ج5 - ف73

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الخامس/ القسم الثاني

 

73- (عند المخاضة بين أريحا وبيت عَبرة)

 

14 / 02 / 1946

 

ضِفاف الأردن قُرب المخاضة تُشبه تماماً مخيّماً للبدو، في هذه الأيّام حيث تعود القوافل إلى بلادها محلّ إقامتها. خيام، أو حتّى مجرّد أغطية، ممتدّة مِن جذع شجرة إلى آخر، مُستَنِدة إلى عصيّ مغروسة في الأرض، مربوطة إلى السرج العالي لأحد الجِّمال، مربوطة بشكل يسمح بالاحتماء تحتها، بعيداً عن الندى الذي يُشبِه مطراً حقيقيّاً، في هذه الأمكنة المنخفضة عن مستوى سطح البحر، موزّعة على طول الخمائل التي تُشكِّل إطاراً مِن الخُضرة حول النهر.

 

عندما وَصَل يسوع مع أتباعه قرب النهر، شمال المخاضة، كان جميع المخيِّمين ما يزالون يستيقظون على مهل. على هذا يكون يسوع قد غادَرَ بيت نيقي عند أوّل وميض نور، ذلك أنّ الوقت الآن ليس الفجر تماماً، ومظهر الأمكنة لا يتعدّى كونه جمالاً وانتعاشاً وصفاء. الأكثر استعجالاً، وقد أيقَظَهم صهيل الجياد، نهيق الحمير، جَلَبَة الجِّمال ومشاجرات وتغريد مئات العصافير بين أوراق الصفصاف والقصب والأشجار الكبيرة التي تُشكّل رِواقاً أخضراً فوق الضّفاف الـمُزهِرة، يبدأون بالخروج مِن الخِيام المتعدّدة الألوان والنـزول إلى النهر للاغتسال. بكاء أطفال وأصوات ناعمة لأُمّهات يتحدّثن إلى أولادهنّ. ومِن دقيقة إلى أخرى، تبدأ الحياة بالتجلّي تحت كلّ هذه المظاهر. مِن أريحا القريبة يَفِد بائعون مِن كلّ صنف ومُسافرون جُدد، حُرّاس وجنود مكلّفون بالرقابة والمحافظة على النظام في هذه الأيّام التي تتلاقى فيها عشائر مِن كلّ المناطق، وهُم لا يوفِّرون على أنفسهم الشتائم ولا الاتّهامات، والتي لا بدّ أن تكون فيها سرقات كثيرة يرتكبها سارقون يَختَلِطون بالجموع في لباس حُجّاج، ليرتَكِبوا في الحقيقة جرائم سرقة، وهناك أيضاً بغايا يحاولن القيام بحجّهنّ الفصحيّ، بابتزاز المال والهدايا مِن الحُجّاج الأكثر ثراء والأكثر فسقاً، ثمناً لساعة متعة تتلاشى فيها كلّ التطهيرات الفصحيّة... النساء الفاضلات اللواتي كُنّ وسط الحجّاج، مع أزواجهنّ أو أولادهن البالغين، يصفرن كطائر العقعق غاضبات لاستعادة رجالهنّ المستمتعين، أو هذا ما كان يبدو للزوجات والأُمّهات، في رؤيتهنّ العاهرات. وأولئك يضحكن بصفاقة ويجبن على... النعوت التي توجّهها لهنّ النساء الفاضلات. الرجال، وخاصّة الجنود منهم، يضحكون ولا يتردّدون في المزاح مع تلك النساء. بعض الإسرائيليّات الصارمات حقّاً في موضوع الأخلاق، أو فقط صارمات بِرِياء، يبتعدن بازدراء، وآخرون... يَستَخدِمون مسبقاً أبجديّة الصمّ البكم إذ إنّهم يتفاهمون مع البغايا جيّداً بالإشارة.

 

لا يَسلك يسوع الطريق المباشر المؤدّي إلى وسط المخيّم، ولكنّه يَهبط إلى شاطئ النهر الرمليّ، يَخلَع نعليه ويسير حيث الماء يُلامِس العشب، يتبعه الرُّسُل.

