ج7 - ف214

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السابع / القسم الثاني

 

214- (أثناء العودة إلى أورشليم)

 

24 / 10 / 1946

 

الهواء الرطب والبارد يمشط أشجار الروابي ويدفع في السماء كتل سُحُب رماديّة. الجميع متدثّرون بمعاطفهم الثقيلة، يسوع مع الاثني عشر واستفانوس ينحدرون مِن جبعون عبر الدرب المؤدّي إلى السهل. يتحادثون فيما بينهم، بينما يسوع، الغارق في صمته، هو بعيد عمّا يدور حوله. ويبقى هكذا إلى أن، وقد وصلوا إلى تقاطع في منتصف المنحدر، بل الذي يكاد يكون في أسفل الرابية، يقول: «فلنتجّه مِن هذه الجهة ولنمضِ إلى نوبة.»

 

«كيف؟ ألا تعود إلى أورشليم؟» يقول الاسخريوطيّ.

 

«نوبة وأورشليم، هما تقريباً سيّان، لِمَن تَعوّد أن يمشي كثيراً. ولكنّني أُفضّل أن أكون في نوبة. أيزعجكَ هذا؟»

 

«آه! يا معلّم! بالنسبة لي، هنا أو هناك... ما لا يعجبني هو أنّكَ، في المكان المحبّب إليكَ كثيراً، تكون موجوداً قليلاً جدّاً.  لقد تكلّمتَ أكثر في بيت حورون [بيت عور] الّتي لم تكن بالتأكيد صديقة لكَ. يبدو لي أنّه كان عليكَ فِعل العكس. العمل على جذب المدن الّتي تشعر أنّها المحبّبة إليكَ أكثر دائماً، وتجعل منها... مواقع دفاع ضدّ المدن الّتي يسيطر عليها الّذين يكنّون لكَ العداء. هل تعلم أيّة أهمّيّة أن تكون إلى جانبكَ المدن المجاورة لأورشليم؟ في النهاية، أورشليم ليست كلّ شيء. حتّى باقي الأمكنة يمكنها أن تكون مهمّة، وبأهمّيّتها تضغط على إرادات أورشليم. فالملوك، عادة، يُعلَن عنهم في المدن الأكثر وفاء، والمدن الأخرى تذعن بعد الإعلان...»

 

«عندما لا تثور، وحينئذ تكون صراعات بين إخوة. لا أظنّ أنّ ماسيا يريد بدء مُلكه بحرب داخليّة.» يقول فليبّس.

 

«أريد شيئاً واحداً فقط: أن يبدأ فيكم برؤيةٍ صحيحةٍ للأمور. ولكنّكم لا تملكون بعد هذه الرؤية. متى إذاً ستدركون؟»

 

وإذ أدرك أنّ ما سيأتي سيكون ملامة، يَسأَل الإسخريوطيّ مِن جديد: «لماذا إذاً، هنا في جبعون، تكلّمتَ قليلاً جدّاً؟»

 

«فضّلتُ الإنصات والاستراحة. ألا تدركون أنتم أنّني أنا كذلك أحتاج إلى الراحة؟»

 

«كان بإمكاننا أن نتوقّف هناك ونرضيهم. إذا ما كنتَ متعباً للغاية، لماذا عاودتَ المسير؟» يقول برتلماوس حزيناً.

 

«ليست أعضائي هي المتعبة. لستُ في حاجة للتوقّف لإراحتها. قلبي هو المتعب، هو الّذي يحتاج إلى الراحة. وأنا أرتاح حيث أجد المحبّة. هل مِن الممكن أن تظنّوا أنّني لا أحسّ بهكذا حقد كثير؟ أنّ الرفض لا يحزنني؟ أتظنّون أنّ المؤامرات ضدّي تتركني بغير إحساس؟ أنّ خيانات الّذي يتظاهر بالصداقة، وهو جاسوس لأعدائي مزروع إلى جانبي لكي...»

 

«لا يكن هذا أبداً يا ربّ! ولا ينبغي لكَ حتّى أن تفترضه. بكلامكَ هكذا، أنتَ تهيننا!» يحتجّ الإسخريوطيّ باستنكار حزين يتجاوز الّذي لكلّ الآخرين، رغم أنّ الجميع يحتجّون قائلين: «يا معلّم، أنتَ تحزننا بهذا الكلام، تشكّ بنا!» ويعقوب بن زَبْدي يهتف بنزق: «أنا، أحيّيكَ يا معلّم، وأعود إلى كفرناحوم. بقلب منكسر. إنّما أمضي. وإذا كانت كفرناحوم غير كافية، أمضي مع صيّادي صور وصيدا، أذهب إلى سينتيوم، أذهب لستُ أدري إلى أين، ولكن إلى البعيد جدّاً بحيث يكون مِن المستحيل أن تفكّر أن أخونكَ أنا. أعطني بركة تكون زاداً للسفر!»

