ج3 - ف80

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثالث / القسم الثاني

 

80- (يسوع وأتباعه يتوجّهون إلى أشقلون)

 

14 / 07 / 1945

 

يُوقِظ الفجر النِّيام بنسيمه العليل، فَيَنهَضون عن الرمل حيث ناموا في ظلّ كُثَيب نَبَتَت فيه بعض من الأعشاب التي يَبِست، ويَتَسلَّقون قمّته. أمامهم امتداد رمليّ عريض، بينما بالقرب منه، إنّما على مسافة أبعد قليلاً، هناك أراض، الزَّرع فيها جميل. سيل جافّ، بفضل حجارته البيضاء كبياض العاج، يَبرُز لون الرمل الأشقر، ويمضي إلى البحر الذي يتلألأ في البعيد، بأمواجه التي تَنتَفِخ بِفِعل مَدّ الصباح، ولكن، بشكل خاصّ، ريح الشمال الخفيفة التي تُجَعِّد المحيط.

 

يَتبَعون حافّة الكُثيب حتّى السيل الجافّ، يَجتازونه، يُعاوِدون السير بانحراف على الكُثبان التي تَنـزَلِق تحت أقدامهم، والتي إذ تماوَجَت جميعها هكذا، تبدو وكأنّها استمرار للبحر بأمواجها الثابتة والجافّة، بَدَل الأمواج الـمُضطَرِبة. يَبلغون السطح المبلَّل، ويَسيرون بارتياح أكثر. فيوحنّا، وكأنّ مشهد البحر الذي لا نهاية له، والذي تُنيره أشعّة الشمس الأولى، قد بَهَرَه، فيبدو وكأنّه يَنهَل مِن ذلك البهاء، وقد أَصبَحَت عينه أكثر زرقة. بطرس عمليّ أكثر، يَخلَع نَعليه وثوبه، ويَخوض في بُرَك الشاطئ، بحثاً عَن سَرَطان أو صَدَفة يَمتصّ محتواها. وعلى مسافة حوالي الكيلومترين، مدينة ساحليّة جميلة، تمتدّ على طول الشاطئ، على صفّ مِن الصخور يُشكِّل نِصف قَمر، حَمَلَت الريح والعاصفة الرمال، إلى ما وراءها. والحاجز الصخريّ، الآن وقد انحسرت المياه بعد المدّ، يتكشّف الآن في هذا المكان، مُرغِماً إيّاهم على العودة إلى الرمال الجافّة، لكيلا يَجرَحوا أقدامهم الحافية على الصخور.

 

«مِن أين نَدخُل يا معلّم؟ فنحن لا نرى مِن هنا سوى جدار عريض. ومِن جهة البحر، لا يمكن الدخول. والمدينة واقِعة في أعمق نقطة مِن القوس.» يقول فليبّس.

 

«تعالوا.» يقول يسوع. «فأنا أعرف مِن أين الدخول.»

 

«هل أَتيتَ إليها سابقاً؟»

 

«مرّة واحدة، عندما كنتُ لا أزال طفلاً صغيراً، ولا أتذكَّرها. ولكنّني أعرف مِن أين العُبور.»

 

«غريب! لاحَظتُ هذا مرّات عديدة... أنتَ لا تُخطئ الطريق أبداً. أحياناً نَجعَلكَ نحن تُخطئ، أمّا أنتَ! يبدو أنّكَ كنتَ على الدوام في المكان الذي تَقصِده.» يشير إلى ذلك يعقوب بن زَبْدي.

 

يَبتَسم يسوع ولكنّه لا يُجيب. يَمضي، واثِقاً مِن نفسه، إلى ضاحية ريفيّة حيث يَجني زارعِو البقول خضارهم مِن أجل المدينة. الحقول الصغيرة والحدائق مُنتَظَمَة ومُعتَنى بها. الرجال والنساء جميعهم يَجنون، وهُم يَسقون الأثلام بسحب المياه مِن الآبار بقوَّة الذراع، أو بواسطة النظام القديم البالي الذي يَعتَمِد على جحش مسكين مَعصوب العينين، ويَدور حول البئر. ولكنّهم لا يتكلّمون. يُحيّيهم يسوع: «السلام لكم.» ويبقى الناس، إن لم يكونوا عدائيّين، فعلى الأقلّ لا مُبالين.

 

«يا سيّد، إنّنا هنا مُعرَّضون لخطر الموت جوعاً. إنّهم لا يَفهَمون سلامكَ. الآن أريد أنا أن أحاول» يقول توما، ويَدنو مِن أوّل مزارع يَراه ويقول له: «هل خُضاركَ غالية الثمن؟»

 

«ليست أكثر مِن المزارعين الآخرين. أمّا الثمن فيكون غالياً أو زهيداً، حسب المحفظة، إذا كانت عامرة أم لا.»