 

الأكبر سنّاً، الذين هم الأكثر تشدّداً، يُهمهِمون: «والقول بأن المعمدان قد كَرَز هنا بالتوبة!»

 

«نعم! ولقد أَصبَحَ هذا المكان أسوأ مِن رِواق حمّامات عموميّة رومانيّة!»

 

«ولا يتورّع الذين يدّعون القداسة عن التلهّي فيه!»

 

«أرأيتَ أنتَ كذلك؟»

 

«أنا أيضاً لديَّ عينان في رأسي. رأيتُ! رأيتُ!...»

 

الأكثر شباباً أو الأقلّ صرامة -أي يهوذا الاسخريوطيّ الذي يضحك وينظر بانتباه كثير إلى ما يجري في المخيّمات، ولا يتورّع عن تأمُّل الجميلات الصفيقات الآتيات سعياً وراء زبائن؛ وتوما الذي يضحك لرؤية غَضَب الزوجات وازدراء الفرّيسيّين؛ ومتّى الذي، إذ كان مِن الخَطَأة، لا يستطيع التحدّث عن الرذيلة ومُرتَكِبيها، والذي يكتفي بالتنهّد وهزّ الرأس، ويعقوب بن زَبْدي الذي يُلاحِظ دون إعارة أيّ اهتمام ودون انتقاد، بلا مبالاة- هُم في مؤخّرة الثلّة الصغيرة التي يسوع في رأسها بين أندراوس ويوحنّا ويوضاس ويعقوب ابنيّ حلفى.

 

وجه يسوع غامض، قاس. ويصبح أكثر غموضاً كلّما وَصَلَه مِن أعلى الضفّة عبارات التعجّب، أو محادثات مثيرة بين رجل قليل النـزاهة وامرأة متعة. فهو يثبّت نظره دائماً أمامه. لا يريد أن يرى. وانتباهه جليّ في مظهره كلّه.

 

ولكنّ رجلاً باذخ اللِّباس، الذي يتحدّث إلى سيّدتيّ مجتمع مع آخرين على شاكلته، يقول لإحداهما: «اذهبي! اذهبي! نريد أن نضحك قليلاً. امنحي ذاتكِ! واسيه. إنّه حزين إذ، لفقره، لا يستطيع الدفع للنساء.»

 

موجة مِن الاحمرار اجتاحت وجه يسوع الذي شحب فيما بعد. ولكنّه لا يلتفت. الفساد هو الإشارة الوحيدة التي أَحَسَّ بها.

 

الصفيقة، مجموعة أجراس قلادات، في طيران ثياب خفيف، تقفز مع صيحة متكلّفة مِن الضفّة السفلى إلى الشاطئ الرمليّ، وتَجِد الوسيلة لتجعل أسرار جمال كثيرة تبرق. وتَسقُط عند قدميّ يسوع وتَصيح مع رجرجة ضحك على الفم الجميل، ودعوة مِن العينين والأوضاع: «آه! أيّها الجميل بين أولاد المرأة! مِن أجل قبلة من فمكَ، فذاتي كلّها لكَ بالمجّان!»

 

يُصدَم يوحنّا وأندراوس ويوضاس ويعقوب بن حلفى ويُشَلّون مِن الدهشة ولا يعودون يعرفون القيام بأيّة حركة. أمّا بطرس! فيقفز قفزة نمر ليهبط مِن بين جماعته على المسكينة الجاثية، نصف مرتدّة إلى الوراء، يهزّها، يُنهِضها، ويُلقيها على الشاطئ ناعتاً إيّاها نعتاً رهيباً، ويهجم عليها ليكمل ما بدأه.

 

يقول يسوع: «سمعان!» صيحة تُعبِّر عن أكثر مِن حديث.

