ج6 - ف137
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السادس/ القسم الثاني
137- (يسوع في طبريّا)
03 / 06 / 1946
يصل يسوع إلى طبريّا مع رُسُله في صبيحة عاصفة. التي كان قد أتى إليها مِن تراقية عبر المسار المختصر بالقاربين اللذين يتأرجحان بشدّة فوق البحيرة الهائجة جدّاً والضاربة إلى اللون الرماديّ كما السماء، حيث تتراكض غيوم كبيرة مُهدِّدةً.
يتفحّص بطرس السماء والبحيرة ويأمر الصّبية بوضع القاربين في مكان آمن: « سوف تسمعون عاجلاً بعض الموسيقى الجميلة! أنا لن أكون الصيّاد بطرس إن لم يُحدِث كلّ مِن هطول المطر وأمواج البحيرة أضراراً بعد قليل. أما يزال أحد ما في البحيرة؟» إنّه يَسأَل نفسه متفحّصاً بحر الجليل المضطرب. ويرى بأنّه خالٍ تماماً، بينما تجتاحه أمواج أكثر فأكثر عنفاً، تحت قبّة السماء التي تصبح أكثر فأكثر وعيداً. إنّه يشعر بالراحة لرؤيته إيّاه خالياً، ويفكّر بأنّه لن يُسبّب أيّ ضرر للبشر، وهو يتبع المعلّم بسعادة، الذي يتقدّم وسط هبّات الريح القويّة، بحيث أنّ الرُّسُل يمشون بصعوبة وسط سُحُب مِن الغبار، فيما أرديتهم تصفّق بشدة بفعل العاصفة.
في طبريّا، في هذا الجزء مِن المدينة حيث يسكن العامّة، عائلات لصيّادين، أو لحرفيّين فقراء يشتغلون بمهن مرتبطة بالصيد، الناس مشغولون، إنّهم يروحون ويجيئون كي يُدخِلون إلى المنازل ما يمكن أن تُفسِده العاصفة. البعض يركضون مُحمّلين بالشِّباك، والبعض بمجاذيف القوارب التي كانت قد سُحِبت إلى أماكن آمنة، والبعض يجرّون أدوات عملهم إلى داخل المنازل، وكلّ ذلك يَحدُث فيما الريح تصفر وترفع سُحُب الغبار وتجعل الأبواب تصفق. أمّا الجانب الآخر مِن طبريّا، أيّ الجانب الشماليّ، بأبنيته التي تصطفّ على طول البحيرة، ومنتزهاته الجميلة التي تُرى على طول الشاطئ المتعرّج، فهو ينام باسترخاء، فقط بعض الخُدّام أو العبيد -وفقاً لما إذا كانوا تابعين لمنزل إسرائيليّين أو منزل رومانيّين- مشغولين بإزالة الستائر عن الشرفات، وسَحب زوارق النزهات، وإبعاد المقاعد المتناثرة في الحدائق…
يسوع، الذي كان قد أتى إلى هذا الجزء، يقول لسمعان الغيور ولابن عمّه يوضاس: «اذهبا واسألا بوّاب منزل يُوَنّا امرأة خُوزي فيما إذا كان أيّ مِن أصدقائنا يبحث عنّا. أنا سوف أنتظر هنا.»
«حسناً. وماذا بالنسبة ليُوَنّا؟»
«سوف نراها لاحقاً. اذهبا وافعلا ما طلبتُهُ منكما.»
يمضي الاثنان بسرعة، وفيما الآخرون ينتظرون عودتهما، فإنّ يسوع يُرسِلهم، البعض إلى هنا، البعض إلى هناك، للتزوّد ببعض الطعام لهم وللنسوة. «لأنّه ليس مِن العدل أن يكونوا عبئاً على عائلة التلميذ» يقول يسوع. ويبقى وحده، مستنداً إلى جدار حديقة، والتي يأتي منها صوت هدير إعصار، ويا له مِن عنيف صِراع أشجاره ضدّ تلك الريح.
يسوع مُستَغرِق بالتفكير، ملتحف بملابسه، التي يُبقيها مشدودة تحت ردائه، الذي سَحَبَ جزأه العلويّ إلى رأسه كما الغطاء، كي يحمي نفسه مِن الريح، التي تدفع شعره إلى عينيه. إنّه يبدو كمتسوّل ينتظر صدقة، وهو هكذا مغطّى بالغبار، ووجهه نصف مخبّاً بحافّة ردائه، مستنداً إلى جدار هو تقريباً عند زاوية شارع يتقاطع مع شارع رئيسيّ جميل، يمتدّ مِن البحيرة وصولاً إلى وسط المدينة. بعض الأشخاص يمرّون بجانبه وينظرون إليه. إنّما وبما أنّه لا يقول ولا يطلب شيئاً ويُبقي رأسه منخفضاً، فلا أحد يتوقّف ليعطيه أو ليقول له شيئاً. خلال ذلك الوقت تصبح العاصفة أشدّ عنفاً، وصَخَب البحيرة أشدّ قوّةً، مالئاً كلّ المدينة بهديره.
رَجُل طويل، والذي كان يمشي منحنياً كي يحمي نفسه مِن الريح -هو أيضاً ملتحف تماماً بردائه، والذي يشدّه بإحكام تحت ذقنه بإحدى يديه- وقد كان آتياً مِن الطريق التي تمتدّ مِن الداخل وصولاً إلى الضفّة. وفيما يرفع رأسه كي يَنظُر ويتحاشى رتل حمير لنقل الخضروات -والتي بعدما أفرَغَت حمولتها في السوق، هي عائدة لبساتينها- فهو يرى يسوع (وأرى بأنّ ذاك الشاب هو يهوذا الإسخريوطيّ).
