ج8 - ف11
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثامن
11- ("يجب على يسوع أن يهرب إلى السامرة")
30 / 12 / 1946
مِن الجميل البقاء هكذا، مستريحين، في محبّة الأصدقاء وقرب المعلّم في الأيّام المشمسة، الّتي تُعلِن ابتسامة ربيع مبكّر، ناظرين إلى الحقول الّتي تفتح أثلامها لِتَفتُّح بريء لحبوب تنبت، ناظرين إلى المروج الّتي تقطع اخضرار الشتاء الرتيب بأوائل زهيرات متعدّدة الألوان، ناظرين إلى الأسيجة النباتية التي تُبدِي في المواضع الأكثر تعرّضاً للشمس ابتسامة براعم تتفتّح، ناظرين إلى أشجار اللوز الّتي تزبد عند قممها بالزهور الأولى الّتي تتفتّح.
ويسوع يستمتع بذلك، كذلك الرُّسُل، وأيضاً أصدقاء بيت عنيا الثلاثة. تبدو بعيدة جدّاً سوء النيّة، الألم، الحزن، المرض، الموت، الكراهية، الحسد، كلّ ما هو ألم، عذاب، انشغال على الأرض.
الرُّسُل، كلّهم، مغتبطون ويُظهِرون ذلك. يُفصِحون عن يقينهم -آه!، الواثق جدّاً، الظافر جدّاً!- بأنّ يسوع مِن الآن فصاعداً قد غَلَبَ كلّ أعدائه، بأنّ رسالته ستستمرّ مِن الآن فصاعداً دون معوقات، بأنّه سيتمّ الاعتراف به مسيحاً حتّى مِن قِبَل الّذين كانوا متعنّتين في إنكاره. ويتحدّثون، متحمّسين بعض الشيء، مستعيدين شبابهم مِن فرط ما هم سعداء، واضعين خططاً للمستقبل، حالمين… حالمين كثيراً… وعلى نحو بشريّ.
إنّ الأكثر حماسةً، بسبب عقليّته الّتي تحمله دائماً إلى المغالاة، هو يهوذا الإسخريوطيّ. إنّه يغتبط لأنّه أحسن الانتظار وأحسن التصرّف، يغتبط بإيمانه طويل الأمد بانتصار المعلّم، يغتبط لتحدّيه تهديدات السنهدرين… إنّه متحمّس لدرجة أنّه ينتهي بأن يقول أيضاً ما أبقاه دوماً مخفيّاً حـتّى الآن، وسط دهشة رفاقه وذهولهم: «نعم. كانوا يريدون شرائي، كانوا يريدون إغوائي بإطراءات، وإذ رأوا أنّ تلك لم تكن تنفع، فبتهديدات. لو كنتم تعلمون! إنّما أنا! أنا قد رددتُ عليهم بالـمِثل. لقد تظاهرتُ بمحبّتي لهم كما هم لي. تملّقتُهم كما كانوا يتملّقونني، وخنتهم كما كانوا يريدون أن يخونوني… لأنّ هذا ما كانوا يريدونه. أن يجعلوني أصدّق بأنّهم كانوا يختبرون المعلّم بحسن نيّة كي يتمكّنوا مِن إعلانه رسمياً قدّوس الله. إنّما أنا أعرفهم! أنا أعرفهم! وفي كلّ الأمور الّتي كانوا يقولون لي أنّهم يريدون القيام بها، كنتُ أتصرّف بحيث تتجلّى بحقّ قداسة يسوع بأكثر سطوعاً مِن شمس الظهيرة في سماء بلا غيوم… لعبة خطرة هي لعبتي! لو كانوا فهموها! لكنّني كنتُ مستعدّاً لكلّ شيء، حتّى للموت، كي أخدم الله في معلّمي. وهكذا كنتُ أعلم كلّ شيء… إيه! في بعض الأحيان كنتُ أبدو لكم مجنوناً، شرّيراً، فظّاً. لو علمتم! أنا وحدي أعرف لياليَّ، الاحتياطات الّتي كان عليَّ اتّخاذها كي أعمل خيراً مِن دون لفت انتباه أحد! كنتم كلّكم تشتبهون بي بعض الشيء. أعلم. إنّما ليس بي ضغينة تجاهكم. إنّ طريقتي في التصرّف… نعم… كان يمكنها أن تثير شكوكاً. لكنّ هدفي كان صالحاً، ولم يكن يهمّني غير ذلك. يسوع لا يعلم شيئاً. لا بل أظنّ بأنّه يشكّ بي هو أيضاً. إنّما سوف أُحسِن الصمت دون مطالبته بمدحي. واصمتوا أنتم أيضاً. ذات يوم، في الأوقات الأولى الّتي كنتُ فيها معه -وأنتَ يا سمعان الغيور، وأنتَ يا يوحنّا بن زَبْدي، كنتما معي- هو لامني لأنّني تفاخرتُ بأنّ لديَّ الحسّ العمليّ. وأنا مذّاك… لم أُبرز له أبداً هذه الميزة، لكنّني واصلتُ استخدامها، لخيره. لقد تصرّفتُ مثل أُمّ تجاه ابنها عديم الخبرة. فهي تزيل العوائق مِن طريقه، تطوي له الغصن الخالي مِن الأشواك، وترفع ما يمكن أن يجرحه، أو هي، بأفعال حكيمة، تقوده لأن يفعل ما يجب أن يُحسِن فِعله، وأن يتفادى ما هو شرّ، دون حتّى أن يلاحظ الابن ذلك. هكذا يظنّ الابن بأنّه توصّل مِن ذاته للمشي دونما تعثّر، مِن قطف زهرة جميلة لأُمّه، مِن القيام بهذا وذاك تلقائيّاً. أنا فعلتُ ذات الشيء مع المعلّم. لأنّ القداسة لا تكفي في عالم بشر وشياطين. ينبغي كذلك القتال بأسلحة مكافئة، أقلّه قتال رجال… وأحياناً… كذلك قليل مِن دهاء جهنّميّ لا يضرّ بوضعه مع الأسلحة الأخرى. هذه فكرتي. لكنّه لا يريد سماعها… إنّه طيّب جدّاً… حسناً. أنا أفهم كلّ شيء والجميع، وأعذر الكلّ عن الأفكار السيّئة الّتي يمكن أن تكونوا قد حملتموها تجاهي. الآن أنتم تعلمون. لنحبّ بعضنا بعضاً الآن محبّة رفاق طيّبين، وكلّ شيء لأجل محبّته ومجده.» ويشير إلى يسوع الّذي يمشي إلى أبعد كثيراً في ممرّ مشمس وهو يتحدّث إلى لعازر، الّذي ينصت إليه بابتسامة نشوة على وجهه.
