ج5 - ف6

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الخامس/ القسم الأول

 

6- (الرحيل مِن بتولمايس [عَكّا] إلى صور)

 

03 / 11 / 1945

 

تبدو مدينة بتولمايس [عَكّا] وكأنّها تُسحَق تحت سماء منخفضة مِن الرصاص، دون أيّة فسحة مِن زُرقة السماء، حتّى ولا تماوج في لونها الأسود. لا. لا غيمة، ولا سحابة، ولا دُجُنّة (غيمة ماطرة متوسّطة البعد) تتنقل على قُبّة السماء، بل قُبّة واحدة مقعّرة وثقيلة مِثل غطاء يهوي على صندوق. غطاء ضخم مِن قَصدير قَذِر، مُشحَّر، كامد يُسبّب الإرهاق. تبدو بيوت المدينة البيضاء وكأنّها مِن جِبس، جِبس خَشِن، غير مُتقَن، مُنعَزِل تحت هذا النور... ولون النباتات الأخضر يبدو وكأنّ الدموع قد غشته وهو حزين، أمّا وجوه الناس فممتقعة أو كالأشباح، والثياب باهتة الألوان. وتغرق المدينة في ريح خماسينيّة حارّة مُرهِقة.

 

ويَردّ البحر على السماء بمظهر الموت ذاته. بحر لا نهاية له، ساكن، مُقفِر. ليس له ولا حتّى المظهر الرصاصيّ، هذا القول ليس دقيقاً. إنّه امتداد بلا نهاية، ويمكن القول بلا تجاعيد، لمادّة زيتيّة رماديّة، كما المفروض أن تكون عليه بحيرات النفط الخام، أو بالأحرى، إن كان ذلك ممكناً، بحيرات مِن الفضّة الممزوجة بالشحّار والرماد، لِتُصبح عجينة لها روعة خاصّة تُذكِّر بتلك التي للكوارتز، ومع ذلك لا يبدو لها بريق لشدّة ما هي مائِتة وكامِدة. ولا يَظهَر هذا البهاء إلّا بسبب المضايقة التي يُسبِّبها للعين، وقد سَحَرَها سطوع اللؤلؤ الأسود الذي يُتعِب دون أن يُشيع الفرح. لا توجد موجة على مدى النَّظَر. يُدرِك النَّظَر الأفق حيث البحر المائت يلامس السماء الميتة، دون أدنى حركة للماء؛ إنّما يتنبّه المرء إلى أنّ المياه ليست متصلّبة، ذلك أنّ لها تموّجاً عميقاً يكاد لا يُحَسّ به على السطح بسبب تلألؤ المياه العاتم. إنّها ميتة لدرجة أنّ المياه على الشاطئ ساكنة كمياه بِركة، دون أدنى إشارة لمدّ أو جذر. والرمل هنا رطب بشكل جَليّ، على بُعد متر واحد، أو أكثر قليلاً، مُشيراً بذلك إلى أنّ حركة للمياه لم تحصل هنا على الشاطئ منذ ساعات طويلة. الهدوء التامّ.

 

الـمَراكِب القليلة المتواجدة على الشاطئ لا تأتي بأيّة حركة. تبدو لجمودها وكأنّها تَصلَّبَت بمادة صلبة، وبعض مِن قطع قماش نُشِرَت على الجسر، ثياب أو رايات، تتدلّى ثابتة.

 

مِن حيّ شعبيّ في المرفأ يَصِل إلى الشاطئ الرُّسُل مع المسافرَين إلى أنطاكية. لستُ أدري ما مصير العربة والحمار. لقد اختفيا. بطرس وأندراوس يَحمِلان صندوقاً، ويعقوب ويوحنّا يحملان الصندوق الثاني، بينما يوضاس بن حلفى يحمل على كتفيه النَّول المفكّك، أمّا متّى ويعقوب بن حلفى وسمعان الغيور فقد تكفّلا بالأكياس كلّها بما فيها كيس يسوع. وسِنْتيخي تحمل بين يديها سلّة الإعاشة. أمّا يوحنّا الذي مِن عين دور فلا يحمل شيئاً.

 

يَمضُون مُسرِعين وسط الناس العائدين، الغالبيّة منهم، مِن السوق ومعهم المؤونة، أو، إن كانوا بحّارة، يستعجلون صوب المرفأ لتحميل أو تفريغ الـمَراكِب أو إصلاحها، حسب الحاجة.

