ج6 - ف106
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السادس/ القسم الأول
106- (هداية زكّا)
17 / 07 / 1944
أرى ساحة واسعة تبدو وكأنّها سوق، تُظلّلها أشجار النخيل وأشجار أخرى أدنى طولاً وكثيرة الأوراق. لقد نمت أشجار النخيل هنا وهناك بغير ترتيب، وتُحرّك باقات أوراقها هَبَّات هواء ساخن تجعلها تطقطق. الهواء يثير تراباً أحمراً كما لو أنّه قادم مِن صحراء، أو على الأقلّ مِن أراض مهملة، أراض حمراء. الأشجار الأخرى على العكس تُشكِّل رواقاً طويلاً على مدى جوانب الساحة، رواقاً مِن الظلّ، التجأ تحته الباعة والزبائن في حشد مضطَرِب وهادِر.
في إحدى زوايا الساحة، بالتحديد حيث المنفذ إلى الطريق الرئيسيّة، هناك مكتب تحصيل ضرائب بدائي. هناك موازين ومقاييس، مقعد يجلس عليه رجل قصير يُراقِب، يُلاحِظ ويَقبَض. الجميع يتحدّث إليه كرجل معروف جدّاً. أَستَعلِم أنّه زكّا الجابي لأنّ الكثيرين ينادونه، البعض لطرح الأسئلة عليه حول أحداث المدينة، وهؤلاء هم الغرباء، وآخرون ليدفعوا ضرائبهم. كثيرون يُدهَشون لرؤيته منشغل البال. بالفعل يبدو شارد الذهن وغارقاً في التفكير. يجيب بكلمات أحادية المقطع وأحياناً بالإشارات. وهذا أَدهَشَ أناساً كثيرين، ويُفهَم أنّ زكّا عادة هو ثرثار. يسأله أحدهم إذا ما كان يَشعُر بسوء، أو إذا ما كان مِن أهله مَن هو مريض. ولكنّه يجيب بلا.
لمرّتين فقط يُظهِر اهتماماً بالغاً. الأولى عندما سَأَلَ رَجُلين قادِمَين مِن أورشليم ويتحدّثان عن الناصريّ وهما يَرويان معجزاته ومواعظه. عندئذ طَرَحَ زكّا أسئلة عديدة: «هل هو بالحقيقة صالح كما يقال؟ هل تتوافق أقواله مع أفعاله؟ هل يُمارِس حقيقة الرحمة التي يُبشّر بها؟ تجاه الجميع؟ حتّى للعشّارين؟ هل صحيح أنّه لا يردّ أحداً؟» وهو يَسمَع ويُفكّر ويتنهّد.
ومرّة أخرى عندما يشير أحدهم إلى رجل ملتحٍ يَعبُر على حماره، مُحمّلاً أثاثاً. «هل ترى يا زكّا؟ هذا هو زكريا الأبرص. منذ عشر سنوات، كان يعيش في قبر. الآن وقد شُفي، فهو يشتري أثاثاً لبيته الذي أُفرِغ بحكم الشريعة عندما أُعلن هو وذووه كبرص.»
«نادِهِ.»
يُقبِل زكريّا.
