ج4 - ف89
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الرابع / القسم الأول
89- (إلى بيت صيدا. يُعهد بمارغزيام إلى زوجة بطرس بورفيرا.)
24 / 07 / 1945
يسوع في بحيرة طبريّا، مع رُسُله. إنّه الصباح. كلّ الرُّسُل هناك، إذ حتّى يهوذا الذي شُفِيَ تماماً معهم هو، وقد أَصبَحَ مَظهَره أكثر لُطفاً بفعل الألم والعناية التي أَولِيَت له. وكذلك هناك مارغزيام، المتأثّر قليلاً لوجوده للمرّة الأولى على الماء. هو لا يريد إظهار ذلك، إنّما لدى كلّ أرجحة عنيفة قليلاً، يتمسّك بإحدى ذراعيه بعنق النَّعجة التي تُشاطِره الخوف، وهي تثغو بشكل يُثير الشَّفَقة. وبالذراع الأخرى يتشبّث بما يتمكّن منه، سارية أو كرسيّ أو مِـجداف قريب منه، أو حتّى ساق بطرس أو أندراوس أو أحد الصبيان الذين يمرّون وهُم يقومون بعملهم، ويُغلِق عينيه، وقد يكون على قناعة بإنّها ساعته الأخيرة.
وبين الحين والحين، يقول له بطرس، وهو يُطبطِب على خدّيه: «لستَ خائفاً، صحيح؟ على التلميذ ألّا يخاف أبداً...» ويُشير الولد برأسه أن لا، ولكن كلّما ازدادت شِدّة هبوب الريح، وازداد هياج المياه باقترابهم مِن مَصبّ الأردن، فإنّه يزداد شحوباً، ويُكثِر مِن إغماض عينيه، حتّى إنّه، لدى انحراف مفاجئ، يَميل فيه المركب على أحد جانبيه، يُطلِق صرخة هَلَع.
حينئذ، يأخذ البعض يضحكون، والبعض يتهكّمون ساخِرين مِن بطرس الذي أصبَحَ أباً لِوَلَد غير رابط الجأش في الظروف العصيبة، ويَسخَرون مِن مارغزيام الذي يقول على الدوام إنّه سيجوب الدنيا، برّاً وبحراً، لِيُبَشِّر بيسوع، وهو يخاف قطع شوط على البحيرة. ولكنّ مارغزيام يُدافِع عن نفسه قائلاً: «كلّ واحد يخاف مِن شيء مجهول. أنا مِن الماء، يهوذا مِن الموت...»
أُدرِك أن يهوذا قد انتابه خوف عظيم مِن أن يموت، وأُعجَبُ بعدم انفعاله لهذه الملاحظة، ولكنّه، على العكس، يقول: «أحسنتَ قولاً. المرء يَهاب ما لا يَعرفه. أمّا الآن فنحن على وشك الوصول. بيت صيدا تَبعد أشواطاً قليلة، وأنتَ على ثقة بأنّكَ سَتَجِد هناك حُبّاً. وأنا أودُّ لو أَجِد نفسي هكذا، على مقربة مِن بيت الأب، وأن أكون متأكّداً مِن أنّني أَجِد هناك الحبّ!» يقولها وقد بدا عليه التعب والحزن.
«أترتاب في الله؟» يَسأَل أندراوس وقد أَخَذَته الدهشة.
«لا، بل أرتاب في نفسي. خلال الأيّام التي كنتُ فيها مريضاً، مُحاطاً بنساء طاهرات صالحات، شعرتُ بضآلة روحي! كم فَكَّرتُ! كنتُ أقول لنفسي: "إذا كنّ هنّ يجتهِدن في أن يصبحن أفضل ويَبلغن السماء، فماذا ينبغي لي أن أفعل أنا؟" لأنّهنَّ، وهُنَّ في نظري، على الدوام، قد أصبحن قدّيسات، يَعتَبِرن أنفسهنّ خاطئات. وأنا؟... هل أتوصَّل إلى ذلك يا معلّم؟»
«بالإرادة الطيّبة كلّ شيء ممكن.»
«ولكنّ إرادتي كثيرة العيوب.»