«آه! يا معلّم!» إنّه يصيح مِن الجهة الأخرى لرتل الحمير. «لقد كنتُ آتياً بالضبط إلى عند يُوَنّا بحثاً عنكَ. لقد كنتُ في كفرناحوم أبحث عنكَ، إنّما...» الحِمار الأخير كان قد عَبَر، ويَهرَع يهوذا صوب المعلّم، مُنهياً حديثه: «...إنّما لم يكن هناك أحد في كفرناحوم. لقد انتظرتُ لعدّة أيّام، ثمّ عدتُ إلى هنا، وكنتُ أذهب إلى عند يوسف وإلى عند يُوَنّا كلّ يوم بحثاً عنكَ...»
يَنظُر يسوع إليه بعينيه الثاقبتين، ويُوقِف هذا الوابل مِن الكلمات قائلاً ببساطة: «ليكن السلام معكَ.»
«هذا صحيح! إنّني حتّى لم أُحيّيكَ! ليكن السلام معكَ يا معلّم. إنّما أنتَ تَنعم دوماً بهكذا سلام!»
«ألا تَنعم به أنتَ؟»
«أنا إنسان يا معلّم.»
«الإنسان البارّ يَنعم بالسلام. وحده الإنسان الخاطئ يكون مضطرباً. هل أنتَ هكذا؟»
«أنا... لا يا معلّم. على الأقلّ... بالتأكيد، وكي أكون صادقاً معكَ، فحقيقة أنّني كنتُ بعيداً عنكَ لم تكن تُسعِدني... إنّما لم يكن ذلك بالضبط هو ما حَرَمَني مِن السلام. فقد كان اشتياقي إليكَ، لأنّني مُولَع بكَ... إنّما السلام هو أمر آخر، أليس كذلك؟...»
«نعم. إنّه أمر آخر. إنّ البُعد لا يؤثّر سلباً على سلام القلب، فيما إذا كان قلب الشخص البعيد لا يفعل أشياء يُحذّره منها ضميره، والتي قد تُحزِن قلب الشخص الذي نحبّ، فيما إذا عَلِم بها.»
«إنّما مَن هُم غائبون لا يعلمون... إلّا إذا كان هناك مَن أخبَرَهم.»
يَنظُر يسوع إليه ويصمت.
«هل أنتَ وحدكَ يا معلّم؟» يَسأَل يهوذا مُحاولاً تحويل موضوع الحديث إلى مواضيع عامة.
«إنّني بانتظار أولئك الذين أرسلتُهم لعند يُوَنّا كي يَستَعلِموا فيما إذا كانت أُمّي قد أتت مِن الناصرة.»
«أُمّكَ؟ أتأتي بأُمّكَ إلى هنا؟»
«نعم، سأفعل. سوف أبقى معها في كفرناحوم طوال الشهر، وسأذهب بالقارب إلى القرى التي على ضفّة البحيرة، إنّما سوف أعود كلّ يوم إلى كفرناحوم. لا بدّ أنّ هناك تلاميذ كُثُر...»
«نعم... إنّهم كُثُر...» يهوذا كان قد فَقَدَ مهارة طلاقة اللّسان. إنّه مُستَغرِق بالتفكير…
«أليس لديكَ ما تقوله لي يا يهوذا؟ إنّنا وحدنا الآن... ألم يحدث أيّ شيء معكَ، خلال فترة الانفصال هذه، أما مِن واقعة قد تكون تَشعُر بالحاجة لِنصح مِن يسوعكَ حولها؟» يَسأَل يسوع بلطف، بطريقة كما ليساعد التلميذ على الاعتراف، جاعلاً إيّاه يشعر بكلّ حبّه الرحيم.
«وهل تَعلَم بشيء عنّي قد يكون بحاجة لنصحكَ؟ إذا كنتَ تَعلَم -وأنا حقّاً ليس لديَّ أيّ شيء قد يستحقّ النّصح- فتكلّم. إنّه ليس سهلاً على شخص أن يتذكّر ذنوبه وخطاياه وأن يعترف بها إلى شخص آخر...»
«أنا، الذي أتكلّم معكَ، لستُ شخصاً آخر، لكن...»
«لا. فأنتَ الله. أنا أَعلَم. لهذا فليس مِن الضروريّ حتّى أن أتكلّم. فأنتَ تَعلَم...»
«كنتُ أقول بأنّني لستُ شخصاً آخر، ولكنّني صديقكَ الأكثر ودّاً. أنا لا أقول معلّمكَ، رئيسكَ، أنا أقول: صديقكَ...»
«إنّه دوماً الأمر ذاته. وإنّه لَمِن المزعج الخوض دوماً بما فَعَلَه الإنسان في الماضي، لأنّ الاعتراف قد يُعرِّض للملامات. إنّما الشقّ المزعج ليس الملامات، بقدر ما هو فقدان احترام الصديق...»