«هل كنتَ أبرصاً؟»
«كنتُ كذلك، ومعي زوجتي وولديّ. المرض أصاب المرأة في البدء، ولم ننتبه له مباشرة. الولدان أصابتهما العدوى بنومهما على صدر أُمّهما، وأنا بالاقتراب مِن زوجتي. كنّا جميعنا برصاً! وعندما تنبّه الناس لذلك، طردونا مِن القرية... كان بإمكانهم تركنا في بيتنا. وقد كان الأخير... على طرف الطريق. لم نكن لنشكّل لهم المتاعب... كنّا قد تركنا السياج ينمو عالياً، عالياً جدّاً حتّى لم نعد نُرى. كان قد أَصبَحَ كالقبر... ولكنّه كان بيتنا... لقد طُرِدنا. خارجاً! خارجاً! ولم تَقبَلنا أيّة قرية. كان صواباً! حتّى قريتنا لم تقبلنا. فأقمنا قريباً مِن أورشليم، في قبر فارغ. هناك بائسون كثيرون. ولكنّ الوَلَدين ماتا مِن البرد في الكهف. المرض والبرد والجوع قضوا عليهما سريعاً... كانا صبيّين... كانا جميلين قبل أن يصابا بالمرض، قويّين وجميلين، أسمرين كالتوت في آب (أغسطس)، مقصَّبي الشعر ويَقِظَين. كانا قد أصبحا هيكلين عظميّين تكسوهما القروح... لم يعد لهما شعر، أعينهما أغلقتها القشور، أقدامهما الصغيرة وأيديهما كانت قد أصيبت بحراشف بيضاء. لقد سقط ولداي كالغبار أمام عينيّ!... في صبيحة موتهما وفي خلال بضعة ساعات لم يعد لهما وجه بشريّ... ولقد دفنتُهُما وسط صراخ الأُمّ، تحت طبقة قليلة العمق مِن التراب وكثير مِن الحجارة وكأنّهما جيفتا حيوانات... وبعد بضعة أشهر، ماتت الأُمّ... وبقيتُ وحيداً…
كنتُ أنتظر الموت، ولم تكن لي حُفرة محفورة بأيدٍ بشريّة... كنتُ شبه كفيف عندما مرّ ذات يوم الناصريّ. مِن القبر هتفتُ: "يا يسوع، يا ابن داود، ارحمني!" وقد كان أحد المستجدين الذي لم يكن ليخاف مِن تقديم زاده لي، قد قال لي إنّه شُفي مِن عماه عن طريق استدعائه الناصري بهذا النداء. وكان يقول: "لم يمنحني بصر العيون فقط، بل بصيرة النَّفْس. رأيتُ أنّه هو ابن الله وأنّني أرى كلّ شيء مِن خلاله. لهذا السبب لستُ أهرب منكَ، يا أخي، بل أحمل إليكَ الزّاد والإيمان. امضِ إلى المسيح. ولتكن واحداً إضافيّاً ليباركه."
لم أكن أستطيع السير. قدماي المقروحتان حتّى العظام، لم تكونا لتسمحا لي بالمشي... ثمّ... كنتُ لِأُرجم لو شوهدتُ. بقيتُ مترقّباً مروره. كان غالباً يمرّ ليذهب إلى أورشليم. ذات يوم رأيتُ، بحسب قدرتي على النَّظر، غمامة مِن الغبار على الطريق وجمعاً وسمعتُ صيحات. جررتُ نفسي إلى قمّة الرابية حيث كانت الكهوف الضريحيّة، وعندما بدا لي أنّني أرى رأساً أشقراً يلمع عارياً وسط الرؤوس الأخرى المغطّاة، هتفت، بقوّة، بكلّ ما أوتيتُ مِن قوّة. هتفتُ مرّات ثلاث، إلى أن وصله صراخي.
التفتَ، وتوقَّفَ. ثمّ تقدَّمَ، وحيداً، وجاء بالضبط إلى أسفل المكان الذي كنتُ فيه، ونظر إليَّ. هو جميل، طيّب، ذو صوت وابتسامة!... قال: "ماذا تريد أن أفعل لكَ؟"
"أريد أن أشفى."
وسألني: "هل تؤمن أنّني أستطيع ذلك؟ لماذا؟"
"لأنّكَ ابن الله."
"هل تؤمن بذلك؟"
أجبتُه: "أؤمن. إنّني أرى مجد الله تعالى يسطع على رأسكَ. يا ابن الله، ارحمني!"