 

ويعود سمعان، ممتقعاً غضباً، صوب ربّه. «لماذا لا تتركني أعاقبها؟»

 

«سمعان، لا يُعاقَب الثوب الذي اتّسخ، بل هو يُغسَل. وهذه، ثوبها الذي اتّسخ هو جسدها، ونفسها قد دُنِّسَت. فلنصلِّ مِن أجل تطهير نفسها وجسدها.» يقول ذلك على مهل، بصوت خافت، ليس لدرجة ألاّ تستطيع المرأة سماعه. ويُعاوِد المسير. يلتفت، نعم، الآن يلتفت لحظة، نظرة عينيه الوديعتين صوب المسكينة. نظرة، واحدة فقط! لحظة، واحدة فقط! إنّما فيها كلّ سلطان حبّه الرحيم! تخفض المرأة رأسها، ترفع وشاحها وتتلفّف به... ويتابع يسوع مسيرته.

 

ها هي المخاضة. المياه الضّحلة تتيح للكبار عبوره سيراً على الأقدام. يكفي رفع الأثواب إلى ما فوق الركبة والبحث عن الحجارة العريضة المغمورة التي ابيضّت تحت المياة الصافية لتكون بمثابة الرّصيف للعابرين. إلى الأسفل أكثر، على العكس، يمرّ الممتطون الجياد.

 

الرُّسُل السعيدون يخوضون حتّى منتصف الفخذ، ولا يبدو فِعل ذلك لبطرس جميلاً جدّاً. فيَعِد ويُعلّل النَّفْس بالحصول على حَمّام «منعش» أثناء الإقامة في بيت سليمان، لتعويض «شيّ» الأمس.

 

ها هُم في الجهة الأخرى. هناك كذلك جموع تُباشِر السير بعد الليل، أو إنّهم يتنشّفون بعد عبور المخاضة.

 

يَأمُر يسوع: «انتشروا لتقولوا إنّ الرابّي هنا. وسأمضي قرب ذاك الجذع المقطوع وأنتظركم.»

 

جَمع غفير أُعلِموا بسرعة وهَرَعوا.

 

يبدأ يسوع بالحديث مستغلاًّ فرصة مرور مَوكِب باكٍ يتبع محفّة عليها أحدهم وقد مرض في أورشليم، وقد حَكَمَ الأطباء بأنّ لا أمل، وهُم يعيدونه بسرعة إلى بيته ليموت فيه. الجميع يتحدّثون عنه، فهو غنيّ وشابّ. يقول بعضهم: «مع ذلك إنّه لألم عظيم الموت وعند المرء ثروات كثيرة وأعوام قليلة!» ومنهم مَن يقولون –قد يكونون ممّن يؤمنون بيسوع-: «يستأهل ذلك! لا يعرف أن يؤمن. فالتلاميذ قد ذهبوا ليقولوا للأهل: "الـمُخلِّص هنا. فإذا آمنتم وطلبتم منه، فسيبرأ المريض". وكان هو أوّل مَن رَفَضَ الذهاب إلى الرابّي.» تتوالى الانتقادات متّسمة بالتعاطف، ويسوع يستغلّ كلّ ذلك ليبدأ الحديث.

 

«السلام لكم جميعاً! بالتأكيد الموت يُكدِّر الأغنياء الشباب، الأغنياء بالمال فقط والشباب بعدد السنين. أمّا الأغنياء بالفضيلة والشباب بفضل طهارة أخلاقهم، فالموت ليس مؤلماً. الحكيم الحقيقيّ، ما أن يبدأ استخدام العقل، يُنظِّم سلوكه بحيث يحصل على السكينة في موته. فالحياة هي تهيئة للموت، كما أنّ الموت هو تهيئة للحياة الأعظم. فالحكيم الحقيقيّ، منذ اللحظة التي يُدرِك فيها حقيقة الحياة والموت، الموت للقيامة، يعمل جاهداً وبشتّى الوسائل ليتخلّص مِن كلّ ما هو غير نافع والاغتناء بكلّ ما هو نافع، وليعرف الفضائل وأفعال الصّلاح ليكون له مخزون خير أمام الذي يدعوه ليمثل أمامه ويدينه، ليكافئه أو يعاقبه بعدل كامل. الحكيم الحقيقيّ يعيش حياة تجعله أكثر بلوغاً في الحكمة مِن عجوز، وشابّ أكثر مِن مُراهِق، ذلك أنّه إذ يعيش في الفضيلة والاستقامة، يحفظ لقلبه نضارة مشاعر لا تكون أحياناً لدى أكثر الناس شباباً. فكم يكون الموت آنذاك لطيفاً! أن يحني رأسه التَّعِب على صدر الآب، ويستغرق في عناقه، ويقول عَبْر سُحُب حياته التي وَلَّت: "أُحبّكَ، رجائي فيكَ، وبكَ أؤمن"، يقول ذلك لآخر مرّة على الأرض ليقوله بعد ذلك، ذاك السعيد "أُحبّكَ!" طوال الأبديّة وسط روائع الفردوس.