«في الناصرة، في آخر سبت كنتُ فيه هناك، أَخبَرَ سمعان بطرس مِن دون قصد زميلاً له عن شيء ما كان يجب أن يَذكُره. لم يكن عصياناً إراديّاً، لم يكن نميمة، لم يكن أمراً قد يؤذي القريب. سمعان بطرس كان قد ذَكَرَه لقلب مستقيم ولشخص رصين، والذي كان قد أدرك بأنّه قد عَلِم بسرّ، مِن دون أن يبتغي ذلك لا هو ولا بطرس، وأَقسَمَ بأنّه لن يُفشي السرّ لأيّ أحد آخر. وقد كان يمكن لبطرس أن يطمئنّ... لكنّه لم يَسكن حتّى اعترف بخطئه لي، وعلى الفور... المسكين سمعان! لقد اعتبر ذلك خطيئة! إنّما لو لم يكن في قلوب تلاميذي سوى هذه الخطايا، وكلّ ذاك القدر مِن التواضع، كلّ ذاك القدر مِن الثقة، كلّ ذاك القدر مِن المحبّة، كالذي لدى بطرس، آه! لكنتُ أعلنتُ نفسي معلّماً لمجموعة قدّيسين!...»
«وبهذا تريد أن تقول لي بأنّ بطرس قدّيس وأنا لا. هذا صحيح. إنّني لستُ قدّيساً. اطردني إذن...»
«أنتَ لستَ متواضعاً يا يهوذا. الكبرياء يهلككَ. ولا تزال لا تعرفني...» يُنهي يسوع بحزن شديد.
يهوذا يُدرك حزنه ويهمس: «اغفر لي يا معلّم!...»
«دائماً. إنّما كُن صالحاً يا بنيّ! كُن صالحاً! لماذا تريد أن تؤذي نفسكَ؟»
عينا يهوذا تغرورقان بالدموع، لا أعلم فيما إذا كانت دموعاً حقيقيّة أم لا، ويلتجئ إلى حضن يسوع، باكياً على كتفه.
يُداعِب يسوع شعره هامساً: «يا يهوذا المسكين! أيّها المسكين يهوذا، يا مَن يبحث عن سلامه وعمّن يمكن أن يفهمه في مكان آخر حيث لن يستطيع العثور عليه...»
«نعم. هذا صحيح. إنّكَ على حقّ يا معلّم. إنّ السلام هنا... بين ذراعيكَ... إنّني شقيّ... أنتَ الوحيد الذي تفهمني وتحبّني... أنتَ وحدكَ... أنا هو الغبيّ... اغفر لي يا معلّم.»
«نعم، كُن صالحاً، كُن متواضعاً. وإذا وقعتَ، فتعال إليَّ وأنا سوف أُنهِضكَ. وإذا جُرّبتَ، فاهرع إليَّ. وأنا سوف أحميكَ، مِن نفسكَ، مِن أولئك الذين يكرهونكَ، مِن كلّ شيء... هيّا انهض. إنّ الآخرين قادمون...»
«قُبلة يا معلّم... قُبلة...»
يسوع يُقبّله... ويهوذا يتمالك نفسه... إنّما هو لم يعترف بخطاياه مطلقاً، على الأقلّ أنا لا أعتقد ذلك…
«لقد تأخّرنا قليلاً لأنّ يُوَنّا كانت قد استيقظت، والبوّاب أراد أن يُعلمها. سوف تأتي اليوم إلى منزل يوسف كي تُجلّكَ» يقول تدّاوس.
«إلى عند يوسف؟ إذا ما هطلت الأمطار التي تَعِدُ بها السماء، فهذه الشوارع سوف تغدو كما المستنقعات. إنّ يُوَنّا لن تأتي بالتأكيد إلى ذاك الكوخ الوضيع عبر هذه الشوارع. مِن الأفضل أن نذهب نحن إلى منزلها...» يقول يهوذا الذي كان قد استعاد ثقته بنفسه مجدّداً.
يسوع لا يجيبه، لكنّه يتوجّه إلى ابن عمّه سائلاً: «هل بَحَثَ عنّا أيّ مِن أصدقائنا عند يُوَنّا؟»
«لا، ليس بعد.»
«حسناً. لنذهب إلى منزل يوسف. الآخرون سوف ينضمّون إلينا...»
«لو كنتُ متأكّداً بأنّ أُمّينا هما في طريقهما إلى هنا، لكنتُ ذهبتُ لملاقاتهما...» يقول يوضاس بن حلفى.
«لكان أمراً جيّداً. إنّما هناك عدّة طرق مِن طبريّا. وربّما هما لم تسلكا الطريق الرئيسيّة...»
«هذا صحيح يا يسوع... هيّا بنا...»
يَمضون بسرعة، فيما يَلتَمِع أوّل برق ويشقّ أوّل رعد السماء القاتمة، والذي يَهدر بين معابر التلال التي تقريباً تحيط البحيرة بأكملها. إنّهم يَدخُلون منزل يوسف المتواضع، والذي يبدو أكثر فقراً وعتمةً في هذا الجوّ العاصف. هناك فقط شيء واحد مُشرِق، وجه التلميذ ووجوه أقاربه، السعداء جدّاً لاستقبال المعلّم في منزلهم.
«إنّكَ غير محظوظ يا ربّ» يعتذر الرّبان. «فلن يكون بمقدوري أن أخرج للصيد في البحيرة بهذه الحالة، وليس لديَّ شيء... سوى الخضار...»
«وقلبكَ الطيّب. ولكنّني احتطتُ لذلك. رفاقنا في طريقهم إلى هنا بما يلزم. لا تُتعبي نفسكِ يا امرأة... يمكننا الجلوس حتّى على الأرض. إنّها بغاية النّظافة. إنّكِ امرأة مجتهدة، أعلم ذلك. والنّظافة التي أراها هنا تُثبِت ذلك.»