 

«جيّد هو، هذا القول. ولكن كما تَرى، فأنا لستُ ميتاً مِن الجوع. وأنا بَدين وألواني جميلة، حتّى بدون خضاركَ. وهذه إشارة على أنّ محفظتي عامِرة. بالـمُختَصَر. نحن ثلاثة عشر، ويمكننا الشِّراء. فما الذي تبيعه؟»

 

«البيض والخضار، اللوز الجديد والتفّاح المتغضِّن، ذلك أنّه ليس في أوانه، والزيتون... وكلّ ما تريد.»

 

«أعطِني بيضاً وتفّاحاً وخُبزاً للجميع.»

 

«ليس لديَّ خُبز. سوف تَجِده في المدينة.»

 

«أنا جائع الآن، وليس بعد ساعة. ولا أظنُّكَ لا تمتلك خبزاً.»

 

«لا خُبز لديَّ، فامرأتي تصنعه الآن. إنّما هل ترى ذاك العجوز هناك؟ لديه كمّيّة كبيرة على الدوام. ذلك أنّه على الطريق، وغالباً ما يَسأَله الحُجّاج. فابحَث عن حنانيا واطلُب منه الخبز. والآن أَجلُبُ لكَ البيض، إنّما انتبه إلى أن ثَمَن الزّوج منها دانق.»

 

«لصّ! هل يمكن أن تكون دجاجاتكَ تَبيض بيضاً مِن ذهب؟»

 

«لا. ولكنّ الإقامة وسط نتانة الدجاج ليست شهيّة، ولكلّ شيء ثمن. ثُمّ، ألستم يهوداً؟ فادفعوا.»

 

«احتفظ بها لنفسكَ، هكذا تكون قبضتَ الثمن بشكل جيّد.» ويدير توما ظهره.

 

«هيه! أيّها الرجل! تعال. إنّني أبيعكَ إيّاها بأفضل سعر. الثلاث بدانق.»

 

«ولا حتّى أربع. اشربها ولِتَبقَ عالِقة في حلقكَ.»

 

«تعال، اسمع. كم تريد أن تدفع؟» ويتبع المزارع توما.

 

«لا شيء. لَم أَعُد أريدها. كنتُ أريد تناول وجبة خفيفة قبل الذهاب إلى المدينة. إنّما هكذا أفضل، فلا أفقُد صوتي وشهيّتي، وأُنشِد قِصَص الـمَلِك وأتناول وجبة جيّدة في المضافة..»

 

«أبيعكَ البيضة بدراخما.»

 

«أُف! إنّكَ أسوأ مِن حشرة النعرة. أعطنيها، ولِتَكن طازجة، وإلّا عُدتُ وجَعَلتُ فمكَ أصفر أكثر مما هو عليه.» ويعود توما بدزّينتي بيض على الأقلّ، داخل ثَنيّة معطفه. «أرأيتَ؟ أنا مَن سأتولّى أمر المشتريات في بلدة السارقين هذه، بدءاً مِن الآن. أَعرِف كيف أتعامل معهم. إنّهم يأتون إلينا بجيوب مليئة بالنقود، لِيَبتاعوا لنسائهم مِن عندنا. والأساور ليست ضخمة أبداً، ويُساوِمون بغير نهاية. إنّني أنتَقِم. والآن هيّا بنا نبحث عن العقرب الثاني ذاك، تعال يا بطرس، وأنتَ يا يوحنّا، خُذ البيض.»

 

يَمضون للقاء العجوز الذي يَملِك أرضاً تمتدّ على طول الطريق الرئيسيّة التي تقود إلى المدينة مِن الجهة الشماليّة، مُحاذِية لِمَنازل الضاحية. إنّها طريق جميلة، مرصوفة بشكل جيّد، حتماً هُم الرومان الذين رَصَفوها. باب المدينة، مِن الجهة الشرقيّة، بات قريباً، وتُرى الطريق خلفه تستمرّ مستقيمة وذات طابع فنّي، إذ تتحوّل إلى رُواق مُضاعَف وظليل مَحمول على عواميد مرمريّة. ويَسير الناس في ظلّه الـمُنعِش، تاركين منتصف الشارع للحمير والجِّمال والكلاب والخيل.

 

«السلام! هل تبيعنا خبزاً؟» يَسأَل توما.

 

والعجوز، إمّا أنه لا يسمع، أو إنّه لا يريد أن يَسمَع. في الحقيقة إنّ صرير الناعورة لا يترك مجالاً للتفاهم.

 

يَنفُذ صبر بطرس، فيصرخ: «أَوقِف شمشونكَ! دعه على الأقلّ يتنفّس لكيلا يموت تحت ناظري، وأَنصِت إلينا.»

 

يُوقِف الرجل أتانَه ويَنظُر إلى مُحَدِّثه شَزَراً، ولكنّ بطرس يُسكِّن غضبه بقوله: «هيه! أليس اسم شمشون مُلائِماً للأتان؟ إذا كنتَ فلسطينياً، ينبغي أن يَروق لكَ هذا، إذ يُعتَبَر إهانة لشمشون. وإذا كنتَ إسرائيليّاً فينبغي أن يعجبكَ ذلك، لأنّه يُذكِّر بهزيمة الفلسطينيّين. ترى إذن...»

