ج7 - ف231

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السابع / القسم الثاني

 

231- (يسوع في معبد المُعتَقين الرومان)

 

26 / 11 / 1946

 

معبد الرومان هو مقابل الهيكل بالضبط، قرب مضمار الفروسيّة. هناك أناس ينتظرون يسوع. وحين لاح في بداية الطريق، تأتي نسوةً لملاقاته أوّلاً. يسوع برفقة بطرس وتدّاوس.

 

«تحيّةً يا معلّم. إنّني ممتنّة لكَ لاستجابتي. هل دخلتَ المدينة للتوّ؟»

 

«لا. إنّني فيها منذ الساعة الأولى. لقد كنتُ في الهيكل.»

 

«في الهيكل؟ ألم يهينوكَ؟»

 

«لا. الوقت كان مبكّراً وكانوا يجهلون مجيئي.»

 

«قد أرسلتُ في طلبكَ لأجل هذا… وأيضاً لأنّ هنا وثنيّين يودّون سماعكَ تتكلّم. قد كانوا لأيّام عدّة يذهبون إلى الهيكل لانتظاركَ. لكنّهم تعرّضوا للسخرية، وحتّى للتهديد. أمس كنتُ هناك أنا أيضاً وفهمتُ بأنّهم ينتظرونكَ كي يهينوكَ. فأرسلتُ رجالاً إلى كلّ الأبواب. بالذهب يتمّ الحصول على كلّ شيء.

 

«أنا ممتنّ لكِ. إنّما أنا، رابّي إسرائيل، لا يمكنني ألّا أصعد إلى الهيكل. مَن هنّ هؤلاء النسوة؟»

 

«مُعتَقَتي توسنيلدا. بربريّة مرّتين يا سيّد. إنّها مِن غابات تويتبرغ. فريسة لتلك الزحوف المتهوّرة الّتي كلّفت الكثير مِن الدماء. لقد أهداها أبي لأُمّي، وهي أعطتني إيّاها، بمناسبة عرسي. مِن آلهتها إلى آلهتنا، ومِن آلهتنا إليكَ، لأنّها تفعل ما أفعل. إنّها بغاية الطيبة. النسوة الأخريات هنّ زوجات وثنيّين ينتظرنكَ. إنّهنّ مِن كلّ المناطق. معظمهنّ مريضات. لقد أتين بسفن أزواجهنّ.»

 

«لندخل إلى المعبد...»

 

رئيس المعبد، الواقف عند العتبة، ينحني ويقدّم نفسه: «متاتياس سيكولو يا معلّم. لكَ التسبيح والبركة.»

 

«السلام لكَ.»

 

«أُدخل. سأغلق الباب كي نبقى مطمئنّين. فالكراهية تبلغ حدّ أنّ الآجرّ [القرميد] له عيون، والحجارة لها آذان لمراقبتكَ والوشاية بكَ، يا معلّم. ربّما هم أفضل أولئك الّذين، طالما لا نمسّ مصالحهم، يَدَعوننا نتصرّف.» يقول رئيس المعبد المسنّ فيما يسير إلى جانب يسوع كي يقوده، إلى ما بعد باحة صغيرة، إلى قاعة واسعة هي المعبد.

 

«لنقم أوّلاً بشفاء المرضى يا متاتياس. فإيمانهم يستحقّ المكافأة.» يقول يسوع. وينتقل مِن امرأة إلى أخرى واضعاً يديه.

 

بعضهنّ بصحة جيّدة، إنّما صغيرهنّ الّذي بين أذرعهنّ هو الّذي يعاني، ويسوع يشفي الصغير. هناك فتاة صغيرة مشلولة تماماً، إذ قد شفيت، تصيح: «سيتارة تقبّل يديكَ يا سيّد!»

