ج4 - ف100
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الرابع / القسم الأول
100- ("ذلك يستحقّ فِقدان صَداقَة مِن أجل اكتساب نَفْس")
29 / 07 / 1945
يسوع على الطريق التي تَصِل بحيرة ميرون ببحيرة الجليل، ومعه الغيور وبرتلماوس، ويَبدُون في حالة انتظار قرب السيل الذي تَحوَّلَ إلى خيط مِن ماء يُغذِّي، رغم ذلك، نباتات كثيفة، أَمّا الآخرون فَيَصِلون مِن جهتين مختلفتين.
اليوم يوم قَيظ شديد، ومع ذلك، أناس كثيرون تَبِعوا المجموعات الثلاث وقد كَرَزوا عَبْر القرى، جاعلين المرضى يَسيرون صوب مجموعة يسوع، مُتحدِّثين عنه للأصحّاء. عدد كبير مِمَّن بَرِئوا بمعجزة يُشكِّلون مجموعة سعيدة، وهُم جالِسون بين الأشجار فَرِحين، لدرجة أنّهم لا يَشعُرون حتّى بمضايقة الحرّ والغبار والنور الـمُبهِر، وكلّ الأمّور التي تسبّب إرهاقاً ليس بالقليل للآخرين.
عندما وَصَلَت أوّلاً المجموعة التي يقودها يوضاس تدّاوس إلى جانب يسوع، يبدو جليّاً تَعَب أفراد المجموعة والذين يَتبعونهم. أخيراً تَصِل المجموعة التي يقودها بطرس، حيث كثيرون مِن كورازين وبيت صيدا.
«لقد عَمِلنا، يا معلّم. إنّما يجب أن يكون هناك عدد أكبر مِن المجموعات... تَرى. لا يمكن المضيّ بعيداً بسبب الحرّ. وإذاً، فما العمل؟ تَحسَب العالم يكبر، طالما نحن نعمل باطّراد، مُبعثِراً البلدات ومُطيلاً المسافات. لم أكن لأتنبّه بأنّ الجليل بهذا الحجم. لَم نَعمَل سِوى في ركن منه، ولم نتوصّل إلى كِرازته، على قدر رَحابَته، وكثيرون للغاية هُم الذين في حاجة إليكَ ويرغبون بكَ.» يتنهّد بطرس.
«هذا لا يعني أنّ العالم يَكبُر، يا سمعان.» يجيب تدّاوس. «هذا يعني أنّ شُهرة معلّمنا تمتدّ.»
«نعم، صحيح. انظر كَم مِن الناس. كثيرون هُم الذين يَتبَعوننا منذ الصباح. ولقد لجأنا في أثناء الحرّ الشديد إلى غابة. إنّما حتّى الآن، وقد اقتَرَبَ المساء، فالمسير مُرهِق. وهؤلاء الناس المساكين هُم أبعد منّا كثيراً عن بيوتهم. وإذا ما استمرّ الأمر في التوسّع على هذا النحو، فلستُ أدري كيف العمل...» يقول يعقوب بن زَبْدي.
«في تشرين الأوّل (أكتوبر)، سيأتي الرُّعاة أيضاً.» يقول أندراوس لمواساته.
«هيه! نعم! الرُّعاة، التلاميذ، حسناً! ولكنّهم لا يفيدون سوى في القول: "يسوع هو الـمُخلِّص، إنّه هنا". لا شيء أكثر.» يجيب بطرس.
«ولكن، على الأقلّ، سيَعرف الناس أين يجدونه. أمّا الآن، فعلى العكس! نأتي نحن إلى هنا، فيَهرعون إلى هنا. وبينما هُم يأتون إلى هنا، نمضي نحن إلى مكان آخر، وعليهم أن يَركضوا في إثرنا. وحين يكون برفقتهم أولاد مرضى، فالأمر ليس عمليّاً.»
