ج4 - ف112
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الرابع / القسم الأول
112- ("الدعوة أهمّ مِن الدم")
10 / 08 / 1945
صَبيحة هادئة ومشمسة، مؤاتية لصعود الروابي المتّجهة صوب الغرب، أي صوب البحر.
«حسناً فَعَلنا بوصولنا إلى الروابي في ساعات الصبيحة الأولى. لم نكن لنستطيع البقاء في السهل تحت هذه الشمس. بينما هنا ظِلّ ورطوبة. أُشفِق على الذين يَسلكون الطريق الرومانيّة، فهي صالحة للشتاء.» يقول متّى.
«بَعدَ هذه الروابي، سوف نُواجِه هواء البحر. وهو يُلطِّف الجوّ على الدوام.» يقول يسوع.
«سوف نأكل في الأعلى. ذاك اليوم كان ممتعاً للغاية، وينبغي أن يكون هذا المكان أكثر مُتعة، لأنّ الكرمل أقرَب، وكذلك البحر.» يضيف يعقوب بن حلفى.
«على ذلك، فإنَّ وطننا جميل!» يقول أندراوس.
«فيه مِن كلّ شيء: جبال تكسوها الثلوج، ومرتفعات منحدراتها لطيفة، بحيرات وأنهار، أشجار مِن كلّ نوع، دون أن ينقصه البحر. إنّه حقّاً البلد الرائع الذي تَغنّى به مُؤلِّفو المزامير وأنبياؤنا ومُحارِبونا العظماء وشُعراؤنا.» يقول تدّاوس.
«قُل لنا منها بعض المقاطع، أنتَ يا مَن تَعرِف الكثير.» يَطلُب بإلحاح يعقوب بن زَبْدي.
«"ببهاء الفردوس أنشأَ أرض يهوذا؛ بابتسامة ملائكته زَيَّنَ أرض نفتالي؛ وبأنهار عَسَل السماء جَعَلَ طَعم فواكه أرضه.
كلّ الخليقة تتمرّى فيكِ يا جوهرة الله الممنوحة مِن الإله إلى شعبه المقدّس.
ألذّ مِن العناقيد المرصوصة التي تَنضُج على منحدرات جبالكِ، أَطيَب مِن الحليب الذي ينفخ ضروع نعاجكِ، استساغة مِن العسل الذي له طعم الزهور التي تكسوكِ، أيّتها الأرض المغبوطة، هو جمالكِ على قلب أبنائكِ.
هَبَطَت السماء لِتُشكِّل نهراً يجمع جوهَرَتين، لِيَجعَل لكِ على ثوبكِ الأخضر حِزاماً وقلائد.
نهر الأردن يغنّي، البحر يبتسم، الآخَر يُذكِّر أنّ الله رهيب، بينما تبدو الروابي وكأنّها تَرقُص مَساء مثل بُنيّات مَرِحات في مرج، والجبال تصلّي في ساعات الفجر الملائكيّة أو تُرتِّل هللويا تحت نيران الشمس، أو كذلك تُسبِّح مع النجوم قدرتكَ، أيّها الإله العليّ.
لَم تَحصِرنا ضمن حدود ضيّقة، ولكنّك تركتَ لنا البحر مفتوحاً لتقول إنّ العالم لنا".»
«جميل! آه! إنّه حقّاً جميل! أنا لم أَزُر سِوى البحيرة وأورشليم؛ خلال سنوات وسنوات، لَم أَرَ غير ذلك. الآن فقط أتعرَّف على فلسطين، ولكنّني على يقين بأن ليس في العالم ما هو أجمل.» يؤكّد بطرس وكلّه اعتزاز بوطنه.
«كانت مريم تقول لي كذلك إنّ وادي النيل جميل جدّاً.» يقول يوحنّا.
«والرجل الذي مِن عين دور يتحدّث عن قبرص كما عن فردوس.» يُضيف سمعان.
«آه! نعم، ولكنّ أرضنا!...»
يَستَمرّ الرُّسُل في مديح جمال فلسطين، عدا الاسخريوطيّ وتوما اللذين يتقدَّمان الآخرين قليلاً مع يسوع.
خلفهم النساء اللواتي لَم يَستَطِعن منع ذواتهنّ مِن قطف بذور الزهور لزراعتها في حدائقهنّ أو بساتينهنّ لأنّها جميلة وستكون بمثابة التذكار للرحلة.