 

يسوع، الّذي كان قد عَبَرَ مِن أمامها، يلتفت باسماً ويَسأَل: «هل أنتِ سوريّة؟»

 

الأُمّ تشرح: «فينيقيّة يا سيّد. ممّا وراء صيدون. إنّنا على ضفاف نهر الدامور. ولي عشرة أبناء آخرون وابنتان أخريان، واحدة تدعى سِيْرا والأخرى تاميرا. سِيْرا أرملة هي، رغم أنّها أكبر بقليل مِن طفلة، وإذ أصبحت حرّة، فقد استقرّت قرب أخيها، هنا في المدينة، وهي إحدى المؤمنات بكَ. هي الّتي قالت لنا أنّكَ قادر على كلّ شيء.»

 

«أليست معكِ؟»

 

«نعم يا سيّد. هي هناك. خلف أولئك النسوة.»

 

«تقدّمي.» يأمر يسوع.

 

المرأة تتقدّم وهي مرتعدة.

 

«يجب ألّا تخافي منّي إن كنتِ تحبّينني.» يقول يسوع مشدّداً عزمها.

 

«إنّني أحبّكَ. لهذا غادرتُ الإسكندروسين. لأنّني كنتُ أظنّني أسمعك بعد و… أتعلّم أن أتقبّل ألمي...» تبكي.

 

«متى غدوتِ أرملة؟»

 

«في نهاية آذاركم... لو أنتَ كنتَ هناك، لما مات زينو. هو كان يقول ذلك… لأنّه كان قد سمعكَ وكان يؤمن بكَ.»

 

«فإذن هو لم يمت يا امرأة. لأنّ مَن يؤمن بي يحيَ. إنّ الحياة الحقّة ليست هي هذا اليوم الّذي يحيا فيه الجسد. بل الحياة هي تلك الّتي ننالها بإيماننا واتّباعنا الطريق، الحقّ، الحياة، والتصرّف وفقاً لكلمتها. فحتّى لو كان الإيمان والاتّباع لوقت قصير، والعمل لوقت قصير، وسرعان ما انقطع بموت الجسد، وحتّى لو كان ليوم واحد، فقط لساعة واحدة، فالحقّ أقول لكِ أنّ ذاك المخلوق لن يعود يعرف الموت. بالفعل فإنّ أبي الّذي هو أبو كلّ البشر لن يحسب الزمن المقضيّ في شريعتي وإيماني، إنّما إرادة الإنسان بأن يحيا حتّى مماته في تلك الشريعة وذاك الإيمان. إنّني أَعِد بالحياة الأبديّة مَن يؤمن بي ويعمل بما أقول، بأن يحبّ المخلّص، بأن ينشر هذه المحبّة، بممارسته لتعاليمي خلال الوقت الممنوح له. إنّ عمّال كَرْمي هم كلّ أولئك الّذين يأتون ويقولون: "يا ربّ، اقبلني بين عمّالك". ويلبثون في تلك الإرادة إلى أن يحكم أبي بنهاية نهارهم. الحقّ، الحقّ أقول لكم أنّه سيكون هناك عمّال قد عملوا لساعة واحدة فقط، ساعتهم الأخيرة، وسينالون مكافأة بأسرع مِن أولئك الّذين كانوا قد عملوا منذ الساعة الأولى، إنّما دائماً بفتور، مدفوعين إلى العمل فقط بفكرة عدم استحقاق الجحيم، أي بالخوف مِن العقاب. ليست هذه طريقة العمل الّتي يكافئ عليها أبي بمجد فوريّ. لا بل لأولئك الحَاسِبين الأنانيّين، الّذين لديهم هاجس فِعل الخير، وفقط القليل مِن الخير، اللازم كي لا يسبّبوا لأنفسهم عقاباً أبديّاً، سيعطي الديّان الأزليّ تكفيراً طويلاً. سيكون عليهم أن يتعلّموا على حسابهم، بتكفير طويل، منح ذواتهم روحاً نشطاً في المحبّة، وفي محبّة حقّة، موجّهة كلّيّاً لمجد الله. وأقول لكم أيضاً أنّ كُثُراً في المستقبل، خصوصاً مِن بين الوثنيّين، مَن سيكونون عمّال ساعة واحدة، وحتّى أقلّ مِن ساعة، ويصبحون ممجّدين في ملكوتي، لأنّهم في تلك الساعة الوحيدة مِن التجاوب مع النعمة الّتي قد دعتهم للدخول إلى كَرْم الربّ، سيكونون قد بلغوا الكمال البطوليّ للمحبّة. فتشجّعي إذن يا امرأة. إنّ زوجكِ لم يمت، بل يحيا. إنّه لم يُفقَد بالنسبة إليكِ، بل هو فقط منفصل عنكِ لبعض الوقت. والآن أنتِ، كما عروس لم تدخل بعد إلى منزل العريس، عليكِ أن تتجهّزي للعرس الخالد الحقّ مع مَن تبكينه. آه! يا للعرس السعيد لروحين تقدّسا ويجتمعان مجدّداً إلى الأبد هناك حيث لم يعد مِن انفصال، ولا خوف مِن انعدام المحبّة، ولا مِن ألم، هناك حيث تغتبط الأرواح في محبّة الله ومحبّة بعضها البعض! إنّ الموت للأبرار هو الحياة الحقيقيّة، حيث لا شيء يمكنه أن يهدّد حيويّة الروح، أي ديمومتها في البرّ. لا تبكي ولا تتأسّفي على ما هو زائل أيا سِيْرا. ارفعي روحكِ وأبصري بعدل وحقّ. إنّ الله قد أحبّكِ بتخليص قرينكِ مِن خطر أن تهدم أفعال العالم إيمانه بي.»