يبتعد الرُّسُل صوب منزل سمعان. يسوع، على العكس، يقترب مع صديقه. أُنصِت إليهما. يقول لعازر: «نعم. كنتُ قد فهمتُ بأنّه كانت هناك غاية عظيمة، وحتماً مِن منطلق صلاح، بتركي أموت. كنتُ أظنّ بأنّه ربّما كي توفّر عليَّ رؤية الاضطهاد الّذي يُلحِقونه بكَ. وأنتَ تعلم فيما إذا كنتُ أقول الحقّ، فقد كنتُ سعيداً بأن أموت كي لا أرى ذلك. إنّه يثير سخطي، يشوّشني. أنتَ ترى يا معلّم. لقد غفرتُ الكثير مِن الأمور لِمَن هم رؤساء لشعبنا. لقد كان عليَّ أن أغفر إلى الأيّام الأخيرة… حِلقِيّا… إنّما الموت والقيامة قد ألغيا كلّ ما كان قد بدر منهم. لماذا أتذكّر أفعالهم الأخيرة كي أتألّم؟ لقد غفرتُ كلّ شيء لمريم. ويبدو أنّها تشكّ بذلك. لا وبل منذ أن قمتُ، لا أدري لماذا، قد اتّخذت حيالي موقفاً… لا أعرف كيف أصفه. هو لطف وخضوع غريبين للغاية في عزيزتي مريم… هي ولا حتّى في اللحظات الأولى الّتي عادت فيها إلى هنا، وقد افتديتَها، لم تكن هكذا… وربّما أنتَ تعلم ويمكنكَ أن تقول لي شيئاً عن الأمر، لأنّ مريم تُفضي لكَ بكلّ شيء… أنتَ تعلم فيما إذا كان أولئك الّذين قدموا إلى هنا قد بالغوا في لومها. أنا قد سعيتُ دوماً إلى التخفيف مِن وطأة ذكرى خطيئتها عندما كنتُ أراها مستغرقة في التفكير بالماضي، كي أداوي معاناتها. إنّها لا تُحسِن منح نفسها الهدوء. إنّها تبدو… مترفّعة عمّا يمكن أن يكون مَهانةً. قد تبدو للبعض أنّها قليلة الندم… إنّما أنا أُدرِك… أنا أعلم. إنّها تفعل كلّ شيء لتُكفّر. أظنُّها تقوم بتكفيرات عظيمة، مِن كلّ الأنواع. لن أندهش إذا كانت تلبس المسح تحت ملابسها، وأنّ جسدها قد عرف لسعات السياط… ولكنّ محبّتي الأخويّة، الّتي تريد دعمها بوضع حجاب بين الماضي والحاضر، ليست لدى الآخرين… ربّما أنتَ تعلم، إن مَن لا يُحسِنون المغفرة قد أساؤوا معاملتها … وهي بحاجة إلى الكثير مِن المغفرة؟»
«لا أعلم يا لعازر. مريم لم تحدّثني عن ذلك. لقد قالت لي فقط بأنّها تعذّبت كثيراً لسماعها تلميحات الفرّيسيّين بأنّني لم أكن مَسيّا، لأنّني لم أكن أشفيكَ أو لم أكن أقيمكَ مِن الموت.»
«و… ألم تقل لكَ شيئاً عنّي؟ لقد كنتُ مريضاً جدّاً… أذكر أنّ أُمّي في ساعاتها الأخيرة قد كشفت أموراً مرّت دون أن تلاحظها مرثا ولا أنا. كان الأمر كما لو أنّ عمق نفسها وماضيها قد عادا إلى السطح مع آخِر هيجانات القلب. أنا لا أريد… إنّ قلبي قد تألّم كثيراً مِن أجل مريم… وقد جهد كثيراً لعدم جعلها على الإطلاق تشعر كم عانيتُ بسببها… لم أرد آذيّتها الآن وهي صالحة، فيما، بدافع محبّة أخويّة قبلاً، وبدافع محبّة لكَ بعدها، لم أقم بإيذائها في الزمن البغيض، عندما كانت عاراً. ماذا قالت لكَ عنّي يا معلّم؟»
«ألمها ناجم عن أنّها لم تحظَ إلّا بزمن قصير كي تمنحكَ محبّتها المقدّسة كأخت وتلميذة زميلة. أنّها بفقدانكَ قد قَدَّرَت كمّ كنوز العاطفة الّتي داستها فيما مضى... والآن هي سعيدة بالتمكّن مِن منحكَ كلّ المحبة الّتي تريد منحكَ إيّاها، كي تقول لكَ بأنّكَ بالنسبة لها الأخ القدّيس المحبوب.»
«آه! هوذا! لقد خمّنتُ ذلك! إنّني أغتبط به. إنّما كنتُ أخشى مِن أن أكون قد أهنتُها… منذ الأمس وأنا أفكّر، أفكّر… أحاول أن أتذكّر… لكنّني لا أتمكّن مِن ذلك...»
