ج4 - ف150

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الرابع / القسم الثاني

 

150- (تاجر ما وراء الفرات)

 

25 / 09 / 1945

 

بعد سهل خصيب يمتدّ على مساحة واسعة وراء الأردن -جميل هو المسير أثناء فصل صاح ولطيف، كما هي الحال في نهاية تشرين الأوّل (أكتوبر)- وبعد توقُّف في قرية صغيرة تمتدّ عند أسفل أُولى منحدرات سلسلة جبليّة ذات نتوءات بارزة -وبعض القمم يمكن تسميتها بحقّ جبالاً- يُعاوِد يسوع المسير مِن جديد، وقد انضمَّ إلى قافلة طويلة فيها العديد مِن ذوات الأربع ورجال مدجّجون بالسلاح، بينما كانوا يَسقُون الدواب مِن بِركة السَّاحة.

 

إنّهم رجال طُوَال القامة، سُمر البَشَرَة آسيويّو المظهر. رئيس القافلة يمتطي بغلاً ضخماً، وهو مسلّح حتّى أسنانه، وقد علَّقَ أسلحة كذلك على السّرج. لقد كان كثير الاحترام تجاه يسوع.

 

يَسأَل الرُّسُل يسوع: «مَن هو؟»

 

«تاجر ثريّ ممّا وراء الفرات. سألتُهُ إلى أين كان ماضياً وقد كان مهذّباً. إنّه يمرّ بالمدن التي أنوي المضيّ إليها. إنّه عَضُدٌ لنا على تلك الجبال، لأنّ معنا نساء.»

 

«هل تخشى شيئاً؟»

 

«مِن جِهة السرقات، لستُ أخشى شيئاً، ذلك أنّنا لا نملك شيئاً. إنّما خوف النسـاء يكفي. وحفنة مِن اللصوص لا تهاجم أبداً قافلة بهذه القوّة، وقد يفيدنا هذا في معرفة أفضل الممرات وعبور أَصعَبها. سألني: "هل أنتَ مَسيّا؟" وعندما سَمِعَ التأكيد قال: "كنتُ منذ أيّام في قصر للوثنيّين، وقد سَمِعتُكَ دون أن أراك، لأنّني قصير. حسناً، سوف أحميكَ وستحميني. لديَّ بضاعة ذات قيمة عالية".»

 

«هل هو أحد المهتدين؟»

 

«لا أظنّ، ولكنّه قد يكون أيضاً مِن شعبنا.»

 

تتقدّم القافلة ببطء، كما لو كانت الغاية هي عدم إنهاك الدواب بجعلها تسير كثيراً. فمن السهل إذن اللّحاق بها سيراً على الأقدام، فهم يضطرّون للتوقّف أحياناً، لأنّ الذين يقودون الدواب يجعلونها تمرّ الواحدة تلو الأخرى في الممرّات الصعبة وهُم يقودونها مُمسِكين باللّجام.

 

رُغم أنّه جبل بكلّ معنى الكلمة، فإنّ المنطقة خصيبة جدّاً ومعتنى بها جيّداً. قد تكون الجبال المرتفعة، مِن جهة الشمال الشرقيّ، تؤمِّن حماية مِن تيّارات الشمال الباردة، وتيّارات الشرق المؤذية، وهذا ما يُحسِّن المحاصيل. تُحاذي القافلة سيلاً يصبّ بالتأكيد في الأردن مياهه الغزيرة النازلة لستُ أدري مِن أيّة قمّة. المنظر جميل، ويزداد جماله كلّما زاد الارتفاع، وهو يمتدّ إلى الغرب صوب سهل الأردن. بعد ذلك، المشاهد الظريفة لروابي وجبال اليهوديّة مِن الشمال، بينما في الشرق والشمال تَبدُّل مستمرّ للبانوراما، بعضها تنفتح على أبعاد شاسعة، وبعضها الآخر تمنح الأبصار تلاحُم أَكَمات وقمم مُخضَوضرة أو صخريّة، تبدو وكأنّها تسدّ الطريق كجدار متاهة غير متوقّع.