«آه! زوجتي! إنّها حقّاً امرأة صلبة! إنّها فرحي، لا، فرحنا» يُعلن الرّبان، الذي دخل بنوبة نشوة بفعل ثناء الرّب، الذي كان قد جلس بسلام عند طرف الموقد المنطفئ، تقريباً على الأرض، واضعاً في حضنه طفلاً صغيراً، يَنظُر إليه بدهشة شديدة.
يَصِل أولئك الذين ذهبوا للتسوّق في اللحظة التي يبدأ فيها أوّل هطول للمطر، وهُم يَنفُضون أرديتهم ونِعالهم عند العتبة، كي يتجنّبوا إدخال الماء والوحل إلى المنزل. تبدو كما لو أنّها نهاية العالم بسبب البروق والرّعود، المطر والرياح. ويبدو هدير البحيرة كما لو أنّه لازِمة مُصاحبة لدويّ الرعود وصفير الرياح.
«سلاماً! الصيف يبلّل ريشه ويرشّ الموقد... سيكون الحال أفضل بعدها... بشرط ألّا تُتلَف الكروم... أيمكنني أن أصعد إلى فوق كي أُلقي نظرة على البحيرة؟ أريد أن أرى بأيّ حال هي...»
«اذهب. المنزل منزلكَ» التلميذ يجيب بطرس.
وبطرس، الذي يرتدي قميصه فقط، يَخرُج سعيداً كي يستمتع بالعاصفة. إنّه يَصعَد الدرج الخارجيّ، ويَلبث على الشرفة كي يُنعش نفسه، وكي يُدلي برأيه لِمَن هُم داخل المنزل، كما لو كان على ظَهر قاربه معطياً أوامره عن كيفيّة المناورة.
الآخرون جالسون هنا وهناك في المطبخ، حيث بالكاد يستطيعون الرؤية، ذلك أنّهم مضطرّون لإبقاء الباب مغلقاً تقريباً بسبب المطر، وفقط خيط مِن ضوء مُخضرّ يَدخُل مِن شقّ الباب، تقطعه ومضات البروق المتوهّجة والـمُبهِرة…
يعود بطرس إلى الداخل، مبلّلاً تماماً كما لو أنّه كان قد سقط في البحيرة، ويُصرّح: «إنّ العاصفة الآن فوق رؤوسنا، إنّها تمضي باتّجاه السامرة. وسوف تُبلّل كلّ شيء هناك...»
«ها قد بلّلتكَ قبلها! إنّ الماء يسيل منكَ كما مِن ينبوع» يلاحظ توما.
«نعم. لكنّني أشعر أنّني بحال جيّدة بعد الكثير مِن الحرّ.»
«ادخل. ليس جيّداً أن تبقى عند الباب مبلّلاً هكذا» ينصح برتلماوس.
«لا! أنا مثل الخشب المتصلّب... فلم أكن بعد قادراً على نطق كلمة "أبي" عندما بدأتُ بالبقاء في الرطوبة. آه! كم الهواء نقيّ!... إنّما الشارع، إنّه مثل... نهر... وعليكم رؤية البحيرة! إنّها تتلوّن بكلّ ألوان الطيف، وهي تغلي مثل قِدر. لم يعد بمقدوركم حتّى معرفة بأيّ اتّجاه تجري الرياح. إنّها تثور في مكانها... إنّما كان يلزم ذلك...»
«نعم، لقد كنّا بحاجة إلى المطر. فالجدران ما عادت تَبرُد مِن كثرة ما سَخَّنتها الشمس. إنّ أوراق كرمتي قد أضحت متجعّدة ومغبرّة... لقد كنتُ أسقي الجذور... إنّما... ماذا يمكن لبعض الماء أن يفعل عندما يصبح كلّ الباقي لهيباً؟» يقول يوسف.
«إنّ ضررها أكثر بكثير مِن نفعها يا أصدقائي» يصرّح برتلماوس.
«النباتات بحاجة إلى ماء السماء، لأنّ أوراقها أيضاً تتشرّبه، إيه؟! إنّما لا يبدو أنّ الأمر كذلك، لكنّه صحيح. الجذور، الجذور! حسناً. إنّما الأوراق موجودة لسبب ما، ولها هي أيضاً حقوقها...»
«يا معلّم، ألا تعتقد بأنّ برتلماوس قد طَرَحَ موضوعاً لـمَثَل جميل؟» يَسأَل الغيور كما ليحثّ يسوع على الكلام.
لكنّ يسوع، الذي يهدهد للطفل الصغير المرتعب مِن الرّعد، لا يروي مَثَلاً، إنّما يومئ قائلاً: «وأنتَ كيف كنتَ لترويه؟»
«على نحو سيّئ بالتأكيد يا معلّم. أنا لستُ أنتَ...»
«إروه بأفضل ما تستطيع. سوف يكون عوناً كبيراً بالنسبة لكَ للتبشير بواسطة الأمثال. تَعوَّد على فِعل ذلك. إنّني أُنصِت يا سمعان...»