«لكن لماذا تريد أن تتذكّر؟ لديكَ المستقبل أمامكَ. الماضي بقي في القبر. أو بالأحرى، لم يبق حتّى هناك. لقد احترق مع الأربطة المأتميّة. إنّما إن كان ذلك ليمنحكَ السلام، أقول لكَ الكلمات الأخيرة الّتي قلتَها لأختيكَ. ولمريم خصوصاً. لقد قلتَ بأنّني أتيتُ إلى هنا وآتي لأجل مريم، لأنّ مريم تُحسِن أن تحبّ أكثر مِن الجميع. وهذا صحيح. لقد قلتَ لها بأنّها أحبّتكَ أكثر مِن كلّ الّذين أحبّوكَ. وهذا أيضاً صحيح، لأنّها أحبّتكَ بتجدّدها محبّة بالله وبكَ. لقد قلتَ لها، بحقّ، أنّ حياة مسرّات بأكملها ما كانت لتمنحكَ الفرح الّذي تنعمّتَ به بفضلها. وباركتَهما، كما كان لِـحَبْر أن يبارك أحبّ مخلوقاته. وباركتَ مرثا بالـمِثل، الّتي كنتَ تدعوها: سلامكَ، ومريم، الّتي كنتَ تدعوها: فرحكَ. أأنتَ في سلام الآن؟»
«الآن نعم يا معلّم. أنا في سلام.»
«فإذن، بما أن السلام يمنح الرحمة، إغفر كذلك لرؤساء الشعب الّذين يضطهدونني. بالفعل كنتَ تريد القول بأنّكَ تستطيع أن تغفر كلّ شيء، إنّما ليس الشرّ الّذي يُلحقونه بي.»
«الأمر هو هكذا يا معلّم.»
«لا يا لعازر. أنا أغفر لهم. أنتَ يجب أن تغفر لهم إن كنتَ تريد أن تشبهني.»
«آه! أشبهكَ! لا أستطيع. أنا إنسان بسيط!»
«الإنسان قد بقي هناك تحت. الإنسان! روحكَ… أنتَ تعلم ما يحدث عند موت الإنسان...»
«لا يا ربّ. لا أذكر شيئاً ممّا حدث لي.» يُقاطِع سريعاً لعازر.
يسوع يبتسم ويجيب: «لم أكن أتحدّث عن معرفتك الشخصيّة، عن تجربتكَ الخاصّة. كنتُ أتحدّث عمّا يعرفه كلّ مؤمن عن الّذي يحدث حين يموت.»
«آه! الدينونة الخاصّة. أعلم. أؤمن. النَّفْس تمثل أمام الله، والله يدينها.»
«الأمر هكذا. ودينونة الله عادلة وقطعيّة. ولها استحقاق أزليّ. وإن كانت النَّفْس التي تُحاكَم مذنبة على نحو مميت، فإنّها تصبح نَفْساً هالكة. وإن هي كانت مذنبة قليلاً، فإنّها تُرسَل إلى المطهر. إذا كانت بارّة، فإنّها تذهب إلى سلام اليمبوس بانتظار أن أفتح أبواب السموات. وعليه، فقد استدعيتُ روحكَ بعد أن كان الله قد حاكمه. فلو كنتَ هالكاً، لما تمكّنتُ مِن استدعائكَ ثانية إلى الحياة، لأنّني بذلك أكون قد أبطلتُ حكم أبي. بالنسبة للهالكين لا يعود هناك تبدّلات. لقد حُوكِموا للأبد. فأنتَ إذن كنتَ مِن عداد أولئك الّذين لم يكونوا هالكين. وبالتالي، فَمِن مصافّ المغبوطين، أو مِن مصافّ أولئك الّذين سيكونون مغبوطين بعد التطهير. إنّما فكّر يا صديقي. إن كانت إرادة التوبة الصادقة الّتي يمكن أن تكون لدى الإنسان فيما لا يزال إنساناً، أي جسداً ونَفْساً، لها قيمة تطهير، وإذا كان طقس رمزيّ لمعمودية بالماء، مُراداً بروح ندامة، عن النجاسات الـمُصادَفَة في العالم وبسبب الجسد، له بالنسبة لنا نحن العبرانيّين قيمة تطهير، فأيّة قيمة ستكون للندم، الأصدق والأكمل، الأكثر كمالاً، لنَفْس محرّرة مِن الجسد، مُدرِكة لماهية الله، مستنيرة حيال مدى سوء آثامها، مستنيرة حيال مدى الفرح الّذي ابتعد لساعات، لسنوات، أو لقرون: فرح سلام اليمبوس، الّذي سيكون قريباً فرح بلوغ امتلاك الله، الّذي سيكون ضعف التطهير، ثلاثة أضعاف، التطهير التامّ، المحبّة الكاملة، اغتسال في اضطرام اللهب الّذي تُوقِده محبّة الله ومحبة الأرواح، الّذي فيه وبه تتجرّد الأرواح مِن كلّ نجاسة، وتخرج جميلة كما السيرافيم، مُكَلّلة بما لا يُتَوّج به ولا حتّى السيرافيم: استشهادها الأرضيّ والفائق الأرضيّ ضدّ الرذائل ولأجل المحبّة؟ ماذا سيكون؟ قله، إذن، يا صديقي.»
«ولكن… لا أدري… كمالاً. أو بالأحرى… خلق جديد.»
