ج2 - ف57
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثاني / القسم الأول
57- (يسوع يُعلِّم التلاميذ قرب البيت)
30 / 01 / 1945
لا يزال يسوع يُثقّف أتباعه في ظلّ شجرة جوز كبيرة، تتطاول مِن مكانها لتُخيّم على حديقة مريم. اليوم مُكفهرّ والعاصفة وَشيكة، قد يكون ذلك هو السبب الذي مِن أجله لم يبتعد يسوع كثيراً عن المنزل. تروح مريم وتجيء إلى الحديقة، وفي كلّ مرة ترفع رأسها وتبتسم ليسوعها الجالس على العشب قرب الجذع يحيط به تلاميذه.
يقول يسوع: «بالأمس قُلتُ لكم إنّ ما أثار كلاماً متهوّراً يَصلح لأن يكون موضوع اليوم. هاكم الأمثولة.
فَكِّروا بثبات، وليكن ذلك بالنسبة لكم قاعدة سُلوك، فلا شيء خفيّ سيبقى كذلك على الدوام. قد يهتمّ الله بالإعلان عن أعمال أحد أبنائه عن طريق إشاراته العجائبيّة، أو يفعل ذلك بواسطة الصالحين الذين يعرفون استحقاقات أحد الإخوة، أو كذلك قد يُعلِن الشيطان، ولا أقول أكثر مِن ذلك، على لسان أحد المتهوّرين، أشياء قد فَضَّل الصَّالحون السكوت عنها كي لا يساهموا في عمل مُناف للمحبّة، إنَّما هو يُبدّل الحقيقة بشكل يثير الاضطراب في الأفكار. وهكذا تأتي دائماً اللحظة التي يُعلَم فيها ما كان خفيّاً. والآن، فليكن ذلك حاضراً في أذهانكم على الدوام. وليُوقِفكم ذلك عند شفا هاوية الشرّ دون أن يحثّكم، بشكل أو بآخر، على إعلان الخير الذي تفعلون. كَم مِن مرّة يتمّ فيها التصرّف بِنيّة حَسَنَة، بِصَلاح حقيقيّ، إنّما بِصَلاح بشريّ! إذ بما أنّ هذا العمل ليس سوى بشريّ، ويَنبَثِق مِن نيّة ليست كاملة الطُّهر، فإنّنا نرغب بأن يكون هذا العمل معروفاً مِن الناس، فنُزبد ونَغضَب لرؤيتها ما تزال مجهولة، ونَدرس أساليب جَعْلها معروفة. لا، يا أصدقائي، ليس هكذا. بل افعلوا الخير واتركوه للإله الأزليّ. وهو سوف يَعرِف، إذا كان الأمر مفيداً لكم، كيف يَجعَل الناس يَعلَمون به. وإذا كان على عكس ذلك، أي أنه يمكن للإفصاح عنه أن ينزَع كلّ قيمة مِن هذا العمل الذي قمتم به لهدف معيّن، بفعل انبثاق مُجامَلَة مُتكبّرة، فحينئذ يُبقيها الآب سرّاً، للاحتفاظ بها لتكون لكم مجداً في السماء في حضرة الحاشية السماويّة كلّها.
فلا يحكمنّ أحد مطلقاً على فِعل يَراه بحسب المظاهر. لا تدينوا مطلقاً: فالأفعال البشريّة قد تبدو في الظاهر مُنَفِّرة، بينما هي تخفي دوافع حميدة. فمثلاً: يمكن لأب أن يقول لابن كسول وماجِن: "اذهب عنّي"، وقد يكون هذا مِن قَبيل القسوة والتهرّب مِن واجباته الأبويّة. ولكنّه ليس دائماً هكذا. "فاذهب عنّي" هذه قد تكون مجبولة ببكاء مُرّ جدّاً، مِن قِبَل الأب أكثر منها مِن الابن، وتصحبها كلمة وَأُمنية لو تتحقّق، "وستعود عندما تتوب عن كَسَلِكَ". هذا هو العدل بعينه بالنسبة لبقيّة أبنائه، ذلك أنّ هذا التصرّف يَردَع ماجِناً عن أن يَصرف في الـمُجون مال الباقين عِلاوة على ماله. وعلى العكس مِن ذلك تصبح هذه الكلمة سيّئة لو كانت صادرة عن أب مخطئ بحقّ الله وحقّ أبنائه، مِن خلال أنانيّته، حيث يَعتَبِر نفسه أعلى مرتبة مِن الله، ويفكّر بامتلاك حقوق حتّى على نَفْس ابنه. لا. فالنَّفْس لله، والله لا يُرغِم نَفْساً على بذل أو عدم بذل ذاتها. بالنسبة للعالم، التصرّفات متشابهة، إنّما كَم يختلف الواحد عن الآخر! الأوّل ينبثق مِن العدالة، أمّا الآخر فَمِن تَعَسُّف خاطئ. لذا فلا تدينوا أحداً أبداً.