 

يتقدّم سمعان بن يونا، بِخُطى واثقة. يُفتَرَض أنّه عارف أين الملتقى، ذلك أنّه لا يَنظُر حوله. إنّه يَحمِل الصندوق بمساعدة أندراوس، بواسطة حبّل، يستخدمه كَمِقبَض، وقد احمرّ وجهه. ويبدو جليّاً المجهود الذي يبذلانه، كما رفيقاهما يعقوب ويوحنّا، بسبب ثِقل الحِمل، ويَظهَر ذلك بتقلّص العضلات وبطّات السيقان والأذرع، إذ إنّهم، كي يبقوا أكثر حرّية، لا يرتدون سوى اللباس الداخلي القصير وبلا أكمام، فَيُشبِهون بالإجمال الحمّالين الذين يُهروِلون بين المخازن والـمَراكِب، مِن أجل عملهم. وهكذا يمرّون دون أن ينتبه إليهم أحد.

 

لا يمضي بطرس إلى العنبر الكبير، بل، عَبْر ممرّ صاعد، يتوجّه إلى العنبر الأصغر، رصيف صغير له قناطر يحمي حوضاً ثانياً أصغر كثيراً مِن أجل مَراكِب الصيد. يَنظُر ويُطلِق صيحة.

 

يُجيب رجل، وهو يَنهَض مِن مَركَب صُلب وكبير بما فيه الكفاية.

 

«هل نويتَ الرحيل حتماً؟ لاحظ أنّ الشراع لا يفيد في شيء اليوم. يجب السير بقوّة المجاذيف.»

 

«هذا سوف يُعيد لي حرارتي وشهيّتي.»

 

«ولكن هل أنتَ حقّاً قادر على الإبحار؟»

 

«آه! يا رجل! لم أكن أعرف بعد أن أقول: "ماما"، حينما وَضَعَ أبي بين يديَّ حِبّال الأشرعة. قَلَعتُ فيها أسنان الحليب...»

 

«ذلك لأنّ هذا الـمَركَب، كما تَعلَم، هو كلّ ما أملك. هل تَعلَم؟...»

 

«ولقد قُلتَ لي ذلك بالأمس... ألا تعرف غير هذه النغمة؟»

 

«ما أعرفه هو أنّكَ إذا ما غرقتَ فسأتحطّم أنا، و...»

 

«سأتحطّم أنا الذي سأخسر جسدي، وليس أنتَ!»

 

«ولكن هذا هو مُلكي، خبزي اليوميّ، فَرَحي وفرح زوجتي ودوطة ابنتي الصغيرة، و...»

 

«أف! اسمع، لا تُثِر أعصابي المتشنّجة الآن... المتشنّجة! الرهيبة أكثر مِن تلك التي للسبّاحين. لقد أعطيتكَ الكثير حتّى إنّه يمكنني القول: "الـمَركَب، قد اشتريتُه". لم أُساوِم، يا لكَ مِن لصّ! ولقد بيّنتُ لكَ أنّني أعرف استعمال المجذاف والشراع أفضل منكَ، وقد سُوّي كلّ شيء. أمّا الآن، فإذا كانت سَلَطَة الكرّاث (براصيا) (نبات أرضي يؤكل مطبوخاً) التي تَعشَّيتَها أمس مساء، وما زالت رائحتها الكريهة تنبعث مِن فمكَ وكأنّها مِن بؤرة القمامة، قد سَبَّبَت لك الكوابيس والنَّدَم، فهذا لا يعنيني في شيء. المسألة سُوِّيَت أمس بحضور شاهدين، أحدهما مِن قِبَلَك والثاني مِن قِبَلي، وهذا يكفي. اقفز خارجاً، أيّها السرطان الأشعر (كثيف الشعر)، ودعني أدخُل.»

 

«ولكن... تأمين على الأقلّ... إذا مُتَّ، فَمَن يَدفَع لي ثمن الـمَركَب؟»

 

«الـمَركَب؟ أتسمّي هذه اليقطينة المجوّفة مركباً؟آه! يا لكَ مِن بائس ومتكبّر! أريد أن أُطمئِنكَ، شرط أن تُقرِّر: أعطيكَ مائة دراخما إضافيّة. وهذه مع ما أردتَ مِن أجل التأجير، يُصبح لديكَ ما يُقابل ثلاثة مِن هذه الطوابين (خلد أوروبي)... لا، أو بالأحرى، لا دراهم. فأنتَ قادر على أن تعاملني كمجنون وتطلب منّي زيادة لدى عودتي. لأنّه، فيما يخصّ العودة، فأنا عائد بالتأكيد. حتماً لكي أُكيل لكَ الصفعات إذا ما أعطيتني مَركَباً غاطسه مَعيب. سوف أعطيكَ الحمار والعربة على سبيل الرهن... لا! ولا حتّى هذا! أنطواني، لستُ أعهَد به إليكَ. فأنتَ قادر على تغيير مهنتكَ مِن عَبّار إلى حُوذيّ، وعلى الهرب أثناء رحلتي. وأنطواني يساوي عشرة أمثال مَركبكَ. الأفضل أن أعطيكَ الدراهم. لاحظ مع ذلك أنّ هذا على سبيل الرهن، وسوف تعيدها لي لدى عودتي. هل فهمتَ؟ نعم أم لا؟ هيه! أنتَ، صاحبّ الـمَركَب! الذي مِن بتولمايس [عَكّا]؟»

