ج10 - ف24

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء العاشر

 

24- (اختيار متّياس)

 

26 / 04 / 1947

 

إنّها أمسية ساكنة. النور يتلاشى بلطف، مُلوّناً السماء لفترة وجيزة بحجاب بنفسجيّ رقيق، قبل أن تستحيل أرجوانيّة. سوف تحلّ الظلمة قريباً، إنّما للآن لا يزال هناك نور، لطيف هو نور الأمسية الواهي هذا بعد الكثير مِن الشمس الحادّة.

 

باحة منزل العلّيّة، الفسيحة وسط جدران المنزل البيضاء، مكتظّة بالناس كما في أمسيات ما بعد القيامة. مِن هذا التجمّع تَصدر أصوات تَوافق صلوات، تقطعها بين حين وآخر وقفات تأمّل.

 

‏النور بدأ يخبو أكثر فأكثر في الباحة، المحاطة بأسوار المنزل العالية، والبعض يأتون بمصابيح ويضعونها على الطاولة، بالقرب مِن الرُّسُل المتجمّعين حولها: بطرس في الوسط، يعقوب بن حلفى ويوحنّا على جانبيه، ثمّ الآخرون. النور المتراقص للشعلات الصغيرة ينير وجوه ‏الرُّسُل مِن الأسفل، مُبرِزاً قَسَماتهم ومُظهِراً تعابيرهم: قسمات بطرس مركِّزة، كما لو أنّها مشدودة في جهد أداء أولى مهامّ منصبه بجدارة، تلك الّتي ليعقوب بن حلفى ذات وداعة نسكيّة، والّتي ليوحنّا صافية وحالمة، وإلى جانبه وجه المفكّر لبرتلماوس، يليه وجه توما المفعم بالحيويّة! ومِن ثمّ وجه أندراوس الّذي يحجبه تواضعه الّذي يبقيه مغمض العينين تقريباً، منحنياً قليلاً: يبدو كما لو أنّه يقول: "أنا لستُ أهلاً"، بالقرب منه متّى، الّذي يسند أحد مرفقيه على يد الذراع الأخرى، ويسند خدّه بيد ‏الذراع المستنِد، ومِن ثمّ يعقوب بن حلفى، تدّاوس بالوجه المهيمن والنظرة الّتي تُذكِّر كثيراً بعينَيّ يسوع، بلونهما وتعابيرهما: مهيمن حقيقيّ على الجموع. الآن كذلك يُبقي الاجتماع هادئاً، مبقياً إيّاه تحت تأثير اتّقاد نظرته، أكثر ممّا يفعله كلّ الآخرين مجتمعين. ومع ذلك، فمن خلال جلاله الملكيّ اللاإراديّ يُرى انبثاق شعور قلبه المفعم وقاراً، خصوصاً حين يأتي دوره ليُنشِد صلاة. وحين يتلو المزمور. «ليس لنا، يا ربّ، ليس لنا، لكن لاسمكَ أَعطِ مجداً، بسبب رحمتكَ وأمانتكَ، لئلّا تقول الأمم: "أين إلههم؟"» فهو يصلّي بحقّ ونفسه ساجدة أمام الّذي اختاره، والشعور الأقوى يرتعش في صوته. كذلك هو يقول بكلّ صلاته: «أنا لستُ أهلاً لخدمتكَ، أنتَ الكامل للغاية.» فيلبّس إلى جانبه، وجه حفرته السنون على الرغم مِن أنّه لا يزال في سنّ الرجولة، يبدو متأمّلاً مشهداً لا يعرفه سواه، يلبث ويداه تضغطان على خدّيه، منحنياً بعض الشيء وحزيناً قليلاً... فيما الغيور ينظر إلى أعلى، بعيداً، مع ابتسامة حميميّة تجعل أكثر وسامة وجهه غير الجميل إنَّما الّذي أصبح جذّاباً بفعل صرامته المتميّزة. يعقوب بن زَبْدي، المندفع والمرتعش، يتلو صلواته كما لو أنّه لا يزال يتكلّم مع المعلّم المحبوب، والمزمور الثاني عشر [إلى متى يا ربّ تنساني كلّ النسيان؟...] يخرج بحماس بفعل روحه المتّقد.