 

«إنّني فلسطينيّ، وأَفتَخِر بذلك.»

 

حسناً تفعل. وسأثني عليكَ أنا كذلك إذا أعطيتَنا الخبز.»

 

«ولكن ألستَ يهوديّاً؟»

 

«أنا مسيحيّ.»

 

«أين يكون هذا؟»

 

«هذا ليس مَوضِعاً، إنّه شخص، وأنا أنتمي لهذا الشخص.»

 

«هل أنتَ عبد له؟»

 

«أنا حُرّ أكثر مِن أيّ إنسان آخَر، ذلك أنَّ مَن ينتمي لهذا الإنسان لا يَتبَع إلا الله.»

 

«هل حقّ هو ما تقول؟ حتّى ولا قيصر؟»

 

«واه! مَن يكون قيصر بالمقارنة مع مَن أتبع؟ ومَن أنتمي إليه؟ ومَن باسمه أطلُب منكَ الخبز؟»

 

«ولكن أين هو هذا الرجل القدير؟»

 

«ذاك الرجل هناك، الذي يَنظُر إلينا ويبتسم. إنّه المسيح، مَسيّا. ألم تَسمَع به أبداً؟»

 

«بلى، مَلِك إسرائيل. هل سينتصر على روما؟»

 

«روما؟ بل العالم كلّه وحتّى الجحيم.»

 

«وأنتم، هل أنتم ضُبّاطه؟ وهذا هو زيّكم؟ وقد يكون ذلك لتجنّب اضطهاد اليهود الغادِرين؟»

 

«نعم ولا، إنّما أعطِني خبزاً، وأثناء تناولنا الطعام سأشرح لكَ.»

 

«خبزاً؟ بل أيضاً ماء وخمراً ومَقاعِد في الظلّ، لكَ ولرفيقكَ ولمسيحكَ. نادِه.»

 

ويَهرَع بطرس بحماس إلى يسوع. «تعال، تعال. إنّ هذا الفلسطينيّ العجوز يعطينا ما نريد. ومع ذلك فإنّني أظنُّه سَيُثقِل عليكَ بأسئلته... لقد قُلتُ له إنّكَ... قُلتُ له بشكل عام، ولكنّه مُهيّأ تماماً.»

 

يَمضي الجميع إلى الحديقة، حيث وَضَعَ الرجل المقاعد حول طاولة كبيرة تحت عريشة تكسوها الكرمة.»

 

«السلام لكَ يا حنانيا. ولِتَكن أرضكَ، بِفَضل محبتكَ، خِصبَة، ولِتَهِبكَ محاصيل رائعة.»

 

«شكراً. السلام لكَ. اجلس. اجلسوا. أنيبي! نوبي! الخبز والخمر والماء في الحال.» يَطلُب العجوز ذلك مِن امرأتين، هُما حتماً إفريقيّتان، ذلك أنّ إحداهما سوداء كلّيّاً وشَفَتاها سميكتان وشعرها أجعد، والأخرى سمراء داكنة، رغم كونها مِن النَّمَط الأقرب إلى الأوروبّي. ويَشرح العجوز: «إنّهما ابنتان لخادمات زوجَتي. ولقد ماتت، وماتت أيضاً اللواتي كُنّ قد جئن معها، ولكنّ الفتاتين بَقِيَتا على قيد الحياة. النيل الأعلى والأدنى، كانت زوجتي مِن تلك الأصقاع. هذا ممنوع، أليس كذلك؟ ولكنّني لا أبالي. فأنا لستُ مِن إسرائيل، والنساء اللواتي مِن أصل أدنى رقيقات ولطيفات.»

 

«ألستَ مِن إسرائيل؟»

 

«أنا كذلك بالإكراه، ذلك أنّ إسرائيل كان على أعناقنا كالنِّير. ولكن... هل أنتَ إسرائيليّ، وما أقوله يهينكَ؟»

 

«لا، هذا لا يضايقني، ما أَوَدُّهُ فقط هو أن تَسمَع صوت الله.»

 

«إنّه لا يكلّمنا نحن.»

 

«أنتَ تقول ذلك. ها أنا ذا أُكلِّمكَ، وهذا صوته.»

 

«ولكنّكَ مَلِك إسرائيل.»

 

المرأتان اللتان وَصَلَتا حامِلَتين الخبز والماء والخمر، واللتان تَسمَعان الحديث عن «مَلِك» تتوقفان حائِرَتَين، وهُما تَنظُران إلى الشاب الأشقر، مبتسماً، جليلاً، وهو الذي يدعوه معلّمهما «مَلِكاً»، ثمّ تعودان منحنيتين حتّى كادتا أن تُلامِسا الأرض احتراماً.

 

«شكراً أيّتها المرأتان، والسلام لكما كذلك.» ثمّ مُلتَفِتاً إلى العجوز: «إنّهما فتيّتان... يمكنكَ متابعة عملكَ كذلك.»

