ج8 - ف35
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثامن
35- (في عين نون. بنيامين الشّابّ)
04 / 03 / 1947
عين نون، هي حفنة منازل، إلى الأعلى قليلاً، صوب الشمال. هنا هو المكان الّذي كان فيه المعمدان: مغارة محاطة بوَفرة نباتات. إلى أبعد قليلاً، ينابيع تقرقر، ومِن ثمّ تُشكّل جدولاً جيّد التغذية بمياه تجري صوب نهر الأردن.
يسوع جالس خارج المغارة، حيث كان عندما حيّا ابن عمّه. إنّه وحده. الفجر بالكاد يصبغ الشرق باللون الأحمر، والأحراج تستفيق مع زقزقة الطيور الّتي تستيقظ. ثغاءات تصل مِن حظائر عين نون. نهيق يشقّ الفضاء الساكن. دَبيب خطىً على المسلك. يمرّ قطيع ماعز يقوده مراهق، يتوقّف برهة، محتاراً، لينظر إلى يسوع. ثمّ يمضي. لكنّه يعود بعد قليل، لأنّ معزاة صغيرة قد أصرّت على البقاء هناك لتراقب الرجل الذي لم تعتد على رؤيته في هذا الموضع، والّذي يمدّ يده الطويلة كي يقدّم لها ساق مردقوش ويداعب رأسها الفَطِن. الراعي الصغير يلبث منذهلاً، لا يدري إن كان عليه أن يُبعد البهيمة أو يترك يسوع يداعبها مبتسماً، كما لو أنّه كان مسروراً مِن أنّها أتت دون خوف لتجثم عند قدميه، واضعةً رأسها على ركبتيه. العنزات الأخرى تعود أدراجها أيضاً لترعى الأعشاب المزيّنة بزهور صغيرة.
الراعي الصغير يَسأَل: «أتريد حليباً؟ إنّني لم أحلب بعد عنزتين حَرونتين تنطحان مَن يضغط على ضرعهما إن لم تكونا شبعانتين. إنّهما مثل مالكهما، الّذي يضربنا بالعصا إن لم يكن متخماً بالربح.»
«هل أنتَ خادمٌ راعٍ؟»
«إنّني يتيم. وحيدٌ أنا. وخادم. هو قريب لي لأنّه زوج أخت أُمّ أُمّي. وطالما كانت راحيل موجودة… لكنّها ماتت منذ أشهر عديدة… وأنا بغاية التعاسة… خذني معكَ! إنّني معتاد العيش على القليل… سأكون لكَ خادماً… القليل مِن الخبز يكفيني كأجر. هنا أيضاً لا أملك شيئاً… لو كان يدفع لي، لكنتُ أرحل. لكنّه يقول: "هذا هو مالكَ؟ لكنّني أحتفظ به كي أُلبِسكَ وأُطعِمكَ". يُلبِسني!... أترى ذلك؟ يطعمني!... أُنظر إليّ… وهذه هي الضربات… خبزي للأمس، هذا...» يكشف عن آثار كدمات زرقاء على ذراعيه وكتفيه النحيلين جدّاً.
«ماذا فعلتَ؟»
«لا شيء. رفاقكَ، أقصد التلاميذ، كانوا يتحدّثون عن ملكوت السماوات، وأنا كنتُ أستمع إليهم… كان السبت. وحتّى إن لم أكن أعمل، فلم أكن خاملاً لأنّه كان السبت… لقد ضربني بوحشيّة، إلى درجة… أنّني لا أريد البقاء معه بعد. خذني. أو سأهرب… لقد تعمّدتُ المجيء إلى هنا هذا الصباح. كنتُ أخاف الكلام. لكنّكَ طيّب، وأتكلّم.»
«والقطيع؟ حتماً لا تودّ الهروب به...»
«...سوف أعيده إلى الحظيرة… إنّ الرجل سوف يذهب بعد قليل إلى الحرج لاقتطاع الحطب… سوف أعيد القطيع وسأهرب. آه! خذني!»
«إنّما أتعلم مَن أنا؟»
«إنّكَ المسيح! مَلِك ملكوت السماوات. مَن يتبعك هو مغبوط في الحياة الأُخرى. لم أحظ قطّ بفرح هنا… إنّما، لا ترفضني… بحيث أحظى به في العلى...» يبكي جاثياً عند قدميّ يسوع، قرب المعزاة الصغيرة.