 

يختمون بالمزمور الثامن عشر بعد المائة [طوبى للكاملين طريقاً، السالكين في شريعة الرب...] الطويل والجميل جدّاً، بحيث يتلو كلّ منهم مقطعاً، مكرّرين الدور مرّتين لإنهاء مقاطع المزمور. بعد ذلك كلّهم يستغرقون في صمت إلى أن ينهض بطرس، الجالس، كما تحت نفحة مِن إلهام، وهو يصلّي بصوت مرتفع وذراعاه مبسوطتان كما اعتاد الربّ أن يفعل: «أَرسِل لنا روحكَ يا ربّ، لنتمكّن مِن الرؤية في نوره.»

 

«ماران أثا.» يقول الجميع.

 

بطرس يستغرق في صلاة مكثّفة وصامتة، ولكنّه قد يكون يُنصِت أكثر ممّا يصلّي، أو على الأقلّ إنّه ينتظر كلمات نورانيّة... بعد ذلك يرفع رأسه مجدّداً، وللمرّة الثانية يفلت ذراعيه اللتين كان قد شبكهما فوق صدره، وبما أنّه قصير القامة بالنسبة إلى الأغلبيّة، فإنّه يقف على كرسيّه ليُشرِف على الجمع الصغير الّذي احتشد في الباحة، ولكي يراه الجميع. والجميع، إذ أدركوا بأنّه سوف يتكلّم، يصمتون ناظرين إليه بانتباه.

 

«يا إخوتي، كان مِن المحتّم أن تتمّ الكتابة الّتي تنبّأ بها الروح القدس بفم داود في ما يتعلّق بيهوذا، الّذي كان مُرشِداً لأولئك الّذين قبضوا على ربّنا ومعلّمنا المبارك: يسوع. هو، يهوذا، كان واحداً منّا، وتمّ تكليفه بهذه الخدمة. لكنّ اختياره استحال خراباً بالنسبة إليه، لأنّ الشيطان دخله عبر سبل عديدة، ومِن رسول ليسوع، جعل منه خائناً لربّه. وظنّ بأنّه ينتصر ويفرح، وأنّه بذلكَ ينتقم لنفسه مِن القدّوس، الّذي كان قد خيّب الرغبات النَّجِسة لقلبه المليء بكلّ أنواع الشهوات. وفي الوقت الّذي كان قد ظنّ فيه بأنّه انتصر وفرح، أدركَ أنّ الإنسان الّذي يجعل مِن نفسه عبداً للشيطان، للجسد، للعالم، لا ينتصر، بل على العكس يأكل التراب كما المهزوم. وقد فهم أنّ مذاق الأطعمة المعطاة مِن الإنسان ومِن الشيطان مرّ جدّاً، ويختلف كلّياً عن الخبز اللذيذ والبسيط الّذي يعطيه الله لأبنائه. وعندها اختبر اليأس وكَرِه كلّ العالم بعدما كَرِه الله، ولَعَن كلّ ما أعطاه إيّاه العالم، وانتحر شانقاً نفسه على شجرة في بستان زيتون اشتراه بآثامه، وفي اليوم الّذي قام فيه المسيح ممجّداً مِن الموت، فإنّ جسده المتفسّخ والممتلئ بالديدان قد تشقّق، وانسكبت أحشاؤه على الأرض عند أسفل شجرة الزيتون، جاعلاً ذاك المكان نَجِساً.

