ج2 - ف71

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثاني / القسم الثاني

 

71- (يسوع في بيت مريم التي لحلفى. يُحِلُّ السلام مع ابن عمّه سمعان)

 

12 / 02 / 1945

 

يَهبط الليل وسط غَسَق أحمر مثل نار تنطفئ، يُظلِم أكثر فأكثر، حتّى يُصبِح بلون ياقوت بنفسجيّ. لَون خَلّاب ونادر، يُلَوِّن الغروب، ويتلاشى تدريجيّاً، حتّى يَغيب في دُكنَةِ السماء، حيث يَزحَف الشرق باطّراد بنجومه والقمر المتنامي، وقد وَصَلَ إلى ربعه الثاني. يُسرِع المزارعون في العودة إلى بيوتهم، حيث تَنشر المواقد المتأجّجة، في الهواء، تلافيف مِن الدخان، فوق بيوت الناصرة المنخفضة.

 

يُوشِك يسوع على الوصول إلى المدينة، وبعكس ما يريده الآخرون، هو يريد ألّا يُنبِئ أحدٌ أُمّه، ويقول: «لن يحصل شيء. لماذا إثارة قلقها مسبقاً؟»

 

ها هو ذا الآن وسط البيوت. تحيّات، وهمسات مِن الخلف، ورَفع أكتاف فَظّ، وأبواب تُصفَق عند مرور جماعة الرُّسُل.

 

إيماء بطرس قصيدة حقيقيّة، ولكنّ الآخرين أيضاً قلقون قليلاً. ابنا حلفى يبدوان كَمَن صَدَرَ حكم بحقّهما، فهما يتقدّمان خافِضَين رأسيهما على جانبي يسوع، إنّما يُراقِبان كلّ شيء، ومِن وقت لآخر يتبادلان نظرات الخوف، المليئة بالتخوّف على يسوع. أمّا يسوع فكأنّ لا شيء هناك، يردّ على التحيّات بتحبُّبه الاعتياديّ، وينحني ليداعب الأطفال الذين، لبساطتهم، لا ينحازون لهذا أو ذاك، وهم دائماً أصدقاء يسوعهم الذي يبادلهم عاطفة الحبّ والمودّة. 

 

أحدهم، وهو مشروع رَجُل صغير بَدين، لا يتجاوز الرابعة مِن عمره، يَهرَع لملاقاته، وقد أفلَتَ ثوب أُمّه. يمدّ له ذراعيه الصغيرتين وهو يقول: «احملني!» وعندما يحمله يسوع ليُفرحه، يُقبّله بفمه الملطّخ بتينة يمصّها، ثمّ يرقى بحبّه إلى حدّ إعطائه يسوع قسماً مِن التينة قائلاً: «خُذ‍! إنّها لذيذة!» ويَقبَل يسوع هديّته، ويبتسم وهو يتقبّل النقدة مِن هذا الرَّجُل الغضّ.

 

يَصِل إسحاق، قادماً من النبع، حاملاً جِراراً. يرى يسوع. يضع الجرار ويهتف: «آه! ربّي!» ويَهرَع للقائه «لقد عادَت أُمّكَ للتوّ إلى البيت. كانت عند سلفتها. ولكن... هل استَلَمتَ الرسالة؟»

 

«لهذا أنا هنا. لا تقل شيئاً لأُمّي الآن. سأذهب أوّلاً إلى بيت حلفى.»

 

إسحاق، العاقِل، يقول ببساطة: «سمعاً وطاعة.» ويحمل الجِّرار ويمضي إلى البيت.

 

«الآن، نذهب نحن إلى البيت، وأنتم أيّها الأصدقاء تنتظروننا هنا. لن أُطيل المكوث.»

 

«لا، بالطبع، لن ندخل البيت وهو في الحِداد، بل ننتظر هنا خارجاً. أليس كذلك؟» يقول بطرس.