«كيف تعرفني هكذا جيّداً؟ أربّما سمعتَني أتكلّم؟»
«لا. أعلم منذ الأمس أنّكَ هنا، حيث كان المعمدان. إنّما مِن عين نون يمرّ في بعض الأحيان تلاميذ لكَ. لقد سمعتُهم. يُدعون متّياس، يوحنّا، سمعان، وكانوا غالباً هنا لأنّ المعمدان كان معلّمهم قبلكَ. ومِن ثمّ إسحاق. لقد وجدتُ في إسحاق ثانيةً أباً وأُمّاً. إسحاق كان يريد حتّى انتزاعي مِن سيّدي، وأعطاه مالاً. إنّما هو! نعم، أخذ المال. لكنّه بعدها لم يسلّمني، ساخراً مِن رسولكَ.
«أنتَ تعلم أموراً كثيرة. إنّما أتعلم إلى أين أنا ذاهب؟»
«إلى أورشليم. إنّما غير مكتوب على وجهي أنّني مِن عين نون.»
«إنّني أذهب أبعد مِن ذلك. قريباً أرحل. لا يمكنني أن آخذكَ.»
«خذني لهذا الوقت القصير الّذي تستطيعه.»
«ومِن ثمّ؟»
«ومِن ثمّ… سوف أبكي، لكن سأذهب مع جماعة يوحنّا، الّذين هم أوّل مَن قالوا للولد المسكين بأنّ الفرح الّذي لا يمنحه البشر على الأرض، يمنحه الله في السماء لذوي الإرادة الصالحة. أنا، كي أحظى به، قد تلقّيتُ ضربات كثيرة، وشعرتُ بجوع كثير، سائلاً الله أن يمنحني هذا السلام. إنّكَ ترى أنّني امتلكتُ الإرادة الصالحة… إنّما الآن، إن رفضتَني، أنا… فلن أستطيع الرجاء بعد...» يبكي بهدوء، متوسّلاً يسوع بعينيه المغرورقتين بالدموع أكثر منه بشفتيه.
«لا أملك مالاً لأفتديكَ، ولا أعلم إن كان سيّدكَ يوافق على ذلك.»
«إنّما قد تمّ الدفع عنّي. لديَّ شهود. إنّ إيلي، لاوي ويونا قد رأوا الرجل ولاموه، وتعلم أنّهم الأكثر وجاهة في عين نون!»
«إذا كان الأمر كذلك… فهيّا بنا. انهض وتعال.»
«إلى أين؟»
«إلى سيّدكَ.»
«إنّني أخاف! اذهب وحدكَ. إنّه هناك، على هذا الجبل، وسط الأشجار الّتي يحتطب منها. أنا أنتظر هنا.»
«لا تخف. أُنظر، سيأتي تلاميذي إلى هنا. سنكون كُثُر بمواجهته. لن يؤذيكَ. انهض. سنذهب إلى عين نون لنبحث عن الشهود الثلاثة ونذهب إلى سيّدكَ. أعطني يدكَ. بعدها سأعهد بكَ إلى التلاميذ الّذين تعرفهم. ما اسمكَ؟»
«بنيامين.»
«لي صديقان صغيران آخران بهذا الاسم. ستكون الثالث.»
«صديق؟ هذا كثير! إنّني خادم.»
«للربّ العليّ. ليسوع الناصريّ أنتَ الصديق. تعال. اجمع القطيع ولنذهب.»
يسوع ينهض، وفيما الراعي الصغير يجمع العنزات ويدفع الحرونتين على درب العودة، فإنّ يسوع يشير للرُّسُل، الّذين يتقدّمون على الـمَسلَك وينظرون إلى جهة يسوع، بأن يأتوا سريعاً. فيحثّون الخطى. لكنّ القطيع قد شرع بالمسير، ويسوع، ممسكاً الراعي الصغير بيده، يمضي نحوهم…
«يا ربّ! هل أصبحتَ راعي جِداء؟ حقّاً إنّ السامرة يمكن أن ترعى الماعز… إنّما أنتَ...»
«إنّني الراعي الصالح، وأُحيل أيضاً الجداء حِملاناً. ثمّ إنّ الأطفال كلّهم حِملان، وهذا أكبر بقليل مِن طفل.»
«أليس هو يا ترى الطفل الّذي بالأمس أخذه ذاك الرجل بفظاظة؟» يقول متّى وهو يراه.
«أنا أظنُّ بأنّه هو. أهو أنتَ؟»
«إنّه أنا.»
