ج5 - ف45

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الخامس/ القسم الثاني

 

45- (التلميذ الجديد: نيقولاوس الذي مِن أنطاكية)

 

09 / 12 / 1945

 

يسوع وحده على شرفة بيت توما في كفرناحوم. المدينة في استراحة السبت، وقد تقلّص عدد السكّان، ذلك أنّ الحريصين على الممارسات الإيمانيّة قد مضوا إلى أورشليم، وكذلك الذين مضوا إلى هناك عائليّاً ومعهم أولاد ولا يمكنهم السير لمسافات طويلة، ويُرغِمون أهلهم على التوقّف في مراحل قصيرة. وكذلك غاب عنها، أثناء النهار الضبابيّ، الجوّ الطفوليّ الساحر.

 

يسوع غارق للغاية في تفكيره. يجلس على مقعد منخفض جدّاً، في ركن، قرب جدار السور، والسلّم خلف ظهره، وكأنّه مختبئ خلف هذا الجدار، الـمِرفَق على ركبته ورأسه مستند على يده في حركة توحي بالتعب، كما لو أنّه كان يتألّم. يَقطَع له تأمّلَه صبيّ أراد تحيّته قبل رحيله إلى أورشليم. «يسوع! يسوع!» يصيح مع كلّ درجة لعدم رؤيته يسوع، ذلك أنّ الجدار يحجبه عمّن هُم في الأسفل. ويسوع غارق في تفكيره إلى الدرجة التي لم يَعُد معها يسمع الصوت الضعيف وخطوات العصفور... بشكل أنّه، عندما وَصَل الصبيّ إلى الشرفة، كان هو لا يزال في وضعيّة الألم تلك.

 

ويمكث الصبيّ فَزِعاً. يقف على حافّة الشرفة، يضع إصبعه الصغير بين شفتيه ويفكّر... ثمّ يصمّم ويدنو ببطء... لقد أَصبَحَ خلف يسوع... ينحني ليرى ماذا يفعل... ويقول: «لا، كُن طيّباً! لا تبكِ! لماذا؟ أبسبب أَفظَاظ الأمس؟ كان أبي يقول هو ويائيروس إنّهم غير جديرين بكَ. أمّا أنتَ، فينبغي لكَ ألاّ تبكي. أنا أحبّكَ كثيراً، وكذلك أختي الصغيرة ويعقوب وطوبيت، ويُوَنّا ومريم وميخا والجميع، جميع أطفال كفرناحوم. لا تَعُد تبكي...» ويرتمي على عنقه، مداعباً إيّاه، وينتهي بالقول: «وإلاّ فسأبكي، أنا أيضاً، سأبكي على الدوام... طوال الرحلة...»

 

«لا يا داود، لن أبكي. لقد واسَيتَني. هل أنتَ وحدكَ؟ متى ترحلون؟»

 

«بعد الغسق. بالـمَركَب إلى طبريّا. تعال معنا. أبي يحبّكَ كثيراً، هل تَعلَم؟»

 

«أعلم يا حبيبي. إنما عليَّ المضيّ لرؤية أطفال آخرين... أشكركَ على مجيئكَ لتحيّتي وأبارككَ، يا داود الصغير. أعطني قبلة الوداع، ثمّ عُد إلى أُمّكَ. هل هي تَعلَم أنّكَ هنا؟...»

 

«لا. لقد هربتُ، لأنّني لم أَرَكَ مع التلاميذ، وفكّرتُ أنّكَ كنتَ تبكي.»

 

«لم أعد أبكي، كما ترى. اذهب للقاء أُمّكَ التي قد تكون تبحث عنكَ بقلق. وداعاً. احترس مِن حمير القوافل. هل ترى؟ فهناك مَن يقف منهم في كلّ مكان.»

 

«ولكن أصحيح أنّكَ لن تبكي بعد؟»

 

«لا. لم أعد أتألّم، لقد انتَزَعتَه منّي. شكراً لكَ يا بنيّ.»

 

يهبط الصبيّ السلّم مسرعاً، ويراقبه يسوع. ثمّ يهزّ رأسه، يعود إلى مكانه، إلى تأمّله الأليم.

 

يمضي بعض الوقت. الشمس الآخذة في الغروب تظهر الآن بعد أن انقشعت الغيوم.

 

خطوة أكثر ثِقلاً على السلّم. يرفع يسوع رأسه. يرى يائيروس متوجّهاً إليه. يحيّيه. ويردّ له يائيروس التحيّة بكلّ احترام.

