ج5 - ف20

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الخامس/ القسم الأول

 

20- (برتلماوس يكتشف الـ لماذا...)

 

17 / 11 / 1945

 

في اليوم التالي للسبت.

 

يسوع يجتمع إلى الستّة في غرفة تحوي أَسِرّة بائسة للغاية، موضوعة الواحد إلى جانب الآخر. والمساحة الحرّة الباقية بالكاد تكفي للذهاب مِن طرف الغرفة إلى طرفها الآخر. يتناولون طعامهم الأكثر مِن متواضع وهم جالسون على الأَسِرّة، حيث لا توجد طاولات ولا مقاعد. وفي لحظة، يذهب يوحنّا ليجلس على حافّة النافذة، طلباً للشمس. وهكذا يكون أوّل مَن يَرَى الذين ينتظرونهم: بطرس، سمعان، فليبّس وبرتلماوس المتوجّهين إلى البيت. يناديهم ثمّ يَخرُج يَتبعه الجميع. ولا يبقى سِوى يسوع الذي يَنهَض لدى كلّ حركة ويلتفت لينظر إلى الباب…

 

يَدخُل الواصلون حديثاً، ويَسهل تصوّر حيويّة بطرس، كم يَسهل تخيّل الإجلال العميق الذي لدى سمعان الغيور. يَدخُلون، تَحسبهم خائفين، قَلِقين، ورغم أنّ يسوع يفتح ذراعيه ليتبادل معهم قبلة السلام، وقد تَقبَّلها بطرس وسمعان، أمّا هُم فقد جثوا وانحنوا حتّى لامست جباههم الأرض، يُقبِّلون قدميّ يسوع ويبقون هكذا... وتنهُّدات برتلماوس المخنوقة تشير إلى أنّه يبكي بصمت على قدميّ يسوع.

 

«لماذا هذا الضيق يا برتلماوس؟ ألا تأتي بين ذراعيّ المعلّم؟ وأنتَ يا فليبّس، لماذا يعتريك هذا الخوف؟ لو لم أكن أَعلَم أنّكما رَجُلان نزيهان، لا يمكن للشرّ أن يسكن قلبيكما، لكان عليَّ الارتياب بأنّكما مذنبان. هيّا، إذن! إنّني أشتهي مِن زَمَن قُبلتُكما، ورؤية النَّظرة الصافية في عيونكما الوفيّة...»

 

«نحن كذلك يا ربّ...» يقول برتلماوس وهو يرفع وجهه الذي تلمع عليه الدموع. «لم نَرغَب يوماً بسِواك، ونحن نتساءل بماذا ترانا كَدَّرناكَ حتّى استحقّينا البقاء كلّ هذا الوقت بعيدين عنكَ. وكان يبدو لنا الأمر مجحفاً... أمّا الآن، فنحن نَعلَم... آه! عفوكَ يا ربّ! نطلب منكَ العفو والمغفرة، لأنّ فليبّس قد أُبعِد عنكَ بسببي أنا. وقد طلبتُ منه ذلك. فأنا المذنب الوحيد، أنا الإسرائيليّ الشيخ صعب القابليّة للتجدّد، والذي سَبَّبَ لكَ الألم...»

 

ينحني يسوع ويُنهِضه بقوّة، وكذلك فليبّس، ويعانقهما معاً قائلاً: «ولكن أيّ ذنب تُقِرّ به؟ أنتَ لم تقترف إثماً. ولا أيّ إثم! ولا فليبّس كذلك. أنتما رسوليّ المحبّوبين، واليوم أنا سعيد لرؤيتكم معي، مجتمعين على الدوام...»

 