«آه! أيّها الصبيّ المسكين! أبوكَ لا يحبّكَ بالتأكيد!» يقول بطرس.
«هو سيّدي. ليس لي أب آخر سوى الله.»
«نعم. تلاميذ يوحنّا قد أرشدوا جهله وعزّوا قلبه، وأبو الجميع قد جعلنا نلتقي به في الوقت المناسب. سنذهب إلى عين نون لنأخذ معنا ثلاثة شهود ومِن ثمّ نذهب إلى سيّده...» يقول يسوع.
«كي يعطيكَ الصبيّ؟ وأين هو المال؟ إنّ مريم قد وزّعت آخر ما كان معها...» يلاحظ بطرس.
«لا حاجة للمال. هو ليس عبداً، وقد سبق أن أُعطي مالاً لأخذه مِن السيّد. لقد أعطاه إسحاق، إذ جعله الصبيّ يشعر بالأسى.»
«ولماذا لم يحصل عليه؟»
«لأنّ كثيرين هم مَن يسخرون مِن الله والقريب. ها هي أُمّي مع النسوة. اذهبوا وقولوا لهنّ بألّا يتقدّمن أكثر.»
يعقوب بن زَبْدي وأندراوس يجريان بخفّة كأنّهما غزالان. يسوع يحثّ الخطى صوب أُمّه والتلميذات، ويصل إليهنّ حين كنّ قد علمن بالفعل، وينظرن إلى الصبيّ بشفقة.
يعودون بسرعة إلى عين نون. يدخلونها. يذهبون، يقودهم الصبيّ، إلى منزل إيلي، وهو عجوز قد غَشَّت السنون عينيه، لكنّه لا يزال نشيطاً. لا بدّ أنّه كان متين البنية في شبابه كما شجرة سنديان مِن تلك المناطق.
«إيلي، إنّ رابّي الناصرة سوف يأخذني إن...»
«يأخذكَ؟ ما كان يمكنه أن يفعل خيراً أعظم مِن ذلك. سوف تنتهي إلى أن تغدو شرّيراً بالبقاء هنا. إنّ القلب يغدو قاسياً عندما يدوم الظلم طويلاً. وهو بغاية القسوة. هل وجدتَه؟ إنّ العليّ ينصت إذن إلى بكائكَ، حتّى لو كان لصبيّ سامريّ. إنّكَ سعيد إذن، أنتَ الّذي «إنّما أين هو الرابّي؟ أنا عجوز لا أرى إلّا قليلاً، ولا أستطيع التعرّف إلّا على مَن أعرفهم جيّداً. وأنا لا أعرف الرابّي.»
بفضل عمركَ متحرّر مِن كلّ قيد، وبوسعكَ أن تتبع الحقّ دون أن يمنعكَ شيء مِن اتّباعه، ولا حتّى إرادة أب أو أُمّ. ها إنّ العناية الإلهيّة تتبدّى الآن فيما كان يبدو عقاباً لسنوات كثيرة. إنّ الله صالح. إنّما ما الّذي تريده منّي حتّى أتيتَ إلى هنا؟ بركتي؟ إنّني أمنحكَ إياها باعتباري شيخ المكان.
«بركتكَ أريدها. لأنّكَ صالح. ومِن ثمّ فقد أتيتُ كي تذهب مع لاوي ويونا، برفقة الرابّي، إلى سيّدي لئلّا يطالب بمال آخر.»
«إنّه هنا. إنّه أمامكَ.»
«هنا؟ أيّتها القدرة الأزليّة!» العجوز ينهض وينحني باتّجاه يسوع قائلاً: «اغفر للعجوز ذي العينين المظلمتين. إنّني أحيّيكَ، فواحد فقط هو بارّ في كلّ إسرائيل، وأنتَ هو هذا. هيّا بنا. إنّ لاوي في بستانه عند حوض التخمير، ويونا عند أجبانه.» العجوز يعاود النهوض. إنّه طويل القامة مثل يسوع، رغم انحنائه بفعل التقدّم بالسنّ. وينطلق محاذياً الجدار، متفادياً عوائق الدرب بالطبع بمساعدة عصاه.
يسوع، الّذي حيّاه بسلامه، يساعده في موضع فيه ثلاث درجات بدائيّة تجعل مِن الخطر على شخص شبه أعمى المتابعة. وقبل الانطلاق، يسوع كان قد قال للتلميذات أن ينتظرنه في هذا الموضع. بنيامين في تلك الأثناء يذهب إلى الحظيرة.