 

فكرة الموت قاسية؟ لا. مجرّد قرار لكلّ الهالكين. وهي ليست ثقيلة الوطأة إلاّ على الذين لا يؤمنون ويحملون الكثير مِن الأخطاء. فعبثاً يفسِّر الإنسان الضّيقات التي لا اسم لها لِمَن يحتضر ولم يكن في حياته صالحاً بقوله: "هذا لأنّه لم يكن يريد الموت بعد، لأنّه لم يفعل أيّ خير، أو هو فَعَلَ خيراً قليلاً جدّاً، وقد كان يريد العيش بعد ليُصلِح الأمور". باطلاً يقول: "لو طال به العيش، لكان حَصَلَ على مكافأة عظيمة، إذ كان سيفعل أكثر". فالنَّفْس تَعلَم، أقلّه بشكل مُبهَم، كم هو الزمن الممنوح لها. زمن هو لا شيء مقارنة بالأبديّة. وتدفع النَّفْس الأنا بأكملها للعمل. ولكن، يا للنَّفْس المسكينة! كم مرّة سُحِقَت، دُعِسَت وأُسكِتَت كي لا تُسمَع كلماتها! هذا يحصل عند مَن يفتقرون إلى الإرادة الصالحة. على العكس، فالمستقيمون، منذ طفولتهم يُصغون إلى النَّفْس، يطيعون نصائحها وهُم في نشاط دائم. وشاباً بعدد السنين، إنّما غنيّاً بالاستحقاقات، هكذا يموت القدّيس، أحياناً منذ فجر حياته. وبزيادة مائة أو ألف سنة، لا يمكنه أن يكون أكثر قداسة ممّا هو عليه، ذلك أنّ حبّ الله والقريب الـمُمَارَسين تحت كلّ أشكالهما وبسخاء تامّ، يجعلانه كاملاً. ففي السماء لا يُنظَر إلى عدد السنين، بل إلى الطريقة التي عاشها بها المرء.

 

يُقيم المرء الحداد على الجثث؛ يبكي عليها. ولكن الجثّة لا تبكي. يرتعد لوجوب الموت، ولكنّه لا يهتم للعيش بأسلوب يُجنّبه الرَّعدة ساعة الموت. ولماذا لا يبكي المرء ويقيم الحداد على الجثث الحيّة، الجثث الأكثر حقيقة، أولئك الذين، كما في القبور، يحملون في أجسادهم نَفْساً مائتة؟ ولماذا أولئك الذين يبكون لمجرّد التفكير بأنّ على جسدهم أن يموت، لا يبكون على الجثّة التي في داخلهم؟ كَم مِن الجثث أرى، وهُم يضحكون ويمزحون ولا يبكون على ذواتهم! كَم مِن الآباء والأُمّهات والأزواج والإخوة والأبناء والأصدقاء والكَهَنَة والمعلّمين أراهم يبكون بغباء مِن أجل ابن، زوج، أخ، أب، صديق، مؤمن، تلميذ، ماتوا في صداقة جليّة مع الله، بعد حياة هي إكليل زهر مِن الكمالات، ولا يبكون على جثث نفوس ابن، زوج، أخ، أب، صديق، مؤمن، تلميذ، مات بالرذيلة، بالخطيئة، وقد مات إلى الأبد، فُقِدَ إلى الأبد، إذا لم يكن قد تراجَعَ! لماذا عدم العمل على قيامتهم؟ هذا هو الحبّ، هل تعلمون؟ وأعظم حبّ. آه! يا للعَبْرات الغبيّة على تراب يعود تراباً! عبادة أصنام العواطف! رياء العواطف! ابكوا، ولكن على النّفوس الميتة لأولئك الذين هُم الأحبّ إليكم. اعملوا على إعادتهم إلى الحياة. وأتحدّث بشكل خاص إليكنّ أيّتها النساء اللواتي تستطعن الكثير على الذين تحببنهم.