 

«لقد عزّيتَني أيا سيّدي. سوف أعيش كما تقول. لتكن مباركاً، ومعكَ أبوكَ، إلى الأبد.»

 

رئيس المعبد، فيما يسوع يهمّ بالعبور مِن أمامه، يقول: «أيمكنني أن أتقدّم لكَ باعتراض، مِن دون أن يبدو كإساءة لكَ؟»

 

«تكلّم. إنّني هنا المعلّم كي أمنح الحكمة لِمَن يسألونني.»

 

«لقد قلتَ إنّ البعض سوف يغدون ممجّدين في السماء على الفور. أليست السماء مغلقةً؟ أليس الأبرار هم في اليمبوس في انتظار دخولها؟»

 

«الأمر هو كذلك. السماء مغلقة. ولن يفتحها إلّا الفادي. لكنّ ساعته قد حانت. الحقّ أقول لكَ إنّ نهار الفداء قد بزغ فجره في الشرق وقريباً يصبح في وضحه. الحقّ أقول لكَ أنه لن يحلّ عيد بعد هذا، قبل ذاك اليوم. الحقّ أقول لكَ أنّني قد شرعت بدفع الأبواب، إذ أضحيتُ على قِمّة جبل تضحيتي… فتضحيتي باتت تضغط على أبواب السماء، لأنّها باشرت العمل. وعندما تتمّ، تذكّر ذلك أيّها الرجل، فإنّ الحُجُب المقدّسة والأبواب السماويّة سوف تفتح. ذلك أنّ يهوه لن يعود بعد حاضراً بمجده في قدس الأقداس، وسيكون بلا جدوى وضع حجاب بين ما لا يُعرَف والفانين، والبشريّة الّتي سبقتنا والّتي كانت بارّة، ستعود إلى حيث كان مُقدّراً لها، والبِكْر على رأسها، الكامل بالجسد والروح، ومعه إخوته في ثوب النور الّذي يكون لهم حتّى اللحظة الّتي ستدعى فيها أجسادهم أيضاً للغبطة.»