العجوز يقول: «إنّكَ طيّب. إنّما إسكندر وحش هو. إنّه ذئب. لا أدري إن… لكنّني غنيّ بما يكفي لأعطيكَ ما يلزم مِن المال لأجل بنيامين، إذا ما كان إسكندر يريد منه بعد. فأولادي ليسوا بحاجة لمالي. إنّني أقترب مِن المائة عام، والمال لا يلزم للحياة الأخرى. إنّ عملاً إنسانياً نعم، له قيمة...»
«لماذا لم تفعل ذلك قبلاً؟»
«لا تلمني أيّها الرابّي. لقد كنتُ أُطعم الطفل وأشدّد مِن عزيمته، لكيلا يستحيل شريراً. إنّ إسكندر قادر أن يجعل مِن يمامة طائراً كاسراً. لكنّني لم أكن أستطيع، ما مِن أحد كان يستطيع انتزاع الطفل منه. أنتَ… تمضي بعيداً. أمّا نحن… نبقى هنا، ونخشى انتقاماته. ذات يوم، شخص مِن عين نون قد تدخّل لأنّه، وهو سكران، كان يضرب الطفل حتّى الموت، وهو، لا أدري كيف فعل، تمكّن مِن تسميم القطيع.
«أليس سوء ظنّ؟»
«لا. لقد انتظر لأشهر عديدة، حتّى الشتاء، حين تلبث النعاج محبوسة، وقام بتسميم ماء الحوض. وقد شربت، انتفخت، وماتت كلّها. كلّنا رُعاة هنا، وفهمنا… وكي نتأكّد فقد أطعمنا كلباً مِن لحمها، والكلب مات. وكان هناك مَن رأى إسكندر يدخل خلسة إلى الحظيرة… آه! إنّه شرير! إنّنا نخشاه… قاسٍ، دوماً سكران في المساء. عديم الرحمة مع كلّ أهله. الآن، وقد ماتوا كلّهم، فهو يعذّب الصبيّ.»
«فإذن لا تأتِ إن...»
«آه! لا. إنّني آتٍ. ينبغي أن تُقال الحقيقة. هوذا. إنّي أسمع صوت ضربات المطرقة. إنّه لاوي.» ويناديه بصوت عالٍ قرب سياج: «لاوي! لاوي!»
يخرج رجل عجوز أصغر سنّاً مِن الأوّل، بثوب قصير، ومطرقة في يده. يحيّي إيلي ويسأله: «ماذا تريد يا صديقي؟»
«إلى جانبي رابّي الجليل. لقد جاء ليأخذ بنيامين. تعال، حيث أنّ إسكندر في الحرج، للشهادة بأنّه قد سبق أن حصل على المال مِن ذاك التلميذ.»
«إنّني آتٍ. لطالما قيل لي إنّ الرابّي كان صالحاً. الآن أصدّق ذلك. السلام لكَ!» يضع المطرقة، يقول لا أدري لِمَن بأن ينتظره ويمضي مع إيلي ويسوع.
سرعان ما يصلون إلى حظيرة يونا. يناديانه، يشرحان…
«إنّني آتٍ. أنتَ.» يأمر صبياً: «تابع العمل.» يجفّف يديه بقطعة قماش، ثمّ يرميها على وَتَد، ويتبع يسوع، بعدما حيّاه، ولاوي وإيلي كذلك.
يسوع في تلك الأثناء يتحدّث إلى العجوز. يقول له: «إنّكَ بارّ. الله سيمنحكَ السلام.»
«أرجو ذلك. عادل هو الربّ! ليس خطأ منّي أنّني وُلِدتُ في السامرة...»
«ليس خطأ منكَ. في الحياة الأخرى لا حدود للأبرار. وحدها الخطيئة تنصب حدّاً بين السماء والهاوية.»
«هذا صحيح. كم أرغب في أن أراكَ! إنّ صوتكَ عذب، ولطيفة هي يدكَ في قيادة العجوز الأعمى. لطيفة وقويّة. تبدو لي أنّها يد ابني الحبيب، إيلي، مثلي، ابن يوسف، ابني. إذا كان مظهركَ مثل يدكَ، فمغبوط مَن يراكَ.»
«سماعي أفضل مِن رؤيتي، فذلك يجعل الروح أكثر قداسة.»