 

«ما الذي أتى بكَ إلى هنا، يا يائيروس؟»

 

«يا ربّ! قد أكون أخطأتُ. ولكنّكَ أنتَ الذي ترى قلوب البشر، سترى أنّه لم يكن في قلبي أيّة نيّة سيّئة. لم أَدعُكَ اليوم للتحدّث في المجمع. ولكنّني تألّمتُ مِن أجلكَ كثيراً أمس، ورأيتُكَ تتألّم كثيراً، لدرجة أنّني... لم أجرؤ. سألتُ أتباعكَ. قالوا لي: "يودّ البقاء وحيداً"... ولكن، منذ لحظة، جاءني فليبّس، أبو داود، وقال لي إنّ ابنه الصغير قد رآكَ تبكي. قال إنّكَ شكرتَه لمجيئه إليكَ. فأتيتُ أنا أيضاً. يا معلّم، الذين ما يزالون في كفرناحوم، سوف يجتمعون في المجمع، ومجمعي هو مجمعكَ، يا ربّ.»

 

«شكراً يا يائيروس. اليوم سيتكلّم آخرون في المجمع. أنا، سآتي كمؤمن عاديّ...»

 

«إنّكَ لستَ مجبر على المجيء. فالعالم كلّه هو مجمعكَ. ولكن أحقّاً أنّكَ لن تأتي، يا معلّم؟»

 

«لا، يا يائيروس. سوف أَمكُث هنا أمام الآب الذي يفهمني ولا يرى فيَّ خطيئة.» وتلمع دمعة في عين يسوع الحزينة.

 

«وأنا أيضاً لا أرى فيكَ خطيئة... وداعاً يا ربّ.»

 

«وداعاً يا يائيروس.» ويجلس يسوع مِن جديد، متأمّلاً.

 

وتَصعَد ابنة يائيروس، بثوبها الأبيض، خفيفة كاليمامة. تَنظُر... تنادي بهدوء: «مُخلّصي!»

 

يلتفت يسوع، يراها، يبتسم لها ويقول: «تعالي إليَّ.»

 

«نعم يا ربّي. ولكنّني أودُّ أن آخذُكَ إلى الآخرين. لماذا ينبغي على المجمع أن يصمت اليوم؟»

 

«هناك أبوكِ وآخرون كثيرون ليملؤوه كلاماً.»

 

«ولكنّه كلام... أمّا التي لكَ فالكلمة. آه! ربّي! بكلمتكَ أَعَدتَني إلى أُمّي وأبي، وكنتُ ميتة. ولكن انظر إلى الذين يذهبون إلى المجمع! كثيرون هُم الأموات أكثر ممّا كنتُ عليه أنا حينذاك. تعال لتمنحهم الحياة.»

 

«يا ابنتي، أنتِ كنتِ تستحقّين ذلك؛ أمّا هم... فلا يمكن لأيّة كلمة أن تمنح الحياة لِمَن اختار لنفسه بنفسه الموت

 

«نعم، يا ربّي. ولكن مع ذلك تعال. فهناك مَن يَحيَون أكثر بسماعكَ... تعال. ضع يدكَ في يدي، ولنمضِ. أنا شاهدة على سلطانكَ، وأنا مستعدّة للشهادة حتّى أمام أعدائكَ، حتّى ولو كان الثمن فقدان هذه الحياة الثانية التي أصلاً لم تعد لي. أنتَ مَنَحتَني إيّاها، يا معلّمي الصالح، رحمة بأُمّ وأب. أمّا أنا...» والصبيّة، الصبيّة الجميلة التي أَصبَحَت امرأة صغيرة، بالعينين الوادعتين اللتين تلمعان في وجهها النقيّ والذكيّ، تتوقّف بسبب سيل مِن الدموع خَنَقَها، وهو يسيل مِن أهدابها الطويلة على خَدَّيها.

 

«لماذا تبكين الآن؟» يَسأَلها يسوع واضعاً يده على شعرها.

 

«لأنّه... قيل لي إنّكَ قُلتَ بأنّكَ ستموت...»

 

«كلّ الناس سيموتون، أيّتها الصبيّة.»

 

«ولكن ليس كما تقول! أنا... آه! الآن لم تَعُد لديَّ الرغبة بأن أعود حيّة، كي لا أرى ذلك، كي لا أكون حاضرة عندما... تَحدُث هذه الفظاعة...»

