكلّ هذا الشيء الجميل قد انتهى!» ويا له مِن غَمّ في صوتها الهَرِم.
يعقوب الذي حَدَّثَته زوجته بنعومة يقول: «لا، يا مريان التي لأليشع. ابقي، أنتِ كذلك، في بيتي كما لو كنتِ تلميذة. أقيمي ما أقام المعلّم، وكوني سعيدة.»
«بارككَ الله، أيّها الرجل. فإنكَ تُدرِك معنى المحبّة.»
«يا معلّم... لقد قادتكَ إلى بيتي. وأنتَ أَنعَمتَ عليَّ وأحببتني. وأنا لا أفعل سِوى ردّ بعض الكثير الذي نِلتُه منكَ، ولو بطريقة متواضعة دائماً. ادخل، ادخلوا، وأهلاً وسهلاً بكم في بيتي.»
وتَراه الجموع التي في الخارج، على الدرب، وتَصيح: «ونحن؟ نريد سماع كلامكَ.»
يسوع يلتفت: «لقد هَبَطَ الليل. وأنتم مُتعبون. هيِّئوا أنفسكم باستراحة مقدَّسة، وغداً ستسمعون صوت الله. والآن فليرافقكم السلام والبركة.» ويُغلَق الباب على غِبطة ذاك البيت.
يعقوب بن زَبْدي يقول للربّ أثناء التطهير الذي يَعقُب السَّفَر: «يمكن أنّه كان مِن الأفضل التحدّث مباشرة والرحيل عند الفجر. الفرّيسيّون في المدينة. فليبّس قال لي ذلك. سوف يُسبِّبون لكَ المتاعب.»
«الذين كان مِن الممكن أن يَنـزَعِجوا منهم بَعيدون الآن. والمتاعب التي يمكن أن يُسبِّبوها لي لا قيمة لها. هناك الحبّ لإلغائها.»…
في صباح الغد... الخروج الفَرِح وسط أهل فليبّس والرُّسُل. العجوز في الخلف. لقاء أهالي أربيلا الذين ينتظرون بصبر. الوصول إلى الساحة الرئيسيّة حيث بدأ يسوع الحديث:
«يُقرأ في الفصل الثالث مِن سِفر عزرا ما أُعيده عليكم الآن هنا: "ولـمّا كان الشهر السابع..." (يقول لي يسوع: لا تضيفي شيئاً فأنا أُردّد كلام السِّفْر بحذافيره").
متى يعود شعبٌ إلى وطنه؟ عندما يعود إلى أرض آبائه. أنا آتٍ لأعيدكم إلى أرض أبيكم وإلى ملكوت الآب. وأستطيع ذلك لأنّني أُرسِلتُ لهذا الغرض. أنا آتٍ إذن لأقودكم إلى ملكوت الله، وبالتالي تصحّ مقارنتكم بأولئك الذين أُعيدوا مع زربّابل إلى وطنهم أورشليم، مدينة الربّ، ويحسن أن أفعل معكم كما فَعَلَ الكاتب عزرا مع الشعب الـمُجتَمِع مِن جديد عند الجدران المقدّسة. ذلك أنّ إعادة بناء مدينة وتكريسها للربّ، إنّما بدون إعادة بناء النُّفوس التي تُشبِه مُدناً صغيرة كثيرة لله، إنْ هي إلّا حماقة لا مثيل لها.
كيف العمل لإعادة بناء تلك المدن الروحيّة الصغيرة التي ساهمت أسباب كثيرة في تدميرها؟ ما هي الموادّ الواجب استخدامها لجعلها متينة، جميلة وتدوم؟
الموادّ، في تعاليم الربّ، هي الوصايا العشر، وتعرفونها، لأنّ فليبّس، ابنكم وتلميذي، قد ذَكَّركم بها. وأَقدَس وصيّتين فيها: "أَحبِب الربّ بكلّ كيانكَ. أحبِب قريبكَ كنفسكَ". هذا هو مُختَصَر الشريعة، وهذا ما أَكرز به، لأنّه بهذا يتأكّد اكتساب المرء لملكوت الله. في الحبّ تكمن القوّة على المحافظة على القداسة، أي أن يصبح المرء قدّيساً، القوّة على الصفح، القدرة على البطولة في الفضيلة. كلّ شيء في الحبّ هو.