«هذا صحيح. أنا أسمع أولئك الّذين يتحدّثون عنكَ. لكنّهم نادراً ما يمرّون… إنّما أليس هذا صوت فؤوس على جذوع أشجار؟»
«إنّه كذلك.»
«إذن… إسكندر قريب مِن هنا… ناده.»
«نعم. أنتم امكثوا هنا. إن استطعت تدبّر الأمر وحدي فلن أناديكم. لا تُظهِروا أنفسكم إذا لم أنادِكم.» يتقدّم وينادي بصوت عالٍ.
«مَن يريدني؟ مَن أنت؟» يقول رجل عجوز، متين البنية جدّاً، مظهره قاسٍ وله صدر وأطراف مُصارِع. إنّ ضربة مِن هاتين اليدين لا بدّ أن تكون كما ضربة هراوة.
«هذا أنا. غريب يعرفكَ. آتي كي آخذ ما هو لي.»
«لكَ؟ هه! هه! ما الّذي هو لكَ في حِرجي هذا؟»
«في الحرج لا شيء. في منزلكَ، بنيامين هو لي.»
«أنتَ مجنون! بنيامين هو خادمي.»
«وقريبكَ. وأنتَ سجّانه. أحد مُرسَليَّ أعطاكَ المال الّذي كنتَ تطلبه، للحصول على الصبيّ. وأنتَ أخذتَ المال واحتفظتَ بالطفل. إنّ مُرسَلي، الّذي هو رجل سلام، لم يبدِ ردّ فعل. أنا آتي باسم العدل.»
«لا بدّ أنّ مُرسَلَكَ قد شرب المال. أنا لم أحصل على شيء. وأحتفظ ببنيامين. إنّني أحبّه.»
«لا. إنّكَ تكرهه. إنّكَ تحبّ الكسب الّذي لا تعطيه منه شيئاً. لا تكذب. إنّ الله يعاقب الكاذبين.»
«أنا لم أحصل على مال. إن تكلّمتَ مع خادمي، فاعلم أنّه كاذب ماكر. وأنا سأضربه لأنّه يفتري عليَّ. وداعاً.» يدير له ظهره ويشرع بالابتعاد.
«حاذر يا إسكندر، إنّ الله حاضر. لا تتحدّى طيبته.»
«الله! أربّما الله مكلّف بحماية مصالحي؟ أنا وحدي عليَّ أن أحميها، وإنّني أحميها.»
«حاذر!»
«إنّما مَن أنتَ أيّها الجليليّ البائس؟ كيف تسمح لنفسكَ بأن تؤنّبني؟ أنا لا أعرفكَ.»
«أنتَ تعرفني. إنّني رابّي الجليل و...»
«آه! نعم! وتظنّ بأنّكَ تخيفني. أنا لا أخشى الله ولا بعلزبول. وتريدني أن أخافكَ أنتَ؟ مجنون؟ ارحل، ارحل! دعني أعمل. ارحل، أقول لكَ. لا تنظر إليَّ. أتظنّ بأنّ عينيكَ تستطيعان إخافتي؟ ما الّذي تريد أن تراه؟»
«جرائمكَ لا، لأنّني أعرفها كلّها. كلّها. حتّى تلك الّتي لا يعلمها أحد. لكنّني أريد أن أرى إذا ما كنتَ تدرك أنّ هذه هي الساعة الأخيرة الّتي تمحنكَ إيّاها رحمة الله كي تتوب. أريد أن أرى إن كان الندم لا يستفيق لشقّ قلبكَ الحجري، إن...»
الرجل، الّذي يحمل الفأس بيده، يقذفها صوب يسوع، الّذي ينحني سريعاً. الفأس ترسم قوساً فوق رأسه، وتمضي لتضرب شجرة سنديان فتيّة، الّتي تُقطع تماماً، وتسقط بصوت حفيف ورق قويّ، ورفرفة أجنحة عصافير مذعورة.
الثلاثة، المختبئون على مسافة قصيرة، يخرجون صائحين، خائفين مِن أنّ يكون يسوع أيضاً قد أصيب، والّذي لا يرى يصيح: «آه! أن أرى! أن أرى إن كان حقّاً غير مجروح! البَصَر لأجل هذا فقط، أيا أيّها الله الأزلي!» وأَصَمّ عن تأكيدات الآخرين، يتقدّم متخبّطاً، لأنّه فقد العصا ويريد لمس يسوع كي يتأكّد مِن أنّه لا ينزف في أيّ جزء مِن جسده، ويئنّ: «شعاع نور واضح، ومِن ثمّ الظلمات. إنّما أن أرى، أن أرى، دون هذا الحجاب الّذي بالكاد يسمح لي بتخمين العوائق...»