«آه!... أنتَ هو المعلّم، أنا... أبله... إنّما سوف أطيع. أنا كنتُ سأقول هكذا: "كان لرجل كَرْمة جميلة. وحيث أنّه لم يكن يملك كروماً، فقد زَرَعَ الكَرْمة في البستان الصغير المجاور للمنزل، بحيث تتسلّق صعوداً إلى الشرفة كي تمنح ظلّاً وتطرح عناقيد عنب، وقد اعتنى كثيراً بكرمته. ولكنّها كانت تنمو بين المنازل، بالقرب مِن الشارع، بحيث أنّ دخان المطابخ والمواقد، وغبار الطريق قد شرعا يُتلفانها. وطالما كان المطر يهطل مِن السماء في شهر نيسان (أبريل)، فإنّ أوراق الكرمة كانت تتنقّى مِن الأوساخ وتتمتّع بالشمس والهواء، دون أن تتشكّل على سطحها أيّة طبقة أوساخ بشعة تمنعها مِن ذلك. إنّما عندما حلّ الصيف وما عاد المطر يهطل مِن السماء، فإنّ الدخان، الغبار، براز الطيور، قد شكّلت طبقات سميكة على الأوراق، بينما كانت الشمس الحادّة جدّاً تجفّفها. لكنّ مالك الكرمة كان يسقي الجذور الضاربة عميقاً في الأرض، ولهذا فإنّ النبتة لم تمت، وإنّما قد نمت بصعوبة، لأنّ الماء الذي كانت تتشرّبه الجذور كان يغذّي الأجزاء الرئيسيّة فقط، أمّا الأوراق المسكينة فلم تكن لتستفيد منه. بل على العكس، فأبخرة التخمّر قد تصاعدت مِن التربة الحارّة بعدما رطّبتها تلك الكمية القليلة مِن الماء، وأفسَدَت الأوراق ببقع شبيهة بالبثور الخبيثة. إنّما أخيراً هطل مطر غزير مِن السماء، ونزل الماء على الأوراق، وجرى على الأغصان، على الجذع، على العناقيد، وأطفأ حرارة الجدران والأرض الحارقة، وبعد العاصفة، فإنّ مالِك الكَرْمة قد رأى بأنّ النبتة قد عادت نظيفة، نديّة، مبتهجة وتمنح البهجة تحت السماء الصافية." ها هو الـمَثَل.»
«جيّد. إنّما ماذا بشأن كيفيّة تطبيقه على الإنسان؟...»
«يا معلّم، افعل أنتَ ذلك.»
«لا. عليكَ أنتَ أن تفعل ذلك. إنّنا وسط إخوة، فإذن عليكَ ألّا تخاف مِن أن تَظهَر بمظهر سيّئ.»
«أنا لستُ خائفاً مِن أن أظهر بمظهر سيّئ كما لو أنّه أمر مخجل. لا، بل على العكس، فأنا أحبّ ذلك، لأنّه يساعدني على أن أكون متواضعاً. ولكنّني لا أريد أن أقول أيّ شيء خاطئ...»
«سوف أُصحّح لكَ.»
«آه! إذا كان الأمر كذلك فسوف أقول: "إنّ ذات الشيء يُطبّق على الإنسان الذي لا يعيش معزولاً في حدائق الله، وإنّما الذي يعيش وسط غبار وأدخنة الأمور الدنيويّة. فهي تكسوه بالقشور شيئاً فشيئاً، ولو كان ذلك عن غير قصد، ويجد بأنّ روحه أضحى معزولاً تحت هكذا قشرة دنيويّة سميكة، بحيث أنّ نسيم الله وشمس الحكمة ما عادا يشكّلان له أيّة فائدة. وعبثاً يحاول أن يُعوّض عنهما بذاك القدر القليل مِن الماء الممزوج بالأمور الدنيويّة، الذي يرتشفه مِن الممارسات (الإيمانيّة)، والذي لا يروي سوى الأجزاء السفليّة (الدنيا)، بحيث أنّ الأجزاء العليا لا تستمتع بأيّ شيء منه... الويل للإنسان الذي لا يتنقّى بماء السماء، الذي يُطهِّر مِن النّجاسة، ويُخمِد لهيب الشهوات، ويمنح الارتواء الحقيقيّ للأنا بأكملها." ها قد تكلّمتُ.»
«لقد أحسنتَ القول. وأودّ أيضاً أن أقول بأنّه، وبعكس النباتات، التي ليس لديها إرادة حرّة، والمقيّدة بالأرض، وبالتالي فهي ليست قادرة على التحرّك والبحث عمّا قد يساعدها وتجنّب ما هو ضارّ بالنسبة لها، فإنّ الإنسان قادر على التحرّك والبحث عن ماء السماء، وتجنّب الغبار، الدخان، اضطّرام الجسد، اضطّرام العالم والشيطان. وهكذا سوف تكون عِبرة الـمَثَل أَكمَل.»
«شكراً يا معلّم. سوف أتذكّر ذلك» يُجيب الغيور.
«نحن لا نعيش منعزلين... إنّنا نعيش في العالم... فإذاً...» يقول يهوذا الإسخريوطيّ.
«إذن ماذا؟ أتقصد بأنّ سمعان كان قد قال كلاماً فارغاً؟» يَسأَل يوضاس بن حلفى.
«لا أقصد ذلك. ما قصدتُه هو أنّه كوننا لا نستطيع العيش منعزلين... فمن المحتّم أن تكسونا الأمور الدنيويّة.»
«المعلّم وسمعان قد قالا للتوّ بأنّه يجب علينا البحث عن ماء السماء كي نبقي أنفسنا نظيفة، ولو أنّ العالم يحيط بنا» يقول يعقوب بن حلفى.
«بالتأكيد! ولكن هل ماء السماء متوفّر دائماً كي ينظّفنا؟»
«طبعاً متوفّر» يقول يوحنّا بثقة.
«متوفّر؟ وأين تَجِده؟»
«في المحبّة.»
«المحبّة نار. وهي سوف تحرقكَ أكثر.»
«نعم، إنّها نار. ولكنّها أيضاً ماء ينظّف. لأنّها تزيل كلّ ما هو مِن الأرض وتعطي كلّ ما يأتي مِن السماء.»