 

«إذاً، فلن تكونين موجودة عندئذ كي تمنحيني المواساة كما تفعلين الآن. ألا تعلمين أنّ الكلمة، حتّى كلمة واحدة، مِن إنسان نقيّ، مِن إنسان يحبّني، تُزيل عنّي كلّ ألم؟»

 

«حقّاً؟ آه! إذن ينبغي لكَ ألّا يكون لديكَ أيّ ألم، لأنّني أحبّكَ أكثر مِن أُمّي ومِن أبي وأكثر مِن حياتي!»

 

«هو كذلك.»

 

«إذن تعال، لا تبقَ وحيداً. تحدّث إليَّ، إلى يائيروس، إلى أُمّي، إلى داود الصغير، خلاصة القول، إلى الذين يحبّونكَ. نحن كُثُر، وسنكون أكثر باطّراد. ولكن لا تبقَ وحدكَ. فتصاب بالكآبة.» وبأمومة غريزيّة مثل كلّ امرأة نزيهة، تَختم بقولها: «ومعي أنا، إلى جانبكَ، لن يَـمَسّكَ أحد بسوء. وعلاوة على ذلك، أنا سأدافع عنكَ.»

 

يَنهَض يسوع إرضاء لها. اليد في اليد، يَقطَعان الطرقات ويَدخُلان المجمع مِن باب جانبيّ.

 

يائيروس الذي كان يقرأ لفافة بصوت مرتفع، يتوقّف عن القراءة ويقول، وهو ينحني انحناءة كبيرة: «يا معلّم، أرجوكَ، تحدّث إلى ذَوي القلوب المستقيمة. هَيِّئنا للفصح بكلمتكَ المقدّسة.»

 

«كنتَ تقرأ سِفر الملوك، أليس كذلك؟»

 

«نعم، يا معلّم. كنتُ أحاول جعلهم يُدرِكون أنّ الذي يبتعد عن الإله الحقّ يقع في عبادة أوثان عجول الذهب.»

 

«أحسنتَ قولاً. هل لأحد ما يقوله؟»

 

وترتَفِع الجَّلَبة بين الجمع. البعض يريدون أن يتكلّم يسوع، آخرون يصيحون: «إنّنا على عَجَلة مِن أمرنا. فلتُتْلَ الصلوات ولنُنْهِ الاجتماع. نحن أصلاً ماضون إلى أورشليم، وهناك سنستمع إلى الرابيّين.» والذين يَصيحون هكذا هُم فارّو الأمس كثيرو العدد، الذين احتجزهم السبت في كفرناحوم.

 

يَنظُر إليهم يسوع بحزن شديد، ويقول: «أنتم على عَجَل، هذا صحيح. الله كذلك على عَجَل ليدينكم. امضوا إذن.» ثمّ، ملتفتاً إلى الذين يوبّخونهم، يقول: «لا تلوموهم. كلّ نبتة تطرح ثمارها.»

 

«يا ربّ، كرّر ما فَعَلَه نحميا! تكلَّم ضدّهم، أنتَ الكاهن الأعظم!» يصيح يائيروس ساخطاً، ويردّد وراءه ككورس الرُّسُل والتلاميذ ورجال كفرناحوم.

 

يُصالِب يسوع ذراعيه، وشاحباً للغاية، يبدو عليه الألم ومع ذلك هو وديع جدّاً، يهتف: «اذكرني يا إلهي! بِرِضا! واذكرهم أيضاً، بِرِضا! أنا أسامحهم!»

 

يَفرغ المجمع، ولا يبقى سوى الأوفياء ليسوع... هناك غريب في أحد الأركان. رجل قويّ لا ينظر إليه أحد ولا يكلّمه أحد. وكذلك هو لا يكلّم أحداً. لا يفعل سوى التحديق بيسوع لدرجة أنّ يسوع يلتفت إلى تلك الناحية، يراه ويَسأَل يائيروس مَن يمكن أن يكون ذاك.

 

«لا أدري، عابر سبيل بالتأكيد.»

 

يناديه يسوع: «مَن أنتَ؟»

 

«نيقولاوس مِن الصابئة في أنطاكية، وقد قصدتُ أورشليم مِن أجل الفصح.»

 

«عمّن تبحث؟»

 

«عنكَ أنتَ، يا ربّي، يسوع الناصريّ، أرغب في التحدّث إليكَ.»

 

«تعال.» ويأخذه إلى جانبه ليخرج به إلى الحديقة خلف المجمع ليَسمعه.»