«هوذا. لقد قلتَ الكلمة الصحيحة. النَّفْس تخرج منه كأنّها مخلوقة مِن جديد. النَّفْس تغدو شبيهة بتلك الّتي لطفل. إنّها جديدة. كلّ الماضي لا يعود له وجود. ماضيها الإنسانيّ. حينما تسقط الخطيئة الأصليّة، فالنَّفْس، الّتي ما عادت ملطّخة بالخطيئة أو بأيّ ظلّ لِلَوثة، سوف تُخلَق على نحو فائق، وستكون مستحقّة الفردوس. أنا استدعيتُ نَفْسكَ الّتي كانت قد خُلِقت مجدّداً، بتمسّكها بالخير، بالتكفير بالألم والموت، وبفضل ندامتكَ الكاملة ومحبّتكَ الكاملة، اللذَين بَلَغتَهما فيما وراء الموت. فإنّكَ تملك إذن نَفْساً بريئة تماماً لطفل قد وُلِدَ منذ بضع ساعات. وإن كنتَ طفلاً حديث الولادة، فلماذا تريد أن تُلبِس هذه الطفولة الروحيّة، ثياب الرجل البالغ الثقيلة، الـمُرهِقة؟ إنّ للأطفال أجنحة لا قيوداً على أرواحهم المرحة. هم يقتدون بي بسهولة، لأنّهم لم يتّخذوا أيّة شخصية بعد. إنّهم يصبحون مثلي، لأنّ وجهي وعقيدتي يمكن أن تنطبع على نفوسهم الخالية مِن كلّ علامة دونما خلط في الملامح. إنّ لديهم نَفْساً خالية مِن الذكريات البشريّة، مِن البغضاء، ومِن الأحكام المسبقة. ليس فيها شيء. ويمكنني أن أكون فيها، أنا، الكامل، المطلق كما أنا في السماء. وأنتَ، كأنّكَ المولود ثانيةً، المولود حديثاً، لأنّ القوّة المحرّكة في جسدكَ العتيق جديدة هي، بلا ماضٍ، نقيّة، دونما آثار للّذي كان، أنتَ الّذي عُدتَ كي تخدمني، فقط لأجل ذلك، يجب أن تكون كما أنا، أكثر مِن الجميع. أُنظر إليَّ. أُنظر إليَّ جيّداً. أُنظر لنفسكَ فيَّ كما في مرآة، واعكس نفسكَ فيَّ. مرآتان تتبادلان النّظر لتعكس الواحدة في الأخرى وجه ما تحبّان. أنتَ رجل وأنتَ طفل. إنّكَ رجل بالنسبة للعمر، وأنتَ طفل بالنسبة لنقاء القلب. لديكَ زيادة عن الأطفال ميزة معرفة الخير والشرّ، وأنّكَ عرفتَ بالفعل اختيار الخير، حتّى قبل المعموديّة بنار المحبّة. إذن، أنا أقول لكَ، لكَ أنتَ، الإنسان الّذي قد تطهّر روحه بالتطهير الّذي ناله: "كن كاملاً كما هو أبونا السماوي وكما أنا. كن كاملاً، أي كن شبيهاً بي، أنا الّذي أحببتُكَ إلى درجة مخالفة جميع قوانين الحياة والموت، السماء والأرض، كي أحظى مجدّداً على الأرض بخادم لله، وبصديق حقيقيّ لي، وفي السماء بمغبوط، مغبوط عظيم." وأقول هذا للجميع: "كونوا كاملين." وهم، الأكثريّة منهم، لا يملكون القلب الّذي كنتَ تملكه، الجدير بالمعجزة، الجدير بأن يُتَّخذ كوسيلة لتمجيد الله بابنه المحبوب. وهم ليس لهم واجب محبّتكَ تجاه الله… يمكنني أن أقول هذا، يمكنني أن أطالبكَ به. وأطالب أوّلاً بألّا تحمل ضغينة تجاه مَن أساؤوا ويسيئون إليَّ. إغفر، إغفر يا لعازر. لقد غُمِرتَ باللهب الذي أَوقَدَته المحبّة. يجب أن تكون "محبّة" كي لا تعود تعرف أبداً سوى العِناق المغرم بالله.»
«وهل بقيامي بذلك أُنجِز المهمة التي أقمتَني لأجلها؟»
«بقيامكَ بذلك سوف تنجزها.»
«يكفي هذا يا ربّ. لستُ بحاجة لأن أسأل عن ذلك وأعرف أكثر. أن أخدمكَ كان حلمي. وإن كنتُ قد خدمتُكَ بالقليل الّذي يمكن أن يفعله المريض والميت، وإن كنتُ سأستطيع أن أخدمك في كلّ ما يمكن أن يفعله مَن استعاد عافيته، فإنّ حلمي قد تحقّق ولا أطلب أكثر. لتكن مباركاً يا يسوع، يا ربّي ومعلّمي! وليكن مباركاً معكَ مَن أرسلكَ.»
«ليكن مباركاً على الدوام الربّ الإله كلّي القدرة.»
يمضيان صوب المنزل، متوقّفَين مِن وقت لآخر ليراقبا استيقاظ الأشجار، ويسوع، بطول قامته، يرفع ذراعاً ويقطف باقة زهور صغيرة مِن شجرة لوز تتدفّأ في الشمس قبالة الجدار الجنوبيّ للمنزل.
تخرج مريم مِن البيت، وإذ تراهما تدنو لتسمع ما يقوله يسوع: «أترى يا لعازر؟ أيضاً لهذه (الزهور) قال الرب: "هلمّي خارجاً، وهي قد أطاعت لتخدم الربّ.»
«أيّ سرّ هو الإنبات! يبدو كأنّه مِن المستحيل أن تخرج مِن الجذع الصلب ومِن البذرة القاسية بتلات هشّة بهذا القدر وسُوق رفيعة هكذا، وتستحيل ثماراً أو شجراً. أَمِن الخطأ يا معلّم، القول بأنّ النسغ أو النواة هما نَفْس النبتة أو البذار؟»
«ليس خطأً، لأنّه الجزء الحيوي. فيهما هو ليس خالداً، وقد خُلق لكلّ نوع في اليوم الأول الّذي كانت فيه الأشجار والأقماح. لدى الإنسان هي خالدة، شبيهة بخالقها، مخلوقة كلّ مرّة يُحبَل بإنسان جديد. إنّما بها تحيا المادّة. لهذا أقول أنّه بالنَّفْس فقط يحيا الإنسان. لا يحيا فقط هنا، ولكن ما وراء هنا. يحيا بنَفْسه. نحن العبرانيّين لا نضع رسوماً على القبور كما يفعل الوثنيّون. لكن، لو كنّا نضعها، لكان علينا دوماً أن نرسم، لا المشعل منطفئاً، لا الساعة المائية فارغة، أو رمزاً آخر للنهاية، إنّما بالأحرى البِذار ملقىً في الثّلم الّذي يُزهِر سنبلة. لأنّ موت الجسد هو بالفعل الّذي يحرّر النَّفْس مِن قشرتها ويجعلها تُثمِر في مساكب الله. البِذرة. الشرارة الحيويّة الّتي وضعها الله في ترابنا، والّتي تستحيل سنبلة إذا ما نحن أحسنّا، بالإرادة، وكذلك بالألم، جعل التربة الّتي تحتويها خصبة. إنّ البِذرة، رمز الحياة هي الّتي تدوم... إنّما مكسيمين يناديكَ...»