 

الشمس، على وشك الهبوط خلف جبال اليهوديّة، جاعلة السماء والضفاف شديدة الاحمرار، عندما التاجر الغنيّ، الذي توقّف تاركاً القافلة تمرّ، ينادي يسوع: «يجب الوصول إلى البلدة قبل حلول الليل، ولكنّ كثيرين ممّن هُم معكَ يبدو عليهم التعب. إنّها مرحلة قاسية. اجعلهم يمتطون بِغال الحُرّاس. إنّها حيوانات مُسالِمة. سيكون لديها الليل بطوله للاستراحة، كما أنّ حَمل امرأة ليس مُتعِباً.»

 

يوافق يسوع ويأمر الرجل بالتوقّف كي تمتطي النساء الدواب. يَجعَل يسـوع يوحنّا الذي مِن عين دور يمتطي إحداها أيضاً. والذين يسيرون على أقدامهم، بما فيهم يسـوع، يُمسِكون بالأعنّة لتطمئنّ النساء أكثر. يريد مارغزيام اعتبار نفسه رجلاً... ورغم أنّ التعب يُنهِكه، فإنّه لا يريد امتطاء سرج أيّ منها، بل على العكس فإنّه يمسك بِعنان البَغل الذي تمتطيه مريم الكلّيّة القداسة، والذي هو بين يسوع والصبيّ، وهذا الأخير يتقدّم بشجاعة.

 

بَقِيَ التاجر قرب يسوع وهو يقول لمريم: «هل ترين هذه البلدة يا امرأة؟ إنّها راموت. سوف نتوقّف فيها. يَعرِفني صاحب الفندق، لأنّني أمُرُّ مِن هنا مرّتين كلّ عام، بينما في المرّتين الأخريين فإنَّني أحاذي الضفّة لأبيع وأشتري. هكذا هي حياتي: إنّها حياة قاسية. ولكنّي أب لاثني عشر ولداً ما زالوا صغاراً. لقد تزوَّجتُ متأخّراً. وقد تركتُ ابني الصغير وهو ابن تسعة أيّام. والآن سوف ألاقيه وقد بَزَغَت أسنانه الأولى.»

 

«عائلة جميلة...» تُعلِّق مريم، وتُنهي: «فلتحفظها السماء لكَ!»

 

«في الحقيقة لا أشتكي مِن إعالتها، عدا عن قلّة استحقاقي لها.»

 

يَسأَله يسوع: «هل أنتَ مُهتَدٍ على الأقلّ؟»

 

«مِن المفروض أن أكون كذلك... فأجدادي كانوا إسرائيليّين حقيقيّين. ثمّ... تأقلمنا هناك...»

 

«ليس هناك سوى جَوّ واحد تتأقلم فيه النَّفْس: جَوّ السماء.»

 

«إنّكَ مُحقّ. ولكن تَعلَم... جدّي الثاني تزوّج مِن امرأة لم تكن إسرائيليّة. فكان الأبناء أقلّ إيماناً... أبناء الأبناء تزوّجوا مِن نساء لم يكنَّ يَنتَمين إلى إسرائيل، فأنجَبنَ أولاداً كانوا فقط مُحتَرِمين للاسم اليهودي؛ ذلك أنّنا مِن أصل يهوديّ. والآن أنا، حفيد الأحفـاد... لاشيء. باحتكاكي بجميع  الناس، فقد اقتبستُ مِن الجميع، حتّى لم أعد أنتمي إلى أحد.»

 

«إنّكَ تُفكّر بشكل سيّئ، وسوف أُثبِت لكَ ذلك. إذا ما التقيتَ، أثناء ذهابكَ مِن هذه الطريق التي تعرف أنّها الأفضل، بخمسة أو ستة أشخاص يقولون لكَ: "ولكن لا، اذهب مِن هذه الناحية"، "عُد إلى الخلف"، "توقّف"، "اذهب باتجاه الشرق"، "استدر باتجاه الغرب"، ماذا تقول؟»

 

«أقول: "أَعرِف أنّ هذه هي الأقصر والأسهل، لن أحيد عنها".»

 

«أو أيضاً: إذا كان عليكَ معالجة أمر ما وأنتَ تَعرِف طريقة إنجازه، فهـل تُصغي إلى الذين، بمحض تبجّح أو بحساب مخادع، يقولون لكَ أن تتصرّف بشكل مغاير؟»

 

«لا. بل أَتبَع ما تُشير لي تجربتي أنّه الأفضل.»