حينئذ مدّ هو يداً ووجهه يتّقد كالنار. عيناه كانتا تبدوان كشمسين في زرقة السماء، وقال: "أريد. فلتطهَر." وبارَكَني مع ابتسامة!... آه! يا لها مِن ابتسامة! وشعرتُ بقوّة تخترقني كسيف مِن نار يجري باحثاً عن قلبي، وكان يجري في عروقي. والقلب الذي كان عليلاً، عاد بعمر العشرين؛ الدم، المتجلّد في عروقي، عادت إليه الحرارة والنشاط. اختفت الآلام، غاب الضعف وكان فرح، فرح!... كان ينظر إليَّ بابتسامة، كان يجعلني اغتبط. ثمّ قال: "اذهب وأَظهِر نفسكَ للكَهَنَة. إيمانكَ خلّصكَ." حينذاك أدركتُ أنّني شفيتُ، ونظرتُ إلى يديّ وساقيّ. القروح لم يعد لها وجود. حيث كان العظم مكشوفاً أصبح مكسوّاً جلداً زهريّ اللون نَضِراً. هرعتُ إلى جدول ونظرتُ إلى نفسي. الوجه كذلك كان نقيّاً. كنتُ مطهّراً! كنتُ قد تطهّرتُ بعد عشر سنوات مِن الهول!... آه! لماذا لم يمرّ قبل ذلك، خلال السنوات التي كان ولداي وكانت زوجتي ما يزالون أحياء؟ كان هو سيشفينا. والآن، هل ترى؟ أتسوّق لبيتي... ولكنّني وحيد!...»
«ألم تَرَه؟»
«لا. أعلم أنّه في الجّوار، وأتيتُ إلى هنا متعمّداً. أردتُ أن أباركه أيضاً وأن يباركني لأحصل على القوّة في وحدتي.»
يخفض زكّا رأسه ويصمت. ويتفرّق الجمع.
يمرّ وقت. يصبح الطقس حارّاً. تشتَّتَ السوق. العشّار يجلس على مقعده سانداً رأسه على يده.
«ها هو، ها هو الناصريّ!» يهتف أطفال وهم يشيرون إلى الطريق الرئيسيّة.
نساء، رجال، مرضى، مستجدون، جميعهم يهرعون مسرعين لملاقاته. تبقى الساحة فارغة. فقط بِغال وجِمال، مربوطة إلى شجر النخيل، تبقى في مكانها، وزكّا يبقى على مقعده.
إنّما بعدئذ يَنهَض ويَصعَد على مقعده. ما زال لا يرى شيئاً، ذلك أنّ كثيرين قد نزعوا أغصاناً يلوّحون بها كما للاحتفال بيسوع الذي يبدو منحنياً على المرضى. حينئذ خَلَعَ زكّا ثوبه محتفظاً فقط بجلبابه القصير، تسلَّقَ إحدى الأشجار. إنّه يصعد ليس دون عناء على الجذع الضخم والأملس الذي يحيطه بشكل سيّئ بساقيه وبذراعيه القصيرتين. ولكنّه ينجح، ويستقرّ بانفراج الساقين على غصنين كما على مِجثَم. تتدلّى ساقاه مِن هذا الدرابزين وينحني هو، انطلاقاً مِن الحِزام، كما مِن على نافذة يَنظُر منها.
يَصِل الجمع إلى الساحة. يرفع يسوع بصره ويبتسم للمشاهد المنفرد الجاثم على الأغصان. يأمره: «انزل يا زكّا في الحال. اليوم أحلّ في بيتكَ.»
زكّا، بعد بُرهة مِن الذهول، ووجهه صبغه الاحمرار مِن التأثّر، ينزلق إلى الأرض مثل كيس. إنّه مضطرب ولم يعد يُحسِن ارتداء ثوبه. يُغلِق سجلاّته وصندوقه بحركات أرادها سريعة ولكنّها لم تكن سوى بطيئة. إنّما يسوع صَبور، وفي الانتظار، يُداعِب أطفالاً.
أخيراً أصبح زكّا جاهزاً. يدنو مِن المعلّم ويقوده إلى منزل جميل تحيط به حديقة واسعة وهو في وسط القرية. إنّها قرية جميلة، وحتّى مدينة أقلّ قليلاً مِن أورشليم بأبنيتها، إن لم يكن لامتدادها.