بالأمس قال بطرس ليهوذا: "مَن كان معلّمكَ؟" فلا يقولنّ هذا بعد أبداً. ولا يُدِن أحد الآخرين بحسب ما يراه مِن أحدهم أو مِن نفسه. فليس لدى المعلِّمين سوى الحديث ذاته لكلّ تلاميذهم. فكيف إذن يصبح عشرة منهم صالحين والعشرة الآخرون سيّئين؟ هذا لأنّ كلّ واحد يُضيف ممّا لديه، ممّا في قلبه، وهذا ما يجعله يميل نحو الخير أو نحو الشرّ. كيف يمكن إذن إدانة المعلّم بأنّه لَقَّنَ تعاليم فاسدة إذا كان الخير الذي يحاول أن يرسّخه في الأذهان قد أَعدَمَهُ فيض الشرّ الذي يتملّك القلب؟ إنّ عامل النجاح الأوّل كامن فيكم. والمعلّم يُعنَى بالأنا فيكم. ولكن إذا لم تكونوا قابلين للتحسّن، فماذا يمكن للمعلّم أن يفعل؟ مَن أكون أنا؟ الحقّ أقول لكم، لن يكون لكم معلّم أكثر حكمة وأطول أناة وأرفع كمالاً منّي. ومع ذلك فهذا ما سوف يقال عن أحد تلاميذي: "ولكن أيّ معلّم كان معلّمه؟"
أبداً لا تدعوا الدوافع الشخصيّة تسيطر على أحكامكم. بالأمس ظَنَّ يهوذا، بسبب حُبّ لموطنه مُبالَغ فيه، أنّه يَرَى فيَّ ظُلماً تجاهه. يتأثّر المرء أحياناً بهذه العناصر التافهة التي هي حُبّ الوطن أو حُبّ فكرة ما، ويحيد عن هدفه مثل ألسيون (طائر خرافيّ عند القدماء يبيض في عشّ عائم على الماء) تائه. الهدف هو الله. يجب رؤية كلّ شيء في الله لتكون الرؤية واضحة. كما يجب عدم إعلاء الذات أو أيّ شيء على الله. وإذا حَصَلَ أن أخطأ أحدكم... يا بطرس! يا أنتم جميعاً! فلا تكونوا مُتشدّدين. فخطأ أحدكم الذي يصدمكم كثيراً، هل مُؤكَّد أنّكم لم ترتكبوه مطلقاً؟ هل أنتم متأكّدون مِن ذلك؟ وبفرض أنّكم لم ترتكبوه مطلقاً، فماذا يبقى لكم لتفعلوه؟ عليكم أن تشكروا الله وحسب، والسَّهَر، السَّهَر كثيراً وبشكل مستمرّ لكي لا تَقَعوا غداً في ما تَحاشَيتُم الوقوع فيه حتّى الآن. هل تَرَون؟ السماء اليوم مُكفهرّة لأنّ بَرَداً يُوشِك أن ينهمر. ونحن، بمراقبة السماء قلنا: "لا نبتعدنّ عن البيت". فإذاً، إذا كنّا نعرف أن نحكم هكذا على أشياء، مهما كانت خطورتها، تبقى لا شيء بالمقارنة مع خسارة صداقة الله بالخطيئة، فلماذا لا نعرف أين يَكمن الخطر على النَّفْس؟
انظروا: هي ذي أُمّي. هل يمكن الاعتقاد بأنّ لديها أدنى ميل للشرّ؟ إذاً، بما أن الحبّ يدفعها لأن تتبعني، فهي سوف تترك البيت عندما يتطلّب حبّي ذلك. وهذا الصباح رجتني هي ذلك، ذلك أنّها، وهي معلّمتي، كانت تقول لي: "اعمل جهدكَ لتجعل أُمّكَ أيضاً في عِداد تلاميذكَ، يا بنيّ. أودّ أن أَتَعَلَّم مذهبكَ". وهي التي حَوَت هذا المذهب في أحشائها، وقبلاً في روحها، بِعَطيّة مِن الله للأُمّ الـمُقبِلَة لكلمته المتجسّد، وقد قالت: "مع ذلك... لكَ أن تحكم إذا ما كان بإمكاني المجيء دون احتمال فقداني الاتّحاد بالله، دون أن يتمكّن هذا العالم، الذي قلتَ لي إنّه يتغلغل في كلّ شيء بِنَتَانَته، مِن أن يُفسِد هذا القلب، قلبي، الذي كان ولا يزال لا يودّ أبداً أن يكون لغير الله. إنّني أفحص ضميري، وعلى قدر معرفتي تبدو لي إمكانيّة فعل ذلك، لأنّ... (وهنا استرسَلَت دون تفكير بأنّ في ذلك أعظم تكريم)، بالفعل، لا أجد فرقاً بين السلام الوديع الذي كان في الفترة التي كنتُ خلالها زهرة الهيكل، وذلك الذي أملكه في داخلي الآن وقد أصبَحتُ سيّدة هذا المنزل منذ أكثر مِن ستّة خمسيّات. ولكنّني خادمة غير جديرة، معرفتها قليلة وحكمها أسوأ على أمور الروح. أنتَ هو الكلمة، الحكمة، والنور، ويمكنكَ أن تكون النور لأُمّكَ المسكينة التي تُفَضِّل أن لا تعود تراكَ على أن تَقبَل أن لا تكون مقبولة لدى الله". ولقد اضطُرِرتُ إلى القول لها وقلبي مُضطَرِب مِن الإعجاب: "أُمّي، أقول لكِ، إنّ العالم لن يستطيع إفسادكِ، ولكنّه هو الذي سوف يتعطّر بكِ".