ليس الخوف هو الذي يُخلِّص. الخوف مِن دينونة الله، الخوف مِن العقوبات البشريّة، والخوف مِن الأمراض. فالخوف ليس بَنّاءً على الإطلاق. إنّه يُسبّب الانهيار، والتفكّك والتصدّع والدمار. الخوف يقود إلى اليأس، يقود إلى الخِداع لإخفاء التصرّفات السيّئة، إنّه يحمل فقط على الخشية، عندما تصبح الخشية عديمة الجدوى، لأنّ الشرّ يكون قد أَصبَحَ فينا. مَن يُفكّر، عندما يكون في تمام الصحّة، أن يتصرّف بحذر رأفة بجسده؟ لا أحد. ولكن عندما تسري في العروق أوّل رعشة حُمّى، أو توحي بقعة بأمراض خبيثة، حينئذ يحلّ الخوف، كَهَمّ يُضاف إلى المرض، ليكون قدرة هَدّامة في جسد أَصبَحَ المرض يفتّته بالفعل.
الحبّ على العكس، بَنّاء هو. إنّه يبني، يُثبّت، يَقي، يُحافظ على التراصّ. الحبّ يَجلب الرجاء بالله. الحبّ يَطرد الشرّ. الحبّ يَحمل على الحذر مِن ذات الإنسان الذي ليس هو مركز الكون، كما يعتقد ويتصرّف الأنانيّون، مُحِبّو ذواتهم المزيّفون، ذلك أنّهم لا يُحبّون سوى جزء مِن ذواتهم: الجزء الأقلّ سموّاً، على حساب الجزء الخالد والمقدّس؛ بينما الواجب يقتضي العناية الدائمة بها لحفظها في صحّة جيّدة، بالقدر الذي يريده الله، ليكون المرء نافعاً لنفسه ولأهله ومدينته ووطنه بأكمله. لا يمكن تحاشي الإصابة بالأمراض نهائيّاً. ولم يقل أحد إنّ كلّ مرض هو نتيجة رذيلة أو عقاب.
هناك الأمراض المقدَّسة التي يُرسِلها الربّ لأبراره لكي يُوجِد في العالم، الذي يجعل مِن المتعة كلّ ذاته، والذي يَجعَل كلّ شيء لخدمته، قدّيسين يُشبِهون رهائن الحرب لخلاص الآخرين، وهُم الذين يُسدِّدون مِن شخصهم ما يُكفِّر عن الخطايا التي يرتكبها العالم كلّ يوم، والتي تنتهي بأن تهوي على الإنسانيّة دافنة إيّاها تحت لَعنَتها. هل تتذكّرون قصّة موسى الذي إذ أَصبَحَ شيخاً، وكان يصلّي، بينما كان يشوع يحارب باسم الربّ؟ عليكم أن تعرفوا أنّ الذي يتألّم بقداسة يخوض أعظم المعارك ضدّ أعتى مُحاِرب في العالم، مُستَتِر تحت مظاهر الناس والشعوب، ضدّ الشيطان، الـمُعَذِّب، أصل كلّ شرّ، وأنّه يُحارِب مِن أجل كلّ البشر الآخرين. ولكن كم يبلغ الفرق بين هذه الأمراض المقدّسة التي يُرسِلها الله، وتلك التي تُسبِّبها الرذائل، نتيجة حبّ آثمّ للمتع الحسّيّة! الأولى، برهان على مشيئة الله المحسّنة؛ والثانية، برهان على الفساد الشيطانيّ.