 

«بطرس على حقّ. سنبقى في الشارع، ولكن ليس بعيداً عنكَ.»

 

يُذعِن يسوع لإرادة العموم، لكنّه يبتسم ويقول: «لن يفعلوا لي شيئاً. ثِقوا بذلك. ليسوا أشراراً. فإنّهم ليسوا سوى متأثّرين بشريّاً. هيّا.»

 

إنّهم على الطريق المؤدّية إلى البيت. ها هم على عتبة الحديقة. يسوع أوّلاً، وخلفه يوضاس ويعقوب. ثمّ ها هو يسوع على عتبة المطبخ. هناك قُرب الموقد، مريم التي لحلفى تُعدّ الطعام وتبكي. في إحدى الزوايا، سمعان ويوسف مع رجال آخرين يجلسون بشكل حلقة. بين الرجال هناك حلفى بن سارة. إنّهم هناك، صامتون مثل التماثيل. هل هي عادة هنا؟ لستُ أدري.

 

«السلام لهذا البيت، والسلام للنَّفْس التي غادَرَتهُ.»

 

تَصرخ الأرملة، وباللاشعور تَدفَع يسوع، وتقف ما بينه وبين الآخرين. يقف سمعان ويوسف متجهّمَين ومذهولَين. ولكنّ يسوع لا يُظهِر أنّه انتبه إلى مظهرهما العدائيّ. يتوجّه صوب الرَّجُلين (مَظهَر سمعان يشير إلى أنّه قد بَلَغَ الخمسين أو أكثر.) يمدّ لهما يديه، بحركة دعوة حميميّة. الاثنان مذهولان أكثر مِن أيّ وقت، ولكنّهما لا يَجرؤان على القيام بأيّة حركة دنيئة. حلفى بن سارة يَضطَرب ويتألّم بشكل جَليّ. الآخرون، بمظهر غامض، ينتظرون ما سوف يحدث.

 

«يا سمعان، الآن وقد أضحيتَ رأس العائلة، لماذا لا تستقبلني؟ لقد أتيتُ أشاطركَ حزنكَ. وكم رغبتُ بأن أكون معكَ ساعة الدفن! ليست غلطتي إذا ما كنتُ بعيداً. أنتَ عادل يا سمعان، وينبغي أن تقرّ بذلك.»

 

ويستمرّ وقوف الرجل متحفّظاً.

 

«وأنتَ يا يوسف، يا مَن تحمل اسماً عزيزاً جدّاً على قلبي، لماذا لا تتقبّل قُبلَتي؟ ألا تَقبَلان مشاطرتي لكما حزنكما؟ الموت رباط يشدّ وثاق المشاعر الحميمة الحقّ. ونحن كنّا نحبّ بعضنا. فلماذا ينبغي لنا أن نتفرّق الآن؟»

 

«بسببكَ أنتَ مات أبونا مُعَذَّباً.» يُجيب يوسف بقسوة. وسمعان: «كان ينبغي أن تبقى. كنتَ تَعلَم أنّه مُشرِف على الموت. لماذا لم تبقَ؟ كان يريدكَ...»

 

«لم أكن أستطيع أن أفعل له أكثر ممّا فعلتُ. تعرفون ذلك جيّداً...»

 

سمعان، بأكثر عدلاً واستقامة يقول: «هذا صحيح. أَعلَم أنّكَ أتيتَ، وأنّه طردكَ. لكنّه كان مريضاً ومُبتَلَى.»