«أنا ذاهب يا معلّم. قد يكون وكلاء أتوا. كلّ شيء كان متوقّفاً في هذه الأشهر الأخيرة. الآن هم يُسارعون في تقديم الحسابات لي...»
«الّتي توافق عليها مسبقاً، لأنّكَ معلّم صالح.»
«ولأنّهم خدّام صالحون.»
«السيّد الصالح يصنع الخدّام الصالحين.»
«إذن سأغدو حتماً خادماً صالحاً، لأنّ لي فيكَ أنتَ معلّماً كاملاً.» ويمضي مبتسماً، حيويّاً، مختلفاً جدّاً عن لعازر المسكين الّذي كان عليه منذ أعوام.
مريم تبقى مع يسوع.
«وأنتِ يا مريم، هل ستصبحين خادمة صالحة لربّكِ؟»
«أنتَ مَن يمكنه أن يعلم ذلك يا رابّوني. أنا… أنا أعلم فقط بأنّني كنتُ خاطئة عظيمة.»
يسوع يبتسم: «أرأيتِ لعازر؟ هو كذلك كان مريضاً عظيماً، ورغم ذلك ألا يبدو لكِ أنّه بصحّة جيّدة الآن؟»
«الأمر هو كذلك يا رابّوني. أنتَ قد شفيتَه. ما تفعله هو كامل على الدوام. فلعازر لم يكن أبداً قويّاً وفَرِحاً هكذا إلاّ منذ خرج مِن القبر.»
«أنتِ قد قلتِ ذلك يا مريم. ما أفعله هو كامل على الدوام. لذلك ففداؤكِ أيضاً كامل لأنّني أنا أتممتُه.»
«هذا صحيح يا مخلّصي الحبيب، يا فاديَّ، يا مَلِكي، يا إلهي. هذا صحيح. وإن شئتَ ذلك، فسأكون أنا أيضاً خادمة صالحة لربّي. أنا مِن جهتي أريد ذلك يا ربّ. ولا أعلم إن كنتَ أنتَ تريده.»
«أريد ذلك يا مريم. خادمة صالحة لي. اليوم أكثر مِن الأمس. غداً أكثر مِن اليوم. إلى أن أقول لكِ: "كفى يا مريم. حان وقت راحتكِ".»
«فليكن يا ربّ. أودُّ أن تدعوني، حينئذ. كما دعوتَ أخي إلى خارج القبر. آه! أُدعُني أنتَ إلى خارج الحياة!»
«لا، ليس إلى خارج الحياة. سوف أدعوكِ إلى الحياة، إلى الحياة الحقّة. سوف أدعوكِ إلى خارج القبر الّذي هو الجسد والأرض. سوف أدعوكِ إلى عرس نَفْسكِ مع ربّكِ.»
«عرسي! أنتَ تحبّ العذارى يا ربّ...»
«أنا أحبّ الّذين يحبّونني يا مريم.»
«إنّكَ صالح على نحو إلهيّ يا رابّوني! لهذا السبب لم أقدر على الاستكانة لدى سماعهم يقولون عنكَ أنّكَ شرّير لأنّكَ لم تكن تأتي. كان الأمر كما لو أنّ كلّ شيء ينهار. كم هو عسير أن أقول لنفسي: "لا. لا! يجب ألّا تقبلي هذه الأمر البديهيّ. إنّ ما يبدو لكِ بديهيّاً هو حلم. إنّ الحقيقة هي قدرة ربّكِ، صلاحه، ألوهيّته." آه! كم عانيتُ! عظيم هو الألم بسبب موت لعازر وبسبب كلامه… ألم يقل لكَ شيئاً بخصوصه؟ ألا يتذكّر؟ قل لي الحقيقة...»
«أنا لا أكذب أبداً يا مريم. هو يخشى بأن يكون قد تكلّم، وبأن يكون قد تفوّه بما كان ألم حياته. لكنّني طمأنتُه، دونما كذب، وهو الآن مرتاح البال.»
«شكراً يا ربّ. هذه الكلمات… قد أفادتني. نعم، كما تفيد رعاية طبيب يعرّي جذور مرض ويحرقها. هي قد انتهت بتدمير مريم العتيقة. كنتُ ما زلت مُعتدّة بنفسي كثيراً. الآن… أقيس عمق انحطاطي، وأعلم أنّ عليَّ سلوك طريق طويلة كي أتخطّاه. إنّما سأفعل ذلك، إذا ما ساعدتَني.»
«سوف أساعدكِ يا مريم. حتّى عندما أكون قد رحلتُ، سوف أساعدكِ.»
«كيف، يا ربّي؟»
«بزيادة محبّتكِ إلى حدّ لا يقاس. بالنسبة لكِ لا توجد طريق أخرى سوى هذه.»
«سَلِسة جدّاً مقارنة بما عليَّ التكفير عنه! الجميع يخلصون بالمحبّة. الجميع يفوزون بالسماء. إنّما ما هو كافٍ للأنقياء، للأبرار، ليس كافياً للخاطئة العظيمة.»
