ج1 - ف57

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الأول

 

57- (تأمُّلات في إيمان المجوس)

 

28 / 02 / 1944

 

يقول يسوع:

 

«والآن؟ ماذا أقول لكِ الآن أيّتها النفوس التي تشعر بأنّ إيمانها يموت؟

 

لم يكن لدى حكماء الشرق هؤلاء ما يؤكّد لهم الحقيقة. لا شيء فائق الطبيعة، لم يكن لهم سوى حساباتهم الفلكيّة وعَمَلهم الفكريّ التأمّليّ الذي جَعَلَته حياتهم النزيهة كاملاً. ومع ذلك فقد كان لديهم الإيمان. الإيمان بكلّ شيء. الإيمان بالعِلم، الإيمان بضمائرهم والإيمان بالجّود الإلهيّ. بالعِلم اعتَقَدوا بدلالة النجم الجديد الذي لم يكن ممكناً أن يكون إلّا "ذاك" الذي تنتظره البشريّة منذ قرون: المَسيّا. بالضمير حَصَلوا على الإيمان بالصوت ذاته الذي بتلقّيه "الأصوات" السماويّة قال لهم: "إنّها هي النجمة التي تحدّد مجيء الـمَسيّا". وبصلاحهم كان لهم الإيمان بأنّ الله لم يخدعهم، وبما أنّ نواياهم كانت سليمة، فقد ساعَدَهم الله بكلّ الوسائل لبلوغ هدفهم.

 

ولقد نجحوا، هُم وحدهم مِن بين عدد كبير مِن الناس الذين يدرسون الدلالات، لقد فَهِموا هذه الإشارة، لأنّهم وحدهم الذين كانت في نفوسهم الرغبة المتلهّفة لمعرفة كلمات الله بِنِيَّة مستقيمة، حيث كانوا يفكّرون في أعماقهم أن يُقَدِّموا لله دون تأخير كلّ تسبيح وتمجيد وإكرام.

 

لم يكونوا يفتّشون عن منفعة شخصيّة. وأكثر مِن ذلك فلقد تحمَّلوا مشقّات السفر ومصاريفه دون أن يَطلبوا أيّ تعويض بشريّ. لقد طَلَبوا فقط أن يذكرهم الله ويخلّصهم في الأبديّة. كما وأنّهم لم يفكّروا بأيّة مكافأة بشريّة في المستقبل، وكذلك حين قرّروا السفر لم يكن لديهم أيّة اهتمامات بشريّة. أمّا أنتم فكنتم سَتُبدون ألف عذر: كيف العمل لأقوم برحلة طويلة كهذه في بلدان وبين شعوب بلغات مختلفة؟ هل يُصدّقونني أم يَسجنونني كجاسوس؟ ماذا سيُقَدَّم لي مِن عون لاجتياز الصحارى والأنهار والجبال؟ والحرارة؟ ورياح الهضاب العالية؟ والحرارة التي تهيمن على مناطق المستنقعات؟ والأنهار الفائضة بسبب الأمطار؟ والغِذاء المختلف؟ واللغات المختلفة؟ و... و... و... " وهكذا تفكّرون، بينما هم لم يفكّروا بهذه الطريقة. لقد قالوا بجُرأة صادِقة مقدّسة: "أنتَ أيّها الإله، تقرأ ما في قلوبنا وترى إلى أيّة نهاية نسير. نضع أنفسنا بين يديكَ. امنَحنا الفرح فائق البشر بسجودنا لأقنومكَ الثاني المتجسّد لمجد العالم".

 

كان هذا كافياً. وغَذّوا السير مِن الأصقاع البعيدة. سَلاسل جبال منغوليّة لا يحلّق فوقها سوى النسور والعُقبان حيث كلَّمَهم الله بجَلَبة الرياح والعواصف، وكَتَبَ كلمات سريّة على صفحات الثلج التي لا نهاية لها. مِن الأراضي التي يُولَد فيها النيل ويجري، وَريد الربوع السماويّة إلى قلب البحر الأبيض المتوسّط اللازورديّ. فما استطاعت قمم ولا غابات ولا رمال محيطات جافة، وهي أكثر خطورة مِن المحيطات المائيّة، الوقوف في وجه مسيرتهم. والنجمة تَلمَع في لياليهم، مانعة عنهم النوم. عندما يبحث أحدنا عن الله فينبغي للعادات الحيوانيّة أن تتخلّى عن ضِيق الصدر والـمَطالب الفائقة البشر.