«...أنا لا أفهم هذه التطبيقات. تُزيل، تُعطي...»
«إنّني لستُ مجنوناً. أقول بأنّها تُزيل ما هو بشريّ وتُعطي ما يأتي مِن الله، والذي هو بالتالي إلهيّ. والأمور الإلهيّة تغذّي وتُقدِّس فقط. والمحبّة تنظّفكَ يوماً بعد يوم ممّا علق بكَ مِن العالم.»
يهوذا يهمّ بالردّ، لكنّ الطفل الصغير الذي في حضن يسوع يقول: «مَثَل آخر، مَثَل آخر جميل... لأجلي...» الأمر الذي يضع حدّاً للجدال.
«عمّاذا أيّها الصغير؟» يَسأَل يسوع بلطف.
الصغير يَنظُر حوله ويجد موضوع الـمَثَل. إنّه يشير إلى أُمّه ويقول: «عن الأُمّهات.»
«إنّ الأُمّ بالنسبة للنّفْس والجسد هي كما الله بالنسبة لهما. فماذا تفعل الأُمّ لكَ؟ إنّها تحرص عليكَ، تعتني بكَ، تعلّمكَ، تحبّكَ، إنّها تنتبه كي لا تؤذي نفسكَ، إنّها تبقيكَ تحت جناحي محبّتها، تماماً كما تفعل الحمامة مع صغارها. ويجب أن تُطاع الأُمّ وأن تُحَبّ، لأنّ كلّ ما تفعله، فهي تفعله مِن أجل خيرنا. وأيضاً الله الصالح، والأكثر كمالاً بكثير مِن أكثر الأُمّهات كمالاً، فإنّه يُبقي أبناءه تحت جناحي محبّته، إنّه يحميهم، يعلّمهم، يُعينهم، ويفكّر بهم ليلاً ونهاراً. إنّما أيضاً الله الصالح، وكأُمّ، بل حتّى أكثر بكثير مِن أُمّ -لأنّ الأُمّ هي الحبّ الأعظم على الأرض، لكنّ الله هو الحبّ الأعظم والأبديّ على الأرض وفي السماء- فيجب أن يُطاع وأن يُحَبّ، لأنّ كلّ ما يفعله، فهو يفعله من أجل خيرنا...»
«حتّى البروق؟» يُقاطِع الصبيّ الذي يخافها كثيراً.
«نعم.»
«لماذا؟»
«لأنّها تُنظِّف السماء والهواء و...»
«ومِن ثمّ يظهر قوس قزح!...» يهتف بطرس، الذي -نصفه خارج المنزل ونصفه الآخر داخله- كان أَنصَتَ ولبثَ صامتاً. ويضيف: «تعال أيّها الفرخ، وأنا سوف أريكَ إيّاه. انظر كم هو جميل!...»
وبالفعل فإنّ الجوّ يصحو، حيث إنّ العاصفة قد انتهت، وقوس قزح هائل، يمتدّ شريط قوسه مِن ضفاف إيبّو، عابراً البحيرة، ومختفياً ما وراء الجبال خلف مجدلا.
يذهب الجميع إلى الباب، إنّما وكي يتمكّنوا مِن رؤية البحيرة، فعليهم نزع نعالهم، لأنّ الباحة هي عبارة عن بِركة ماء مصفرّ صغيرة، والذي يتناقص شيئاً فشيئاً، والذكرى الوحيدة التي تبقى مِن العاصفة هي البحيرة، التي أصبحت مصفرّة، فيما أمواجها قد بدأت تهدأ. في حين أنّ السماء صافية والهواء نقيّ، وأوراق الأشجار تستعيد ألوانها.
وطبريّا تضجّ بالحياة مجدّداً... وعلى امتداد الطريق الذي لا يزال مليئاً بالماء والوحل، فإنّهم سرعان ما يَرَون يُوَنّا آتية مع يوناثان. إنّها تَنظُر إلى الأعلى كي تحيّي المعلّم الموجود على الشرفة، وتصعد سريعاً لتَسجُد، مُفعَمة بالسعادة...الرُّسُل يتحدّثون مع بعضهم، باستثناء يهوذا، الموجود في الوسط بين يسوع ويُوَنّا مِن جهة، والرُّسُل مِن جهة أخرى، الشّارد الذّهن والمستغرق بالتفكير. أراهن بأنّه يصغي بانتباه شديد إلى كلام يُوَنّا، حيث أنّ موقفها غير معروف تجاه يهوذا، فهي تحيّي جميع الرُّسُل، قائلة فقط: «السلام لكم.» وهي تتحدّث فقط عن الطفلين، وعن سماح زوجها لها بالذهاب إلى كفرناحوم بالقارب فيما المعلّم هناك. عندئذ تهدأ شكوك يهوذا وينضمّ إلى رفاقه…
وبثوبيهما الملطّخين مِن أسفلهما بالوحل، إنّما الجّافين في مواضعهما الأخرى، تَظهَر مريم العذراء الكلّية القداسة، وهي تتقدّم مع مريم التي لحلفى والخمسة الذين ذهبوا للمجيء بها إلى هنا. إنّ إبتسامة مريم، فيما هي تصعد الدرج القصير، هي أكثر جمالاً مِن قوس قزح الذي لا يزال بادياً في السماء.
«أُمّكَ يا معلّم!» يُعلِن توما.