 

«حسن جدّاً. أنتَ إسرائيليّ الأصل، ولكَ خلفكَ ألوف السنوات مِن الإيمان. أنتَ لستَ أبلهاً ولا أُمّيّاً، فلماذا إذاً تمتصّ احتكاككَ بالجميع فيما يخصّ موضوع الإيمان، بينما تَعرِف كيف ترفض فيما يخصّ المال أو أمان الطرقات؟ ألا يبدو لكَ ذلك غير مُشرِّف حتّى بالمعنى البشريّ؟ جَعْل الله في المرتبة الثانية بعد المال والطريق...»

 

«أنا لم أجعله في المرتبة الثانية، ولكنّني فقدتُ رؤيته...»

 

«ذلك أنّكَ اتّخذتَ مِن التجارة والمال والحياة آلهة لكَ. ولكنّ الله هو الذي يسمح لكَ أيضاً بالحصول على مثل تلك الأشياء... لماذا دخلتَ إلى الهيكل إذن؟»

 

«مِن باب الفضول. في الطريق، أثناء خروجي مِن بيت كنتُ أُفاوِض فيه على بضائع، رأيتُ مجموعة مِن الناس، وقد كانوا يجلّونكَ، فتذكّرتُ حِواراً كنتُ قد سَمِعتُهُ في أشقلون، عند امرأة تصنع السجّاد. سألتُ مَن تكون، لأنّني كنتُ أشتبه بكونكَ ذلك الذي كانت المرأة قد حَدَّثتني عنه. وحين عَلِمتُ تَبِعتُكَ. كنتُ قد أنهيتُ عمل ذلك اليوم... ثمّ فقدتُ أثركَ. في أريحا عدتُ فرأيتُكَ لحظة فقط. واليوم عُدتُ فوجدتكَ... هاكَ...»

 

«ها إنّ الله إذن يجمعنا ويَجعَل طُرقنا تتلاقى. أنا ليس لديَّ ما أمنحكَ إيّاه لأشكركَ على لطفكَ. ولكنّني آمُل قبل مغادرتي إيّاكَ أن أهبكَ نِعمة، على ألّا تتركني قَبلها على الأقلّ.»

 

«لا لن أفعلها! اسكندر ميزاس عندما يُقدِّم ذاته لا ينسحب! هاكَ: خلف ذاك المنعطف تبدأ البلدة. أنا ماضٍ إلى الأمام. سنلتقي ثانية في الفندق.» ويَهمز مطيّته ويمضي جَرياً على حافة الطريق.

 

«إنّه رجل نزيه وتعيس، يا وَلَدي.» تقول مريم.

 

«وأنتِ تريدينه سعيداً بحسب الحكمة، أليس كذلك؟»

 

ويتبادلان ابتسامة وادعة مع حلول الظّلال الأولى للمساء.

 

...أثناء أمسية تشرينيّة (أكتوبر) طويلة، وإذ هم مُلتَئِمون جميعهم في غرفة واسعة في الفندق، ينتظر المسافرون ساعة النوم. وفي إحدى الزوايا، التاجر بمفرده منشغل بحساباته. في الزاوية المقابلة، يسوع مع أتباعه كلّهم. ليس هناك نُزلاء آخرون. مِن الاصطبلات تأتي أصوات نَهيق وصَهيل وثُغاء. هذا ما يدعو إلى الافتراض بأنّ هناك نُزلاء آخرين في الفندق، ولكن قد يكونون في الفراش.

 

نام مارغزيام بين ذراعيّ السيدة العذراء، ناسياً فجأة أنّه "رَجُل". وبطرس أَخَذَه النُّعاس وهو ليس الوحيد. وحتّى النساء المسنّات الثرثارات فإنّهن شبه نائمات وصامتات. أمّا يسوع ومريم وأختا لعازر وسِنْتيخي وسمعان الغيور ويوحنّا ويوضاس فَهُم يَقِظون.