«ليس بي شيء يا أبي، المسني.» يقول يسوع لامساً إيّاه وتاركاً نفسه يُلمَس.
في تلك الأثناء، الآخران يوجّهان كلاماً قاسياً للشَرِس ويؤنّبانه على ضربه وكذبه، وهو، وقد تجرّد مِن فأسه، يُخرِج سكّيناً ويتقدّم ليطعن، مجدّفاً على الله، ساخراً مِن الأعمى، مهدّداً الآخرَين، إنّه حقاً يشبه وحشاً هائجاً. لكنّه يترنّح، يتوقّف، يُسقِط خنجره، يفرك عينيه، يفتحهما، يغمضهما، ثمّ يُطلِق صرخة رهيبة: «لم أعد أرى! النجدة! عيناي… الظلمات… مَن ينقذني؟»
الآخران يصرخان أيضاً، مِن الذهول. وأيضاً يسخران منه قائلين: «إنّ الله قد استجابكَ.»
بالفعل، فَمِن تجديفاته كانت هذه: «ليعمني الله إن كنتُ أكذب وإن كنتُ خطئتُ. ولأعمي نفسي بدلاً مِن أن أعبد ناصريّاً مجنوناً! بالنسبة لكم، سوف أنتقم، وسأحطّم بنيامين مثل تلك الشجرة…»
ويسخران منه بعد، قائلين: «انتقم الآن...»
«لا تكونا مثله. لا تكرها.» ينصح يسوع ويداعب العجوز، الّذي لا يهتم بأيّ أمر آخر سوى سلامة يسوع، الّذي كي يطمئنه يقول: «ارفع وجهكَ! انظر!»
المعجزة تتمّ. وكما هناك، للشرس، الظلمات، كذلك هنا النور للبارّ. وها هي صرخة، مختلفة، مغبوطة، تنطلق تحت الأشجار الصلبة: «إنّني أرى! عيناي! النور! لتكن مباركاً!» والعجوز يحدّق في يسوع بعينين تشعّان بحياة جديدة، ومِن ثمّ يسجد ليُقبّل قدميه.
«لنذهب نحن الاثنين. أنتما أعيدا هذا البائس إلى عين نون. وتحلّيا بالشفقة، فالله عاقبه. والله يكفي. وليكن الإنسان طيّباً تجاه كلّ مصيبة.»
«خذ الصبي، النعاج، الحرج، المنزل، المال. إنّما أَعِد لي البصر. لا أستطيع البقاء هكذا.»
«لا أستطيع. أترك لكَ كل ما به أصبحتَ خاطئاً. إنّني آخذ معي البريء لأنّه قاسى الاستشهاد. عسى نفسكَ تتمكّن في الظلمات مِن الانفتاح على النور.»
يسوع يحيّي لاوي ويونا وينزل مسرعاً مع العجوز، الّذي يبدو قد استعاد الشباب، والّذي إذ وصل إلى أوائل المنازل، فإنّه يهتف فرحه… عين نون بأسرها متأثّرة…
يسوع يشقّ لنفسه طريقاً، يقصد الراعي الصغير الّذي هو قرب الرُّسُل ويقول: «تعال! هيا بنا، حيث ينتظروننا في طرسة.»
«حرّ؟ حرّ؟ معكَ؟ آه! لا أصدّق! أحيّي إيلي. والآخران؟» الفتى قلق…
إيلي يقبّله ويباركه ويقول له: «واغفر للبائس.»
«لماذا؟ أغفر، نعم. لكن لماذا بائس؟»
«لأنّه جَدَّف على الربّ، والنور انطفأ في عينيه. لا يمكن لأحد منّا أن يخشاه بعد الآن. هو في الظلمات والعَجْز. رهيبة هي قدرة الله!...» هكذا يبدو العجوز كأنّه نبيّ مُلهَم، يداه مرفوعتان، وجهه إلى السماء، متأمّلاً في ما رآه.