أنتم تسمعون كيف عَرَفَت أُمّي أن تَرَى أَخطَار الحياة وسط العالم، الأَخطَار حتّى بالنسبة لها، حتّى بالنسبة لها. وأنتم أيّها الرجال أفلا تَرَونَها؟ آه! ينبغي لي أن أقول لكم إنّ الشيطان هو حقّاً بالمرصاد! والمتيقّظون فقط سوف يكونون المنتصِرين. والآخرون؟ أَتَسأَلون عن الآخرين؟ أمّا بالنسبة للآخرين فما هو مكتوب سيكون.»
«وما المكتوب يا معلّم؟»
«وهَجَمَ قايين على هابيل وقَتَلَه. وقال الربّ لقايين: "أين أخوكَ؟ ماذا فَعَلتَ به؟ صوت دمه يَصرخ نحوي. وها إنّكَ ستكون ملعوناً في كلّ الأرض التي عَرَفَت طعم الدّم البشريّ بيد أخ فَتَحَ أَورِدة أخيه، ولن يتوقّف مُطلَقاً جوع الأرض الرهيب هذا للدم البشريّ. والأرض التي تسمَّمَت بهذا الدم ستكون بالنسبة لكَ عقيمة أكثر مِن عقم امرأة قَطَعَ العمر بها كلّ إمكانيّة للخصب. وسوف تهرب للبحث عن السلام والخبز، ولن تجدهما. فتأنيب ضميركَ سوف يجعلكَ ترى الدم على كلّ زهرة وعلى كلّ نبات، على كلّ ماء وكلّ غذاء. ستبدو لكَ السماء دماً وكذلك البحر، وستأتيكَ أصوات ثلاثة مِن السماء ومِن الأرض ومِن البحر: صوت الله وصوت البريء وصوت الشيطان. وكي لا تَسمَعها سوف تلجأ إلى الموت".»
ويُبدي بطرس ملاحظته: «سِفر التكوين لا يروي ذلك.»
«لا. ليس سفر التكوين، بل أنا مَن يقول ذلك، ولستُ أُخطئ. وأقول ذلك للجُّدُد الذين على مثال قايين لهابيل. لأولئك الذين، لعدم سَهَرهم على ذواتهم وعلى العدوّ، فلن يكونوا وإيّاه سوى واحد.»
«ولكن لن يكون واحداً منّا، أليس كذلك يا معلّم؟»
«يا يوحنّا، عندما سيتمزق حجاب الهيكل، سوف تَسطَع حقيقة عظيمة على صهيون كلها.»
«أيّة حقيقة، ربّي؟»
«إنّ أبناء الظلام عَبَثَاً كانوا على اتّصال بالنور. احتفظ بذلك في ذاكرتكَ يا يوحنّا.»
«هل سأكون أنا مِن أبناء الظلام؟»
«لا، ليس أنتَ، إنّما تَذَكَّر ذلك لتَشرَح الجريمة للعالم.»
«أيّة جريمة يا ربّ؟ أهي جريمة قايين؟»
«لا، فذاك كان أوّل تَناغُم لنشيد الشيطان. أتكلّم عن الجريمة الكاملة. الجريمة التي لا يمكن تَصوُّرها. الجريمة التي، لكي تَفهَمها، عليكَ النَّظَر عَبر شمس الحبّ الإلهيّ، وعبر روح الشيطان. إذ فقط الحبّ الكامل والحقد الكامل، وحدهما الخير اللامتناهي والشرّ اللامتناهي يمكنهما شرح عطيّة كهذه وخطيئة كهذه. أَتَسمَعون؟ يبدو أنّ الشيطان يَسمَع ويَصرُخ لرغبته بإتمامها. لنذهب قبل أن تنفجر الغيوم برقاً وبَرَداً.»
ويَنزلون وهم يركضون ويقفزون، إنهم يَـثِبون في حديقة مريم بينما العاصفة تنفجر بعنف.