 

يسوع يتّخذ النبرة الترنيميّة، بالضبط كما حين رئيس معبد أو رابّي يردّد كلام الكتاب المقدّس أو المزامير، ويقول: «وهو قال لي: "تنبّأ على هذه العظام وقل لها: 'أيّتها العظام اليابسة، اسمعي كلام الربّ… ها أنا ذا! أُدخِل فيكم روحاً فتحيون. وأضع عليكم عَصَباً وأَكسوكم لحماً وأبسط عليكم جِلداً وأجعل فيكم روحاً، فتحيون وتعلمون أنّي أنا الربّ… ها أنا ذا! إنّني أفتح قبوركم… أُخرجكم منها… وعندما أجعل روحي فيكم سوف تحيون، وسأجعلكم ترتاحون على الأرض الّتي هي أرضكم.' [حزقيال 37 - 4]

 

يستعيد طريقة كلامه المعتادة، ويخفض ذراعيه اللتين كان قد بسطهما إلى الأمام، ويقول: «اثنتان هما هاتان القيامتان لما هو يابس ومائت إلى الحياة. اثنتان يعكسهما كلام النبيّ. الأولى هي القيامة إلى الحياة وفي الحياة، أي في النعمة الّتي هي حياة، لأولئك الّذين يقبلون كلمة الربّ، الروح المولود مِن الآب، الّذي هو الله كما الآب الّذي هو ابنه، والّذي يُدعى الكلمة، الكلمة الّذي هو حياة ويعطي الحياة. تلك الحياة الّتي يحتاجها الجميع، والّتي يفتقر إليها إسرائيل كما الوثنيّون. فإذا ما كان كافياً لإسرائيل حتّى الآن، كي ينال الحياة الأبديّة، أن يرجو وينتظر الحياة الآتية مِن السماء، فعلى إسرائيل مِن الآن فصاعداً أن يقبل الحياة كي يحظى بالحياة. الحقّ أقول لكم إنّ أولئك الّذين هم مِن شعبي ولا يقبلونني، أنا-الحياة، لن ينالوا الحياة، وسيكون مجيئي بالنسبة لهم سبب موت، لأنّهم سيكونون قد رفضوا الحياة الّتي كانت قد أتت إليهم لتتواصل معهم. لقد حانت الساعة حيث إسرائيل سينقسم بين مَن يحيون ومَن هم أموات. هي ساعة الاختيار، الحياة أو الموت. إنّ الكلمة قد تكلّم، أظهر أصله وقدرته، شفى، عَلَّمَ، أقام مِن الموت، وقريباً سيكون قد أتمّ رسالته. لم يعد هناك عذر لِمَن لا يأتون إلى الحياة. الربّ يعبر. وما أن يعبر، فلن يعود. إنّه لم يعد إلى مصر كي يمنح ثانيةً الحياة لأبكار أولئك الّذين احتقروه واضطهدوه في أبنائه. ولن يعود هذه المرّة كذلك، بعد أن تكون تضحية الحَمَل قد قرّرت المصائر. والّذين لا يقبلونني قبل العبور، والّذين يكرهونني وسوف يكرهونني، لن يحظوا بدمي على أرواحهم لتقديسها، ولن يحيوا، ولن يحظوا بإلههم معهم لبقيّة رحلتهم على الأرض. فَمِن دون الـمَنّ الإلهي، مِن دون السحابة الحامية والمنيرة، مِن دون الماء الآتي مِن السماء، محرومين مِن الله، سوف يمضون تائهين عبر الصحراء الشاسعة الّتي هي الأرض، فكلّ الأرض، كلّها صحراء إذا كان مَن يجوبها يفتقر للاتّحاد بالسماء، جِوار الأب والصديق: الله. وهناك قيامة ثانية، تلك الشاملة، حيث العظام المكلّسة والمبعثرة منذ قرون، تعود غضّة ومكسوّة بالأعصاب، باللحم والجلد. وستكون الدينونة. وجسد ودم الأبرار سوف يهلّلان مع الروح في الملكوت الأبديّ، وجسد ودم المدانين سوف يتألّمان مع الروح في العقاب الأبديّ. إنّني أحبّكَ أيا إسرائيل، أحبّكِ أيّتها الوثنيّة، أحبّكِ أيّتها البشريّة! ولأجل هذه المحبّة أدعوكم إلى الحياة وإلى القيامة السعيدة.»

 

المجتمعون في القاعة الواسعة يبدون كمفتونين. لا فرق بين اندهاش العبرانيّين واندهاش الآخرين الّذين هم مِن أمكنة أخرى وديانات أخرى. لا بل أقول إنّ اندهاش الغرباء يَظهَر مُفعَماً وقاراً بالأكثر.