 

والآن فلننظر معاً إلى ماذا تشير الحكمة في أسباب الموت والخزي.

 

لا تُسيئوا إلى الله بإساءة استخدام الحياة التي وَهَبَكم، بتدنيسها بأفعال سيّئة تُلحِق العار بالإنسان. لا تُهينوا أهلكم بسلوك يرمي الوحل على شعرهم الأبيض، وبجذوات مشتعلة على أيّامهم الأخيرة. لا تُسيئوا إلى الذين يفعلون لكم الخير كي لا يلعنكم الحبّ الذي تدوسونه بأرجلكم. لا تَنتَصِبوا في وجه الذين يحكمونكم. فليس في الثورة على الحاكمين تتعاظم الدول وتتحرّر، بل بسلوك المواطنين بقداسة يتمّ الحصول على معونة الربّ. هو يستطيع أن يلمس قلوب الحاكمين، يَنتَزِع منهم مركزهم أو حتّى حياتهم، كما حَصَلَ مرّات عدّة عَبْر تاريخنا، عندما يتجاوزون الحدود، وخاصّة عندما يستحقّ الشعب بتقديس ذواتهم غفران الله، الذي، لأجل ذلك، يَرفَع الظلم الذي كان يُضني الذين عُوقِبوا. لا تسيئوا إلى الزوجة بإلحاقكم بها عار ممارسات الحبّ الزاني، ولا تجرحوا براءة الأطفال بالتعرّف على أفعال الحبّ غير المشروع. كونوا قدّيسين أمام الذين يَرَون فيكم، بعاطفة أَمْ بواجب، مَن يجب أن يكون الـمَثَل لحياتهم. فلا يمكنكم التفريق بين القداسة تجاه أقرب الناس إليكم والقداسة تجاه الله، لأنّ الواحدة هي بِذرة الأخرى، كما هما شَكلا الحبّ: حبّ الله وحبّ القريب، الواحد بِذرة الآخر.

 

كونوا مستقيمين مع أصدقائكم. فالصداقة هي قُربى النُّفوس. قيل: "جميل هو مسير الأصدقاء معاً". ولكنّه يكون جميلاً إذا كان المسير على طريق الصّلاح. الويل لِمَن يُفسِد أو يخون الصداقة بجعله منها أنانيّة أو غدراً، أو رذيلة أو إجحافاً. كثيرون جدّاً هُم الذين يقولون: "أحبّكَ" لمعرفة أعمال الصديق والاستفادة منها! كثيرون جدّاً هُم الذين يستولون على حقوق الصديق!

 

كونوا نزيهين أمام القضاة. جميع القضاة. بدءاً مِن القاضي الأعلى، وهو الله، الذي لا يمكن خداعه بممارسات نفاقية، حتّى القاضي الأكثر حميميّة الذي هو الضمير، وحتّى الوَدودين والمتألّمين والمتيقّظين في حبّهم اليَقِظ، أي عيون أفراد الأسرة وتلك الصارمة التي لقضاة الشعب. ولا تكذبوا متّخذين الله شاهداً لتأكيد الكذب.