 

سِنْتيخي تنبش في حقيبة يوحنّا الذي مِن عين دور، وكأنّها تبحث عن شيء ما. إنّما في النهاية، تُفضِّل المجيء إلى جانب الآخرين والاستماع إلى يوضاس بن حلفى الذي يتحدّث عن عواقب المنفى في بابل وينتهي بقوله: «...قد يكون ذلك الرجل واحداً مِن تلك العواقب. كلّ مَنفَى هو دمار...» تُشير سِنْتيخي برأسها بشكل لا شعوريّ، ولكنّها لا تقول شيئاً، ويختم يوضاس بن حلفى: «غريب هو أن يتمكّن المرء مِن التجرّد عمّا هو كنـز دهور بأكملها، لِيُصبح جديداً كلّيّاً، خاصّة في أمور الدِّين هذه، ودِين كالذي لنا...»

 

يُجيب يسوع: «عليكَ ألّا تندهش طالما أنّكَ تَرى السامرة في قلب إسرائيل.»

 

فترة صمت... عينا سِنْتيخي القاتمتين تُحدِّقان في المنظر الجانبيّ لوجه يسوع الصافي. تَنظُر إليه بدقّة ولكنّها لا تتكلّم. يَشعُر يسوع بتلك النَّظرَة ويستدير لِيَنظُر إليها.

 

«ألم تَجِدي شيئاً على هواكِ؟»

 

«لا، يا سيّد. لقد وصلتُ إلى حدّ عدم معرفة التوفيق بين الماضي والحاضر، بين أفكاري السابقة وتلك الحاليّة. ويبدو لي أنّ في الأمر، لِنَقُل، خيانة، ذلك أنّ أفكاري القديمة قد أعانتني، حقيقة، في الحصول على الحاليّة. ورَسولكَ كان قد أَجادَ القول... حينئذ دماري هو دمار سعيد.»

 

«ما الذي دُمِّر بالنسبة لكِ؟»

 

«الإيمان بالسماء الوثنيّة، يا ربّ. ومع ذلك فإنّني مُضطَرِبة قليلاً، لأنّني لدى قراءتي كتاباتكم -لقد أعطانيها يوحنّا، وأنا أقرأها لأنّه بدون معرفة لا يكون امتلاك- وجـدتُ أنّه حتّى في تاريخكم... منذ البدايات، بوسعي القول، هناك أحداث لا تختلف كثيراً عن التي لنا. الآن أودُّ أن أعرف...»

 

«لقد قلتُ لكِ: اسألي وأنا سأُجيب.»

 

«هل كلّ ما في دِين الآلهة خطأ؟»

 

«نعم، يا امرأة. فلا يوجد سوى إله واحد، ما تأتّى عَن آخر، وهو غير خاضع للأهواء والحاجات البشريّة، إله أَوحَد، أزليّ، كامِل، وخالِق.»

 

«أنا أؤمن بذلك. ولكنّني لا أريد الإجابة بشكل لا يَحتَمِل النقاش، بل إنّما بأسلوب يَقبَل النّقاش للإقناع، للإجابة على أسئلة يمكن أن يَطرَحها عليَّ وثنيّون آخرون. فأنا، بذاتي، وبفضل هذا الإله الخَيّر والأبويّ، أَعطَيتُ لنفسي إجابات مبدئيّة ولكنّها كافية، لتمنح روحي السلام. ولكنّني كنتُ أبغي التوصّل إلى الحقيقة. آخرون يبحثون عنها بِقَلَق أقلّ، ومع ذلك فعلى الجميع أن تكون لديهم الرغبة بذلك البحث. فلستُ أنوي البقاء عديمة النَّفع تجـاه النُّفوس. فما نِلتُه أودُّ لو أُعطيه. ولكي أُعطي عليَّ أن أعرف. فاسمح لي أن أعرف، وسأخدمكَ باسم الحبّ. اليوم، في الطريق، بينما كنتُ أتأمّل الجبال، كانت بعض المشاهِد تُحيِي في ذاكرتي صورة سلاسل جبال هيلاّد، وتاريخ الوطن، وبترابُط الأفكار كانت تَحضر في ذهني أسطورة بروميثي، وتلك التي لديكاليون... أنتم كذلك لديكم ما يُشبِهها في صَعق لوسيفوروس، في بث الحياة في الصلصال وفي طوفان نوح. تلازُمات خفيفة، ولكنّها مع ذلك تذكار... الآن قل لي: كيف أمكننا أن نعرفها إن لم تكن هناك اتّصالات بيننا وبينكم، وإن كانت لكم بالتأكيد قبلنا، ونحن حصلنا عليها كذلك، فهل مِن إسناد لكيفية حصولنا عليها؟ وإنّ كانت هناك أموراً كثيرة نحن الآن نجهلها. فكيف إذن قد كانت لنا منذ آلاف السنين أساطير تستعيد الحقائق التي لكم؟»