 

وتتدلّى مِن سفينة مُجاوِرة ثلاثة وجوه: «نحن.»

 

«تعالوا هنا...»

 

«لا، لا. لا داعي. فَلْنُسَوِّ الأمر فيما بيننا» يقول العَبّار.

 

يَنظُر إليه بطرس نَظرَة فاحِصة، يُفكِّر، وحينما يرى الآخر وقد غادَرَ الـمَركَب مسرعاً لِيَحمِل إليه النول الذي كان يوضاس قد وَضَعَه أرضاً، يُتمتِم: «فهمتُ!» ويَهتِف إلى الذين في السفينة: «لم تعد هناك حاجة! فابقوا.» ثمّ يُخرِج مِن حقيبة صغيرة قِطعاً نقديّة، يَعدّها ويُقبّلها قائلاً: «وداعاً يا عزيزتي!» ثمّ يُعطيها للعَبّار.

 

«لماذا قَبَّلتَها؟» يَسأَل هذا الأخير مندهشاً.

 

«إنّه... طقس. وداعاً أيّها السارق! هيّا، أنتم! أنتَ، أَمسِك الـمَركَب على الأقلّ. سوف تَعدّها فيما بعد. سَتَجِد الحساب صحيحاً. لا أريد أن أكون رفيقكَ في جهنّم، هل تَعلَم؟ فأنا لا أسرق. هو هيس! هو هيس!‍» ويحمّل الصندوق الأوّل في الـمَركَب، ثمّ يُساعِد الآخرين على تنضيد صناديقهم والأكياس، وكلّ شيء، مُوازِناً الحمولة، مُرتِّباً الأغراض بشكل يتيح حرّيّة الحركة، وبعد الأغراض، الأشخاص.

 

«هل ترى أنّني أجيد التصرّف أيا مصّاص الدماء؟ انزع الدفّ الآن وامضِ.»

 

ومع أندراوس يَسنُد المجذاف على الرصيف الصغير ويَبتَعِد عنه. وبعد تحديد المسار، يُمرِّر الدفّة إلى متّى قائلاً: «على كلّ حال، أنتَ، ولكي تَنتُف ريشنا، كنتَ تأتي لتصطادنا، عندما كنّا نصطاد، وتعرف الإمساك بها (الدَّفة) بشكل مقبول.» ثمّ يَجلس على مقدّم الـمَركَب وهو يدير له الظهر، على المقعد الأوّل، وإلى جانبه أندراوس. أمامه جَلَسَ يعقوب ويوحنّا ابنا زَبْدي، ويُجذِّفان على إيقاع مُنتَظَم وقويّ. يتقدّم الـمَركَب بغير اهتزازات وبسرعة، رغم الحمولة الثقيلة، مُلامِساً بشكل خفيف جوانب الـمَراكِب الضخمة، التي يَصدُر منها كلام مديح وثَناء على دقّة وكمال ضربات التجذيف.

 

ثم ها هو البحر الواسع خارج الحواجز... وتتوالى بتولمايس [عَكّا] أمام عيون المسافرين، ممتدّة كما هي على الشاطئ ومعها المرفأ جنوبيّ المدينة.

 

في الـمَركَب، الصَّمتُ الـمُطبِق. لا يُسمَع سوى صرير المجاذيف في أوتادها.

 

وبعد حين، تجاوَزوا بتولمايس [عَكّا]، ويقول بطرس: «ومع ذلك لو كان هناك قليل مِن الريح... ولكن لا شيء! ولا حتّى نسمة!...»

 

«حسبنا ألّا تُمطِر!...» يقول يعقوب بن زَبْدي.

 

«هوم! وكأنّ بالغيوم رغبة عارمة بالهطول...»

 

صمت وإعياء مِن تجذيف لبرهة طويلة.