يتكلّم يسوع: «أنتَ مُحقّ يا سمعان بطرس. وأنا كذلك أُشفِق على تلك النُّفوس وتلك الجُّموع. وبالنسبة إلى كثيرين، فإنّ عدم إيجادي في لحظة معيّنة قد يُسبِّب لهم شقاء لا يمكن إصلاحه. انظروا كَم هُم تَعِبون ومُضطَرِبون، أولئك الذين لم تتولّد بعد لديهم القناعة الأكيدة بحقيقتي، وكَم هُم جياع أولئك الذين سَبَقَ لهم وأن تذوَّقوا كلمتي، ولَم يَعودوا يَعرفون الاستغناء عنها، ولَم تَعُد أيّة كلمة أخرى ترضيهم. إنّهم يَبدون مِثل خِراف بدون راعٍ، تائهة هنا وهناك، ولا تَجِد مَن يقودها ويُقدِّم لها الغذاء. سوف أتدبّر الأمر، أمّا أنتم، فعليكم مساعدتي بكلّ قواكم الروحيّة والوجدانيّة والجسديّة. فلن تذهبوا بَعد في جماعات كثيرة العدد، بل عليكم أن تذهبوا اثنين اثنين معاً. وسأُرسِل أفضل التلاميذ كلّ اثنين معاً. ذلك أنّ الحصاد كثير في الحقيقة. آه! سوف أُهيِّئكم خلال هذا الصيف لتلك الرسالة العظيمة. في تمّوز (يوليو) سوف يَلحَق بنا إسحاق ومعه أفضل التلاميذ. سوف أُعِدُّكم. ولن تُصبِحوا بالشكل الذي يكفي، حيث إذا كان الحصاد كثيراً حقّاً، فالعُمّال في الـمُقابِل قليلون. فَصَلّوا إلى سيّد الأرض لِيُرسِل فَعَلة كثيرين لحصاده.»
«نعم يا سيّدي. ولكنّ ذلك لن يُغيّر كثيراً مِن وَضع الذين يَبحَثون عنكَ.» يقول يعقوب بن حلفى.
«لماذا يا أخي؟»
«لأنّهم لا يبحثون فقط عن المذهب وكلمة الحياة، إنّما كذلك عن شفاء آلامهم وأمراضهم، وكلّ العاهات التي تصيبهم بها الحياة أو الشيطان في الجزء الأدنى أو الأسمى مِن كيانهم. وليس في هذا سِواكَ مَن يَقدر عليه، لأنّ فيكَ تَكمُن القُدرة والسلطان.»
«سوف يتمكّن الذين معي مِن فِعل ما أفعل، وسوف تُمنَح المعونة لكلّ المساكين في كلّ شقاءاتهم. إنّما لَم يُصبِح فيكم بعد ما يجب أن يتوفّر للتمكّن مِن فِعل ذلك. فحاوِلوا تَجاوُز أنفسكم، أن تدوسوا على ميولكم البشريّة لِتَجعلوا الروح ينتصر. واستَوعِبوا، لا كلمتي فقط، بل روحها، يعني تَقدَّسوا بها، وبعد ذلك تستطيعون فعل كلّ شيء. والآن، هيّا بنا لنقول لهم كلمتي، طالما لا يريدون المضيّ دون الحصول على كلمة الله. بعد ذلك نعود إلى كفرناحوم، فهنالك أيضاً أناس ينتظرون...»
«هل صحيح يا سيّدي أنّ مريم المجدليّة طَلَبَت منكَ المغفرة في بيت الفرّيسيّ؟»
«صحيح يا توما.»
«وهل مَنَحتَها إيّاها؟» يَسأَل فليبّس.
«ومَنَحتُها إيّاها.»
«ولكنّكَ أَسَأتَ التَّصرُّف.» يهتف برتلماوس.
«لماذا؟ لقد كانت توبتَها صادقة، وكانت تستحقّ الغُفران.»
«ولكن، لَم يكن ينبغي لكَ مَنحَها إيّاه في ذلك البيت وجِهاراً...» يلومه الاسخريوطيّ.
«ولكنّني لستُ أرى في أيّ شيء أخطأتُ.»