«لا توجد طريق أخرى بالنسبة لكِ يا مريم. بالفعل، فإنّ أيّ طريق ستسلكينها، ستكون دوماً محبّة. هي محبّة إذا ما خَدَمتِ باسمي. هي محبّة إذا ما بَشَّرتِ. هي محبّة إذا ما انعزلتِ. هي محبّة إذا ما جعلتِ مِن نفسكِ شهيدة. هي محبّة إذا ما تمّ جعلكِ شهيدة. أنتِ لا تُحسِنين سوى المحبّة يا مريم. إنّها طبيعتكِ. فاللهب لا يسعه سوى أن يحرق. سواء زحف على الأرض ليحرق العشب، أو ارتفع كأنّه احتضان روعة حول جذع، منزل، أو مذبح، كي ينطلق صوب السماء. لكلّ طبيعته. حكمة المعلّمين الروحيّين تكمن في معرفة كيفيّة إثمار ميول الإنسان بتوجيهه صوب الطريق الّتي يمكنه مِن خلالها الارتقاء في الخير. هذا القانون موجود كذلك لدى النباتات والحيوانات، ويكون مِن الغباء الرغبة في الادّعاء بأنّ شجرة مثمرة لا تطرح إلّا أزهاراً، أو تطرح ثماراً بخلاف ما تنطوي عليه طبيعتها، أو حيواناً يؤدّي أعمالاً تخصّ فصيلة أخرى. أيمكنكِ أنتِ الادّعاء بأنّ هذه النحلة المقدّر لها أن تُنتِج عسلاً، تغدو عصفوراً يغرّد وسط أوراق الأسيجة؟ أو بأنّ غصن اللوز الصغير هذا الذي في يديَّ، ومعه كلّ شجرة اللوز الّتي قطفتُه منها، بدلاً مِن اللوز يطرحان مِن اللحاء أصماغاً عطريّة؟ إنّ النحلة تعمل، الطائر يغرّد، شجرة اللوز تطرح ثماراً، الشجرة الصمغيّة تعطي راتنجات عطريّة. وكلّها تؤدّي وظيفتها. هكذا هو حال النفوس. أنتِ وظيفتكِ أن تحبّي.»
«إذن ألهبني يا ربّ. أسألكَ ذلك برجاء.»
«ألا تكفيكِ قوّة المحبّة الّتي تملكينها؟»
«إنّها ضئيلة للغاية يا ربّ. كان يمكنها أن تفيد لمحبّة البشر. لا لأجلكَ يا مَن أنتَ الربّ اللامتناهي.»
«إنّما، تحديداً لأنّني هكذا، فسيكون ضروريّاً إذن امتلاك محبّة غير محدودة...»
«نعم يا ربّي. هذا ما أريده. أن تضع فيَّ محبّة بلا حدود.»
«يا مريم، إنّ العليَّ، الذي يعرف ما هي المحبّة، قال للإنسان: "أحبّني بكلّ قواكَ." هو لا يطالب بأكثر مِن ذلك، لأنّه يعلم أنّه بالفعل استشهاد هو أن نحبّ بكلّ قوانا...»
«ما هَمّ يا ربّي. أعطني محبّة لا متناهية كي أحبّكَ كما يجب أن تُحَبّ، كي أحبّكَ كما لم أحبّ أحداً.»
«إنّكِ تطلبين منّي عذاباً شبيهاً بمحرقة تحرق وتَستَنفِذ يا مريم. تحرق وتَستَنفِذ على مهل… فكّري بالأمر.»
«مِن زمان وأنا أفكرّ بالأمر يا ربّي. إنّما لم أكن أجرؤ على أن أطلبه منكَ. الآن أعلم كم تحبّني. الآن بالضبط أعلم إلى أيّ حدّ تحبّني، وأجرؤ على أن أطلبه منكَ. أعطني هذه المحبّة اللامتناهية يا ربّ.»
يسوع ينظر إليها. إنّها أمامه، لا تزال هزيلة بسبب السهر والألم، بلباس متواضع وتسريحة شعر بسيطة، مثل طفلة دونما خبث، بوجه شاحب يتّقد بالتّوق، عيناها متوسّلتان ومع ذلك تتلألآن محبّة، إنّها بالفعل سيرافيم أكثر منها امرأة، إنّها حقّاً المتأمّلة الّتي تطلب استشهاد التأمّل المطلق.
يسوع، بعد النَّظر إليها جيّداً كما كي يُقيّم إرادتها، يقول فقط كلمة واحدة: «نعم.»
«آه! ربّي! أيّة نعمة هي الموت محبّة لأجلكَ!» تخرّ على ركبتيها وتقبّل قدميّ يسوع.
«انهضي يا مريم. خذي هذه الزهور. ستكون زهور عرسكِ الروحيّ. كوني وديعة مثل ثمرة اللوز. نقية مثل زهرتها، ومضيئة مثل الزيت، المستخرج مِن ثمرها عند إشعاله، وعَطِرة مثل هذا الزيت، المشبع بالخلاصات العطرية، عندما يُرشّ في الولائم أو على رؤوس الملوك، عَطِرة بفضائلكِ. عندها تَسكبين حقّاً على ربّكِ البلسم الّذي سيرضيه بلا حدود.»
مريم تأخذ الزهور، لكنّها لا تنهض عن الأرض، وتُطيّب مقدّماً بالمحبة مع قبلاتها ودموعها المنسكبة على قدميّ معلّمها.
لعازر ينضم إليهما: «يا معلّم، هناك صبيّ صغير يريدكَ. كان قد ذهب إلى منزل سمعان للبحث عنكَ، ولم يجد هناك سوى يوحنّا، الّذي قاده إلى هنا. لكنّه لا يريد التحدّث إلى أحد سواك.»
«حسناً، جئني به. إنّني ذاهب إلى تحت عريشة الياسمين.»