«عَون الله يَمنَحها ما يَنقُصها لِتُصبح كاملة. تواضُعكَ الحاليّ ناجم عن المرض. وأنتَ ترى، إذاً، أنّ الله، ومِن خلال حادث مؤلم، يُدبِّر إعطاءكَ ما لم يكن لديكَ.»
«هذا صحيح، يا معلّم. ولكن تلك النساءّ يا لهنّ مِن تلميذات كاملات! لستُ أتحدّث عن أُمّكُ، فالأمر، بالنسبة إليها، مَفروغ منه، أتحدّث عن الأُخريات. آه! بالحقيقة، لقد تَخَطَّينَنا! كنتُ واحداً مِن اختبارات كهنوتهنَّ المستقبليّ. ولكن، ثق يا معلّم، بإمكانك الاعتماد عليهنَّ بكلّ أمان واطمئنان. لقد اعتنين بي وبإليز، وقد عادت إليز إلى بيت صور، بنفس متجدّدة، وأنا... أنا آمل إعادة تشكيلها، الآن وقد عَمِلن فيها...» ويبكي يهوذا الذي ما زال يشعر بالضعف. ويسوع، الجالس بقربه، يَضَع إحدى يديه على رأسه، مُشيراً إلى الآخرين ألّا يتكلّموا.
ولكنّ بطرس وأندراوس مَذهُولان مِن حركات التقرُّب الأخيرة، ولا يتكلّمان، بينما الغيور ومتّى وفليبّس ومارغزيام لا يُحاوِلون الكلام بالتأكيد، فالواحد شارد الذهن باللّهفة إلى الوصول، والآخرون، بِفِطنة فطريّة طبيعيّة.
يَتبَع المركب مَجرى الأردن، وفي ظرف فترة وجيزة يتوقّف على الشاطئ. يَهبط الصبيان لربط المركب بحبال يشدّونها إلى صخرة، ولكي يَضَعوا دفّة تكون بمثابة جسر عبور. يأخذ بطرس ثوبه الطويل، وكذلك يفعل أندراوس. يقوم المركب الآخر بالحركات ذاتها، ويَهبط منه الرُّسُل الآخرون. يَهبط يسوع ويهوذا كذلك، بينما يعطي بطرس للولد ثوبه الصغير، ويرتبه ليكون لائقاً أثناء تقديمه إلى زوجته.
ها هُم جميعاً على البَرّ، ومعهم النِّعاج.
«والآن هيّا بنا.» يقول بطرس. إنّه حتماً متأثّر. يمدّ يده للطفل الذي هو بدوره متأثّر، لدرجة نسيان النِّعاج التي يهتمّ يوحنّا بها. ويَسأَل بإحساس مِن الخوف مُبهَم: «ولكن هل ستتقبّلني؟ وهل ستحبّني كثيراً؟» يُطمئِنه بطرس، إنّما قد يكون الخوف ذا عدوى، ويقول ليسوع: «أنتَ، يا معلّم، قل ذلك لبورفيرا. فأنا أخشى عدم معرفتي قول ذلك لها.» يبتسم يسوع، ويَعِد بالاهتمام بالأمر.
يُسرِعون في الوصول إلى البيت باتّباعهم الساحل الرمليّ. ويُرى، مِن خلال الباب المفتوح، أنّ بورفيرا مُنشَغِلة بأعمالها البيتيّة.
«السلام لكِ!» يقول يسوع، وهو يَدنو مِن باب المطبخ، حيث المرأة تُرتِّب الأواني.
«المعلّم! سمعان!» وتَهرَع المرأة لِتَجثو عند قدميّ يسوع، ثمّ عند قدميّ زوجها. تَنتَصِب بعدئذ وتقول، وقد احمرَّ وجهها الـمُحَبَّب، وإن يكن غير جميل: «لقد طال زمن انتظاري إيّاكم! هل جميعكم بصحّة جيّدة؟ تعالوا! تعالوا! فأنتم حتماً تَعِبون...»
«لا. إنّنا قادمون مِن الناصرة، حيث توقّفنا لبضعة أيّام، وقد كانت لنا محطّة أخرى في قانا. وكانت المراكب في طبريّا. تَرَين أنّنا لسنا تَعِبين. نصطَحِب معنا وَلَداً ويهوذا بن سمعان وقد وَهِنَ مِن جرّاء مَرَض ألمَّ به.»