يسوع يذهب لملاقاتها، يتبعه كلّ الآخرين. ويهنّئون المرأتين على عدم تعرّضهما لأيّة متاعب ما عدا بعض الوحل عند أسفل ثوبيهما.
«لقد توقَّفنا في سوق للمزارعين حالما بدأت تمطر» يشرح متّى. ويَسأَل: «هل انتظرتمونا طويلاً؟»
«لا. لقد وصلنا عند الفجر.»
«لقد تأخّرنا بسبب شقيّ بائس...» يقول أندراوس.
«حسناً. على اعتبار أنّكم كلّكم هنا والطقس يصحو، فأنا أقول أن نغادر إلى كفرناحوم هذا المساء» يقول بطرس.
مريم، التي هي دوماً مُوافِقة، تعترض هذه المرّة: «لا يا سمعان. لا نستطيع المغادرة، ما لم أوّلاً... يابنيّ، إنّ أُمّاً قد توسَّلَت إليَّ كي أطلب منكَ -حيث أنّكَ وحدكَ القادر- أن تهدي نَفْس ابنها الوحيد. أتوسَّل إليكَ أن تستجب لي، لأنّني وعدتُ... اغفر لي... مغفرتكَ...»
«لقد غَفَر يا مريم. لقد سبق أن كَلَّمتُ المعلّم...» يُقاطِع يهوذا ظنّاً منه بأنّ مريم تتحدّث عنه.
«أنا لا أتحدّث عنكَ يا يهوذا بن سمعان. أنا أتحدّث عن إستر التي للاوي، امرأة مِن الناصرة، أُمّ قَتَلَها سلوك ابنها. يا يسوع، لقد ماتت في الليلة التي غادرتَ فيها. تَضرُّعها إليكَ لم يكن مِن أجلها -تلك الأُمّ المسكينة شهيدة ابن عاق- إنّما لأجل ابنها... لأنّ قلقنا نحن الأُمّهات ينصبّ عليكم أيّها الأبناء، لا على أنفسنا... تريد لعزيزها صموئيل أن يخلص... إنّما الآن وقد ماتت، فإنّ صموئيل، وقد أضحى فريسة للندم، فإنّه يبدو كمجنون، ولن يُنصِت إلى صوت العقل... ولكن أنتَ يا بنيّ، تستطيع أن تشفي عقله وروحه...»
«هل تابَ؟»
«كيف تتوقّع منه أن يتوب إذا كان يائساً؟»
«في الحقيقة إنّ قتل أحدهم لأُمّه عن طريق التسبّب بآلام مستمرّة لها، لا بدّ أن يجعله يائساً. وإنّ انتهاك أوّل وصية لمحبّة القريب لا يمكن أن يمرّ دونما عقاب. فكيف تتوقّعين منّي يا أُمّي أن أغفر، وأن يَمنَح الله السلام لقاتل أُمّه غير التائب هذا؟»
«يا بنيّ، تلك الأُمّ تطلب السلام مِن الحياة الأخرى... لقد كانت صالحة... وقد تألَّمَت كثيراً...»
«سوف تكون في سلام...»
«لا يا يسوع. ما مِن سلام لروح أُمّ، فيما إذا رأت أنّ ابنها محروم مِن الله...»
«إنّه عدل أن يُحرم منه.»
«نعم يا بنيّ. بالتأكيد. إنّما مِن أجل إستير... فآخر كلماتها كانت صلاة مِن أجل ابنها... وقد طَلَبَت منّي أن أقول لكَ ذلك... يا يسوع، إنّ إستير لم تحظَ أبداً بأيّ فرح طوال حياتها، وأنتَ تعلم ذلك. امنحها هذه الفرحة الآن وقد ماتت، أعطها لروحها التي تتألّم بسبب ابنها.»
«يا أُمّي، لقد حاولتُ أن أهدي صموئيل عندما كنتُ في الناصرة. إنّما عَبَثاً تحدَّثتُ معه، لأنّ المحبّة كانت قد انطفأت فيه...»
«أنا أَعلَم ذلك. لكنّ إستير قد قدَّمَت مغفرتها، ألمها، علّ المحبّة تتّقد مجدّداً في صموئيل. ومَن يَعلَم؟ ألا يمكن أن يكون العذاب الذي يعيشه الآن هو المحبّة التي تعود إلى الحياة مِن جديد؟ مَحبّة مؤلمة، وقد يُقال: محبّة لا طائل منها، باعتبار أنّ أُمّه ما عادت تستطيع التنعّم بها. إنّما أنتَ... إنّما أنا، فنحن نعلم، أنا مِن خلال إيماني، وأنتَ مِن خلال معرفتكَ، بأنّ محبّة الأموات يَقِظَة وقريبة جدّاً. إنّهم لا يفقدون الاهتمام، كما أنّهم لا يتجاهلون ما يَحدُث لمحبوبيهم الذين تركوهم هنا... وقد تكون إستير ما تزال تستطيع التنعّم بهذه المحبّة المتأخّرة التي يحملها لها ابنها العاق، والذي يعذّبه النّدم الآن. أيا يسوعي، أنا أعلم بأنّ هذا الرجل يُشعركَ بالغثيان بسبب فداحة خطيئته. ابن يكره أُمّه! إنّه مَسخ بالنسبة لكَ أنتَ الـمُفعَم بالمحبّة لأُمّكَ. إنّما فقط مِن أجل أنّكَ مُفعَم بالمحبّة لي، أَنصِت إليَّ. لنعد معاً إلى الناصرة، في الحال، الطريق لا يشكّل أيّ عبء عليّ، لا شيء قد يُشكِّل مشكلة بالنسبة إليَّ، إذا كان في سبيل تخليص نَفْس...»