 

قادهم النجم مِن الشمال، مِن الشرق ومِن الجنوب، وبمعجزة إلهيّة تقدَّمَ أمام الثلاثة ليَصِل بهم إلى النقطة ذاتها. وكذلك بمعجزة أخرى يجمعهم بعد مسيرات طويلة في نفس المكان. وبمعجزة أخرى أيضاً يمنحهم نعمة الفهم والإفهام كما في الفردوس حيث اللغة واحدة: لغة الله. سابِقِين بذلك حكمة العنصرة.

 

لقد اجتاحَتهم لحظة خوف واحدة عندما غاب النجم. عندئذ، متواضِعِين لأنّهم حقيقة عُظَماء، لم يُفكّروا أنّ ما جرى كان بسبب شرور الناس، وأنّ سكّان أورشليم الفاسدين لا يستحقّون رؤية النجم. بل لقد فكَّروا بأنّهم هم أنفسهم فَقَدوا عطف الله واحترامه، وقد تفحَّصوا ذواتهم مرتجِفين ونادمين وهم مستعدّون لطلب الغفران.

 

ولكنّ ضمائرهم طَمأَنَتهم. فنفوسهم التي تعوَّدَت التأمّل، وضمائرهم حسّاسة جدّاً. ولقد صَفَت بالانتباه المتواصِل، بتأمّل باطني مُرَكَّز جَعَلَ مِن باطنهم مِرآة تعكس أدقّ آثار الأحداث اليوميّة. لقد جَعَلوا منها معلِّمة، صوتاً يُنَبِّه ويُسمِع صوته، لا أقول لأقلّ الهفوات، إنّما لمجرّد نظرة بسيطة صوب الانحراف أو الخطأ بحقّ ما هو إنسانيّ، بما يخصّ مجاراة الأنا. وكذلك حين يَقِفون في مواجهة هذه المعلّمة، هذه الـمِرآة الجادّة الواضحة، فإنّهم يعرفون أنّها لا تكذب، فهي تُطمئِنهم الآن ويستعيدون شجاعتهم.

 

"آه! ما أعذب معرفة أنّ لا شيء فينا مخالف لإرادة الله! والعِلم بأنّه يَنظر بعطف إلى نفس الابن البارّ ويباركها. مِن هذا الشعور يأتي نموّ الإيمان والثقة والرجاء، وقُدرة النَّفْس والصبر. في هذه الأثناء هي العاصفة. ولكنّها ستمضي لأنّ الله يحبّني ويعرف أنّني أحبّه ولن يبخل بمدّ يد العون لي مرّة أخرى". هكذا يتكلّم الذين يمتلكون السلام، السلام المتأتّي مِن ضمير مستقيم يوجِّه بسلطان مطلَق كلّ حركة مِن تصرّفاتهم. لقد قلتُ إنّهم كانوا "متواضعين لأنّهم في الحقيقة عظماء". أمّا في حياتكم فعلى العكس؛ ماذا يحدث؟ تَجِد أحدهم، ليس لأنّه عظيم، بل لأنّه عنيف ويَستمدّ قُدرته مِن تَضافُر تأثيره مع عبادتكم الغبيّة للأصنام، تراه لذلك ليس متواضعاً على الإطلاق. كذلك تَجِد مِن البؤساء المساكين مَن، بفعل كونه كبير خدّام شخصيّة لها وزنها، أو حاجب مكتب شخصيّة ما، أو موظفاً في دائرة حكوميّة، أو أحد أتباع مَن يوفّر له مكانة معينة، يتّخذ وضعيّة نصف آلهة، وأمثاله يَبعَثون على الشفقة!...

 

هُم، الحكماء الثلاثة، كانوا فعلاً عظماء. بفضيلتهم فائقة الطبيعة في المقام الأوّل، وثمّ بضميرهم، وأخيراً بثرائهم. إلاّ أنّهم يَعتَبِرون أنفسهم لاشيء: غباراً على غبار الأرض بالنسبة لله تعالى الذي يَخلق العوالم بابتسامة ويَنثرها مثل الحبوب مع أطواق مِن النجوم، ليُشبِع بها نَظَر الملائكة.