 

«أعرف، وقد قلتُ ذلك لأُمّكَ وإخوتكَ: "أنا لستُ أحقد عليه، لأنّني مدرك لما في قلبه". إنّما فوق كلّ شيء يوجد الله. والله كان يريد هذا الألم مِن أجل الجميع. أمّا أنا، فَثِقوا تماماً بأنّني تألّمتُ لذلك، كما لو أنّ قطعة مِن لحمي قد انتُزِعَت؛ أمّا أبوكم فقد أدرَكَ خلال هذا الألم حقيقة كبرى، كانت خلال حياته خافية عليه؛ أمّا أنتم؛ فقد كانت لديكم، بهذا الألم، إمكانيّة تقدمة تضحية أكثر فاعليّة مِن ذبيحة ثور فَتيّ؛ أمّا يعقوب ويوضاس اللذين قد أصبحا الآن أكثر نضجاً منكَ، يا عزيزي سمعان، لأنّهما دَفَعا الثمن بالكثير مِن الألم الذي طَحَنَهما مثل حجر الرحى. لقد جَعَلَتهما الآلام بالِغَين، وقد وَصَلا إلى السنّ الكامل في عيني الله.»

 

«أيّة حقيقة رآها أبي؟ هي واحدة فقط: أنّ دمه، في ساعته الأخيرة أضحى عدوّاً له.» يُعَقّب يوسف بقسوة.

 

«لا، ففوق الدم هناك الروح. لقد أدرَكَ ألم إبراهيم، لذلك وُجِدَ إبراهيم في عونه.» يجيب يسوع.

 

«وإن يكن ذلك صحيحاً! ولكن مَن يؤكده لنا؟»

 

«أنا يا سمعان، وأكثر منّي موت أبيكم. ألم يبحث عنّي؟ أنتَ قلتَ ذلك.»

 

«قُلتُ ذلك، صحيح. لقد كان يريد يسوع. وكان يقول: "أقلّه لا تَمُتْ روحي. هو يمكنه ذلك. لقد أبعَدتُهُ ولن يعود. يا للموت دون يسوع! يا لفظاعته! لماذا طَرَدتُه؟" نعم كان يقول ذلك وأيضاً: "هو سَأَلَني مرّات عِدَّة: ’هل عليَّ أن أمضي؟‘ وأنا جَعَلتُه يذهب... الآن لن يعود". لقد كان يريدكَ، كان يريدكَ. أُمّكَ أَرسَلَت مَن يبحث عنكَ، ولكنّهم لم يَجِدوكَ في كفرناحوم، وهو بكى كثيراً. وبينما كان يَجمَع بقيّة مِن قِواه، أَخَذَ يد أُمّكَ وأرادها أن تكون بقربه. لم يكن يتكلّم إلّا بشقّ النفس، ولكنّه كان يقول: "الأُمّ هي الابن قليلاً. أُمسِك يد الأُمّ لأحصل على شيء منه، ذلك أنّني أخشى الموت". يا لأبي المسكين!»

 

وجرى بعد ذلك مَشهَد شرقيّ مِن الصُّراخ وحركات الألم، شارك فيه الجميع، بمـا فيهم يعقوب ويوضاس اللذان تجاسَـَرا ودَخَلا. والأكثر سـكوناً كان يسـوع الذي يبكي فقط.

 

«أتبكي؟ لقد كنتَ تحبّه إذن؟» يَسأَل سمعان.

 

«آه! سمعان، أتسأل؟ ولكن لو كنتُ استطعتُ، أتعتقد أنّني كنتُ أسمح بألمه؟ إنّما أنا مع الآب، ولستُ فوق الآب.»

 

«إنّكَ تقيم الموتى، أمّا هو فلم تُشفِه.» يقول يوسف بخشونة.

 

«لم يكن يؤمن بي.»

 

«إنّها الحقيقة يا يوسف.» يَلفِت نظره أخوه سمعان.