 

أحدهم، هو عجوز جليل للغاية، يتمتم همساً.

 

«ماذا قلتَ يا رجل؟» يَسأَل يسوع ملتفتاً.

 

«لقد قلتُ أنّ… كنتُ أردّد الكلام الّذي سمعتُه في شبابي مِن معلّمي: "لقد مُنِح الإنسان أن يسمو عبر الفضيلة إلى كمال إلهيّ. ففي المخلوق ظلّ الخالق، الّذي يتكشّف أكثر كلّما يرتقي الإنسان بنفسه في الفضيلة أكثر، مُستَنفِذاً المادّة في نار الفضيلة. وممنوح للإنسان معرفة الكائن الّذي، أقلّه لمرّة واحدة في حياته، يظهر بعاطفة صارمة أو أبويّة للمخلوق كيما يتمكّن مِن القول: ’يجب أن أكون صالحاً. فأنا بائس إن لم أكن كذلك! لأنّ قدرة هائلةً قد ومضت أمامي كي تجعلني أدرك أنّ الفضيلة هي واجب، وهي علامة على طبيعة الإنسان النبيلة‘. سوف تجدون وميض الألوهيّة هذا تارّةً في جمال الطبيعة، وتارّة في كلام شخص محتضر، أو حتّى في نظرة شخص بائس ينظر إليكم ويحكم، أو في صمت الشخص المحبوب الّذي بصمته يلوم إحدى تصرّفاتكم المخزية، سوف تجدونه في خوف طفل مِن إحدى تصرّفاتكم العنيفة، أو في صمت الليالي عندما تكونون منفردين بأنفسكم، وفي الغرفة الأكثر انغلاقاً وانعزالاً، ستشعرون بأنا أخرى، أكثر قُدرة مِن أناكم، حيث تكلّمكم بغير صوت. وهذا سيكون الله، هذا الله الّذي يجب أن يكون، هذا الله الّذي تعبده الخليقة ربّما حتّى دون أن تدرك ذلك، هذا الله، الّذي هو الوحيد، الّذي يرضي بحقّ مشاعر الفاضلين، الّذين لا يشعرون بالرضا والعزاء بطقوسنا وعقائدنا، ولا أمام المذابح الفارغة، الفارغة تماماً، على الرغم مِن أنّ تمثالاً يعلوها". إنّني أعرف جيّداً هذا الكلام، لأنّني أردّده على مدى عقود عديدة كأنّه شريعة لي ورجاء. لقد عشتُ، عملتُ، وأيضاً تألّمتُ وبكيتُ. إنّما احتملتُ كلّ شيء، وأرجو بفضيلة، آملاً أن ألقى قبل الموت هذا الله الّذي كان قد وعدني هرموجنّيس بأنّني لسوف أعرفه. والآن كنتُ أقول بأنّني حقّاً قد رأيتُه. ولم يكن كوميض، ولا بصوت عديم الصوت قد سمعتُ كلامه. إنّما بهيئة بشريّة صافية وجميلة قد ظهر لي الإلهيّ، وقد سمعتُه وأنا ممتلئ اندهاشاً مقدّساً. إنّ النَّفْس، هذا الشيء الّذي يقرّ به البشر الحقيقيّون، نفسي، تستقبلكَ أيا أيّها الكمال، وتقول لكَ: "علّمني طريقكَ وحياتكَ وحقّكَ، كيما ذات يوم، أنا الإنسان الوحيد، أعود وأجتمع معكَ، أيّها الجمال الأسمى".»

 

«سوف نجتمع ثانية. وأقول لكَ أيضاً بأنّكَ، لاحقاً، سوف تجتمع مع هرموجنّيس.»

 

«لكنّه مات دون أن يعرفكَ!»