 

ولكن إذا كانوا يعتَبِرون أنفسهم لا شيء تجاه الله تعالى الذي خَلَقَ الكوكب الذي يعيشون عليه، وقد مَنَحَه تنوّعاً غير عاديّ بترتيبه، وهو النحّات اللامتناهي في العَظَمَة للأعمال التي بلا حدود، فهنا، بلمسة إصبع مَنَحَه إكليلاً مِن هضاب ناعمة، وهناك هيكل قباب وقمم تبدو مثل فقرات العمود الفقريّ للأرض، وهذا الجسم الذي بغير قياس، والذي يمتلك الأنهار كأوردة والبحيرات كأحواض والمحيطات كقلب والغابات كَثَوب والغيوم كَوِشاح، والمجمّدات المتبلوِرة كزينة، والزمرّد والفيروز وعين الهرّ والحومة (زمرد مصري) مِن كلّ شكل كأحجار كريمة، وجميعها مثل جوقة كبيرة ترتّل مع الغابات والرياح التسابيح لربّها.

 

ولكنّهم، بكلّ حكمتهم، يَشعرون بأنفسهم مثل العَدَم أمام حضور الله الذي منه تأتيهم الحكمة، والذي مَنَحَهم نَظَراً أكثر نفوذاً مِن عيونهم ليَروا الحقائق: عيون النَّفْس التي تعرف القراءة في الأشياء، قراءة الكلمات التي لم تكتبها يد إنسان، إنّما فِكر الله هو الذي نَقَشَها.

 

ولكنّهم يَعون تلاشيهم كَمالِكي الكنوز: فهي ذرات إذا ما قورِنَت بكنوز مالِك الكون الذي يَنشر المعادن والأحجار الكريمة في النجوم والكواكب، وثروات لا تنفذ في قلوب الذين يحبّونه.

 

ولدى وصولهم أمام منزل متواضع في أكثر مدن يهوذا وضاعةً، لم يهزّوا رؤوسهم قائلين: "غير معقول". ولكنّهم يَحنون ظهورهم، يجثون، ويتواضعون، خاصّة في قلوبهم، ويَسجدون. فهنا، خلف هذا الجدار الوضيع يتواجد الله. هذا الإله الذي تَضَرَّعوا إليه دائماً وهم لا يَجسرون مطلقاً على التأمّل في أن يَحصَلوا، ولو مِن بعيد، على إمكانيّة رؤيته، ولكنّهم يَبتَهِلون إليه مِن أجل خير الجنس البشريّ، و"خيرهم" الأبديّ. آه إنّهم كانوا يتمنّون فقط إمكانيّة رؤيته ومعرفته وأن يكون في حياتهم حيث لا يعود فجر ولا غَسَق.

 

إنّه هنا، خلف هذا الجدار الوضيع. بدون شكّ، إنّ قلبه الطفوليّ الذي هو مع ذلك قلب الله، يحسّ بخفقات قلوب هؤلاء الثلاثة الذين يَصرخون جاثين على غبار الطريق: "قدّوس، قدّوس، قدّوس، مبارك الربّ إلهنا، المجد له في أعالي السموات، والسلام لخدّامه. المجد، المجد، المجد والبركة." هذا ما كانوا يطلبونه بقلب يرتعش بالحبّ. وأثناء الليل والصباح الذي تلاه، يتهيّئون بالصلاة الأكثر حرارة للاتّصال بالإله الطفل. ولم يَذهَبوا إلى هذا المذبح الذي هو حضن العذراء الذي يحمل القربان الإلهيّ كما تذهبون أنتم إليه ونفوسكم مُفعَمة بالاهتمامات البشريّة.

 

إنّهم يَنسون النوم والطعام، وإذا ما ارتدوا أجمل الثياب، فهذا ليس على سبيل الغرور الإنسانيّ، إنّما لتبجيل مَلِك الملوك. ففي بلاط الملوك يَدخُل الوُجَهاء مرتدين أفخر الثياب، إذن لماذا لا يذهبون هم أيضاً لرؤية هذا الـمَلِك بثياب العيد؟ وأيّ عيد بالنسبة إليهم أهمّ مِن هذا العيد؟

 

آه! في بلادهم البعيدة جدّاً جدّاً كان ينبغي أن يتبرّجوا للناس المساوين لهم ليُعايدوهم ويُكرّموهم. فمِن العدل إذن أن يَرموا عند أقدام الـمَلِك الأعظم البرفير والجواهر، الحرائر والريش الثمين، أن يضعوا عند قدميه الصغيرتين العذبتين نُسُج الأرض وجواهرها وريشها ومعادنها -كلّ ما صَنَعَه هو- حتّى تَسجد أشياء الأرض هذه، هي أيضاً، لخالقها. وسوف يكونون سعداء لو طَلَبَ منهم هذا الطفل أن يتمدّدوا على الأرض ليكونوا سجّادة حيّة لخطواته الطفوليّة وأن يسير فوقها، وهو الذي تَرَكَ النجوم مِن أجلهم، غباراً، غباراً، غباراً.