يسوع يحيّيه، ويشقّ الجمع الصغير الهائج، يمضي، وخلفه يمضي الرُّسُل والتلميذات، ويمضي بنيامين، تحيّيه النساء اللواتي يردن إعطاء الـمُفَضّل لدى الربّ عربون محبّة: ثمرة، كيس مال، رغيف خبز، ثوباً، كلّ ما يجدنه بين أيديهنّ. وهو يحيّيهنّ ويشكرهنّ سعيداً، يقول لهنّ: «إنّكنّ دوماً طيّبات معي! سوف أتذكّر هذا. سوف أصلّي لأجلكنّ. أرسلن أبناءكنّ إلى الربّ. جميل هو البقاء معه. هو الحياة. وداعاً! وداعاً!...»
تجاوزوا عين نون. ينزلون باتّجاه الأردن، صوب سهل الوادي الأردني، نحو أحداث جديدة، لا تزال مجهولة…
لكنّ الصبيّ لا يلتفت لينظر. لا يعلّق. لا يفكّر. لا يتنهّد. هو يبتسم. ينظر إلى يسوع، هناك، أمام الجميع، راعياً حقيقيّاً يتبعه قطيعه، قطيع هو الآن ضمنه أيضاً، الصبيّ المسكين… وفجأةً يغنّي. بصوت منشرح…
الرُّسُل يبتسمون قائلين: «الصبيّ سعيد.»
النسوة يبتسمن قائلات: «العصفور السجين قد وجد ثانية الحرّية وعشّه.»
يبتسم يسوع، وهو يلتفت لينظر إليه، وابتسامته، كما دوماً، تبدو جاعلةً كلّ شيء أكثر إشراقاً، ويناديه قائلاً: «تعال إلى هنا، يا حَمَل الله الصغير. أريد أن أُعلّمكَ نشيداً جميلاً.» ويُنشِد المزمور، يتبعه الآخرون: "الربّ راعيَّ فلا يعوزني شيء. فِي مراعٍ خُضر يُرْبِضُني". إلى آخره… إنّ صوت يسوع الجميل جدّاً ينتشر عبر الريف الخصب، متفوّقاً على الأصوات الأخرى، حتّى على الأفضل، مِن فرط ما هو قويّ في فرحه.
«سعيد هو ابنكِ يا مريم.» تقول مريم الّتي لحلفى.
«نعم. هو سعيد. لا يزال به بعضٌ مِن فرح...»
«ما مِن سَفَر دونما ثمر. إنّه يمرّ ناشراً النِّعَم، ودوماً هناك مَن يلتقي بالمخلّص حقّاً. أتذكرين تلك الأمسية1 في بيت لحم الجليل؟» تَسأَل مريم المجدليّة.
«نعم. لكنّني لا أودُّ أن أتذكّر أولئك البرص وذاك الأعمى...»
«إنّكِ تغفرين على الدوام. إنّكِ طيّبة جدّاً! إنّما كذلك العدل ضروريّ.» تلاحظ مريم سالومة.
«إنّه ضروريّ. إنّما لحسن حظّنا أنّ الرحمة أعظم.» تقول أيضاً مريم المجدليّة.
«أنتِ تستطيعين قول ذلك. إنّما مريم...» تجيب يُوَنّا.
«مريم لا تريد سوى المغفرة، رغم أنّها هي نفسها لا تحتاج إلى مغفرة. أليس كذلك يا مريم؟» تقول سُوسَنّة.
«لا أودُّ سوى المغفرة. نعم. هذا فقط. كون المرء شرّيراً هو بحدّ ذاته معاناة رهيبة...» تتنهّد وهي تقول ذلك.
«أتغفرين للجميع، للجميع بحقّ؟ ولكن، هل مِن العدل فِعل ذلك؟ هناك مَن هم متعنّتون في الشرّ، يحجبون كلّ مغفرة، مستهزئين بها كما بضعف.» تقول مرثا.
«أنا أغفر. بالنسبة لي أنا أغفر. لا غباءً. لكن لأنّني أرى في كلّ نَفْس طفلاً صغيراً متفاوت الطيبة. مثل ابن… فالأُمّ تغفر دوماً… حتى وإن قالت: "العدالة تقتضي عقاباً عادلاً". آه! لو كان بوسع أُمّ أن تموت كي تلد قلباً جديداً، صالحاً، للابن الشرّير، فهل تعتقدن بأنّها لا تفعل؟ إنّما ذلك غير ممكن. فهناك قلوب ترفض كلّ مساعدة… وأنا أعتقد بأنّ الرحمة يجب أن تمنحهم هم أيضاً المغفرة. لأنّ العبء على قلوبهم هو بالأساس شديد الوطأة: عبء خطاياهم، صرامة الله… آه! لنغفر، لنغفر للمذنبين… وعسى الله أن يتقبّل مغفرتنا المطلقة لتخفيف دَينهم...»