 

يعانقه يسوع قائلاً: «سلاماً، يا رسولي. كثيرون جدّاً هم الّذين يدّعون أنّهم أصدقائي، فأنتم لستم أصدقائي الوحيدين. كلامي يحزنكَ، يحزنكم. إنّما في أيّة قلوب عليَّ أن أُفرغ همومي والبحث عن عزاء إن لم يكن في قلوب رُسُلي المحبوبين وتلاميذي الموثوقين؟ أبحث فيكم عن جزء مِن الاتّحاد الّذي غادرتُه كي أوحّد الناس: الاتّحاد بأبي الّذي في السماء؛ وعن نقطة مِن المحبّة الّذي غادرتُها مِن أجل محبّة الناس: محبّة أُمّي. أبحث عنها لتدعمني.آه! الموجة المرّة، الثقل غير الإنسانيّ يجتاحان قلبي ويضغطان عليه، على ابن الإنسان!... إنّ آلامي، ساعتي، تبلغ ملأها على الدوام... ساعدوني على تحمّلها، على إتمامها... فهي شديدة الألم!»

 

ينظر الرُّسُل إلى بعضهم متأثّرين بالألم العميق الّذي يرتجّ في كلام المعلّم، ولا يعرفون عمل شيء سوى التراصّ حوله، ملاطفته ومعانقته... وتتزامنان قبلة يهوذا عن اليمين، وقبلة يوحنا عن اليسار، على وجه يسوع الّذي يغمض الأجفان لإخفاء عينيه أثناء تقبيله مِن قِبَل يهوذا الإسخريوطيّ ويوحنّا…

 

يعاودون المسير، ويمكن ليسوع أن يكمل فكرته الّتي قُطِعَت: «في الآلم الكثير، يفتّش قلبي عن أماكن يجد فيها المحبّة والراحة. حيث، بدل التحدّث إلى حجارة صمّاء وإلى حيّات ماكرة أو إلى فراشات طائشة، يمكنه أن ينصت إلى كلام قلوب أخرى ويتعزّى، إذ يشعر بها صادقة، مُـحِبّة، مستقيمة. جبعون هي إحدى تلك الأماكن. لم أكن قد أتيتُ إليها أبداً. ولكنّني وجدتُ فيها حقلاً قد فلحه وبذره عمّال لله ممتازون. رئيس المجمع ذاك! لقد أتى إلى النور، إنّما روحه كان بالفعل مستنيراً. كم يمكن لخادم صالح لله أن يعمل! فجبعون ليست بالتأكيد بمعزل عن دسائس الّذين يكرهونني. فحتّى هناك، سوف تجري محاولة التلميح والإفساد، ولكنّ فيها رئيس مجمع بارّ، وسموم الشرّ تفقد فيها سمّيّتها. أتظنّون أنّه يطيب لي أن أُصحّح دائماً، أن أنتقد، حتّى أن أختبر. فإنّه أمتع لي أن أقول: "لقد أدركتَ الحكمة. تقدّّم في طريقكَ وكُن قدّيساً". كما قلتُ لرئيس معبد جبعون.»

 

«إذاً هل سنعود إليها؟»

 

«عندما يجعلني الآب أجد مكاناً فيه سلام، أفرح به وأبارك أبي، ولكن ليس لأجل هذا أتيتُ. لقد أتيتُ لأهدي إلى الربّ المواضع الآثمة والبعيدة عنه. أنتم ترون أنّني أستطيع المكوث في بيت عنيا ولا أمكث فيها.»

 

«هو كذلك لعدم الإساءة للعازر.»

 

«لا يا يهوذا بن سمعان. فحتّى الحجارة تعلم أنّ لعازر هو صديق لي. لذلك، وفي هذا الصدد، ستكون بلا فائدة فرملة رغبتي بالعزاء. إنّما مِن أجل...»

 

«بسبب أختيّ لعازر، مريم بشكل خاص.»

 

«ولا هذا يا يهوذا بن سمعان. فحتّى الحجارة تعرف أنّ فسق الجسد لا يعكّرني. لاحِظ أنّ بين الاتّهامات الكثيرة الّتي ألصقوها بي، كانت هذه هي الأولى، ذلك أنّ حتّى أعدائي الأكثر ضراوة فهموا أنّ إثارتها كان ينزع قناع عادتهم بالكذب. فما كان أحد مِن الناس الشرفاء ليعتقد أنّني كنتُ شهوانيّاً. فالشهوانيّة لا يمكنها أن تجذب سوى الّذين لا يتغذون بما هو فائق الطبيعة، والّذين يمقتون التضحية. أمّا مَن كان مكرّساً للتضحية، مَن كان ضحيّة، ما الجذب الّذي تريد أن تمتلكه متعة ساعة؟ مسرّة النفوس الضحايا تكون بشكل كامل في الروح، وإذا ما اكتست جسداً، فلا يكون سوى ثوب. هل تفكّر أنّ الثياب الّتي نلبسها فيها مشاعر؟ الأمر هو تماماً هكذا بالنسبة إلى جسد الّذين يحيون بالروح: هو ثوب، ليس أكثر. الإنسان الروحي هو فائق البشر الحقيقيّ، لأنّه لم يعد عبداً للشهوة، بينما الإنسان المادّيّ لا قيمة له نسبةً إلى الكرامة الحقيقيّة للإنسان، ذلك أنّ لديه شهوات كثيرة مشتركة مع البهيمة، وتكون حتّى أدنى إذ تتجاوزها، بجعل الغريزة الطبيعيّة للحيوان رذيلة مُشينة

 

يهوذا المرتبك، يعضّ شفتيه ثمّ يقول: «نعم. وثمّ، فيما عدا ذلك، لم يعد بإمكانكَ الإساءة للعازر. فقريباً سيجذبه الموت مِن أيّ خطر انتقام... وإذاً لماذا لا تذهب إلى بيت عنيا في أغلب الأحيان؟»

 

«لأنّني لم آتِ للمسرّة، إنّما للهداية. لقد قلتُ لكَ هذا سابقاً.»