إذن، يجب على المرء أن يحبّ ليكون قدّيساً، لأنّ الحبّ يَخلِق، يَصون ويُقدِّس.
أنا كذلك، إذ أُعلِن لكم هذه الحقيقة، أُكلّمكم مِثل نحميا وعزرا: "هذا اليوم مُكرَّس هو للربّ إلهنا. فلا حزن ولا دموع". ذلك أنّ كلّ حزن يتوقّف عندما يعيش المرء يوم الربّ... الموت يَفقد قسوته، لأنّ فقدان ابن أو زوج أو أب أو أُمّ أو أَخ، يُصبِح فراقاً آنيّاً ومحدوداً. آنيّاً، لأنّه ينتهي بموتنا. محدوداً، لأنّ حدوده تنتهي عند الجسد والحواسّ. أمّا النَّفْس فلا تفقد شيئاً بموت قريب خَمَدَت حركته. ولكن على العكس، فإنّ الحريّة لا تُحَدّ إلّا مِن جهة واحدة: جهة الباقي على قيد الحياة الذي ما تزال نَفْسه أسيرة الجسد، بينما الطرف الآخر، الذي عَبَرَ إلى الحياة الأخرى، فإنّه يتمتّع بالحريّة، وبإمكانيّة السهر علينا وكسبنا أكثر، أكثر كثيراً ممّا كان عليه يوم كان يحبّنا وهو في سِجن الجسد.
أقول لكم مِثل نحميا وعزرا: "اذهبوا وكُلوا لحماً دَسِماً واشربوا نبيذاً حلواً، وأَرسِلوا حصّة للذين ليس لديهم، فهذا يوم مقدَّس للربّ، ويجب ألّا يتألّم أحد في هذا اليوم. لا تَحزَنوا، لأنّ فرح الربّ، الذي هو فيما بينكم، هو قوّة للذي يتقبّل النعمة مِن الربّ تعالى داخل جدرانه وفي قلبه".
لم يَعُد بإمكانكم صنع خيمة تابوت العهد. لقد مضى عليها الزمن، إنّما أقيموا خياماً روحيّة في قلوبكم. تسلّقوا الجبل، وهذا يعني أن تَرقوا صوب الكمال. اقطفوا أغصان زيتون وآس ونخيل وبلّوط وزوفى ومِن جميع الأنواع الأجمل مِن الأشجار. سَعف نَخل فضائل السلام والطهارة والبطولة والتقشّف والقوّة والرجاء والعدل وكلّ، كلّ الفضائل. زَيِّنوا أرواحكم وأنتم تحتفلون بعيد الربّ. خيام تابوت عهده تنتظركم. وهي جميلة ومقدّسة وأزليّة ومنفَتِحة على كلّ الذين يحيون في الربّ. واليوم، معي، وَطِّدوا العزم على التوبة عن الماضي وبدء حياة جديدة.
لا تخافوا مِن أيّ شيء مِن قِبَل الربّ. إنّه يناديكم لأنّه يحبّكم. لا تخافوا. كونوا أبناءه كما هُم كلّ الذين في إسرائيل. فَمِن أجلكم كذلك جَعَلَ الخليقة والسماء، وأَوجَدَ إبراهيم وموسى، وفَتَحَ البحر وخَلَقَ الغيوم لتشير إلى الطريق، ونَزَلَ مِن السماء ليعطي الشريعة، وشقَّ السُّحُب لِيُمطر المنّ، وأَخصَبَ الصخر ليمنحكم الماء. والآن، آه! الآن مِن أجلكم أيضاً يُرسِل الخبز الحيّ مِن السماء ليُشبع جوعكم، الكرمة الحقيقيّة ونبع الحياة الخالدة لإرواء عطشكم. وبفمي يقول لكم: "ادخلوا لتملكوا الأرض التي رَفَعتُ عليها يدي لأعطيكم إيّاها". أرضي الروحيّة: ملكوت السماوات.»