«إنّما لماذا تبكين دوماً يا مريم؟ حتّى الآن وابنكِ يحظى بساعة فرح!» تشتكي مريم الّتي لحلفى.
«لم يكن ذلك فرحاً كاملاً، حيث إنّ المذنب لم يتب. فيسوع يكون في سعادة تامّة عندما يستطيع أن يفتدي...»
مَن يدري لماذا نيقي، الّتي لم تتكلّم أبداً، تقول فجأةً: «بعد قليل سنكون مجدّداً مع يهوذا الاسخريوطيّ.»
النسوة يتبادلن النظر، كما لو أنّ العبارة البسيطة هذه كانت أمراً استثنائيّاً، كأنّ وراءها يكمن لا أدري أيّ أمر جلل. إنّما ولا واحدة تتفوّه بكلمة.
يسوع يتوقّف في بستان زيتون جميل جدّاً. الجميع يتوقّفون. يسوع يبارك ويقسم الطعام، ومِن ثمّ يوزّعه.
بنيامين ينظر إلى ما أعطوه إيّاه ويرتّبه: أثواب طويلة جدّاً أو فضفاضة جدّاً، نعلان لا يناسبان قدميه، لوز بقشره، ما بقي مِن جوز، قطعة جبن صغيرة، بعض تفاح متغضّن، سكّين كبيرة. إنّه سعيد بكنزه. يريد تقديم الأطعمة. ويطوي الأثواب قائلاً: «سأرتدي الأجمل للفصح.»
مريم الّتي لحلفى تَعِد: «في بيت عنيا سأصلحها لكَ كلّها. في انتظار ذلك، دع هذا خارجاً. في طرسة سيكون هناك ماء لتنظيفه، وما بعد ذلك سيكون هناك خيط لضبط قياسه. ومِن ثمّ بالنسبة للنعلين… لا أدري ما العمل.»
«سوف نعطي هذين لأوّل فقير نصادفه ويناسبان قدميه، ونشتري زوجاً جديداً منها في طرسة.» تقول مريم المجدليّة برويّة.
«بأيّ مال يا أختاه؟» تسألها مرثا.
«آه! هذا صحيح! ما عاد لدينا قطعة نقد صغيرة… لكنّ يهوذا لديه مال… لا يستطيع بنيامين أن يقطع طريقاً طويلة بنعلين هكذا. ومِن ثمّ، الطفل المسكين! إنّ روحه قد حظيت بفرح عظيم، إنّما كذلك إنسانيّته يجب أن تحظى كذلك بابتسامة… إنّ بعض الأمور تمنح سروراً.»
سُوسَنّة، الشابة والمرحة، تقول ضاحكة: «تتكلّمين كما لو كنتِ تعلمين بالخبرة أنّ زوج نعل جديد يمنح الفرح لمن لم يملك مثله مطلقاً!»
«هذا صحيح. إنّما لأنّني أعلم بالفعل كيف يمكن أن يمنح الفرح ثوب جافّ عندما نكون مبلّلين، وثوب منعش عندما لا نملك سوى واحد. إنّني أذكر...» وتحني رأسها على كتف مريم فائقة القداسة قائلةً: «أتذكرين يا أُمّي؟2» وتقبّلها بحنان.
يسوع يعطي الأمر بالرحيل، كي يكونوا في طرسة قبل المساء: «سوف يقلق الاثنان اللذان ليسا على علم...»
«أتريد أن نتقدّم لنقول لهما أنّكَ تصل؟» يقترح يعقوب بن حلفى.
«نعم. اذهبوا كلّكم، ما عدا يوحنّا ويعقوب وأخي يوضاس. إنّ طرسة لم تعد بعيدة… اذهبوا إذن. ابحثوا عن يهوذا وإليز، وأَعِدّوا لنا الأمكنة في الوقت ذاته، لأنّه مِن الأفضل قضاء الليل هناك، حيث أنّنا قد تأخّرنا كثيراً والنسوة معنا… في غضون ذلك سوف نتبعكم. تصرّفوا بحيث نجدكم عند طلائع المنازل...»
الرُّسُل الثمانية يمضون سريعاً، ويسوع يتبعهم بأكثر بطئاً.
----------
1- أنظر (ج4 ف111)
2- أنظر (ج4 ف101)