«في هذا: أنتَ تَعلَم ما هُم عليه، أولئك الفرّيسيّون، وكَم يَحملون في رؤوسهم مِن الحُجج الـمُفرِطة في الدِّقَّة، وكم عيونهم مفتوحة عليكَ، وكَم يَفترون، وكم يَحقدون عليكَ. وإذا كان أحدهم في كفرناحوم صديقاً، وهو سمعان، فهل تُرسِل في طَلَب زانية إلى بيته لِتُدنِّس له البيت وتُثير سُخط الصَّديق سمعان؟»
«أنا لَم أَستَدعِها. هي أتت إلى هناك. لَم تَكُن حينذاك زانية، بل كانت تائبة. وهذا مُختَلف كثيراً. إذا لم يكن أحد يشمئزّ مِن الدنوّ منها قَبلاً، ومِن اشتهائها على الدوام، حتّى أثناء وجودي، فالآن، حين لَم تَعُد جسداً بل نفساً، ينبغي عدم الشعور بالاشمئزاز لدى رؤيتها داخلة لِتَجثو عند قدميَّ وتبكي، وهي تقرّ بذنبها وتتواضَع في اعتراف عامّ مُتواضِع كانت تُخبِّئه تلك الدموع، فأضحى بيت سمعان الفرّيسيّ متقدِّساً بمعجزة عظيمة "قيامة نَفْس". منذ خمسة أيّام، كان قد سَأَلَني في ساحة كفرناحوم: "هل اجتَرَحتَ تلك المعجزة فقط؟" وأجاب بنفسه: "بالطبع لا". وكانت لديه رغبة كُبرى في الحصول على واحدة. وقد مَنَحتُه إيّاها. ولقد اخترتُه ليكون الشَّاهِد، إشبين خطوبة النَّفْس إلى النعمة. عليه أن يَفخَر بذلك.»
«على العكس، فلقد افتُضِحَ بذلك. وقد تكون خَسِرتَ صديقاً.»
«لقد وجدتُ نَفْساً. وهذا يستحقّ عناء فِقدان صداقة رَجُل، الصَّداقة البائسة لِرَجُل، لإعادة صداقة الله لِنَفْس.»
«عَبَثاً. معكَ لا يمكن الحصول على تفكير بشريّ. إنّنا على الأرض، يا معلّم، تَذكَّر ذلك! والشَّرائِع وأفكار الأرض هي السَّائِدة. أنتَ تتصرّف حسب نَهج السماء، تتحرّك في سمائكَ التي في قلبكَ، وتَرى كلّ شيء مِن خلال أنوار السماء. يا معلّمي المسكين! كَم أنتَ عديم الأهليّة إلهيّاً على العيش وسطنا نحن المنحرفين!» يُعانِقه يهوذا الاسخريوطيّ مُتعجِّباً وحزيناً، قائلاً، لإنهاء حديثه: «وأنا آسف لذلك، لأنّكَ تَخلُق لذاتكَ أعداء كثيرين بسبب فَرط كمالكَ.»
«لا تأسف لذلك يا يهوذا، لقد كُتِب أنّ الأمر يكون هكذا. إنّما كيف عرفتَ أنّ سمعان قد أُهين؟»
«لَم يَقُل إنّه أُهين. ولكنّه أَفهَم توما وأَفهَمَني أنّ ذلك لَم يكن أمراً جديراً بالحدوث. لَم يكن ينبغي لكَ دَعوَتها إلى بيته حيث لا يَدخُل سِوى أُناس أَشراف.»
«حسناً! لا نتحدثنّ أبداً عن شَرَف الذين يذهبون إلى بيت سمعان.» يقول بطرس.
«ويمكنني القول إنّ عَرَق العاهرات قد سال مرات عديدة على البلاط، على الطاولات، وفي أمكنة أخرى مِن بيت سمعان الفرّيسيّ.» يقول متى.
«إنّما ليس علناً.» يُجيب الاسخريوطيّ.
«لا، بل بِرِياء حَذِر لإخفاء ذلك.»
«تَرى أن تبدّلاً قد حَصَل إذاً.»