 

«لا. إنّ الأرض مرويّة ويمكنها الانتظار. تكلّم قليلاً. أنيبي، فُكّي الحمار وأَدخِليه. وأنتِ يا نوبي، أَفرِغي آخر الدِّلاء، ثمّ... هل تتوقّف يا سيّد؟»

 

«لا تُزعِج نفسكَ أكثر. القليل مِن الطعام يكفي، وأمضي بعد ذلك إلى أشقلون.»

 

«لا. إنّ هذا لا يزعجني. نعم. اذهب إلى المدينة، ولكن تعال مساء اليوم، وسوف نتقاسم الخبز والملح. أسرعوا! أنتِ إلى الخبز، وأنتِ نادي جيتيو لِيَذبَح جَدياً، وحَضِّريه لهذا المساء. هيّا.» وتمضي المرأتان دون كلام.

 

«إذن، هل أنتَ مَلِك؟ ولكن أين هي أسلحتك؟ هيرودس قاتل، بجميع الأساليب. لقد أعاد لنا بناء أشقلون، إنّما مِن أجل مجده. والآن!... ولكن فضائح إسرائيل أنتَ تَعرِفها أفضل منّي. فكيف ستتصرّف؟»

 

«ليس لديَّ سلاح غير الذي يأتيني مِن الله.»

 

«سيف داود؟»

 

«بل سيف كَلِمَتي.»

 

«آه! يا للحَالم المسكين! سَيَثلَم ويَفقُد حَدَّه على برونز القلوب.»

 

«هل تعتقد ذلك؟ أنا لا أرمي إلى مملكة أرضيّة. مِن أجلكم جميعاً، أرمي إلى ملكوت السماوات.»

 

«مِن أجلنا، نحن جميعاً؟ حتّى أنا الفلسطينيّ؟ حتّى خُدّامي؟»

 

«الجميع، أنتَ وهُم، وحتّى الأكثر وحشيّة في وسط الغابات الإفريقيّة.»

 

«أتريد إنشاء مَملَكة عظيمة للغاية؟ لماذا تُسمِّيها "ملكوت السماوات"؟ يمكنكَ تَسمِيتها "مملكة الأرض".»

 

«لا، لا تجعل الأمور تَختَلِط عليكَ. فملكوتي هو ملكوت الإله الحقيقيّ. والله في السماء. وبالنتيجة، فهو ملكوت السماء. كلّ إنسان هو عِبارة عن نَفْس غَلَّفَها الجسد. ولا يمكن للنَّفْس أن تعيش إلّا في السماوات. فأريد أن أُشفي لكم النَّفْس، وأنزع منها الأخطاء والأحقاد، وإيصالها إلى الله بالصَّلاح والحبّ.»

 

«يعجبني هذا كثيراً. وأنا لا أذهب إلى أورشليم، ولكنّني أَعلَم أنّ الآخرين في إسرائيل لَم يتكلّموا هكذا يوماً. إذن فأنتَ لا تكرهنا؟»

 

«أنا لا أكره أحداً.»

 

يُفكِّر العجوز، ثمّ يَسأَل: «هل للخادِمَتين كذلك نَفْس مثلكم أيّها الإسرائيليّون؟»

 

«بكلّ تأكيد. فَهُما ليسَتا مِن الحيوانات التي أُوقِعَت في الفخّ. إنّهما مِن المخلوقات التعيسة التي ينبغي لنا أن نجلّها ونَحتَرِمها. هل تحبّهما؟»

 

«لا أُسيء معاملتهما. أريدهما أن تُطِيعا، ولكنّني لا أستَخدِم السُّوط، وأنا أُطعِمهما جيّداً. فحيوان سيّئ التغذية لا يَعمَل، هكذا يقال، ولكن حتّى الإنسان سيّئ التغذية ليس بعامل جيّد. ثمّ لقد وُلِدَتا في البيت، ولقد نَمَتا تحت ناظِريَّ. والآن لم يبق سواهما لأنّني عجوز جدّاً، هل تَعلَم؟ في حوالي الرابعة والثمّانين مِن عمري. وهما وجيتو، هُم كلّ ما بَقِي لي مِن بيتي آنذاك. وأنا متعلّق بهم تعلّقي بأثاثي. هُم سَيُغلِقون لي عينيّ...»

 

«وبعد ذلك؟»

 

«بعد ذلك... لا أدري. سوف تُستَخدَمان، ويَنهار البيت. وهذا ما يُقلِقني، لأنّه إذا أَصبَح على ما هو عليه مِن الفخامة والثراء، فَبِفضل عَمَلي، وستعود هذه الأرض رمليّة عقيمة... وهذه الكَرمَة زرعناها معاً، زوجتي وأنا، وكذلك حَقلَة الورد تلك... إنّها مصريّة، يا سيّدي، وأشمُّ منها رائحة زوجتي... تبدو لي كابن... الابن الوحيد المدفون، والغبار على قدميه... آلام... والموت في ريعان الشباب لَأفضل مِن رؤية ذلك الموت القادم...»