 

«لقد تحدّثتُ في أنطاكية إلى أحد تلاميذكَ، ويدعى فيلكس. وكنتُ أتحرّق رغبة في التعرّف إليكَ. لقد قال لي إنّكَ تقيم في كفرناحوم، وأُمّكَ في الناصرة. وأيضاً إنّكَ تمضي إلى جَثْسَيْماني أو إلى بيت عنيا. وقد هَيّأ لي الأزليّ أن ألتقيكَ في المكان الأوّل. أنا، كنتُ هنا في الأمس... وكنتُ قريباً هذا الصباح، بينما كنتَ تبكي وأنتَ تصلّي قرب النبع... أُحبّكَ، يا ربّي، لأنّكَ قدّيس ووديع. أؤمن بكَ. أفعالكَ، أقوالكَ، جَعَلَتني مُلكاً لكَ. ولكنّ رحمتكَ الآن، تجاه المذنبين، جَعَلَتني أُقرّر. ربّي، اقبلني بدل الذين تركوكَ! إنّي أُقبِل إليكَ بكلّ ما لديَّ: الحياة والخيرات، كلّ شيء.» ويجثو بينما يقول الكلمة الأخيرة.

 

يُحدِّق فيه يسوع... ثمّ يقول له: «تعال، أنتَ، منذ اليوم، للمعلّم. فلنمض إلى رفاقكَ.»

 

يعودان إلى المجمع حيث يجري حِوار مفتوح بين الرُّسُل والتلاميذ ويائيروس.

 

«هو ذا تلميذ جديد. الآب يواسيني. أَحِبّوه كأخ. هيّا بنا لنتقاسم معه الخبز والملح. ثمّ تمضون معه ليلاً إلى أورشليم، ونحن نمضي بالـمَركَب إلى إيبو... ولا تُفصِحوا عن طريقي لأحد كي لا أُحتَجَز.»

 

ولكنّ السبت انتهى في هذه الأثناء، والذين يُريدون تجنّب يسوع، هُم الآن جماعة على الشاطئ للتفاوض مِن أجل العبور إلى طبريّا. ويتشاجرون مع زَبْدي الذي لا يريد التخلّي عن مَركَبه، الجاهز إلى جانب مَركَب بطرس، لسفر يسوع الليليّ مع الاثني عشر.

 

«سوف أساعده!» يقول بطرس الغاضب.

 

ويسوع، تحاشياً للصدامات العنيفة، يحتجزه قائلاً: «لنمض جميعنا، لا أنتَ وحدكَ.»

 

ويَمضون... ويتذوّقون المرارة لرؤيتهم الذين يتجنّبون يَذهبون دون كلمة تحيّة، قَاطِعين كلّ حِوار للابتعاد عن يسوع... ويَسمَعون بعض الصّفات الحقيرة، والنصائح اللّاذعة للتلاميذ الأوفياء…

 

يَدور يسوع ليعود إلى البيت، بعد رحيل المجموعة المعادية، ويقول للتلميذ الجديد: «هل سمعتَهم؟ هذا ما ينتظركَ بإقبالكَ إليَّ.»

 

«أَعلَم. ومِن أجل هذا أنا باقٍ. كنتُ قد رأيتُكَ ،في يوم نَصر، وسط جموع تحيّيكَ وهي تنادي بكَ "مَلِكاً". رفعتُ كتفيّ وأنا أقول: "واهم آخر مسكين! بَليّة أخرى لإسرائيل!" ولم أتبعكَ لأنّكَ ما بدوتَ لي مَلِكاً، ولم أعد أفكّر بكَ. والآن أتبعكَ لأنّني، مِن خلال كلامكَ وصلاحكَ، أرى فيكَ مَسيّا المنتظر.»

 

«في الحقيقة إنّكَ أكثر بِرّاً مِن كثيرين. وبالمناسبة، أقول مرّة أخرى: مَن يأمل فيَّ مَلِكاً أرضيّاً فلينسحب. ومَن يَشعُر بالخجل تجاه عالَم يكيل الاتّهامات، فلينسحب. ومَن يأنف مِن رؤيتي أُعامَل كمجرم، فلينسحب. أقول لكم ذلك في الوقت الذي ما يزال بإمكانكم فِعل ذلك بعد دون تعريض سمعتكم للخطر في عيون العالم. اقتدوا بأولئك الذين يَفرّون على تلك الـمَراكِب، إذا لم تكن لديكم الشجاعة لمشاركتي مصيري في العار، للتمكّن بعدئذ مِن مشاركتي مصيري في المجد. فذلك سوف يحدث: سوف يُتَّهم ابن الإنسان ثم يُسَلَّم إلى البشر الذين يقتلونه كمجرم، ويظنّون أنّهم انتصروا عليه. ولكنّهم عبثاً يرتكبون جريمتهم، لأنّني سأقوم بعد ثلاثة أيّام وسأنتصر. فطوبى للذين يعرفون أن يكونوا معي إلى المنتهى!»