 

«ليست المعرفة المادّية هي الوحيدة اللازمة لامتلاكي. فالإنسان الّذي يتوصّل بفضيلته إلى الشعور بالله المجهول، وأن يحيا فاضلاً إجلالاً لهذا الله المجهول، يمكن بحقّ القول أنّه عرف الله، لأنّ الله قد كشف له عن ذاته، مكافأة له على حياته الفاضلة. الويل لو كان لزاماً معرفتي شخصيّاً! فقريباً لن يعود أحد قادراً على الالتقاء بي. بالفعل، أنا مَن أقول لكم، قريباً سيترك الحيّ مملكة الأموات كي يعود إلى ملكوت الحياة، ولن يكون لدى البشر سبيل آخر لمعرفتي إلّا بالإيمان والروح. إنّما معرفتي، بدلاً مِن أن تتوقّف، سوف تنتشر، وبكمال، لأنّها ستكون مجرّدة مِن كلّ ما هو ثقل الحواس. الله سيتكلّم، الله سيعمل، الله يحيا، الله سيكشف عن نفسه لنفوس المؤمنين به بطبيعته غير الـمُدرَكة والكاملة. والبشر سوف يحبّون الله-الإنسان. والله-الإنسان سوف يحبّ البشر بسبل جديدة، بوسائط فائقة الوصف ستكون محبّته اللامتناهية قد تركتها على الأرض قبل أن تعود إلى الآب بعد أن تُتمّ كلّ شيء.»

 

«آه! يا ربّ! يا ربّ! قل لنا إذن كيف يمكننا أن إيجادكَ، ومعرفة بأنّكَ أنتَ هو مَن يكلّمنا وأين أنتَ، حين تكون قد رحلت!» يصيح كُثُر. والبعض يضيفون: «إنّنا وثنيّون ولا نعرف شريعتكَ. لا وقت لدينا للبقاء هنا واتّباعكَ. كيف العمل كي نمتلك الفضيلة الّتي تجعلنا مستحقّين لمعرفة الله؟»

 

يسوع يبتسم بجمال مشرق في فَرَح مكاسبه هذه وسط الوثنيّين، ويشرح بتؤدة: «لا تشغلوا بالكم بمعرفة الكثير مِن الشرائع. هؤلاء سيأتون (ويضع يديه على كتفيّ بطرس وتدّاوس) ليحملوا شريعتي إلى العالم. إنّما إلى حين يأتون، لتكن لكم بمثابة شريعة العبارات القليلة التالية، الّتي تلخّص كلّ شريعتي الخلاصيّة.

 

أَحِبّوا الله مِن كلّ قلبكم. أَحبّوا السلطات، الأهل، الأصدقاء، الخدّام، الناس، وحتّى الأعداء، كما تحبّون أنفسكم. وكي تكونوا متأكّدين مِن أنّكم لا ترتكبون خطيئة، فقبل القيام بأيّ تصرّف، سواء أُمِرتم به أو كان تلقائيّاً، اسألوا أنفسكم: "هل سأحبّ أن يفعل معي الغير ما أنا مزمع أن أفعله معه؟". وإذا شعرتم بأنّكم ما كنتم لتحبّوه، فلا تفعلوه.

 

بهذه الخطوط البسيطة يمكنكم أن ترسموا فيكم الدرب الّذي عبره سيأتي الله إليكم وأنتم ستذهبون إليه. فلا أحد يحبّ أن يكون له ابن جاحد، أن يقتله آخر، أن يسرقه آخر أو أن يسلبه زوجته أو أن يغوي أخته أو ابنته، أو أن يستولي على منزله، حقوله، أو خدّامه الأوفياء. بهذه القاعدة ستكونون أبناء صالحين وأهلاً صالحين، أزواجاً، إخوةً، تجّاراً، أصدقاء حقيقيّين صالحين. وهكذا سوف تكونون فاضلين، والله سوف يأتي إليكم.