هناك عُقبان، عُقبان بَحر على ما أظنُّ، أو نسور، تُحلِّق بشكل دائريّ فوق قِمم الروابي، مُنقَضَّة، بين الحين والحين، على فريسة، ويَنشب عِراك بين نَسرَين، يتقاتلان ويتقاتلان، ويتطاير منهما الريش، في معركة مميَّزة وشَرِسة تنتهي بفرار الخاسِر، الذي مضى بدون شكّ ليموت على قمّة بعيدة. فهذا، على الأقلّ، هو تقدير الجميع، لشدّة ما كان طيرانه ثَقيلاً ومُنهَكاً.
«الشَّراهة تسبَّبَت له بالأذى.» يُعلّق توما.
«الشَّراهة والعِناد يُسبِّبان الأذى على الدوام. ولكنّ أولئك الثلاثة بالأمس!... يا للرحمة الأزليّة! يا لَهُ مِن مَصير فظيع!» يقول متّى.
«ألن يُشفوا أبداً؟» يَسأَل أندراوس.
«سَل المعلّم.»
وعندما يَسأَل يسوع يُجيب: «الأفضل هو السؤال عمّا إذا كانوا سَيَتوبون. فالحقّ أقول لكم إنّه لَمِن الأفضل أن يموت المرء وهو أبرص قدّيس مِن أن يموت وهو سليم خاطئ. فالبرص يبقى على الأرض، في القَبر، ولكنّ الخطيئة تُلازِمه إلى الأبد.»
«لقد أُعجِبت بحديثكَ كثيراً، أنا، في الأمس.» يقول الغيور.
«أنا، لا. لَم يَرُق لي. فلقد كان قاسياً جدّاً بالنسبة إلى الكثيرين في إسرائيل.» يقول الاسخريوطيّ.
«هل أنتَ منهم؟»
«لا يا معلّم.»
«ولكن لماذا أنتَ غاضِب إذاً؟»
«لأنّ هذا قد يُسبِّب لكَ الأذيّة.»
«هل ينبغي لي إذن، لِتَحاشي تلك المتاعب، التواطُؤ مع الخَطَأَة، وأن أكون لهم شريكاً؟»
«لستُ أقول هذا، لا يمكنكَ فِعل ذلك. إنّما أن تَصمُت لِئلّا تؤلِّب الكِبار ضدّكَ...»
«الصمت يعني الموافقة. وأنا لستُ مُوافِقاً على الخطايا، لا الصغيرة منها ولا العظيمة.»
«ولكن ألم تَرَ ما حَصَلَ للمعمدان؟»
«مَجدهُ.»
«مَجدهُ؟ يبدو لي تدميره.»
«الاضطهاد والموت في سبيل الوفاء للواجب مَجد للإنسان. فالشهيد مُمجَّد دائماً.»
«ولكنّ الموت يَمنَعه مِن أن يكون معلّماً، ويُسبِّب الألم لتلاميذه وأفراد أسرته. هو يُفلِت مِن كُلّ عناء، ويَترُك للآخرين مَصاعِب أَعظَم. المعمدان لا أهل له، صحيح. إنّما عليه واجبات، على الدوام، تجاه تلاميذه.»
«حتّى ولو كان له أهل، فالأمر سِيّان. الدعوة أهمّ مِن الدم.»
«والوصية الرابعة؟»
«تأتي بعد التي تَخصّ الله.»
«رأيتُ بالأمس كم كانت تلك الأُمّ تتألّم بسبب ابنها...»
«أُمّي! تعالي هنا.» يقول يسوع.
تَهرَع مريم إلى يسوع وتَسأَله: «ماذا تريد يا بنيّ؟»
«أُمّي، إنّ يهوذا الاسخريوطيّ يُدافِع عن قضيّتكِ لأنّه يحبّكِ ويحبّني.»
«قضيّتي؟ أيّة قضيّة؟»
«يُريدني أن أكون حَذِراً إلى أبعد الحدود، كي لا أُقتَل مِثل قريبنا، المعمدان. ويقول لي بوجوب الرأفة بالأُمّهات، مُراعياً إيّاهنَّ، إذ هذا ما تَتطَلَّبه الوصيّة الرابعة. ما قولكِ؟ أنا أترك الكلام لكِ لتعليم يهوذا بِلطف.»
«أقول إنّني لا أعود أُحِبّ ابني كإله، إذا ما توصّلتُ إلى التساؤل عمّا إذا كنتُ مخطئة على الدوام، إذا ما اختَلَطَ عليَّ بشأن طبيعته. متى أراه يَتساهَل بأمر كَماله، وذلك بِجَعل فِكره يَهبط إلى مُستَوى اعتبارات إنسانيّة، مُقصِياً الاعتبارات فائقة البشر: معرفة الافتداء، العمل على فِداء البشر حبّاً بهم، ولمجد الله، بِغضّ النَّظَر عَمّا قد يُسبّب له ذلك مِن متاعب وأَحقاد. حينذاك سوف أُحِبّه كابن قد ضَلَّ بفعل قوّة شرّيرة، إشفاقاً عليه، لأنّه ابني، وهو يكون حينئذ تعيساً، إلّا أنّني أحبّه أكثر، بملء الحبّ الذي أحبّه الآن، وأنا أراه أميناً للربّ.»