 

«لم يكن يؤمن، ولم يتخلَّ عن الحقد. وحيث قلّة الإيمان والبُغض، أنا لا أستطيع شيئاً. لذلك أقول لكما: لا تُبغضِا أخويكما. ها هما. فلا يثقلنّ حقدكما تَـمَزُّقهُما. أُمّكما أكثر تَـمَزُّقاً من جرّاء هذا الحقد المتأجّج باطّراد بسبب موت أبيكما. لقد انطَفَأَت جذوة هذا الحقد عند أبيكما في السلام، إذ إنّ رغبته بي مَنَحَتهُ الغفران مِن الله. أنا لستُ أحدّثكما عنّي ولا أطلب منكما أيّ شيء. إنّني في هذا العالم، ولستُ مِن هذا العالم. الذي يحيا فيَّ يُعوّضني عن كلّ ما يحرمني منه العالم. أنا أتألّم في ناسوتي، ولكنّني أرفع روحي إلى ما فوق هذه الأرض، وأبتَهِج في الحقائق السماويّة. إنّما هما!... لا تتنكّرا لشريعة الحبّ والدم. أحبّوا بعضكم بعضاً. لم يسئ يعقوب ويوضاس إلى الدم. إنّما حتّى ولو حصل هذا فاغفرا. انظرا إلى الأمور بعين الاستقامة والعدل وستريان أنّهما كانا الأكثر إعياء وتَحَمَّلاً لعدم تَفَهُّم وضعهما وسط الضرورات التي يفرضها على نفسيهما نداء الله. ومع ذلك فهما لا يَحمِلان حِقداً مطلقاً، إنّما فقط الرغبة في أن يكونا محبوبين. أليس كذلك؟»

 

يوضاس ويعقوب، اللذان تشدهما أُمّهما إليها، يُوافِقان عَبرَ دموعهما.

 

«سمعان، أنتَ البِكر، فكن الـمَثَل...»

 

«أنا... بالنسبة إليَّ... ولكنّ العالم... إنّما أنتَ...»

 

«آه! العالم! إنّه ينسى ويغيّر رأيه عند كلّ طالع فجر... وأنا! هيّا أعطني قُبلتكَ الأخويّة. إنّني أحبّكَ، وأنتَ تَعلَم. دع القشور، التي تجعلكَ قاسياً، تسقط، وهي ليست منكَ، بل مفروضة عليكَ ممّن هم أقلّ برّاً منكَ، واحكم دائماً باستقامة قلبكَ.»

 

سمعان، بقليل مِن النفور أيضاً، يفتح ذراعيه. يُقَبِّله يسوع ويقوده إلى أخويه. يُقَبِّلون بعضهم وسط الدموع والنحيب.

 

«الآن جاء دوركَ يا يوسف.»

 

«لا، لا تُصِرّ. فإنّني أتذكّر ألم أبي.»

 

«في الحقيقة، أنتَ تُخَلِّد ذلك الألم بهذا الغلّ.»

 

«لا يهمّ. إنّني وفيّ له.»

 

لا يُلِحّ يسوع. يَلتَفِت إلى سمعان. «الليل يهبط، أمّا إذا كنتَ ترغب... قلبنا يتحرّق لإكرام جثمانه. أين حلفى؟ أين وضعتموه؟»

 

«خلف المنـزل، في طرف كرم الزيتون عند المنحدر. في قبر يليق به.»

 

«أرجوكَ، خذني إليه. وأنتِ يا مريم، تشجّعي، فإنّ زوجكِ يغتَبِط إذ يرى أولادكِ على صدركِ. امكثوا هنا. أذهب أنا مع سمعان. كونوا في سلام! يا يوسف، لكَ أقول ما كنتُ أقوله لأبيكَ: "أنا لا أحمل لكَ الحقد. بل إنّني أحبّكَ. وعندما تريدني نادني. وسوف آتي أشاطركَ الحزن". وداعاً.» ويَخرُج يسوع مع سمعان.

 

يَنظُر الرُّسُل خلسة وبفضول، ولكنّهم يَرَون الاثنين متّفقين تماماً، فَيُسَرّون.

 

«تعالوا أنتم أيضاً.» يقول يسوع. «إنّهم تلاميذي، يا سمعان. هم كذلك يَودّون أن يُكَرِّموا والدكَ. هيّا بنا.»

 

يَعبُرون كرم الزيتون... وينتهي كلّ شيء.