 

ليس حولي عبرانيّون ومهتدون لا خبث فيهم فقط، أعني أنّهم لم يأتوا إليّ كي يضبطوني في الخطأ، كما يفعل أولئك الّذين طردوكم مِن الهيكل كي يمنعوكم مِن أن تأتوا إلى الحياة. بل كذلك وثنيّون مِن كلّ أنحاء العالم. أرى كريتيّين  وفينيقيّين مختلطين مع سكّان مِن بنطس وفريجية، وهنا كذلك شخص مِن الشواطئ الّتي تطلّ على البحر المجهول، هو السبيل إلى أراضٍ مجهولة حيث سأكون محبوباً هناك أيضاً. وأرى يونانيّين مع من هم مِن sicules (ما بين هنغاريا ورومانيا حاليّاً) وcyrenaique (ما يقابل ليبيا حاليّاً) مع أسيويّين. والحال هذه أقول لكم: اذهبوا! قولوا في بلدانكم أنّ النور هو في العالم وأن يأتوا إلى النور. قولوا أنّ الحكمة قد غادرت السماء لتستحيل خبزاً للبشر، ماءً للبشر الواهنين. قولوا أنّ الحياة قد أتت كي تشفي وتقيم ما هو مريض أو ميت. وقولوا… قولوا بأنّ الوقت يمضي سريعاً كالوميض الصيفيّ. ليأتِ مَن يتوق إلى الله. إنّ روحه سوف يتعرّف إلى الله. ليأتِ مَن يتوق للشفاء. فيدي، طالما هي حرّة، ستمنح الشفاء لِمَن يرجونه بإيمان.

 

قولوا… نعم! اذهبوا، واذهبوا سريعاً، وقولوا بأنّ المخلّص، في الفصح، في المدينة المقدّسة، ينتظر أولئك الّذين ينتظرون ويتوقون إلى معونة إلهيّة. قولوا ذلك لأولئك الّذين يحتاجونه، وأيضاً لأولئك الّذين هم فقط فضوليّون. فَمِن تحرّك فضوليّ عَكِر يمكن أن تنطلق بالنسبة لهم شرارة الإيمان بي، الإيمان الّذي يخلّص. اذهبوا! إنّ يسوع الناصريّ، مَلِك إسرائيل، مَلِك العالم، ينادي كي يجمع ممثّلي العالم ليمنحهم كنوز نِعَمِه، وكيما يحظى بهم شهوداً لارتفاعه، الّذي سيكرّس انتصاره، إلى دهر الدهور، كمَلِك الملوك وربّ الأرباب. اذهبوا! اذهبوا!

 

في فجر حياتي الأرضيّة، قد أتى، مِن أماكن مختلفة، ممثّلو شعبي كي يعبدوا الصغير الّذي كان يكمن فيه فائق الكِبر. إنّ إرادة إنسان، كان يعتقد بأنه ذو سلطان، إنّما كان خادماً لإرادة الله، قد أمرت بإجراء الإحصاء في الإمبراطوريّة. وإطاعةً لأمر مجهول ومحتّم مِن العليّ، فقد كان على هذا الوثنيّ أن يكون بشيراً لله الّذي كان يريد أن كلّ شعب إسرائيل، المنتشر في كلّ أرجاء الأرض، في أرض هذا الشعب، قرب بيت لحم أفراتة، أن يُذهَل بالعلامات الآتية مِن السماء عند أوّل صراخ لمولود. وإذ لم يكن ذلك كافياً بعد، فإنّ علامات أخرى قد تكلّمت إلى الوثنيّين، ومَن يمثّلونهم أتوا كي يعبدوا مَلِك الملوك، صغيراً، فقيراً، بعيداً عن تتويجه الأرضيّ، إنّما الّذي كان آنذاك، آه! الّذي كان آنذاك مَلِكاً في نظر الملائكة.

 

وقد حانت الساعة الّتي سأكون فيها مَلِكاً في نظر الشعوب قبل أن أعود مِن حيث أنا آتٍ.

 

وفي غروب نهاري الأرضيّ، في عشيّة حياتي الإنسانيّة، فإنّه مِن العدل أن يكون حاضراً هنا أناس مِن كلّ الشعوب ليروا مَن يجب أن يُعبد والّذي فيه تكمن كلّ الرحمة. ولينعم الأخيار، بواكير هذا الحصاد الجديد، بهذه الرحمة الّتي ستتفتّح كما سُحُب نيسان [أبريل]، لتملأ الأنهار بالمياه الشافية، القادرة على جعل الأشجار المزروعة على الضفاف تؤتي ثمارها، كما نقرأ في حزقيال.»