يتبادل الناس كلمات حماسية... ثمّ ها هم المرضى. كثيرون جدّاً. يرتّبهم يسوع على نَسَقين، وبينما يتمّ هذا، يتوجّه بالسؤال إلى فليبّس الذي مِن أربيلا: «لماذا لم تُشفِهم؟»
«ليحظوا بما حظيتُ به أنا: الشفاء على يديكَ.»
يمرّ يسوع مُبارِكاً المرضى، الواحد تلو الآخر، والمعجزة الاعتياديّة تتكرّر: العميان يُبصِرون والصمّ يَسمَعون والبكم يَنطقون والأحدب ينتَصِب والحمّى تسقط والوَهن يختفي.
انتهت الشفاءات. ثمّ، بعد آخر مريض، هناك الفرّيسيّان اللذان كانا قد مضيا إلى بصرى مع اثنين آخرين: «السلام لكَ يا معلّم. ونحن أفلا تقول لنا شيئاً؟»
« لقد تحدّثتُ إلى الجميع.»
«ولكنّنا لم نكن في حاجة إلى مثل ذلك الكلام. فنحن قدّيسو إسرائيل.»
«لكم، يا مَن أنتم مُعلِّمون، أقول: "تباحثوا فيما بينكم بالفصل التالي: الفصل التاسع مِن كِتاب عزرا الثاني، متذكّرين كم مرّة استعمَلَ الله الرحمة معكم، وقولوا وأنتم تقرعون صدوركم، كما لو كانت صلاة، خُلاصة الفصل.»
«حسناً قلتَ، حسناً قلتَ يا معلّم! وتلاميذكَ، هل يفعلون ذلك؟»
«نعم، وهذا أوّل شيء أطلبه وأَصُرّ عليه.»
«الجميع؟ حتّى القَتَلَة الذين في صفوفكَ؟»
«هل تَشمّون رائحة الدم؟»
«إنّه صوت يهتف إلى السماء.»
«اجتهدوا، إذن، على ألّا تقتدوا بِمَن يُريقه.»
«نحن لسنا قَتَلَة.»
يُحدّق فيهم يسوع مُختَرِقاً إيّاهم بِنَظَره. لا يتجاسرون على إضافة كلمة واحدة، لبعض الوقت، ولكنّهم يَتبَعون الجمع العائد إلى بيت فليبّس الذي يظنّ أنّ عليه دعوتهم للدخول والمشاركة في الوليمة.
«بكلّ طيب خاطر! سنمكث مع المعلّم مدّة أطول.» يقولونها بإجلال عظيم.
ولكن، ما إن وَصَلوا إلى البيت، حتّى بَدوا كالشرطة... ينظرون في كلّ الاتّجاهات، يطرحون الأسئلة الماكرة على الخُدّام، حتّى على العجوز التي تبدو لي أنّها منجذبة إلى يسوع كما قطعة الحديد إلى المغناطيس. ولكنّها تُجيب بحيوية: «أنا، أمس، لم أرَ غيرهم. أنتم تَحلُمون. أنا، رافقتهم إلى هنا، ولم يكن بينهم سِوى يوحنّا واحد: إنّه ذاك الصبي الأشقر والطيّب كالملاك.»
يَصعَقون العجوز بشتائمهم، ويتحوّلون إلى اتّجاه آخر. ولكن أحد الخُدّام، مِن غير أن يردّ عليهم مباشرة، ينحني ليتحدّث إلى سيّد البيت الجالس، ويَسأَله: «أين يوحنّا الذي مِن عين دور؟ إنّ هذا السيّد يبحث عنه.»