«ودخول زانية لِتَقول: "أَترُك خطيئتي المخزية"، بَدَل تلك التي تَدخُل لِتَقول: "ها أنذا كُلّي لكَ لِنُنجِز الخطيئة معاً"، هو تَبدُّل كذلك.»
«متّى على حقّ.» يقول الجميع.
«نعم، إنّه على حقّ. إنّما هُم لا يُفكِّرون مثلنا، فيجب التوصّل إلى تسوية معهم، يجب التَّكيُّف معهم للحصول عليهم كأصدقاء.»
«هذا لا يكون مُطلقاً يا يهوذا. ففيما يخصّ الحقّ والشرف والسلوك الوجدانيّ لا تَكيُّف ولا تسوية.» يقول يسوع بصوت كالرَّعد. ويَختم قوله: «علاوة على ذلك، أَعلَم أنّني أحسنتُ التصرّف، وبِقَصد الخير. وهذا يكفي. هيّا بنا نَصرف هؤلاء الناس التَّعِبين.»
ويمضي صوب أولئك المنتشرين تحت الأشجار، الذين يُثبِّتون النَّظَر باتّجاهه مُتلهِّفين لسماعه.
«السلام لكم جميعاً، يا مَن أتيتم على مَراحِل وتحت القيظ، لِسماع البُشرى الحَسَنة. الحقّ أقول لكم إنّكم بدأتم تُدرِكون ما هو ملكوت الله، وكَم ثمين هو امتلاكه، وكم هو سعيدٌ الانتماء إليه. وبالنسبة إليكم، فإنّ كلّ تعب يَفقد قيمته الخاصّة به، لأنّ النَّفْس فيكم تَأمُر وتقول للجسد: "فلتفرح لأنّني أُرهِقكَ. فإنّني لأجل سعادتكَ أفعل ذلك. عندما تتّحد بي، بعد القيامة الأخيرة، سوف تُحبّني بالقَدر الذي دُستُكَ فيه، وسوف تَرى فيَّ مُخلِّصكَ الثاني". أليس هذا ما تقوله أرواحكم؟ ولكن هي بالتأكيد تقوله! وأنتم الآن تَجعَلون تعاليم أمثلتي البعيدة، أساساً لتصرّفاتكم. أمّا الآن فإنَّني أمنحكُم أنواراً أخرى، لأجعلكم، على الدوام، أكثر شَغَفاً بذاك الملكوت الذي ينتظركم، والذي لا تُقدَّر قيمته.
اسمَعوا: مَضى رَجُل صِدفة إلى حقل يأخذ منه تراباً مُسمَّداً إلى حديقته. وبينما هو يَحفُر الأرض الصلبة بِعَناء، وَجَدَ تحت طبقة مِن التراب عِرق معدن ثمين. ماذا يفعل حينئذ ذاك الرجل؟ إنّه يغطي ما اكتَشَفَه بالتراب، ولا يتردد في متابعة المشوار، فما اكتَشَفَه يستحق العناء. يمضي بعد ذلك إلى بيته، يَجمَع كلّ ثرواته مِن مال وممتلكات، يبيعها كي يَحصَل على مال كثير. ثمّ يمضي لمقابلة مالك الحقل ويقول له: "حقلكَ يُثير إعجابي. كم تريد ثمناً له؟" "ولكنّه ليس معدّاً للبيع." يقول الآخر. ولكنّ الرجل يَرفَع السِّعر، ويستمرّ في رفعه بشكل لا يتناسب وقيمة الحقل، حتّى ينتهي بأن يتَّخِذ المالك قراره وهو يُفكِّر: "هذا الرجل مجنون، وبما إنّه كذلك، عليَّ أن انتَهِز الفرصة. أَقبُض المبلغ الذي يَعرِضه، وهذا ليس رِبى، لأنّه هو الذي يريد مَنحي إيّاه. وبهذا الثمن يمكنني شراء ثلاثة حقول أجمل مِن هذا". ويبيعه، وهو مُقتَنِع أنّه حَقَّقَ صَفقة رائعة. بينما العكس هو الصحيح، لأنّ الآخَر هو الذي حَقَّقَ الصَّفقة الجيّدة، ذلك أنّه يستغني عن أشياء يمكن أن يَسرِقها سارق، أو يمكن فقدانها أو استهلاكها، واقتَنى لِنفسه كنـزاً لا يَنضب، بما أنّه حقيقيّ وطبيعيّ. فذلك يستحقّ عناء التضحية بكلّ ما لديه لاقتنائه. ولكنّه رغم بقائه لبعض الوقت، لا يَقتَني سِوى الحقل، فإنَّه في الحقيقة يَملك الكنـز المخبّأ فيه على الدوام.