 

بَلَغوا المنـزل، ويُوكِل يسوع الوافد الجديد إلى التلاميذ. يَصعَد بمفرده إلى حيث كان سابقاً. بل إنّه يمضي إلى الغرفة العليا حيث يَجلس، ليفكّر.

 

بعد قليل يَصعَد الاسخريوطيّ وبطرس. «يا معلّم، يهوذا جَعَلَني أُفكِّر بأمور صوابيّة.»

 

«قُلها.»

 

«قَبِلتَ نيقولاوس هذا، وهو صابئ، ونحن نجهل ماضيه. كانت وما زالت لدينا متاعب كثيرة. والآن؟ ماذا نعرف عنه؟ هل يمكننا أن نَثِق به؟ يقول يهوذا، وأرى رأيه صائباً، إنّه قد يكون جاسوساً مُرسَلاً مِن قِبَل خصوم لنا.»

 

«ولكن نعم! خائن! لماذا لم يَرضَ أن يقول مِن أين هو آتٍ ومَن أَرسَلَه؟ لقد سألتُهُ، ولكنّه يقول فقط: "أنا نيقولاوس الذي مِن أنطاكية، صابئ". أنا لديَّ شكوك قويّة.»

 

«أُذكِّركَ أنّه إنّما أتى لأنّه رآني مغدوراً بي.»

 

«قد يكون ذلك كذباً! وقد يكون خيانة وغدراً!»

 

«الذي يرى في كلّ شيء كذباً وخيانة هو نَفْس قادرة على تلك الأمور، لأنّه يحكم بحسب نموذجه.» يقول يسوع جادّاً.

 

«ربّي، أنتَ تُهينني!» يَهتف يهوذا مغتاظاً.

 

«اتركني إذن، واذهب مع الذين هَجَروني.»

 

يَخرُج يهوذا مُغلِقاً الباب بعنف.

 

«ربّي، ليست لدى يهوذا الإساءات كلّها... ثمّ لا أريد أن... هذا الرجل يتحدّث عن يوحنّا. ولا يمكن إلاّ أن يكون الرجل الذي مِن عين دور، فيلكس ذاك، هو الذي أَرسَلَه لكَ...»

 

«بالتأكيد، ولكنّ يوحنّا حَذِر، وقد استعاد اسمه القديم. كُن مطمئنّاً يا سمعان. رجل يصبح تلميذاً لأنّه عَلِمَ أنّ باعِثي الإنسانيّ قد تلاشى، لا يمكن أن يكون غير روح مستقيم. وهو مختلف تماماً عن الذي خَرَجَ للتوّ، والذي أَقبَلَ إليَّ لأنّه كان يأمل أن يكون رئيساً لوزراء مَلِك مُقتَدِر... وهو لا يقتنع أنّني مَلِك فقط للروح...»

 

«هل لديكَ شكوك حوله، ربّي؟»

 

«ولا حول أحد. ولكن الحقّ أقول لكَ، حيث يَبلغ نيقولاوس، التلميذ والصابئ، لن يَبلغ يهوذا بن سمعان، الرسول الإسرائيليّ واليهوديّ.»

 

«ربّي، أودُّ أن أَسأَل نيقولاوس عن... يوحنّا.»

 

«لا تَفعَل. يوحنّا لم يُحَمِّله شيئاً لأنّه حَذِر. لا تكن أنتَ المتهوِّر.»

 

«لا، يا ربّ. كنتُ أسألكَ ذلك فقط...»

 

«لننـزل لاستعجال الطعام. عندما يهبط الليل تماماً نرحل... سمعان... هل تحبّني؟»

 

«آه! يا معلّمي! ما الذي تقوله؟»

 

«يا سمعان، قلبي أكثر ظلاماً مِن البحيرة في ليل العاصفة، وهو أكثر اضطراباً منها...»

 

«آه! يا معلّمي!... ماذا عليَّ أن أقول لكَ، إذا ما كنتُ أكثر... ظلاماً واضطراباً منكَ؟ أقول لكَ: "ها هو سمعانكَ، وإذا كان بإمكان قلبي أن يواسيكَ، خُذه". لا أَملِك غيره، ولكنّه نزيه.»

 

يضع يسوع رأسه للحظة على الصدر العريض والمتين، ثمّ يَنهَض وينـزل مع بطرس.