«وَلَد؟ تلميذ صغير جدّاً؟»
«يَتيم، تَلقَّيناه على الطريق.»
«آه! حبيبي! تعال يا كنـزي لِأُقبِّلكَ!»
الوَلَد الذي ظَلَّ شبه خائف ومختبئاً خلف يسوع، يَستَسلِم للمرأة تأخذه، وقد جَثَت كما لِتُصبِح في مستواه، ويَدَعها تُقبِّله دون تردّد.
«والآن تأخذونه معكم، دائماً هو معكم، بهذا القَدر مِن الصِّغَر؟ سوف يتعب...» المرأة مُفعَمَة شَفَقَة. تَضمّ الوَلَد بذراعيها، وتُبقي خدّها على خدّ الصبيّ.
«في الحقيقة، كانت لي فكرة أُخرى: أن أَعهَد به إلى امرأة تلميذة، عندما نذهب بعيداً عن الجليل، عن البحيرة...»
«ولماذا ليس لي أنا يا سيّدي؟ أنا لم أُرزَق بأولاد، بل بأولاد إخوة، وأَعرِف كيفيّة الاهتمام بِهم. إنّني التلميذة التي لا تُجيد الكلام، ولا تملك مِن الصحّة ما يؤهّلها لاتِّباعكَ، كما تَفعَل الأُخريات، اللواتي... آه! تَعلَم! سأكون جبانة، حتّى لو أردتُ، ولكنّكَ تَعلَم في أيّة كمّاشة أنا. هل قُلتُ كمّاشة؟ لا بل أنا بين حَبلين يسحبانني في اتّجاهين مختلفين، وليست لديَّ الشجاعة لأقطع أحدهما. فاسمح لي، على الأقلّ، أن أخدمكَ قليلاً، بِكَوني الأُمّ التلميذة لهذا الوَلَد. سوف أُلقِّنه ما يُعلِّمه الآخرون للكثير مِن الناس... أن يحبّكَ، أنتَ...»
يَضَع يسوع يده على رأسها، يبتسم ويقول: «لقد أتينا بالوَلَد إلى هنا، لأنّه قد وَجَدَ هنا أُمّاً وأباً. هيّا ولتكونوا عائلة.» ويَضَع يسوع يد مارغزيام في يد بطرس الذي تَشعّ عيناه، وفي يد بورفيرا. «رَبّيا هذا البريء بقداسة.»
بطرس، الذي يَعلَم بالأمر، يَمسَح دمعة بِظَهر يده، ولكنّ زوجته التي لم تكن تتوقّع ذلك، تَظلّ بُرهة بَكماء مِن الدهشة، ثمّ تَجثو مِن جديد، وتقول: «آه! سيّدي، لقد أَخَذتَ زوجي منّي، لتجعلني أقول، أَرمَلة. أمّا الآن فإنّكَ تهبني ابناً... إذن، فأنتَ تُعيد إلى حياتي كلّ الزهور، ليس فقط تلك التي أَخَذتَها منّي، إنّما تلك التي لم أحصل عليها أبداً. لتكن مباركاً! سيكون محبوباً أكثر ممّا لو كان هذا الصغير قد وُلِدَ مِن أحشائي، لأنّه أتاني منكَ.» وتُقبِّل المرأة ثوب يسوع وتُعانِق الوَلَد، وتحمله وتضمّه إلى صدرها... إنّها سعيدة…
«لندعها تُفَضفِض عن مشاعرها.» يقول يسوع. «ابقَ أنتَ أيضاً يا سمعان. إنّنا ماضون إلى المدينة للتبشير. نأتي مساء، في آخر الوقت، لِتَناول الطعام والاستراحة.»
ويَخرُج يسوع مع الرُّسُل، تاركاً الثلاثة في سلام…
يقول يوحنّا: «ربّي، سمعان اليوم سعيد!»
«هل تُريد وَلَداً كذلك؟»
«لا، بَل أريد فقط زوجاً مِن الأجنحة أرتقي بهما حتّى أبواب السماوات، لِأَتعلَّم لُغة النور، وأعود فأقولها للناس.» ويبتسم.
يَربط النِّعاج في آخر الحديقة، قُرب كوخ الشِّباك، يُقدِّم لها أوراقاً وعُشباً وماء مِن البئر، ويَمضون إلى مركز المدينة.