 

على الجلجلة انهمر الدم الفادي وطهّر الأرض، لأنّه كان دم ابن الله، الّذي تجسّد مِن أجلنا. على التلّة القريبة مِن موضع المجلس المخزي، لم يكن دم، ولا دموع ندم حقيقيّ، بل أقذار أحشاء متحلّلة تهطل فوق التراب. فما مِن دمٍ كان يمكنه أن يمتزج بالدم الكلّي القداسة في أيّام التطهير تلك، الّتي كان فيها الحَمَل يغسلنا بدمه، ولم يكن أبداً بإمكان الأرض، الّتي كانت تشرب دم ابن الله، أن تشرب أيضاً دم ابن الشيطان.

 

الأمر بات معروفاً جيّداً. ومعه بات معروفاً أيضاً أنّ يهوذا، وبسبب غيظه كهالك، فقد أعاد إلى الهيكل ثمن الصفقة الشائنة، ضارباً بذلك المال النَّجِس وجه رئيس الكهنة. وبات معلوماً أنّه بذلك المال، ‏المأخوذ مِن خزانة الهيكل، والّذي لم يكن ممكناً إعادته إليها، لأنّه كان ثمن دم، فإنّ رؤساء الكَهَنَة والشيوخ، بعد أن تشاوروا في ما بينهم، قد اشتروا به حقل الفخّاريّ كما قالت النبوءات، حتّى إنّها حدّدت ثمنه. والموضع سوف يُعرَف على مرّ العصور باسم حقل الدم. وبهذا يكون كلّ شيء عن يهوذا قد قيل، ولتُمحَ منّا حتّى ذكرى وجهه، لكن دعونا نضع في اعتبارنا الطرق الّتي سلكها، ومِن خلالها تحوّل مِن مدعوّ مِن الربّ إلى الملكوت السماويّ، ليهبط فيصبح أميراً في مملكة الظلمات الأبديّة، لكي لا نسلكها نحن أيضاً بتهوّر، صائرين يهوذا آخرين، للكلمة الّتي عهد لنا الله بها والّتي هي كذلك المسيح، المعلّم في وسطنا.

 

وقد كُتِب في المزامير: "لتصر دارهم خراباً، ولا يكن فيها ساكن وليأخذ وظيفته آخر." ينبغي إذاً أنّ واحداً مِن هؤلاء الرجال، الّذين كانوا معنا خلال كلّ الوقت الّذي كان فيه الربّ يسوع معنا، ذاهباً وعائداً، بدءاً مِن يوم معموديّة يوحنّا إلى اليوم الّذي ارتفع مِن بيننا ليصعد إلى السماء، يكون مقيماً معنا كشاهد على قيامته. وينبغي القيام بذلك سريعاً، ليكون حاضراً معنا وقت معموديّة النار، الّتي كَلَّمَنا عنها الربّ، بحيث أنّ ذاك أيضاً، الّذي لم يتلقّ الروح القدس مِن المعلّم الكلّي القداسة، يتلقّاه مباشرةً مِن الله، ويكون مُقَدَّساً ومُلهَماً به، وينال الفضائل الّتي سننالها، ويتمكّن مِن أن يدين ويغفر، ويفعل ما سنفعله، ولتكون أعماله صائبة ومقدّسة.

 

إنّني أقترح اختياره مِن بين الأكثر وفاء مِن التلاميذ الأوفياء، أولئك الّذين سبق أن تألّموا مِن أجله ببقائهم أوفياء له حتّى حينما كان مجهولاً مِن قِبَل العالم. كُثُر منهم قد أتوا إلينا مِن يوحنّا السابق للمَسيّا، وهي نفوس متكيّفة منذ أعوام لخدمة الله. كانوا أعزّاء جدّاً على الربّ، والأعزّ عليه مِن بينهم كان إسحاق، الّذي تألّم كثيراً بسبب يسوع الطفل. إنّما أنتم تعلمون أنّ قلبه قد تحطّم في الليلة الّتي تلت صعود الربّ. دعونا لا نحزن لذلك. لقد وافى ربّه. وقد كانت تلك رغبة قلبه الوحيدة... وهي أيضاً رغبتنا... إنّما علينا أن نعاني آلامنا. لقد ‏سبق لإسحاق أن عانى آلامه. اقتَرِحوا إذاً بعض أسماء مِن هؤلاء، بحيث يمكن اختيار الرسول الثاني عشر وفقاً لعادات شعبنا، تاركين في أدقّ الظروف سلطان الإشارة إليه للربّ العليّ، هو الّذي يعلم.»