مريم تعاود الدخول إلى المنزل مع لعازر. يسوع يذهب إلى تحت العريشة. يعود لعازر ممسكاً بيده ذاك الطفل الّذي رأيتُه في منزل يوسف سيفوريس. يسوع يتعرّف إليه فوراً ويحيّيه: «أنتَ، مارسيال؟ السلام معكَ. لماذا أنتَ هنا؟»
«لقد أرسلوني كي أقول لكَ شيئاً...» وينظر إلى لعازر الّذي يفهم ويهمّ بالابتعاد.
«ابقَ يا لعازر. هذا لعازر، صديقي. يمكنكَ أن تتكلّم أمامه يا ولدي، لأنّه ليس لديَّ صديق آخر أكثر وفاءً منه.»
الصبيّ يطمئنّ. يقول: «هو يوسف الشيخ مَن أرسلني، لأنّني معه الآن، كي أقول لكَ بأن تذهب حالاً، حالاً إلى بيت فاجة، إلى منزل كليونت. يجب أن يكلّمكَ حالاً. إنّما حقيقة في الحال. وقال بأن تأتي وحدكَ. لأنّه يريد أن يكلّمكَ بسرّية تامّة.»
«يا معلّم! ما الّذي يحدث؟» يَسأَل لعازر بقلق.
«لا أعرف يا لعازر. ليس لي سوى الذهاب. تعال معي.»
«حالاً يا ربّ. يمكننا الذهاب مع الصبيّ.»
«لا يا سيّد. أنا أذهب وحدي. يوسف قد أوصاني بذلك. لقد قال: "إن كنتَ تُحسِن فِعل ذلك وحدكَ، فسوف أحبّكَ كأب". وأنا أريد أن أكون محبوباً مِن قِبل يوسف مثل ابن. إنّني ماضٍ في الحال، ركضاً. أنتَ تعال لاحقاً. سلام يا سيّد. سلام يا رجل.»
«السلام لكَ يا مارسيال.»
الطفل يطير مثل سنونو.
«هيّا بنا يا لعازر. جئني بالرداء. أنا أذهب قُدُماً لأنّ الطفل، كما ترى، لا يستطيع فتح البوّابة، وبالتأكيد لا يريد استدعاء أحد.»
يسوع يمضي مسرعاً إلى البوّابة، لعازر يهرع إلى المنزل. الأوّل يفتح الأقفال الحديديّة للطفل، الّذي يرحل مسرعاً. الثاني يجلب الرداء ليسوع، وإلى جانب يسوع، يسير على الطريق صوب بيت فاجة.
«ما الّذي يريده يوسف؟ كي يرسل طفلاً بهكذا سرّية؟»
«الطفل يُفلِت ممّن مِن الممكن أن يكونوا يُراقبون.» يجيب يسوع.
«أتظنّ بأنّ… أتشكّ بأنّ… أتشعر بأنّكَ في خطر يا ربّ؟»
«إنّني واثق مِن ذلك يا صديقي.»
«كيف؟ الآن أيضاً؟ إنّما لم يكن بإمكانكَ تقديم برهان أعظم!»
«إنّ الكراهية تنمو تحت مِنخَس الواقع.»
«آه! بسببي، إذن! أنا قد آذيتُكَ!... إنّ حزني لا مثيل له!» يقول لعازر مغموماً بحقّ.
«ليس بسببكَ. لا تغتمّ بلا سبب. أنتَ كنتَ الوسيلة، أمّا السبب فكان الضرورة، أنتَ تدرك، ضرورة تقديم الدليل على طبيعتي الإلهيّة للعالم. فلو لم تكن أنتَ، لكان آخر، لأنّه كان عليَّ أن أثبت للعالم، كَوني إلهاً، فأنا قادر على كلّ ما أشاء. وإعادة شخص ميّت منذ أيّام ومتحلّل بالفعل إلى الحياة، هذا لا يمكن أن يكون إلّا مِن عمل الله.»
«آه! أنتَ تريد مواساتي. أمّا بالنسبة لي فإنّ الفرح، كلّ فرحي قد تبدّد... إنّني أكابد يا ربّ.»
يسوع يقوم بحركة كما ليقول: "ما العمل!" ومِن ثمّ يصمتان كلاهما.
يمضيان بسرعة. المسافة قصيرة بين بيت عنيا وبيت فاجة، وسرعان ما يصلان.
يوسف يتمشّى جيئة وذهاباً على الطريق عند مدخل البلدة. قد كان يدير ظهره عندما ينفذ يسوع ولعازر مِن مَسلَك يخفيه سياج. لعازر يناديه.
«آه! السلام لكما. تعال يا معلّم. لقد انتظرتُكَ هنا كي أراكَ على الفور، إنّما لنذهب إلى بستان الزيتون. لا أريد أن يرونا...»
يقودهما إلى خلف المنازل، إلى غيضة أشجار زيتون، الّتي بورقها الكثيف والمتبعثر الّذي يحجب المنحدرات، هي ملجأ مريح للتحدّث مِن دون أن تتمّ ملاحظتهم.
«يا معلّم، لقد أرسلتُ الطفل النبيه والمطيع والّذي يحبّني كثيراً، لأنّه كان يجب أن أكلّمكَ مِن دون أن تتمّ رؤيتي. لقد تبعتُ القدرون كي آتي إلى هنا… يا معلّم، يجب أن ترحل، في الحال، مِن هنا. إنّ السنهدرين قد أصدر قراراً بإلقاء القبض عليكَ، وغداً سوف يُقرأ الإعلان في المعابد. مَن يعلم مكان تواجدكَ، عليه واجب الإبلاغ عنه. ما مِن حاجة لأقول لكَ يا لعازر، أنّ منزلكَ سيكون الأوّل الخاضع للمراقبة. لقد خرجتُ مِن الهيكل عند الساعة السادسة وهرعتُ على الفور، لأنّه، وفيما كانوا يتكلّمون، أنا كنتُ قد وضعتُ خطّتي بالفعل. ذهبتُ إلى المنزل، واصطحبتُ الولد. خرجتُ مِن باب هيرودس راكباً كما لمغادرة المدينة. ثمّ اجتزتُ القدرون وتبعتُه. لقد تركتُ الحمار في جَثْسَيْماني، وأرسلتُ بسرعة الطفل، الّذي كان يعرف مسبقاً الطريق، حيث كان قد أتى معي إلى بيت عنيا. إرحل حالاً يا معلّم، إلى موضع آمن. أتعلم إلى أين تذهب؟ ألديكَ مكان تذهب إليه؟»
«إنّما ألا يكفي أن يبتعد عن هنا؟ عن اليهودية على الأكثر؟»
«لا يكفي يا لعازر. إنّهم هائجون. يتعيّن الذهاب إلى حيث هم لا يذهبون...»