 

«ابنك لَم يَمُت، ولا زوجتكَ. فالروح يبقى حيّاً. الجسد هو الذي مات. وينبغي ألّا يُسبِّب الموت أيّ خوف، لأنّ الموت حياة، لِمَن له رجاء بالله ويعيش بالبرّ. فَكِّر بذلك... أنا ماض إلى المدينة. سأعود هذا المساء. وسأطلب منك هذا الرواق لنأوي إليه أنا وأتباعي.»

 

«لا يا سيّد. فأنا لديَّ غُرَف كثيرة شاغِرة أُقدِّمها لكَ.»

 

يَضَع يهوذا الدراهم على الطاولة.

 

«لا، لا أريدها. إنّني مِن هذه الأرض المقيتة بالنسبة إليكم، ولكنّني قد أكون أفضل مِن الذين يُسيطرون علينا. وداعاً يا سيّدي.»

 

«السلام لكَ يا حنانيا.»

 

وهَرَعَت الخادِمَتان مع جيتو، إنّه رجل ضخم قويّ، وهو فلّاح سابق، لِيَرَوه يمضي. «السلام لكم كذلك. كونوا صالحين. وداعاً.» ويَمسَح يَسوع شعر نوبي المجعّد وشعر أنيبي البَرَّاق والـمُنتَصِب، ويَبتَسِم للرجل، ويمضي.

 

بَعد ذلك بقليل يَدخُلون أشقلون، عَبْر الطريق مُزدَوَجَة الرُّواق المؤدّية مباشرة إلى مركز المدينة، والتي تحاكي روما ببِرَكها وينابيعها وساحاتها المستخدَمَة كميدان، بأبراجها على طول السور، واسم هيرودس في كلّ مكان، وقد وَضَعَه بذاته لِيَغتَبِط، لأنّ أهل أشقلون لا يُغبّطونه. حركة السير مزدحمة، وتزداد ازدحاماً مع تقدّم الوقت والاقتراب مِن مركز المدينة، الـمُنفَتِحة، الـمُشبَعَة بالهواء، مع دَفقات مِن النور على البحر الذي يبدو مُحتَجَزاً، مِثل فيروزة في مَلقَط مرجان ورديّ مِن البيوت المبعثَرَة على طول القوس العميق الذي يُشكِّل الساحل، وليس خليجاً، بل هو قوس حقيقيّ، جزء مِن دائرة تُضفي عليه الشمس صَبغة ورديّة شاحبة.

 

«فلنَتَوزّع إلى أربع مجموعات. أَمضي أنا، أو بالحريّ أَدَعُكم تَمضون. ثمّ سأختار. امضوا. بعد الساعة التاسعة نلتقي عند الباب الذي دَخَلنا منه. كُونوا حَذِرين وصَبورين.» ويَنظُر يسوع إليهم يَمضون، ويبقى وحيداً مع يهوذا الاسخريوطيّ الذي صَرَّحَ أنّه لن يُكلِّمهم لأنّهم أسوأ مِن وَثنيّين. ولكنّه عندما يتنبّه إلى أنّ يسوع يريد الذهاب هنا وهناك دون كلام، يُغيِّر رأيه ويقول: «هل يضيركَ أن تبقى بمفردك؟ فأنا أذهب مع متّى ويعقوب وأندراوس، إنّهم الأقلّ جدارة...»

 

«هيّا. وداعاً.»

 

ويقوم يسوع بجولة في المدينة بمفرده، مُتجوّلاً في طول المدينة وعَرضها، مَجهولاً وسط أناس مُنهَمِكين، حتّى إنّهم لا يُلاحِظون وجوده. يُحدِّق طِفلان فقط أو ثلاثة في وجهه، وتَمضي امرأة، ذات مَظهر مُثير، بِجُرأة، للقائه بابتسامة مُفعَمَة بما هو مُضمَر. ولكنّ يسوع يَنظُر إليها بِصرامة شديدة جَعَلَتها تَحمَرّ كالأرجوان، وتَمضي ونَظَرها إلى الأرض. وعند زاوية الطريق، يَلتَفِت مرّة أخرى، وبما أنّ رجلاً مِن عامّة الشعب قد لاحَظَ ما حَدَث، فإنّه يَرميها بِنُكتة لاذِعة ومُحتقِرة، بسبب الفشل، حينئذ تَلتَحِف بمعطفها وتَهرُب.

 

الأطفال، على العكس، يَدورون حول يسوع، يَنظُرون إليه، ويبتسمون عندما يَرَونَه يبتسم. أحدهم، وهو الأكثر شجاعة، يَسأَله: «مَن أنتَ؟»

 

«يسوع.» يُجيبَه وهو يُلاطِفه.

 

«ماذا تفعل؟»

 

«أنتظر أصدقائي.»

 

«مِن أشقلون؟»

 

«لا، مِن بلدتي ومِن اليهوديّة.»

 

«هل أنتَ غنيّ؟ أنا، نعم. فَلَدَى أبي بيت جميل، وفيه يَصنَع السجّاد. تعال وانظر. إنّه قريب مِن هنا.»