يَدخُل يسوع، وفي انتظار تجهيز الطعام، يهتمّ بالمرضى والأصحّاء. بصبر... هو وحده القادر عليه.
يروح زكّا ويرجع بعناء. لا يتمالك نفسه مِن الفرح. يودّ التكلّم مع يسوع، ولكنّ يسوع محاط على الدوام بجمع مِن الناس.
في النهاية يصرفهم يسوع جميعاً قائلاً: «ارجعوا عند غياب الشمس. الآن عودوا إلى بيوتكم. السلام لكم.»
تَفرغ الحديقة، وتُجَهّز الوجبة في غرفة جميلة ومنعشة تطلّ على الحديقة. أجاد زكّا صنع الأشياء. لستُ أرى أُناساً مِن عائلته، كذلك أُفكّر أنّ زكّا كان عازباً، يحيط به العديد مِن الخُدّام.
في ختام تناول الطعام، عندما توزّع التلاميذ في ظلّ الخُضرة للاستراحة، يبقى زكّا مع يسوع في الغرفة المنعشة. وحتّى لبرهة يبقى يسوع بمفرده، إذ ينسحب زكّا كما ليدع يسوع يرتاح. ولكنّه يعود بعد ذلك ويَنظُر مِن خلال إزاحة الستار قليلاً. يرى أنّ يسوع لا ينام، ولكنّه يُفكّر. عندئذ يَقتَرِب. يحمل بين ذراعيه صندوقاً ثقيلاً. يضعه على الطاولة، أمام يسوع، ويقول: «يا معلّم... لقد حدَّثوني عنكَ، منذ مدّة. ذات يوم، على أحد الجبال، قلتَ أنتَ حقائق كثيرة لم يعد أحبارنا يعرفون أن يقولوها. استقرَّت في قلبي... ومنذ ذلك الحين، وأنا أفكّر فيكَ... ثمّ قيل لي إنّكَ صالح ولا تُقصي الخطأة. أنا خاطئ، يا معلّم. قيل لي إنّكَ تشفي المرضى. قلبي مريض، لأنّني غششتُ، لأنّني مارستُ الربى، لأنّني كنتُ فاسداً، سارقاً، قاسياً تجاه الفقراء. إنّما الآن، ها أنا ذا قد شفيتُ لأنّكَ كلّمتني. دنوتَ منّي، وشيطان الشهوانيّة والثروة قد هرب. وأنا، منذ اليوم، أنا لكَ، إذا لم تكن لترفضني، ولكي أُظهِر لكَ أنّني أولَد مِن جديد فيكَ، ها أنا ذا أجرّد نفسي مِن الثروات التي أسأتُ في الحصول عليها. أعطيكَ نصف ما أملك للفقراء والنصف الآخر لإعادة ما حصلتُ عليه بالغشّ أربعة أضعاف. أَعلَم أنّني غششتُ. ثمّ، بعد إعادتي لكلّ أحد ما يخصّه، سوف أتبعكَ، يا معلّم، إذا كنتَ تسمح بذلك...»
«أريده. تعال، لقد جئتُ لأخلّص وأستدعي إلى النور. اليوم النور والخلاص قد حلاّ في بيت قلبكَ. الذين خلف البوّابة يتهامسون لأنّني افتديتُكَ بجلوسي إلى وليمتكَ، ينسون أنّكَ مثلهم ابن لإبراهيم، وأنّني إنّما جئت لأخلّص مِن تاه، ولأمنح الحياة لِمَن كان روحه قد مات. تعال يا زكّا. لقد أدركتَ كَلِمَتي أفضل مِن كثيرين من الذين يتبعونني فقط ليستطيعوا أن يتّهموني. كذلك ستكون معي مِن الآن فصاعداً.»
هكذا تنتهي الرؤيا.