 

كونوا نزيهين في البيع والشراء. في البيع تقول الشهوة: "اسرق لتكسب أكثر"، بينما يقول الضمير: "كن نزيهاً لأنّكَ تمقت أن تُسرَق"، اصغوا إلى هذا الصوت الأخير، متذكّرين أنّه يجب ألاّ نفعل للآخرين ما لا نريد أن يفعلوه لنا. فالمال، الذي يُعطى لكم بديلاً عن البضاعة، هو في الغالب مُغَطّس بعرق ودموع الفقير. يُكلِّف تعباً. لا تَعلَمون كم يكلّف مِن الألم، كم مِن الألم يختفي وراء هذا المال الذي يبدو لكم أيّها البائعون قليلاً جدّاً، مقابل ما تُعطون. أشخاص مرضى، أبناء بلا أب، مُسِنّون ذوو موارد زهيدة... آه! أيّها الألم المقدّس، كرامة الفقير المقدّسة، الذي لا يدركه الغنيّ، لماذا لا يُفكِّر المرء بكَ؟ لماذا يكون نزيهاً عندما يبيع للقويّ وصاحب السلطان خوفاً مِن قِصاصه، بينما يستغلّ الأخ الـمُستَضعَف، المجهول؟ فهذا بالأحرى يُعَدّ جريمة ضدّ الحبّ أكثر منه ضدّ النـزاهة ذاتها. والله يمقته، إذ إنّ الدموع، المنتزعة مِن الفقير الذي لا يملك سِواها كردّة فِعل على الظُّلم، تصرخ للربّ كما الدم النازف مِن الوريد بفعل قاتل، شبيه لقايين.

 

كونوا نزيهين بنظراتكم كما في كلامكم وأفعالكم. فنظرة إلى مَن لا يستحقّها، أو منعها عمّن يستحقها، تُشبِه الفخ أو الخنجر. فالنَّظرة الـمُرسَلة إلى حَدَقة بغيّ وَقِحة لتقول لها: "أنتِ جميلة!" وتستجيب لنظرتها الداعية بالنَّظرة الـمُوافِقة، لهي أسوأ مِن العُقدة المنزلقة لحبل المشنقة. النَّظرة الرافضة لقريب فقير أو صديق واقع في البؤس، تُشبه خنجراً مغروساً في قلب هؤلاء البؤساء. وهكذا بالنسبة إلى نظرة الحقد للعدوّ ونظرة الاحتقار للمتسوّل. ينبغي مسامحة العدوّ ومحبّته بالروح إذا رَفَضَ الجسد أن يحبّه. المسامحة حبّ الروح، رفض الثأر حبّ الروح. ينبغي أن يُحَبَّ المتسوّل لأنّ لا أحد يواسيه. فالصَّدَقة تُستَخدَم في إشباع الجسد الجائع، العريان، دون ملجأ. ولكنّ الرحمة التي تبتسم وهي تمنح، التي تهتمّ بدموع البائس، هي خبز القلب.

 

أحبّوا! أحبّوا! أحبّوا!

 

كونوا نزيهين في ضريبة العُشر وفي العادات، نزيهين داخل البيوت، عدم المبالغة في إساءة التصرّف مع الخادم وإغواء الخادمة التي تنام تحت سقفكم. فحتّى ولو جهل العالم الخطيئة التي تُقتَرَف في بيتكم في السرّ، بعدم الوفاء للزوجة الجاهلة بالأمر وإهانة الخادمة، فالله عالم بخطيئتكم.

 

فليكن كلامكم لائقاً. كونوا مستقيمين في تربية الأبناء والبنات. قيل: "تصرّف بشكل لا يدع ابنتكَ تجعلكَ سخرية البلد". أمّا أنا فأقول: "لا تجعلوا روح ابنتكم يموت".

 

والآن اذهبوا. وأنا كذلك أمضي بعد مَنحكم زاداً مِن الحكمة. فليكن الربّ مع الذين يجدّون في حبّه.»

 

يباركهم بحركة ويَهبط مسرعاً مِن الجذع المكسور ليسلك درباً ضيّقاً وسط الأشجار. يسير نحو أعلى النهر ويغيب بسرعة خلف تَشابُك الأغصان الخضراء.

 

يُعلّق الجمع باحتداد وبآراء متضاربة. بالطبع المعارضون هُم نماذج مِن الكَتَبَة والفرّيسيّين قليلي العدد المتواجدين وسط جمع مِن عامّة الناس.