 

يتشاورون في ما بينهم. لا يمضي وقت طويل حتّى يُعلِم التلاميذ الأهمّ (الّذين ليسوا رُعاة) وبالتوافق مع الرُّسُل العشرة بطرس بأنّهم يقترحون يوسف، ابن يوسف سابا، لتكريم والده، الّذي مات شهيداً مِن أجل المسيح مع ابنه التلميذ الوفيّ، ويقترحون متّياس أيضاً، للأسباب نفسها الّتي دعتهم لاقتراح الأوّل، علاوة عن تكريم معلّمه الأوّل يوحنّا أيضاً.

 

وحيث إنّ بطرس قد وافق على اقتراحاتهم، فإنّهم يجعلون الاثنين يتقدّمان نحو الطاولة، ويُصلّون في تلك الأثناء وأذرعهم مبسوطة إلى الأمام في وضعيّة العبرانيّين العاديّة: «أنتَ، أيّها الربّ العليّ، أيّها الآب، والابن والروح القدس، الله الواحد والثالوث، الّذي تعرف كلّ القلوب، أَرِنا أيّاً مِن هذين الاثنين قد اخترتَ لنأخذه لهذه الخدمة وهذا المنصب الرسوليّ الّذي أخلّ يهوذا بأمانته له، ويحلّ محلّه.»

 

«ماران أثا.» يقولون جوقة.

 

وحيث أنّهم لم يكونوا يملكون حجر نرد، ولا شيء آخر ليقترعوا به، وحيث أنّهم لم يكونوا راغبين باستخدام المال لفعل ذلك، فإنّهم يتناولون بعض الحصوات الصغيرة المتناثرة في الباحة، حصوات صغيرة هزيلة بيضاء وأخرى قاتمة متماثلة في العدد، ويقرّرون أنّ البيضاء لمتّياس والأخرى ليوسف. ويضعونها في كيس يُفرِغونه ممّا يحتويه، يهزّونه ويقدّمونه لبطرس الّذي يرسم فوقه إشارة مباركة، يُدخِل يده فيه، وهو يُصلّي وعيناه تنظران إلى السماء الّتي تزيّنت بنجومها، ويسحب حصاةً صغيرة: بيضاء كالثلج.

 

الربّ أشار إلى متّياس ليخلف يهوذا.

 

بطرس ينتقل إلى مقدّمة الطاولة ويعانقه، يقول: «ليجعله شبيهاً به.»

 

كذلك العشرة الآخرون يكرّرون الحركة ذاتها وسط هتافات الجمع القليل العدد.

 

في النهاية يعود بطرس إلى مكانه ممسكاً بيد المختار الّذي يبقيه إلى جانبه. هكذا يكون بطرس الآن بين متّياس ويعقوب بن حلفى، ويقول: «تعال إلى المكان الّذي خصّصه لكَ الله، وامح باستقامتكَ ذكرى يهوذا، مساعداً إيّانا، نحن إخوتكَ، على إتمام الأعمال الّتي طلب منّا يسوع فائق القداسة أن ننجزها. لتكن نعمة ربّنا يسوع المسيح معكَ دائماً.»

 

يلتفت نحو الجميع ليصرفهم…

 

وفيما التلاميذ يفترقون على مهل عبر مخرج ثانويّ، يعود الرُّسُل إلى المنزل ليقودوا متّياس إلى مريم المستغرقة في الصلاة في غرفتها، ليتلقّى الرسول الجديد مِن أُمّ الله أيضاً كلمة السلام والقبول.