«لا، لا... لقد جَهِلنا، ولمدّة طويلة، السبب الذي مِن أجله كنتَ تَحذَر منّا، لدرجة أنّكَ أقصيتَنا عن العائلة الرسوليّة. أمّا الآن فإنّنا نعرفه... ونطلب منكَ العفو والمغفرة، المغفرة، المغفرة، وبشكل خاصّ أنا، يا يسوع معلّمي...» ويَنظُر إليه برتلماوس بلهفة، بحبّ، وبشفقة. ولِسِنّه المتقدّمة، يبدو كالأب الذي ينظر إلى ابنه الحزين، يَنظُر إلى وجهه الذي نَحل بسبب معاناة لم يكن متنبّهاً لها سابقاً، والذي لم يكن قبلاً منتبّهاً إلى النُّحول، والتقدّم بالسنّ... وتسيل دموع جديدة على خدّ برتلماوس. ويهتف: «ولكن ماذا فعلوا بكَ؟ ما الذي فعلوه لنا ليسبّبوا الألم لنا جميعاً هكذا؟ يبدو أنّ روحاً نجساً قد دخل بيننا، ليجعلنا نضطرب، ليجعلنا كئيبين، هزيلين، خاملين، أغبياء... أغبياء لدرجة عدم إدراك أنّكَ كنتَ تتألّم... بل على النقيض، لدرجة زيادة آلامكَ بحقاراتنا، بغبائنا، باعتباراتنا البشريّة، بإنسانيّتنا العتيقة... نعم، لقد انتصر فينا الإنسان العتيق، دائماً، دون أن تستطيع حيويّتكَ الكاملة أن تُغيّرنا. هو هذا، هذا الذي لا يجعلني أشعر بالسلام! بكلّ الحبّ الذي أُكنّه، لم أعرف أن أتجدّد، وأفهمكَ، وأتبعكَ... فلم أتبعكَ سِوى بشكل مادّيّ... بينما أنتَ كنتَ تريد أن نتبعكَ روحيّاً... وأن نفهمكَ في كمالكَ... لنصبح قادرين على تخليدكَ... آه! معلّمي! معلّمي الذي ستمضي يوماً، بعد كثير مِن النـزاعات، مِن المكائد، مِن الاشمئزازات، ومِن الآلام، ومع الألم بأن تعرف أنّنا ما زلنا غير مهيّأين...» ويُلقي برتلماوس برأسه على كتف يسوع، ويبكي، متأسّف بحقّ، مُنسَحِق لإدراكه أنّه تلميذ بلا فِطنة.

 

«لا تستسلم للتّداعي والانهيار يا نثنائيل. إنّكَ ترى كلّ الأمور مُضَخَّمة، ممّا يذهلكَ. ولكنّ يسوعكَ كان يَعلَم أنّكم بشر... ولا يتطلّب أكثر ممّا تستطيعون إعطاءه. آه! سوف تعطونني كلّ شيء، في الحقيقة كلّ شيء. أمّا الآن فعليكم بالنموّ، بالتأهّل... وهذا عمل بطيء. ولكنّني أجيد الانتظار، وأفرح بنموّكم، ذلك أنّكم تنمون باطّراد في حياتي. حتّى كآبتكَ، حتّى وِئام الذين معي، حتّى الرحمة التالية لقسوة كانت طبيعتكم، التالية لأنانيّة وجشع روحيّ، وحتّى رصانتكم الحاليّة، كلّ ذلك هو طَور نموّ لكم فيَّ. هيّا! ولتكن في سلام، بما أنّني أعرف كلّ شيء. نزاهتكَ، إيمانكَ الجيّد، جودكَ، حبّكَ الصادق. هل يمكنني الشكّ بعزيزيّ برتلماوس الحكيم، وفليبّس المتوازن جدّاً والأمين؟ فهذا غُبن بحقّ أبي الذي منحني إيّاكم بين أعز مَن لديّ. أمّا الآن... هيّا، ولنجلس هنا، وليهتمّ الذين استراحوا بالإخوة التعبين والجائعين بمنحهم الطعام والراحة. وفي هذه الأثناء، قُصّوا على معلّمكم وإخوتكم ما يجهلونه.»

 

ويَجلس على سريره، وإلى جانبيه فليبّس ونثنائيل، بينما يَجلس بطرس وسمعان على السرير المجاور، في مواجهة يسوع، الرُّكَب تواجه الرُّكَب.

 

«تكلّم أنتَ يا فليبّس. فأنا قد تكلّمتُ، وكنتَ أكثر برّاً منّي خلال ذلك الوقت...»