 

إنّهم مُتواضِعون وكرماء، مُطيعون "لأصواته" تعالى، التي أَمَرَت أن تُحمَل الهدايا للملك المولود حديثاً، فَحَمَلوا بأنفسهم هذه الهدايا. لم يقولوا: "إنّه غنيّ ولا حاجة به إليها. إنّه إله ولا يعرف الموت". لقد أطاعوا. وكانوا هُم أوّل مَن يُغيثون فَقر المخلّص. كم سيكون هذا الذهب مفيداً للذين سيكونون في الغد فارِّين! وكم سيكون الـمُرّ ذا مغزى كبير لمَن سيُحكم عليه قريباً بالموت! وكم سيكون هذا البخور درءاً لـه مِن نتانة فسق الناس التي تَحَتدِم حول طهارته اللامتناهية ويتنشَّقها.

 

إنّهم مُتواضِعون، كُرَماء، مُطيعون ومحترمون الواحد مِن الآخر: فالفضائل تَلِد دائماً فضائل أخرى. بعد تلك التي تتوجّه إلى الله تأتي التي تتوجّه إلى القريب. إنّه الاحترام الذي يُصبِح محبّة. لقد أُسنِد الكلام باسم الجميع إلى أكبرهم سنّاً، فيتقبّل كذلك هو أوّلاً قبلة الربّ ويقوده مِن يده. ذلك أنّ باستطاعة الآخرين أن يَرَوه فيما بعد، أمّا هو فإنّه مُسنّ. لا بل إنّ اليوم الذي يعود فيه إلى الله قريب جدّاً. وسوف يرى المسيح بعد موته الـمُفجِع وسيتبعه ضمن عِداد المخلَّصين، عندما يعود إلى السماء. ولكنّه لن يراه ثانية على هذه الأرض، لذا، وكزاد لرحلته، تبقى له حرارة اليد الصغيرة التي استسلَمَت ليده المتجعّدة.

 

لم يكن أحد مِن الآخرين يحسده، بل على العكس، فقد كان احترامهم لذاك الـمُسنّ يتنامى. لقد استحقّ ذلك أكثر منهم، وعلى مدى فترة زمنيّة طويلة، والإله الطفل يَعلَم ذلك. لم تكن كلمة الآب قد سُمِعَت بعد، ولكنّ حركته كلمة. فلتكن مباركة كلمته المنزهة التي حدّدت الكبير كمفضّل لديه.

 

ولكن، يا أبنائي، هناك عبرتان أيضاً يمكن استخراجهما مِن هذه الرؤيا.

 

سلوك يوسف الذي يعرف البقاء في "مكانه"، حاضراً كحارس وحافظ للطهارة والقداسة ولكنّه لا يغتَصِب حقّاً. إنّها مريم، مع يسوعها، التي تتقبّل الهدايا، وإليها يُوجَّه الكلام. يسعد يوسف مِن أجلها ولا يهتمّ لكونه شخصيّة ثانويّة. إنّ يوسف رجل بارّ. إنّه البارّ. ويبقى بارّاً على الدوام، حتّى في مثل هذه الساعة. فأبخرة الاحتفال لم تَصعَد إلى دماغه. إنّه يَظلّ مُتواضِعاً ومستقيماً وبارّاً.

 

سعيد هو بالهدايا. إنّما ليس مِن أجله. ولكنّه يفكّر أنّ بإمكانه، بواسطة هذه الهدايا، توفير حياة أسهل لزوجته وللطفل. ليست لدى يوسف رغبة بالثراء، فهو عامِل، وسيظلّ يَعمَل. إنّما ليوفِّر "لهما"، لحُبَّيه، قليلاً مِن اليُسر والراحة. لا هو ولا المجوس يَعلَمون أنّ هذه الهدايا ستنفع في الهرب وحياة المنفى حيث سيتبدّد هذا الثراء مثل غيوم تُطارِدها الرياح، وكذلك في العودة إلى الوطن. إذاً فَهُم سيفقدون كلّ شيء. العملاء والأثاث، لن يَجِدوا سوى جدران بيتهم التي حماها الله، إذ في هذا المكان قد اتَّحَدَ بالعذراء واتَّخَذَ لنفسه جسداً.