أنتم قد أدركتُم ذلك، وتَفعَلون مثل الرجل الذي في الـمَثَل. دَعوا الثروات سريعة الزَّوال مِن أجل امتلاك ملكوت السماوات. تبيعونها للبُلَهاء في هذا العالم، تتنازلون لهم عنها، وتَقبَلون أن يَسخَروا منكم لأجل ما يَظهَر في عيون العالم تَصرُّف بلاهة. تَصَرَّفوا هكذا على الدوام. وذات يوم، سوف يُعطيكم أبوكم الذي في السماوات، بِفَرَح، مكانكم في الملكوت.
عُودوا إلى بيوتكم قَبل أن يَحلّ السبت، وأثناء يوم الربّ، فَكِّروا بِـمَثَل الكنـز، الذي هو الملكوت السماويّ. السلام معكم.»
ويَنتَشِر الناس على مَهل على طُرُقات ودروب القرية، بينما يمضي يسوع صوب كفرناحوم. ويَهبِط المساء.
يَصِلها ليلاً. يجتاز المدينة الصامتة بصمت، تحت ضوء القمر، المصباح الوحيد للطرقات المظلمة وسيّئة الرَّصف. يَدخُلون بصمت إلى الحديقة المجاورة للبيت، ظانّين أنّ الجميع في أَسرَّتهم. إنّما على العكس، فإنّ مصباحاً يتلألأ في المطبخ، وثلاثة خيالات تتراقص على وقع حركة الشّعلة، تنعكس على جدار الفرن الأبيض الصغير القريب.
«هناك أناس ينتظرونكَ، يا معلّم. ولكن لا يمكن أن يسير الأمر هكذا! سأذهَب أنا الآن لأقول لهم إنّكَ تَعِب كثيراً. وفي هذه الأثناء اصعَد أنتَ إلى الشُّرفة.»
«لا يا سمعان. إنّني ذاهب إلى المطبخ. فإذا ما استبقى توما أُناسه، فهذا دليل على أنّ هناك سبباً هامّاً.»
وفي تلك الأثناء يَسمَع الذين في الدَّاخِل الهَمس، ويدنو توما، صاحب البيت، مِن العَتَبَة.
«يا معلّم، هناك المرأة المعتادة. وهي تنتظركَ منذ غياب شمس أمس. إنّها مع خادم.» ثمّ، وبصوت خافت: «إنّها مضطربة جدّاً وتبكي بغير انقطاع...»
«حسناً. قُل لها أن تأتي إلى الطابق العلوي. أين نامت؟»
«لَمْ تكن تريد النوم، ولكنّها، في النهاية، أمضَت بضعة ساعات، عند الفجر، في غرفتي. وقد جَعلتُ الخادم ينام على أحد أسرَّتكم.»
«حسناً، سوف ينام عليه الليلة كذلك، وأنتَ تنام على سريري.»
«لا يا معلّم، سأكون على الشُّرفة، وسأنام أفضل على حصيرة.»
يَصعَد يسوع إلى الشُّرفة، وها هي ذي مرثا تَصعَد كذلك.
«السلام لكِ يا مرثا.»
فتجيب بِنَحيب.
«أما زلتِ تبكين؟ ولكن ألستِ سعيدة؟»
وتُشير برأسها أَن لا.
«ولكن لماذا إذن؟...»