 

بعدها يَسأَل أندراوس: «لماذا قَبَّلتَ القِطع النقديّة؟»

 

«لأنّه، عند السفر، لا بدّ مِن الوداع. لن أراها بعد الآن، وأنا حزين لذلك. كنتُ أُفضِّل إعطاءها لأحد المساكين... إنّما، صبراً! الـمَركَب جيّد بحقّ، إنّه صلب وجيّد الصنع. إنّه الأفضل في بتولمايس [عَكّا]. ومِن أجل ذلك تنازلتُ لصاحبه في مَطالِبه، وكذلك كي لا تُطرح علينا الأسئلة فيما يخصّ وجهتنا. لذلك قلتُ: "الاتّفاق حسب الوضع الراهن"... هيّا! هيّا! لقد بدأ هطل المطر. تغطّوا، أنتم يا مَن تستطيعون ذلك، وأنتِ يا سِنْتيخي، أَعطي البيضة ليوحنّا. لقد حان الوقت... فمع بحر بهذا السكون، يَشعُر المرء بالجوع (تَفرُك المعدة)... ويسوع، ماذا سيفعل؟ ماذا يمكنه أن يفعل؟ دون ثياب ودون مال! ولكن أين يمكن أن يكون الآن؟»

 

«إنّه يُصلّي مِن أجلنا، بكلّ تأكيد.» يُجيب يوحنّا بن زَبْدي.

 

«حسناً، ولكن أين؟...»

 

لا يمكن لأحد أن يقول أين. والـمَركَب يَتَمَوَّر بثقله بصعوبة، تحت سماء رصاصيّة، على بحر قَار بلون الرماد، تحت مطر خفيف كالضباب، مزعجة كَحَكّة لا نهاية لها. الجبال التي، بعد منطقة سهل، تعود صوب البحر، تتقارب، داكنة في الجوّ الضبابيّ. البحر يكاد يستمرّ في إرهاق العيون بوميضه الفوسفوريّ الغريب، ليضيع فيما بعد في الضباب.

 

«سنتوقّف في هذه البلدة للاستراحة وتناول الطعام» يقول بطرس الذي لا يتعب مِن التعامل مع المجاذيف. والجميع موافقون.

 

يَبلُغون البلدة. بعض مِن بيوت صيّادي السمك في كَنف أنف الجبل المتوجّه صوب البحر.

 

«لا يمكننا أن نرسو هنا. لا يوجد عُمق... حسناً، سوف نأكل حيث نحن» يُهمهِم بطرس.

 

بالفعل، الجذّافون يأكلون بشهيّة، إنّما ليس الـمُبعَدان. المطر يَهطل ويتوقّف بالتعاقب. البلدة قَفر كما لو أنّ أحداً لا يسكنها، ومع ذلك فَطَيَران حَمام مِن بيت إلى آخر، وثياب منشورة على السطوح تشير إلى أنّه يوجد أناس. أخيراً يَظهَر على الطريق رَجُل يكاد يكون مرتدياً ثياباً، متوجّه إلى مَركَب صغير مسحوب إلى الشاطئ.

 

«هيه! أيّها الرجل! هل أنتَ صيّاد؟» يصيح بطرس جاعلاً يديه كالبوق.

 

«نعم.» ولكن النَّعَم تَصِل ضعيفة بسبب المسافة.

 

«كيف سيكون الطقس؟»

 

سوف يضطرب البحر بعد قليل. إن لم تكن مِن هنا، أنصحك بالذهاب حالاً بعد الرأس. في تلك الناحية المياه أكثر سكوناً، خاصّة إذا كنتَ تُعاكِس الريح، ويمكنكَ ذلك، فالمياه عميقة. إنّما اذهب في الحال.

 

«نعم. السلام لكَ!»

 

«السلام والحظّ السعيد لكم!»

 

«هيّا بنا إذن» يقول بطرس لرفاقه. «وليكن الله معنا.»

 

«هو معنا بالتأكيد. فمؤكّد أنّ يسوع يصلّي مِن أجلنا» يُجيب أندراوس بينما يعود إلى المجذاف.