 

«آه! برتلماوس! بارّ! كنتُ قد أدركتُ فقط أنّ ذلك لم يكن سوء نيّة أو عدم ثبات مِن المعلّم أنّه لم يأخذنا معه... وهكذا كنتُ أحاول تهدئتكَ... بمنعكَ مِن التفكير في أمور تسبّب لكَ الألم لمجرّد التفكير بها، وتأنيب الضمير... أمّا أنا فضميري يؤنّبني على أمر واحد... أنّي منعتكَ مِن مخالفة أمر المعلّم عندما كنتَ تريد اللحاق بسمعان بن يونا الذي كان ماضياً إلى الناصرة ليأخذ مارغزيام... وبعد ذلك... شاهدتكَ تتألّم كثيراً بالجسد وبالنَّفْس، حتّى إنّني كنتُ أقول لنفسي: "كان مِن الأفضل أن أدعه يفعل! وكان المعلّم سيغفر له عدم طاعته، ولا تعود نَفْس برتلماوس تُسمّمها تلك الأفكار"... إنّما كما ترى!... لو كنتَ ذهبتَ، لم تكن لتحظى بمفتاح السرّ... وما كان ليسقط أبداً ارتيابكَ بتقلّب المعلّم. هكذا على العكس...»

 

«نعم. هكذا، على العكس، أنا فهمتُ. يا معلّم، سمعان بن يونا وسمعان الغيور، اللذين قد أَرهَقتُهُما بالأسئلة لمعرفة أمور كثيرة، لأحصل على تأكيد على أمور كثيرة كنتُ أعرفها، قالا لي فقط: "لقد تألَّمَ المعلّم كثيراً لدرجة أنّه قد هَزل وشاخ. إسرائيل كلّها، ونحن في المقدّمة، مسؤولون عن ذلك. هو يحبّنا ويسامحنا. ولكنّه يرغب في عدم الكلام عن الماضي. لهذا ننصحكَ بعدم سؤاله وعدم التحدّث..." ولكنّني أريد التحدّث. في ما يخصّ سؤالكَ، لن أسألكَ، إنّما عليَّ التكلّم لكي تَعلَم. ذلك أنّه ينبغي ألّا يبقى أيّ أمر خفيّاً عليكَ عمّا هو في نَفْس رسولكَ. ذات يوم -كان بطرس والآخرون قد ذهبوا قبل بضعة أيّام- جاءني ميكائيل بن قانا. وهو قريب لي مِن بعيد، ولكنّه صديقي الحميم ورفيق الدراسة منذ الطفولة... وأنا على يقين بأنّه قد أتاني بِنِيّة سليمة. كان يريد معرفة لماذا بقيتُ في البيت... بينما ذهب الآخرون. وقال لي: "إذن هل هذا صحيح؟ لقد انفصلتَ عنهم لأنّكَ، كإسرائيلي صالح، لا يمكنكَ الموافقة على بعض الأمور. والآخرون، بدءاً مِن يسوع الناصريّ، تركوكَ تتنحّى عن طيب خاطر لأنّهم على يقين بأنّكَ لن تساعدهم، حتّى ولو أَصبَحتَ شريكاً سَكَوتاً. حسناً تفعل! أرى فيكَ الإنسان الذي عرفتُ. كنتُ أظنُّكَ قد أُفسِدتَ، بإنكاركَ لإسرائيل. حسناً تفعل مِن أجل روحكَ ومِن أجل هنائكَ وهناء ذويكَ. ذلك أنّ الذي يحصل لن يصفح المجمع عنه، وسوف يُلاحِق كلّ مَن اشترك فيه". وقلتُ له أنا: "ولكن عمّا تتكلّم؟ لقد قلتُ لكَ إنّني تلقّيتُ الأمر بالبقاء في البيت بسبب الطقس، ولكي أوجِّه القاصدين المحتملين صوب الناصرة، أو لأقول لهم أن ينتظروا المعلّم حتّى نهاية السبت في كفرناحوم، وأنت تُحدّثني عن الفراق والشراكة والملاحقة؟ ماذا تقصد؟..." أليس هذا ما قلتُهُ، يا فليبّس؟»

 

يوافقه فليبّس القول.

 

ويتابع برتلماوس: «حينئذ قال لي ميكائيل إنّه كان معلوماً أنّكَ كنتَ قد عصيتَ مشورة وأمر أعضاء المجمع، باحتفاظكَ بيوحنّا الذي مِن عين دور وامرأة يونانيّة معكَ... ربّي، إنّي أُسبِّب لكَ الألم، أليس كذلك؟ ولكن، رغم ذلك، عليَّ التكلّم. أسألكَ: هل صحيح أنّه كان في الناصرة؟»

 

«نعم. صحيح.»

 

«أصحيح أنّهما ذَهَبا معكَ؟»

 

«نعم. صحيح.»