 

ويَذهَب يسوع وحده مع الطفل. يَدخُل تحت رواق طويل، يُشبِه درباً مغطّى. في نهايته، حيث يصبح أكثر انتعاشاً، بسبب شِبه ظلّ الرواق، يتلألأ ركن مِن البحر، تُنيره الشمس كاملاً، يُصادِفان فتاة صغيرة تبكي.

 

«إنّها دينا. هي مسكينة فقيرة، هل تَعلَم؟ أُمّي تُعطيها طعاماً. فَلَم يَعُد بإمكان أُمّها كَسب قُوتها، وأبوها مات غَرَقاً في البحر، بسبب عاصفة، أثناء ذهابه مِن غزّة إلى ميناء النهر الكبير، حامِلاً البضائع ذهاباً وإياباً. وبما أنّ البضائع كانت لأبي، ووالد دينا يَقود مركبنا، لذلك فإنّ أُمّي تُفكِّر بهم الآن. ولكنّ الأطفال الآخرين، الآن هكذا، دون أب، كثيرون... ما قولكَ أنتَ بهذا؟ إنّ البقاء في اليُتم والفقر قاس. هو ذا بيتي. لا تَقُل إنّني كنتُ في الشارع. كان ينبغي أن أكون في المدرسة، لكنّهم طَرَدوني لأنّني كُنتُ أُضحِك الرفاق بهذا...» ويُخرِج مِن ثوبه دمية متحرّكة، منحوتة مِن الخشب، مِن قطعة مِن الخشب الليّن، وهي في الحقيقة هَزليّة جدّاً، ذَقنها حذاء مطاطيّ وأنفها كاريكاتوري.

 

وشَرَعَ بابتسامة تَرتَجِف على شَفَتيه، ولكنّه يَكبَحها ويقول: «هذا ليس المعلّم، أليس كذلك؟ ولا أحد الأهل أيضاً؟ فهذا ليس حسناً.»

 

«لا، بل هو رئيس مجمع اليهود. إنّه عجوز وقبيح، ونحن نَسخَر منه على الدوام.»

 

«حتّى هذا ليس حسناً. فهو حتماً أكبر منكَ سنّاً و...»

 

«آه! إنّه عجوز نصف أحدب وشِبه أعمى ودميم للغاية... وليس ذنبي أنَّه هكذا!»

 

«لا، ولكنّكَ مُخطِئ في تَهُكُّمكَ وسخريتكَ مِن عجوز. فأنتَ كذلك، حينما تُصبِح عجوزاً، ستُصبِح قبيحاً، ذلك أنّكَ سَتَحدودِب، ولن يعود لديكَ الكثير مِن الشعر، وتُصبح شِبه أعمى، وسَتَسير على عصا، سيكون لكَ ذاك الوجه، إذن؟ هل سيرضيكَ حينئذ أن يَسخَر منكَ صبيّ عديم الاحترام؟ ثمّ لماذا إغضاب المعلّم وإلهاء رفاقكَ؟ هذا ليس حسناً. أقول لو عَلِم أبوكَ بذلك لَعاقَبَكَ، وتألَّمَت أُمّكَ. لن أقول لهما شيئاً، أنا، أَمّا أنتَ فاعطِني حالاً شيئين: وَعداً بأنّكَ لَن تعود إلى ارتكاب مثل هذه المخالفات، وهذه الدمية. مَن الذي صَنَعَها؟»

 

«أنا يا سيّدي...» يقول الولد مَذلولاً، مُدرِكاً جسامة إساءاته... ويُضيف: «إنّ شُغل الخشب يُمتِعني كثيراً! أحياناً أُقلِّد زهور السجّاد أو الحيوانات التي فيها، هل تَعلَم... التنّين وأبو الهول وحيوانات أخرى أيضاً...»

 

«هذا، يمكنكَ فِعله. فهناك أشياء كثيرة جميلة على الأرض! إذاً، هل تَعِدني وتُعطِيني الدمية؟ وإلّا فلن نكون أصدقاء. سَأَحتَفِظ بها كذكرى منكَ، وسأصلّي مِن أجلكَ. ما اسمكَ؟»

 

«اسكندر. وأنتَ ماذا تعطيني؟»

 

يسوع مُحرَج. فهو، على الدوام، مُقِلّ جداً في الأشياء التي يحملها! ولكنّه يتذكَّر بعد ذلك أنّ لديه بِكلة جميلة في قبة ثوبه. يَبحَث في حقيبته، يَجِدها، يَنتَزِعها ويُعطيها للصبيّ: «والآن هيّا بنا. ولكن انتبه، فحتّى لو مَضَيتُ، إنّ هذا لا يمنعني مِن أن أعرف كلّ شيء. وإذا عَلِمتُ أنّكَ سيّئ وشرّير، فسأعود وأُخبِر أُمّكَ بكلّ شيء.» ويَتَّفِقان على ذلك.