«حسناً. لقد فزتِ يا أُمّي... يهوذا بن سمعان، خُذ يوسف معكَ واذهب إلى الناصرة. سوف تأتي بصموئيل إليَّ في كفرناحوم.»
«أنا، لماذا أنا؟»
«لأنّكَ لستَ مُتعَباً. أمّا الآخرون فبلى. فقد ساروا لوقت طويل، بينما كنتَ أنتَ ترتاح...»
«أنا أيضاً كنتُ قد سرتُ. فقد ذهبت إلى الناصرة بحثاً عنكَ. بوسع أُمّكَ أن تُخبِركَ بذلك.»
«رفاقكَ كانوا يأتون إلى الناصرة كلّ سبت، وقد عادوا للتوّ مِن رحلة طويلة. اذهب ولا تُجادِل...»
«الحقيقة هي أنّ... أنّهم لا يحبّونني في الناصرة... فلماذا ترسلني أنا بالذات؟»
«إنّهم لا يكنّون المحبّة لي أنا أيضاً، ومع ذلك فأنا أذهب إلى الناصرة. ليس مِن الضروريّ أن نجد المحبّة في مكان كي نذهب إليه. اذهب ولا تُجادِل، ها أنا أقولها لكَ مجدّداً.»
«يا معلّم... إنّني أخاف مِن المجانين...»
«الرجل قد فقد صوابه بسبب النّدم، إنّما هو ليس مجنوناً.»
«أُمّكَ قالت بأنّه...»
«وللمرّة الثالثة أقول لكَ: اذهب ولا تُجادِل. إنّ التأمّل بالعواقب التي يمكن أن تَحدُث عند جَعل أُمّ تعاني هو أمر لن يعود عليكَ إلّا بالخير...»
«أتقارنني بصموئيل؟ إنّ أُمّي مَلِكة في منزلها. أنا لستُ حتّى بقربها كي أُراقبها أو أن أكون عبئاً عليها بتحمّلها إعالتي...»
«إنّ تلك الأمور لا تُشكّل عبئاً على الأُمهات. لكنّ افتقار أبنائهنّ للمحبّة، وحقيقة أنّهم مذنبون في نَظَر الله والبشر... فهي الصخور التي تسحقهنّ. والآن، اذهب»
«إنّني ذاهب، إنّما ماذا سأقول للرجل؟»
«بأن يأتي إلى كفرناحوم، إليَّ.»
«إن لم يكن قد أطاع أُمّه أبداً، فهل تتوقّع منه أن يطيعني، وخصوصاً الآن وهو شديد اليأس؟»
«أوَلم تفهم بعد أنّه إذا ما أنا أرسلتُكَ، فهذا يعني بأنّني قد عَمِلتُ قبلها على نَفْس صموئيل، محرّراً إيّاه مِن هذيان النّدم اليائس؟»
«إنّني ذاهب. الوداع يا معلّم. الوداع يا مريم. الوداع يا أصدقاء.» ويُغادر، غير متحمّس على الإطلاق، يتبعه يوسف، الذي هو على العكس، بغاية البهجة لاختياره لهذه المهمّة.
بطرس يغنّي أغنية ما بصوت خافت ودون أن يُحرّك شفتيه…
يسوع يَسأَله: «ما الذي تقوله يا سمعان بن يونا؟»
«إنّني أغنّي أغنية بحّارة قديمة...»
«ما هي؟»
«إنّها تقول: "الأمر دوماً هكذا! المزارعون يحبّون صيد السمك، وصيّادو السمك لا يحبّونه" وهنا، بحقّ، قد رأينا بأنّ التلميذ كان متلهّفاً للذهاب إلى الصيّد أكثر مِن الرَّسول...»
كُثُر يضحكون. لكنّ يسوع لا يضحك، إنّه يتنهّد.
«هل أحزنتُكَ يا معلّم؟» يَسأَل بطرس.
«لا. إنّما لا تنتقد دوماً.»
«إنّ ابن عمّي مغتمّ بسبب يهوذا» يقول يوضاس بن حلفى. «أتصمت أنتَ أيضاً، وخصوصاً في أعماق قلبك؟»
«إنّما هل حظي صموئيل حقّاً بمعجزة؟»
«نعم.»
«إذن هو ليس بحاجة لأن يأتي إلى كفرناحوم.»
«هذا ضروريّ. فأنا لم أشف قلبه تماماً. فعليه هو أن يبحث عن الشفاء، بنفسه، أي، عليه أن يطلب المغفرة عن طريق توبة مقدّسة. أنا فقط قد أعدتُ له صوابه ثانيةً. والآن الأمر يعود إليه كي يحصل على الباقي بإرادته الحرّة. لننزل. سوف نذهب وسط الناس المساكين...»
«أليس إلى منزلي يا معلّم؟»
«لا يا يُوَنّا. أنتِ تستطيعين أن تأتي إليَّ متى تشائين ذلك. هم مقيّدون بأعمالهم، وأنا مَن سيذهب إليهم...»
ويَنزل يسوع مِن الشرفة ويخرج إلى الشارع يتبعه الآخرون، وأيضاً يُوَنّا، التي أرسَلَت يوناثان إلى المنزل، والعازمة تماماً على عدم ترك يسوع، بما أنّ يسوع غير عازم على الذهاب إلى منزلها.
يمضون بين المنازل الصغيرة الفقيرة، نحو المناطق الأكثر فقراً…
والرؤيا تنتهي هكذا.