 

«فليبّس: إنّ ميكائيل كان على حقّ! ولكن كيف تمكَّنَ مِن معرفة ذلك؟»

 

«ولكن، هاكَ! إنّهم أولئك الأفاعي الذين استوقَفونا، سمعان وأنا، ومَن يدري كم غيرنا. إنّهم الثعابين الاعتياديّون» يقول بطرس بحدّة.

 

أمّا يسوع، فعلى العكس، يَسأَل بهدوء: «ألم يقل لكَ شيئاً آخر؟ كُن صريحاً تماماً مع معلّمكَ.»

 

«لا شيء آخر. كان يريد أن يعرف منّي... وأنا كذبتُ على ميكائيل. قلتُ: "أبقى في المنـزل حتّى الفصح". خوفاً مِن أن يتبعني، وأن... لستُ أدري... خوفاً مِن أن أُلحِق الأذى بكَ... وحينئذ كذلك أدركتُ لماذا تركتني... كنتُ قد شعرتُ بأنّني ما زلتُ مُغرِقاً في الإسرائيليّة...» ويُعاوِد برتلماوس البكاء... «...وشككتَ بي...»

 

«لا. هذا لا! مُطلقاً. لم يكن وجودكَ إلى جانب رفاقك ضروريّاً في تلك الساعة، بينما كان وجودك في بيت صيدا ضروريّاً، وقد لاحظتَ ذلك. لكلّ رسالته، ولكلّ سنّ متاعبه...»

 

«لا، لا! لا تَستَبعِدني بسبب أيّ نوع مِن المتاعب يا سيّدي. لا تهتمّ لشيء... أنتَ طيّب ولكنّني أريد أن أبقى معكَ. فإنّ البُعد عنكَ عِقاب... وأنا رغم غبائي وعجزي عن القيام بأيّ شيء، على الأقلّ كنتُ سأواسيكَ، إذا لم أكن أستطيع القيام بشيء آخر. فهمتُ... لقد أَرسَلتَهم مع الاثنين. لا تقل لي ذلك. لا أريد معرفته. ولكنّي أُدرِك أنّ الأمر هكذا، وأقولُها. فإذن كان يجدر بي، بل كان ينبغي لي البقاء معكَ. ولكنّكَ لم تأخذني لتعاقبني لكوني مُتعنّتاً في أن أُصبِح "جديداً". إلّا أنّني أُقسِم لكَ، يا معلّم، بأنّ الألم الذي تحمَّلتُه جَعَلَني أتجدّد، ولن تعود ترى أبداً نثنائيل العتيق.»

 

«أترى، إذن، أنّ نهاية الألم كانت فَرَحاً للجميع؟ والآن نمضي، دونما استعجال، لملاقاة توما ويهوذا، مِن غير انتظار وصولهما إلى المكان المتوقّع. ثمّ نمضي معهما... لدينا عمل كثير!... وغداً نمضي باكراً.»

 

«حسناً تفعل. فالطقس سوف يتغيّر في الشمال. وبِئس مصير الزَّرع...» يقول فليبّس.

 

«نعم! فالبَرَد مؤخّراً دمَّر رُقَعاً مِن الريف. لو كنتَ رأيتَها، يا ربّ! تبدو وكأنّ النار مرَّت في بعض الأماكن. شيء غريب، إنّها حقّاً مصائب، فكما قلتُ: رُقَعاً» يقول بطرس.

 

«في أثناء غيابكم انهمر البَرَد بغزارة. ذات يوم، في منتصف شهر تيبث (ديسمبر-يناير)، كان يبدو ذلك نكبة حقيقيّة. قيل لي إنّه يتوجّب إعادة البِذار في السهل. في البدء كان الطقس حارّاً، ولكن منذ ذلك الحين، أصبح المرء يشتهي رؤية الشمس. إنّه لَتَراجُع... يا لها مِن إشارات غريبة! ما تكون يا ترى؟» يَسأَل فليبّس.

 

«ليس أكثر مِن تأثيرات الإقمار. لا تشغل بالكَ. فينبغي ألّا تكون مِن الأمور التي تؤثّر فينا. عدا ذلك فإنّنا سوف نتوجّه صوب السهل، وسيكون المسير ممتعاً. بعض البَرْد، إنّما ليس كثيراً، ولكن بالمقابل الطقس جافّ. وفي هذه الأثناء تعالوا إلى الشرفة، فالشمس رائعة. سوف نأخذ قسطاً مِن الراحة جميعنا في الأعلى...»