فترة صمت طويلة مِلؤها النَّحيب. في النهاية، وبِأنين: «لَم تَعُد مريم منذ عدّة ليال. ولا نَعثُر لها على أَثَر، لا أنا ولا المربّية ولا مارسيل. كانت قد خَرَجَت مع العربة، وقد تأنَّقَت بشكل رائع. آه! لَم تكن تريد ارتداء ثوبي!... لم تكن نصف عارية، وما زال لديها منها، ولكنّها كانت مُثيرة جدّاً في ذلك... وكانت قد أَخَذَت معها ذهباً وطِيباً... ولَم تَعُد. لقد رَدَّت الخادم عند طلائع بيوت كفرناحوم قائلة: "سوف أعود برفقة مجموعة أُخرى". ولكنّها لَم تَعُد. لقد خَدَعَتنا! أو قد تكون أَحسَّت بالوحدة، أو قد تكون خَضَعَت لتجربة... نعم، لقد حَصَلَ لها سوء... لن تعود...» وتجثو مرثا وهي تبكي، وقد أَسنَدَت رأسها إلى ساعِدِها الذي وَضَعَته على كوم مِن الأكياس الفارغة.
يَنظُر إليها يسوع ويقول بِتُؤدة وثِقة، وهَيمَنة: «لا تنوحي. فمريم قد أتت إليَّ منذ ثلاث أمسيات، وقد طَيَّبَت لي قدميَّ ورَمَت بكلّ مجوهراتها عند قدميَّ. وهكذا تكرَّسَت، وإلى الأبد، مُتَّخِذة مكاناً لها بين تلميذاتي. فلا تَذُمّيها في قلبكِ. لقد تجاوَزَتكِ.»
«ولكن أين، أين هي أختي؟» تهتف مرثا وهي تَرفَع وجهها المضطَرِب. «لماذا لَم تَعُد إلى البيت؟ هل أَلمَّ بها سوء؟ هل يمكن أن تكون قد استأجَرَت مركباً وغَرِقَت؟ هل يمكن لعشيق رَفَضَته أن يكون قد اختَطَفَها؟ آه! مريم! حبيبتي مريم! ما أن وَجَدُّتها حتّى فَقدُّتها!» بالحقيقة لقد خَرَجَت مرثا عن طَورِها. لَم تَعُد تُفكِّر أنّ الذين في الأسفل قد يَسمَعونها. لَم تَعُد تُفكِّر أنّ بإمكان يسوع أن يقول لها أين أختها. إنّها تيأس دون تفكير بأيّ شيء.
يُمسِكها يسوع بقبضته، ويُرغِمها على الحفاظ على السَّكينة، وعلى الإنصات إليه، مُهيمِناً عليها بقامته الطويلة ونظرته المغناطيسيّة «كفى! أريد أن تؤمني بكلامي. أريدكِ سَخيَّة. هل فهمتِ؟» ولا يتركها إلّا حينما تهدأ مرثا قليلاً.
«لقد مَضَت أختكِ تتذوَّق فَرَحها، في عزلة مقدَّسة، لأنّ لديها الحياء فائق الحساسيّة الذي للمُفتَدين. ولقد قُلتُ لكِ ذلك مسبقاً. لا يمكنها تَحمُّل النَّظرة اللطيفة، إنّما الفاحِصة، مِن الأهل على ثوبها الجديد كعروس للنّعمة. وما أقوله لكِ صحيح على الدوام. ينبغي لكِ الإيمان بي.»
«نَعم، يا سيّدي. نعم. ولكنّ مريم كانت تحت سلطان الشيطان بشكل هائل، هائل. ولقد استردَّها دفعة واحدة. لقد...»