 

إنّ يوسف مُتواضِع، فحتى مع كونه حارس لله ولتلك التي هي أُمّ الله وعروسته تعالى، فقد أمَسَكَ بالرِّكاب لأتباع الله هؤلاء. إنّه نجّار فقير لأنّ قسوة العالم قد بَدَّدَت إرث داود مِن ممتلكاتهم الـمَلَكيّة. ولكنّه يبقى مِن أصل ملوكي، وله طِباع الملوك. فمِن أجله أيضاً قيل: "إنّه مُتواضِع لأنّه في الحقيقة عظيم".

 

آخِر عِبرة، وهي عذبة ومُعَبِّرة.

 

إنّها مريم التي تأخذ بيد يسوع الذي لم يكن يعرف بعد أن يبارك، وتقودها في الحركة المقدّسة.

 

دائماً هي مريم التي تأخذ بيد يسوع وتقودها، حتّى الآن كذلك. الآن يَعرف يسوع أن يبارك، إنّما أحياناً تَسقُط يده المختَرَقَة تَعِبَة ومُثبَطَة عزائمها، لأنّ البركة لا تفيد. إنّكم تَنقضون بركتي. وتعود لتَسقُط كذلك لعدم استحقاقكم لأنّكم تلعنونني. حينئذ تحتوي مريم هذا السُّخط وهي تُقَبِّل هذه اليد. آه! يا لقُبلة أُمّي! مَن يستطيع مقاومة هذه القُبلة؟ ثمّ تأخذ أصابعها الناعمة قبضتي بحبّ آمِر وتُرغِمني على أن أُبارِك. فأنا لا أستطيع أن أردّ أُمّي، إنّما يجب العبور مِن خلالها لتجعلوها المحامية عنكم.

 

إنّها مَلِكَتي قبل أن تكون مَلِكَتكم، وحبّها لكم يمتلك مِن الغفرانات ما لا يعرفه حبّي نفسه. وهي، بدون كلام، بلآلئ دموعها ودعوة صليبي الذي جَعَلَتني أرسم إشارته في الهواء، تُرافِع عنكم وتَحثني: "أنتَ المخلِّص، فخلِّص!"

 

هذا هو، يا أبنائي "إنجيل الإيمان" في رؤيا مشهد المجوس. تأمّلوا واقتدوا مِن أجل خيركم.

 

الجمعة 3 آذار (مارس) 1944

 

يقول يسوع:

 

«اكتبي هذا فقط. منذ أيّام كنتِ تقولين إنّكِ تموتين دون رؤية إشباع رغبتكِ بزيارة الأماكن المقدّسة تتحقّق. إنّكِ تَرَينَها، وكما كانت حين قدَّستُها بوجودي. أمّا الآن، وبعد عشرين قرناً مِن الانتهاكات، بحقد أو بحبّ، فلم تعد أبداً كما كانت. إذاً، فأنتِ في الوقت الحاضر تَرَينها، بينما الذي يذهب إلى فلسطين لا يراها. لا تَحزَني.

 

أمر آخر: تشتكين مِن أن الكُتُب التي تتحدّث عنّي، بعضها يبدو لكِ بلا طعم أبداً، الآن، بينما كنتِ في السابق تحبّينها كثيراً. وهذا أيضاً يأتي مِن الظروف التي وَجَدتِ نفسكِ فيها. فكيف تريدين أن تَظهَر لكِ الأعمال الإنسانيّة أكثر كمالاً، بينما أنا أهتمّ في إظهار حقيقة الوقائع لكِ أنتِ؟ هذا الانطباع يمكن أن يَحدُث حتّى مع الترجمات الجيّدة. إنّها تُشوّه دائماً قوّة الجملة الأصليّة. الوصف البشريّ للأمكنة كما للوقائع هو "ترجمة"، ولأجل ذلك، هو دائماً ناقص، غير دقيق، ليس في الكلام والوقائع وحسب، بل إنّما في المشاعر كذلك. خاصّة وأنّ العقلانيّة قد خَرَّبَت الحياة التي يُعَبَّر عنها فيها. كذلك عندما أَهِب أحداً أن يرى ويعرف، فإنّ كلّ وصف آخر يبدو بارداً، مُقصّراً، غير مرضيّ، ومنفِّر.

 

ثالثاً: إنّه يوم الجمعة، أريد أن تعيشي آلامي مِن جديد. أريد ذلك منكِ اليوم، أن تعيشيها مِن جديد في نفسكِ وجسدكِ. هذا يكفي. تحمّلي الآلام بسلام وحبّ. أبارككِ.»