 

يَدخُلان المنـزل. بعد الحظيرة هناك دار كبيرة، على جوانبها الثلاثة غُرَف رَحبَة تُمارَس فيها الحِرَف. الخادمة التي فَتَحَت مُندَهِشة لرؤية الصبيّ مع غريب مجهول، تُنبِئ معلّمتها، وهي امرأة جسيمة، ولكنّ مظهرها يدلّ على أنّها مُفعَمَة نعومة، فَتَهرَع وتَسأَل: «ولكن هل شَعَرَ الوَلَد بألم؟»

 

«لا، سيّدتي. لقد أتى بي لِيُريني سجّاداتكم، فأنا غريب.»

 

«أتريد التَّسَوُّق؟»

 

«لا، فأنا لا أملك النقود، إنّما لي أصدقاء يُحبّون الأشياء الجميلة، وهُم أثرياء.»

 

تَنظُر المرأة بفضول إلى ذلك الرجل الذي يَعتَرِف بِفقره، دون مُقدِّمات، وتقول «كنتُ أَظُنّكَ سيّداً. فَلَكَ أساليب ومَظهَر السيّد العظيم.»

 

«لا، أبداً. أنا مجرّد رابّي جليليّ: يسوع الناصري.»

 

«إنّنا نمارس التجارة، ولا ننحاز إلى أحد. تعال وانظُر.»

 

وتَأخُذه لرؤية سجّاداتها التي تَعمَل بها فتيات شابّات تحت إدارة المعلّمة. قيمة السجّاد مرتفعة حقّاً، بسبب رسوماتها وألوانها. وهي كبيرة، ناعمة، تَحسَبها حدائق زهور أو مِنظاراً لأشكال الأحجار الكريمة المتغيّرة. وهناك أُخرى فيها أشكال رمزيّة كالبُراق (حيوان أسطوريّ بجسد حصان ورأس وجناحيّ نسر) وعروس البحر والتنّين، أو بالحريّ عنقاء شعاريّة شبيهة بالتي لنا، وهي تَختَلِط بالزهور.

 

يتعجّب يسوع: «إنّكِ بارعة جدّاً. وأنا مسرور لرؤيتي كلّ هذا. ومسرور لكونكِ طيّبة.»

 

«كيف تَعرِف ذلك؟»

 

«هو بادٍ على وجهكِ. ولقد حَدَّثني ابنكِ عن دينا. كافَأَكِ الله. حتّى دون الإيمان أنتِ قريبة جدّاً مِن الحقيقة، لأنّ فيكِ المحبّة.»

 

«أيّة حقيقة؟»

 

«حقيقة الربّ تعالى. فَمَن يحبّ القريب ويُمارِس المحبّة ضمن عائلته ومع العُمّال، ويَبسطها على البؤساء، فإنّه يمتَلِك الدِّين في أعماقه. هذه الصغيرة هي دينا، أليس كذلك؟»

 

«نعم، أُمّها تحتضر. وسآخذها بعد ذلك. ليس مِن أجل السجّاد، فهي صغيرة جدّاً وهزيلة جدّاً. تعالي يا دينا، اقتربي مِن هذا السيّد.»

 

والطفلة الصغيرة، ذات الوجه الحزين، وجه البؤساء مِن الأطفال، تَقتَرِب بحياء. يُلاطِفها يسوع ويقول: «هل تأخُذينني إلى أُمّكِ؟ أنتِ تريدين لها الشِّفاء، أليس كذلك؟ إذاً خُذيني إليها. وداعاً يا امرأة، وداعاً يا اسكندر، وكُن عاقلاً.»

 

يَخرُج مُمسِكاً بيد الطفلة: «هل أنتِ وحيدة؟» يَسألها.

 

«بَل لديَّ ثلاثة أخوة صغار. والأصغر لَم يتعرَّف إلى أبيه.»

 

«لا تبكي. هل في مقدوركِ الإيمان بأنّ الله قادر على شِفاء أُمّكِ؟ ألا تَعرِفين أنّه يوجد إله واحد فقط، وهو يحبّ الناس الذين خَلَقَهم، وخاصّة الأطفال الطيّبين؟ وأنَّه قادر على كلّ شيء؟»

 

«أَعرِف يا سيّدي. في السابق كان أخي تولماي يَذهَب إلى المدرسة، وفي المدرسة كان برفقة أطفال يهود. وقد تَعَرَّفتُ منه على أمور كثيرة. أَعرِف أنّه موجود وأنّ اسمه يهوه، وأنّه عاقَبَنا لأنّ الفلسطينيّين كانوا سيّئين معه. وهذا ما يُعيِّرنا به الأطفال العِبرانيّون على الدوام. إنّما لَم أكن أنا موجودة في ذلك الحين، لا أنا ولا أُمّي ولا أبي. لماذا إذن...» وتَقطَع الدموع كلامها.

 

«لا تبكي. فالله يحبّكِ أنتِ كذلك، وقد قادَني إلى هنا مِن أجلكِ ومِن أجل أُمّكِ. هل تَعرِفين أنّ الإسرائيليّين يَنتَظِرون مَسيّا، الذي ينبغي له أن يأتي لِيُنشِئ ملكوت السماوات؟ ملكوت يسوع فادي ومُخلِّص العالم؟»

 

«أعرف يا سيّدي. وهُم يُهدِّدوننا بقولهم: "حينئذ الويل لكم".»