 

ولكن بالفعل بدأ الموج، وشَرَعَ يَدفَع الـمَركَب ويسحبّه في كلّ تقدُّم وتَراجُع، والمطر يهطل بأكثر غزارة... وريح عاتية هبّت لتنغّص على البحّارة المساكين. سمعان بن يونا يُغدِق عليها بكلّ النُّعوت الطريفة، لأنّها ريح سيّئة لا تفيد في استخدام الشراع الذي سيدفع الـمَركَب في عكس اتّجاه رصيف الرأس الذي أَصبَحَ قريباً. الـمَركَب يجد صعوبة في الإبحار في منعطف ذاك الخليج الأسود كالحبّر. يجذّفون، ويجذّفون مُنهَكِين، مُحمرّين، يتصبّبون عرقاً، يصرّون على أسنانهم دون إضاعة أدنى ذرّة جهد بالكلام. الآخرون، يجلسون في مواجهتهم –أراهم مِن الظَّهر- في صمت مُطبِق تحت المطر المزعج، يوحنّا وسِنْتيخي في الوسط، قرب سارية الشراع، خلفهما ابنا حلفى، وفي الآخر متّى وسمعان اللذان يُجاهِدان للسيطرة على الدفّة عند كلّ موجة.

 

تجاوُز الرأس مُغامرة قاسية. أخيراً نَجَحوا... واسترخى الجذّافون قليلاً، فقد أُنهكوا. ويَسأَلون بعضهم ليعرفوا إذا ما كان عليهم اللجوء إلى بلدة صغيرة، فيما بعد الرأس. ولكنّ الرأي السائد هو أنّه "يجب إطاعة المعلّم حتّى ولو كان عكس الرأي السليم. وهو قال بوجوب الوصول إلى صور أثناء النهار". ويَمضون…

 

يَسكُن البحر فجأة. يُلاحِظون الظاهرة، ويقول يعقوب بن حلفى: «مكافأة الطاعة.»

 

«نعم. لقد انصرف الشيطان لأنّه فَشِلَ في جعلنا نعصى الأمر» يؤكّد بطرس.

 

«مع ذلك، سنصل إلى صور ليلاً. فهذا أَخَّرَنا كثيراً...» يقول متّى.

 

«لا يهمّ. سوف نذهب إلى النوم، وغداً سنبحث عن السفينة» يُجيب سمعان الغيور.

 

«ولكن هل سنجدها؟»

 

«يسوع قال ذلك، إذن سنجدها» يقول تدّاوس بكلّ ثقة.

 

«يمكننا رفع الشراع يا أخي» يقول أندراوس. «الريح الآن مواتية وسنمضي أسرع.»

 

بالفعل ينتفخ الشراع، ليس كثيراً، إنّما بشكل كافٍ بحيث يُغنِي عن عمل الجذّافين، وينساب الـمَركَب بخفّة صوب صور حيث يَظهَر الرأس، أو بالأحرى البرزخ (أرض ضيّقة تحيط بها مياه البحر من الجانبين) أبيض هناك في الشمال، في الومضات الأخيرة لنور النهار.

 

ويَهبط الليل بسرعة كبيرة. ويبدو غريباً، بعد رمدة النهار، رؤية النجوم تبزغ بنورها غير المتوقّع، وتَراقُص نجوم الدبّ الأكبر، بينما نور القمر الأبيض الساطع يُضيء البحر، بحيث يُخيَّل أنّ الفجر يَبزغ بعد اليوم المرهق، دون ليل…

 

يرفع يوحنّا بن زَبْدي رأسه صوب السماء، ينظر ويبتسم، وفجأة يبدأ بالإنشاد، مُنشّطاً حركة المجاذيف بنشيده حسب هذا الإيقاع:

 

«السلام عليكِ يا نجمة الصبح،

ياسمينة الليل،

قمر سمائي الذهبي،

أُمّ يسوع الكلّيّة القداسة.

يا رجاء البحّارة،

يَحلم بكِ الذي يتألّم ويموت،

أَرسِلي أشعّتكِ، أيّتها النجمة القدّيسة والورعة،

إلى الذي يحبّكِ، يا مريم!‍...»

 

يُنشِد مِلء صوته، سعيداً.

 

«ولكن ما الذي تفعله؟ نحن نتحدّث عن يسوع وأنتَ تتحدّث عن مريم؟» يَسأَل أخوه.

 

«هو فيها وهي فيه. ولكنّه وُجِد هو لأنّها هي وُجِدَت... دعني أُنشِد...» ويستسلم للإنشاد جارَّاً معه الآخرين…

 

هكذا يَصِلون إلى صور، والنزول مِن الـمَركَب سهل في المرفأ الأصغر جنوب البرزخ، حيث تسهر مصابيح مَراكِب كثيرة، والموجودون هناك لا يرفضون مدّ يد العَون للقادمين الجدد.

 

بينما يبقى بطرس ويعقوب في الـمَركَب، للسهر على الصناديق، والآخرون، مع رجل مِن مَركَب آخر ، يَمضُون إلى النَّزْل ليستريحوا.