يَنظُر الفرّيسيّ إلى الخادِم نظرة صاعقة، ويَعتَبِره أبلهاً. ولكنّ يسوع على اطّلاع بنواياهم، ويجب معالجة الموقف قدر المستطاع. فيقول الفرّيسيّ حينئذ: «كان ذلك كي نَبتَهِج بمعجزة تعليمكَ تلك، يا معلّم، ونهنّئكَ على تلك الهِداية.»
«لقد ابتَعَد يوحنّا للأبد، وسيبتعد أكثر فأكثر.»
«هل عاد إلى السقوط بخطيئته؟»
«لا، بل هو يرتقي إلى السماء. اقتدوا به، وستُلاقونه في الحياة الأخرى.»
لا يعود الأربعة يعرفون ماذا يقولون، فيُغيِّرون الحديث بِحَذَق. يُعلِن الخُدّام أن الوليمة جاهزة، ويَعبُر الجميع إلى قاعة الاحتفال.
إنّها الحقيقة. يتأجّج الأمل بشدّة... ومن سيستقبلني؟ أنا السيّئة جدّاً، وقد نَخَرَني عذاب الشيطان كالدودة الناخرة؟ إنّه لا يمنحني هدنة. ولأنّه لا يستطيع التأثير عليَّ بشكل آخر، فإنّه يعاملني هكذا: يُلمِّح لي أنّني أنا مَن تَكتُب، وليس يسوع هو مَن يُريني ويُملي عليَّ. هل يَعلَم أنّه لو كان استطاع إقناعي، لكنتُ انكفأتُ مِن جديد في وحدتي وفي هَلَعي مِن كَوني اقترفتُ خطيئة، ولكان انتابني الخوف مِن الموت ومِن الدينونة؟ آه! كم يُعذّبني! إنّه يُذهِلني جدّاً بطروحاته التي لا تنتهي بأنّني، عندما يضع يسوع حدّاً للرؤيا ولكلامه، فإنّني أفقد كلّ إمكانيّة للاستمتاع بما هو حياتي الخاصّة، أي بفائق الطبيعة هذا الذي يُغلّفني ويجعل منّي "الناطقة باسم".
أنتم يا مَن تقرأون، هل تبدو لكم هذه الوقائع جميلة؟ في الماضي، كانت لديَّ كذلك هذه الانطباعات. والآن، عدا الناحية الفنّية، لا أَختَبِر شيئاً. عبثاً أبحث وأُفتّش أيضاً عن الجُّمَل التي كانت، حينما قيلت لي، ترفعني إلى درجة الغبطة. عبثاً أفكّر وأعاود التفكير بالأوضاع التي كانت عذوبتها تصعقني عندما كنتُ أراها... لقد خَبا كلّ شيء، وتحوَّلَ كلّ شيء إلى رماد. الفردوس، هو فردوس، وقد فَقَدَ روعته، أو بالأحرى يَفتَح طالما تدوم خدمتي اليوميّة كناطقة باسم، غامِراً إيّاي بكلّ أنواره، وأناشيده، وعذوبته وفرحه. ثمّ، حينما ينتهي العمل، يُغلِق كلّ شيء بإحكام، وأُغلَّف، لأغرق في ضباب الظُّلمة، بدون أيّ صوت، عدا صوت الشك والنَّفي الذي يلسعني ويهزأ بي. أليس هذا ألماً عظيماً؟ ومع ذلك لا أودُّ أن أقنط وأقول: "لا شأن لي بهذا، إنّه عملي." لا، هذا ليس عملي، خاصّة الآن، وأنا مُنهَكَة، وأرزَح تحت عبء أمور كثيرة، جاهِلة أُخرى كثيرة غيرها، ليس بإمكاني فِعل ذلك. فأنا، في حالة الضُّعف الجسمانيّ الذي أنا فيه، والحزن الوجدانيّ، لا يمكنني اختبار شيء غير الغَثَيان مِن ذلك، ولا أكتُب شيئاً. فمادّيّاً، استحالة التفكير، ومعنويّاً، اشمئزاز مِن التفكير.