«إنّما هم يذهبون إلى كلّ مكان! لا تريد حقّاً أن يغادر المعلّم فلسطين!...» يقول لعازر متوتّراً.
«ولكن، ما الّذي ينبغي لي أن أقوله لكَ؟! إنّ السنهدرين يريده...»
«بسببي، أليس ذلك صحيحاً؟ قُل!»
«هوم! نعم! بسببكَ… بالأحرى لأنّ الجميع يهتدون إليه، وهم… لا يريدون هذا.»
«لكنّها جريمة! إنّه تدنيس… إنّه…»
يسوع، الشاحب إنّما الهادئ، يرفع يده فارضاً الصمت ويقول: «صمتاً يا لعازر. كلٌّ يقوم بعمله. كلّ شيء مكتوب. أشكركَ يا يوسف، وأؤكّد لكَ بأنّني راحل. إذهب، إذهب يا يوسف. كي لا يلاحظوا غيابكَ… ليبارككَ الله. سأُعلمكَ أين أنا بواسطة لعازر. إذهب. أبارككَ أنتَ ونيقوديموس وكلّ مستقيمي القلب.» يعانقه ويفترقان. يسوع يعود مع لعازر عبر بستان الزيتون إلى بيت عنيا، فيما يتّجه يوسف صوب المدينة.
«ماذا ستفعل يا معلّم؟» يَسأَل لعازر قلقاً.
«لا أدري. التلميذات يصلن مع أُمّي هذه الأيّام. كنتُ أودُّ انتظارهنّ...»
«بالنسبة لهذا… أنا أستقبلهنّ باسمكَ، ويمكنني أن أقودهنّ إليكَ. إنّما أنتَ أين تذهب في أثناء ذلك؟ إلى منزل سليمان، لا أعتقد… ولا إلى منازل تلاميذ معروفين. غداً!... يجب أن ترحل على الفور!»
«سوف أحظى بمكان. إنّما أريد انتظار أُمّي. إنّ قلقها سيبدأ باكراً جداً إن لم تجدني...»
«إلى أين ستذهب يا معلّم؟»
«إلى أفرايم.»
«إلى السامرة؟»
«إلى السامرة. إنّ السامريين هم أقلّ سامريّة مِن كثيرين آخرين، ويحبّونني. أفرايم هي عند الحدود…»
«آه! وكي يواجهوا اليهود سوف يكرّمونكَ ويحمونكَ. إنّما… مهلاً! فأُمّكَ لا يمكنها إلّا أن تأتي عبر طريق السامرة أو عبر طريق الأردن. سوف أذهب أنا مع بعض الخدّام عَبْر واحدة، ومكسيمين مع خدّام آخرين عَبْر الأخرى، وأحدنا أو الآخر سوف يجدها. لن نعود إلّا معهنّ. أنتَ تعلم بأنّ لا أحد مِن منزل لعازر يمكنه أن يخون. أنتَ تذهب في تلك الأثناء إلى أفرايم. فوراً. آه! كان مُقَدّراً لي ألّا أستطيع أن أنعم بكَ! إنّما سوف آتي. عَبْر جبال أَدُمِّيم. إنّني الآن معافىً. يمكنني فِعل ما أريد. وحتّى! نعم. سوف أُوهِم بأنّني ذاهب إلى بتولمايس [عَكّا] عَبْر طريق السامرة كي أركب سفينة إلى أنطاكية. الجميع يعلمون بأنّ لي أراضٍ هناك… أختاي تبقيان في بيت عنيا… أنتَ… نعم. الآن أُوعِز بتجهيز عربتين، وستذهبون بهما إلى أريحا. ثمّ، عند فجر الغد، تستأنفون سيراً على الأقدام. آه! يا معلّم! يا معلّمي! أنقذ نفسكَ! انج بنفسكَ!» بعد اضطراب اللحظة الأولى، الحزن يستولي على لعازر ويبكي.
يسوع يتنهّد، إنّما لا يقول شيئاً. ماذا يُفترض أن يقول؟…
ها هما في منزل سمعان. يفترقان. يسوع يدخل إلى المنزل. الرُّسُل، المندهشون أساساً مِن أنّ المعلّم قد ذهب دون أن يقول شيئاً، يتزاحمون حول يسوع الّذي يقول: «خذوا الملابس. أَعِدّوا الأكياس. علينا الرحيل مِن هنا في الحال. أَسرِعوا. ولاقوني في منزل لعازر.»
«الملابس المبلّلة أيضاً؟ ألا يمكننا أخذها عند العودة؟» يَسأَل توما.
«لن نعود. خذوا كلّ شيء.»
«الرُّسُل يمضون متخاطبين بنظراتهم. يسوع يذهب لجلب حاجيّاته مِن منزل لعازر، ولتحيّة الأختين المغمومتين…
العربتان سرعان ما جُهّزتا. عربتان ثقيلتان، مغطّاتان، تجّرهما أحصنة قويّة. يسوع يودّع لعازر، مكسيمين، الخدّام الّذين هرعوا.
يصعدون إلى العربتين اللتين تنتظران عند مَخرَج خلفيّ. الحوذيّ يستحثّ الدواب، والسفر يبدأ على الطريق ذاتها الّتي أتى منها يسوع ليُقيم لعازر منذ بضعة أيّام.