 

«ومع ذلك... أنتَ تسرّ لكون أخويكَ معكَ؟»

 

«نعم. إنّما صحيح كذلك أنّ لا أفضليّة لهما عندي. عندما نضطرّ للافتراق لإيجاد مكان في البيوت، فعادة هما لا يمكثان معي، بل أنتم مَن تمكثون. وذلك يُظهِر لكم أنّ في عينيّ وفي روح المكرّس للفداء، اللحم والدم لا قيمة لهما، إنّما الشيء الوحيد الّذي له قيمة، هو تكوين القلوب وفداؤها. الآن سنذهب إلى نوبة وسوف نفترق مجدّداً للنوم، وسأحتفظ بكَ أيضاً معي وأحتفظ بمتّى، فليبّس وبرتلماوس.»

 

«قد نكون الأقل تنشئة؟ أنا، بشكل خاصّ، الّذي تحتفظ بي دائماً إلى جانبكَ؟»

 

«أنتَ قلتَها يا يهوذا بن سمعان.»

 

«شكراً يا معلّم. لقد كنتُ قد أدركتُها.» يقول الإسخريوطيّ بغيظ مكبوت.

 

«وإن كنتَ قد أدركتَ ذلك، فلماذا لا تجتهد في تنشئة نفسكَ؟ هل تظنّني أستطيع الكذب مِن أجل عدم إيلامكَ؟ ومِن ناحية أخرى، نحن ما بين إخوة، ولا ينبغي أن تكون أخطاء الواحد سبباً للسخرية، كما ينبغي ألاّ تكون التنبيهات سبباً للوهن، وإن تكن مُعطاة بحضور الآخرين، الّذين بالمقابل يعرفون نقاط ضعف كلّ مِن الإخوة. ما مِن أحد كامل، أنا أقول لكم هذا. إنّما حتّى نقائص كلّ واحد، مهما يكن العناء في رؤيتها وتحمّلها، فينبغي أن تكون سبباً لتحسين الذات كي لا تتفاقم متاعبهم. وصدّقني يا يهوذا، حتّى لو أنّني أراكَ على ما أنتَ عليه، فلا أحد، حتّى ولا أُمّك، يحبّكَ كما أحبّكَ أنا ويعمل جاهداً في جعلكَ صالحاً مثل يسوعكَ.»

 

«ولكن، في هذه الأثناء، تُوجّه لي الملامات وتذلّني، حتّى بحضور أحد التلاميذ.»

 

«أهي المرّة الأولى الّتي أُذكّركَ فيها بالبِرّ؟» يصمت يهوذا.

 

«أجب، أقول لكَ!» يقول يسوع آمراً.

 

«لا.»

 

«وكم مِن مرّة فعلتُها بشكل عمومي؟ هل تستطيع القول بأنّني أخزيتُكَ؟ أو بالأحرى عليكَ القول بأنّني غطّيتُكَ ودافعتُ عنكَ؟ تكلّم!»

 

«لقد دافعتَ عنّي، صحيح. إنّما الآن...»

 

«إنّما الآن فهو مِن أجل خيركَ. مَن يلاطف ابناً مذنباً، يقول الـمَثَل، عليه فيما بعد أن يضمّد الجراح. ومَثَل آخر يقول أيضاً إنّ حصاناً غير مُروّض يصبح شَكِساً، وابناً متروكاً لنفسه يصبح مَهلَكة.»

 

«ولكن هل يمكن أن أكون ابنكَ؟» يَسأَل يهوذا بينما وجهه يُلطّف غيظه إلى ندامة.

 

«لو أنّني كنتُ أنجبتُكَ لم يكن بإمكانكَ أن تكون أكثر مِن ذلك، ولكنتُ انتزعتُ أحشائي لأعطيكَ قلبي لأجعلكَ كما أريدكَ...»

 

يهوذا في واحدة مِن تقلّباته... وصادقاً، صادقاً بحقّ، يرتمي بين ذراعيّ يسوع هاتفاً: «آه! أنا لا أستحقّكَ! أنا شيطان ولا أستحقّكَ! أنتَ طيّب جدّاً! خلّصني يا يسوع!» ويبكي، يبكي حقيقة بدموع جيّاشة لقلب مضطرب مِن أشياء غير صالحة، وتعارضها مع تأنيب الضمير لتسبّبه في إحزان مَن يحبّه.