«تَقصِدين لِنفسه.»
«للربّ. الآن هو مسيح الربّ، وعليه أن يكون أميناً للربّ، مِثل أيّ آخَر، وحتّى أكثر مِن أيّ آخَر. لأنّه صاحب رسالة أعظم مِن أيّة رسالة وُجِدَت أو تُوجَد الآن، أو سوف تُوجَد على الأرض على الإطلاق. وبالتأكيد هو يَلقَى مِن الله عوناً يَتناسَب مع عَظَمَة هذه الرسالة.»
«ولكن، لو حَصَلَ له مكروه، ألا تبكين؟»
«أذرُف دُموع عينيّ كلّها. ولكنّني لو رأيتُه غير وفيّ لله، فإنّني أبكي مع الدموع دماً.»
«هذا يُخفِّف كثيراً خطايا الذين يَضطَهِدونه.»
«لماذا؟»
«لأنّه، وكذلك أنتِ، تُبرِّران لهم خطاياهم بطريقة ما.»
«لا تُفكِّر هكذا. فالأخطاء تبقى على حالها في عينيّ الله، سواء حَكَمْنا أنّ ذلك لا يمكن تحاشيه، أو حَكَمْنا بإنّه ينبغي ألّا يكون إنسان في إسرائيل مُذنِباً بحقّ مَسيّا.»
«إنسان في إسرائيل؟ وإذا كان وثنيّاً، أفلا يكون الأمر ذاته؟»
«لا. بالنسبة للوثنيّين، الأمر لا يتعدّى كونه خطيئة تجاه إنسان يُشبِههُم. بينما الإسرائيليّون يَعلَمون مَن يكون يسوع.»
«قِسم كبير من إسرائيل لا يَعلَم.»
«لا يُريدون أن يَعرِفوا. هُم كَفَرَة بشكل متعمَّد. يُضيفون عدم المحبّة إلى الكُفر، ويُنكِرون الرَّجاء. فَدَوس الفضائل الرئيسيّة الثلاث ليس خطيئة صغيرة، يا يهوذا. إنّ ذلك لَأمر جَلَل، فروحيّاً هي الخطيئة الأكثر جَسامَة مِن أيّ تصرّف مادّيّ ضدّ ابني.»
بِما أنّ يهوذا يَفتَقِر إلى الحُجَج، فإنّه ينحني لِيَربط سير حذائه، ويبقى في الخلف.
يَبلُغون القمّة، أو بالحريّ نتوءاً في القمّة، يَبرُز وكأنّه يَبغي الجَّري صوب الأفق، مُستخفّاً بالبحر الذي بِغير حدود. غابة كثيفة مِن السنديان الأخضر تُضفي نوراً مِن الزمرّد الصافي، وتتّسم بِنُتَف شمس ممتعة على تلك القمّة الجبليّة المحبّبة، الـمُهوّاة، والمفتوحة على الشاطئ القريب، في مواجهة سلسلة جبال الكرمل العظيمة. في أسفل الجبل، الذي يبدو بُروزه وكأنّه يَبغي الطيران، بعد حقول صغيرة مُنحَدِرة قليلاً، هناك وادٍ ضيّق مع سيل عميق، هو حتماً هَدَّار بقوّة جريانه في زمن الفيضان، وقد تحوَّل الآن إلى زَبَد فِضّيّ وسط مجراه. والسيل يجري صوب البحر مُلامِساً قاعدة الكرمل. وطريق تُسايِر مجرى السيل، أعلى منه قليلاً، إلى يمينه، تَربِط مدينة وسط الشرم، بالمدن الداخليّة، قد تكون مُدن السامرّة، إذا كانت وجهتي صحيحة.
«هذه المدينة هي سيكامينون [حيفا]» يقول يسوع. «سوف نَبيت فيها هذا المساء، عند هبوط الليل. لِنَستَرِح الآن، فالانحدار صعب، رغم كونه مُنعِشاً وقصيراً.»
يَجلِسون على شكل دائرة، بينما يُشوى حَمَل على سفود ريفي، إنّه بالتأكيد هديّة مِن الرُّعاة. ويتحدّثون فيما بينهم ومع النساء.