«إنّه يَنتَقِم منكِ من أجل الفريسة التي فَقَدَها للأبد. هل عليَّ أن أراكِ، أنتِ الشُّجاعة، وقد أَصبَحتِ فريسة بسبب خوف مجنون، وبلا مُبرّر؟ هل ينبغي لي أن أرى أنّكِ، بسببها، هي التي تؤمن بي الآن، قد فَقَدتِ إيمانكِ الحلو الذي عرفتكِ فيه على الدوام؟ مرثا انظري إليَّ جيّداً. أنصِتي إليَّ. لا تُنصِتي إلى الشيطان. ألا تَعلَمين أنّه، عندما يكون مُجبَراً على ترك فريسته بسبب نصر مِن الله عليه، فإنّه يبدأ العمل مباشرة، جَلّاد الكائنات هذا، الذي لا يَكلّ، سارق حقوق الله هذا، الذي لا يَتعَب، لِيَجد فرائس أخرى؟ ألا تَعلَمين أنّ عذابات شخص يُقاوم الهجمات لأنّه صالح ومؤمن تُثبِّت شفاء روح آخر؟ ألا تعلمين أنّ لا شيء مُنعَزِل عن كلّ ما يَحدُث ويُوجَد في الخليقة، بل إنّ كلّ شيء يَتبَع شريعة أزليّة مِن التَّبعيّات والنتائج، مِمّا يؤدي إلى أنّ كلّ فِعل مِن أحدهم تكون له انعكاسات طبيعيّة وفائقة الطبيعة ممتدّة كثيراً؟ إنّكِ تبكين هنا، تَختَبِرين هنا الشكّ الفظيع وتَبقين وفيّة لمسيحكِ، حتّى في ساعة الظلمات هذه. وهناك، في موضع مُجاوِر لا تعرفينه، مريم، وهي تَشعُر أنّها تَحلّ آخر شكّ بالغفران اللامتناهي الذي حَصَلَت عليه. فتتبدّل دموعها إلى ابتسامات، وظُلماتها إلى نور. إنّه عذابكِ الذي قادها إلى حيث السلام، حيث النُّفوس تتجدّد إلى جانب التي وُلِدَت بريئة مِن كلّ وصمة، إلى جانب التي هي حياة لدرجة إنّها نالت أن تَمنَح العالم المسيح الذي هو حياة. أختكِ عند أُمّي. آه! فهي ليست الأولى التي تُدخِل شراعها في ذاك المرفأ الآمن، بعد أن ناداها إلى صدره شعاع مريم الحيّ العذب، بواسطة حُبّ ابنها الصامت والفَعَّال! أختكِ في الناصرة.»
«ولكن كيف ذَهَبَت إلى هناك وهي لا تَعرف أُمّكَ ولا بيتكَ؟... وحدها... أثناء الليل... هكذا... دونما واسطة... بذلك الثوب... تَسلك طريقاً طويلة جدّاً... كيف؟»
«كيف؟ مثل سنونو تَعِب يَمضي إلى العشّ حيث وُلِد، مُجتازاً بُحوراً وجِبالاً، مُتغلّباً على العواصف والغيوم والرياح المعاكِسة. كما تَذهَب أسراب السنونو إلى مَطارِحها الشتويّة، بغريزة تقودها، بحرارة تدعوها، بالشمس التي تناديها. وقد هَرَعَت هي كذلك صوب الشعاع الذي يناديها... صوب الأُمّ الأزليّة. وسوف نراها عائدة عند الفجر سعيدة... وقد خَرَجَت مِن الظُّلُمات للأبد، مع أُمّ إلى جانبها، أُمّها، لكيلا تعود يتيمة أبداً. هل يمكنكِ الإيمان بذلك؟»
«نعم يا سيّدي.»
مرثا، وكأنّها قد فُتِنَت. وكان يسوع بالفعل مُهيمِناً، عظيماً، واقفاً، ومع ذلك كان منحنياً قليلاً فوق مرثا الجاثية، يتحدّث بِتؤدة وبصوت نافِذ، كما لِيَنفذ إلى أعماق التلميذة المضطربة. قليلة هي المرّات التي رأيتُهُ فيها بذلك السلطان حتّى يُقنِع أحد الذين يُنصِتون إليه. إنّما، في النهاية، يا له مِن نور، يا للابتسامة على وجهه!
وتَعكس مرثا، لدى ابتسامته، نوراً أكثر سكينة على وجهها.
«والآن اذهبي واستريحي بسلام.»
وتُقبِّل مرثا يديه، وتَهبط مُستعيدَة هُدوءها...