 

ويعاود يسوع شفاء المرضى والمريضات، ويسمع أسماءهم، لأنّ الجميع الآن يودّون البوح بأسمائهم: «أنا زيلّا... أنا زَبْدي... أنا غايل... أنا أندراوس… أنا تيوفانوس... أنا سيليما... أنا أولينتو... أنا فيلبّس. أنا إليسّا... أنا بيرينيس... إبنتي غايا... أرجينيدا... أنا… أنا… أنا...»

 

لقد انتهى. إنّه يودّ الرحيل. إنّما كُثُر هم الّذين يسألونه أن يبقى، كي يتكلّم بعد!

 

وأحدهم، ربّما هو أعور لأنّ لديه عين مغطّاة بضمادة، يقول، كي يستبقيه بعد: «يا سيّد، لقد ضربني أحدهم، وهو شخص حاسد لتجارتي الناجحة. قد أنقذتُ حياتي بصعوبة. لكنّني فقدتُ عيناً، لقد فقأها الضرب. الآن خصمي قد غدا فقيراً ومنبوذاً، وهرب إلى بلدة قرب كورنثوس. أنا مِن كورنثوس. ما الّذي عليَّ أن أفعله لذاك الّذي كاد أن يقتلني؟ فألّا أفعل للآخرين ما لا أحبّذ أن أتلقّاه، هو أمر حسن. لكنّني مِن ذاك سبق أن تلقيتُ… شرّاً، شرّاً كثيراً...» ووجهه معبّر بحيث يمكن قراءة فِكره غير المعلن: "ولذلك يجب أن آخذ بثأري منه…"

 

لكنّ يسوع ينظر إليه، ببريق ابتسامة في عينه ياقوتيّة الزرقة، نعم، إنّما بوقار معلّم يرتسم فوق كلّ وجهه، ويقول له: «وأنتَ، اليونانيّ، تسألني عن ذلك؟ أوَلم يقل عظماؤكم أنّ الفانين يغدون أشباه الله عندما يتجاوبون مع العطيّتين اللتين منحهم الله إيّاهما كي يجعلهم شبيهين به، واللتين هما: القدرة على أن يكونوا في الحقّ، وصنع الخير مع القريب؟»

 

«آه! نعم! فيثاغورس!»

 

«وألم يقولوا أنّ الإنسان يتقرّب مِن الله لا بالعلم أو القوّة أو غيرهما، وإنّما بفعل الخير؟»

 

«آه! نعم! ديموستينوس! لكن، عُذراً يا معلّم، إذا ما سألتُكَ… أنتَ لستَ سوى عبرانيّ، والعبرانيّون لا يحبّون فلاسفتنا… فكيف تعلم أنتَ هذا الأمور؟»

 

«يا رجل، لأنّني كنتُ الحكمة الـمُلهِمة في العقول الّتي عَبَّرت بتلك الأقوال. أنا حيث يكون الخير ناشطاً. أنتَ، اليونانيّ، أنصت إلى نصائح الحكماء، حيث أنا مَن يتكلّم أيضاً. افعل خيراً لِمَن فعل بكَ شرّاً، وسوف يدعوكَ الله قدّيساً. والآن دعوني أمضي. هناك آخرون ينتظرونني. وداعاً يا فاليريا. ولا تخشي عليَّ. لم تحن ساعتي بعد. وحين تأتي الساعة، فكلّ جيوش قيصر لن تكون قادرةً على إعاقة خصومي.»

 

«سلام يا معلّم. وصلِّ لأجلي.»

 

«ليمتلككِ السلام. وداعاً. السلام لكَ يا رئيس المعبد. السلام لِمَن يؤمنون ولمن يَـجنحون للسلام.»

 

وبحركة هي سلام وبركة يخرج مِن القاعة، يعبر الباحة ويخرج إلى الطريق...