 

«هل تَعرِفين ماذا سيفعل مَسيّا؟»

 

«سَيُعظِّم شعب إسرائيل ويُسيء معاملتنا جدّاً.»

 

«لا. بل سيفتدي العالم، وسَيَرفع الخطيئة، وسَيُعَلِّم عدم اقتراف الخطيئة. سوف يحبّ المساكين والفقراء والمرضى والمحزونين. سوف يمضي إليهم، ويُعلِّم الأغنياء والأصحّاء والسعداء أن يُحبّوهم. وسَيُوصي بالصَّلاح لنيل الحياة الأبديّة والسعيدة في السماء. هذا ما سوف يَفعَله، ولن يَظلم أحداً.»

 

«وكيف نُدرِك أنّه هو؟»

 

«يحبّ الجميع، يَشفي المرضى الذين يؤمنون به، ويَفتدي الخَطَأَة ويُعلِّم الحبّ.»

 

«آه! لو أنه يَحضُر هنا قبل أن تموت أُمّي! كَم أؤمِن أنا! كَم أرجوه! أَمضِي للبحث عنه حتّى أجده وأقول له: "أنا طفلة مسكينة بلا أب، وأُمّي تحتضر. رجائي بكَ". وأنا على يقين بأنّه يَتَقَبَّلني رغم كوني فلسطينيّة.»

 

إيمان بسيط، قويّ وكامل، يَرتَعِش في صوت الطفلة. يَبتَسِم يسوع وهو يَنظُر إلى الصغيرة المسكينة التي تسير إلى جانبه. لَم تَرَ هي تلك الابتسامة التي تتلألأ، لأنّها تَنظُر أمامها، جِهة البيت الذي أَصبَحَ قريباً.

 

يَصِلان إلى كوخ فقير جدّاً في نهاية طريق غير نافِذة. «إنّه ها هنا، يا سيّدي. ادخل...» هو عبارة عن غرفة صغيرة فقيرة، وفِراش قَشّ يَرقُد عليه جَسَد مُنهَك. ثلاثة أطفال تتراوح أعمارهم بين الثالثة والعاشرة، جالِسون قُرب فِراش القَشّ. وكلّ ما هناك ما هو إلّا عبارة عن لوحة مِن البؤس والجوع.

 

«السلام لكِ يا امرأة. لا تَضطَرِبي. لا تُزعِجي نفسكِ. لقد التقيتُ ابنتكِ، وأَعلَم أنّكِ مريضة، فأتيتُ. هل تَوَدِّين أن تشفي؟»

 

لَم يَعُد للمرأة سوى بقايا صوت لِتُجيب: «آه! سيّدي!... ولكنّ الأمر انتهى بالنسبة إليَّ!...» وتبكي.

 

«ابنتكِ تَوَصَّلَت إلى الإيمان بأنّ مَسيّا قادِر أن يُشفيكِ. وأنتِ؟»

 

«آه! أنا أؤمن كذلك، ولكن أين هو مَسيّا؟»

 

«أنا هو، أُكلِّمكِ.» ويسوع الذي كان منحنياً فوق فِراش القَشّ، هامساً تلك الكلمات قُرب وجه المريضة، يَنتَصِب ويَهتف: «لقد شِئتُ، فابرأي.»

 

كاد الأطفال الثلاثة يُصيبهم الهَلَع مِن مَظهَره المهيب. ويَمكُثون وُجوهاً مُتفاجِئة، حول سرير الأُمّ الحقير. تَجمَع دينا يديها بقوّة إلى صدرها الصغير. وَميض أمل وغِبطة يتلألأ على وجهها الصغير. تَلهَث، فَتَأثُّرها عظيم. فَمها مفتوح لتقول كلمة سَبَقَ قَلبها فَهَمَس بها، وعندما ترى أُمّها التي كانت قَبلاً صفراء مُهمَلة، والآن وكأنّ قوّة تَسحَبها وتَختَرِقها، وقد انتَصَبَت لِتَجلس، ثُمّ، وعيناها ماتزالان مُسَمَّرتين بالـمُخلِّص، تَنهَض. فَتَصرُخ دينا صَرخة فَرَح: «ماما!» والكلمة التي كانت تَنفُخ قلبها انطَلَقَت!... ثُمّ أخرى «يسوع!» وبينما هي تُقَبِّل والدتها، تُرغِمها على الركوع قائلة: «اعبدي! اعبدي! إنّه هو الذي كان مُعلِّم تولماي يتكلّم عنه: إنه مَسيّا الذي بَشَّر به الأنبياء.»

 

«اعبدوا الله الحقّ. كونوا صالحين. اذكروني. وداعاً.»

 

ويَخرُج مُسرِعاً، بينما تبقى المرأتان السعيدتان ساجِدَتَين إلى الأرض.