 

«أيّتها المرأة، ينبغي لكِ أن تسأليني عن هذا أقلّ مِن الآخرين. لقد قرأتِ أعمالاً بإمكانها وحدها أن تُجيب عن سؤالكِ. فأنتِ اليوم، بائتلاف الأفكار، قد انتقلتِ مِن تذكّر جبال مسقط رأسكِ، إلى الأساطير الميلاديّة، وإلى مقارنتها. أليس كذلك؟ لماذا كان هذا؟»

 

«لأنّ فكري، بينما كان يصحو، تذكَّرَ.»

 

«جيّد جدّاً. حتّى نفوس القدماء جدّاً، الذين مَنَحوا ديانة لأرضكِ، تَذكَّـروا، إنّما بغموض، كما يفعل غير الكامل، الذي هو مُنفَصِل عن الديانة الموحى بها. ولكنّهم تذكَّروا على الدوام. توجد ديانات كثيرة في العالم. فلو كانت هنا لوحة واضحة تُظهِر كلّ خصوصيّاتها، لكنّا رأينا أنّ هناك ما يُشبِه خيط الذهب تائهاً في الوحل الوفير، خيط فيه عَقد تَكمُن فيها أجزاء مِن الحقيقة الصحيحة.»

 

«ولكن ألم نأت جميعنا مِن أصل كَرمَة واحدة؟ أنتَ تقول ذلك. إذن، فلماذا قدماء القدماء الآتين مِن الجذع الأصليّ لم يَعرِفوا أن يَحمِلوا معهم الحقيقة؟ أليس مِن الظُّلم أن تُحجَب عنهم؟»

 

«قرأتِ سِفر التكوين، أليس كذلك؟ ماذا وجدتِ؟ في البداية هناك خطيئة مُركَّبة تحيط بحالات الإنسان الثلاث: مادّة وفِكراً وروحاً. بعد ذلك قَتْل الأخ أخاه، ثمّ قَتْل مُضـاعَف لإبطال صنيعة أخنوخ في حفظ النور في القلوب، بعدئذ يـأتي الفساد بالاتّحاد الشهواني لأبناء الله (أولاد شيث) ببنات الدم (بنات قايين) [انظر تفسير سفر التكوين 6: 1-2 للقسّ تادرس يعقوب ملطي]. ورغم التطهُّر بالطوفان وإعادة بناء الأصل ابتداء مِن بِـذار صالحة -لا مِن مِن حجارة كما تقول أساطيركم، كما أيضاً أنّه ليس من خلال نشوة نار حيوية من صنيعة إنسانية، بل إنّما ببث النار المحيية التي هي صنيعة الله، كانت الحياة قد دبّت في أوّل صلصال شكَّلَه الله على صورته وبشكل بشريّ- فها هي ذي مِن جديد خميرة الكبرياء، إهانة الله: «"إنّنا نبلغ السماء" واللعنة الإلهيّة: "فليتبدّدوا ولا يفهمنّ بعضهم لغة بعض... والجذع الوحيد، كما الماء الذي إذ يرتَطِم بصخرة، ينقسم إلى جداول لا تعود تجتمع أبـداً، ينقسـم، والأصل يُصبِح أصولاً. والبشريّة، إذ شَرَعَت تفرّ بفعل الخطيئة والعقاب الإلهيّ، فإنّها تتبدّد ولا تعود تجتمع أبداً، حاملة معها البَلبَلة التي كان قد خَلَقها الكبرياء. ولكنّ النُّفوس تتذكّر. يبقى فيها شيء ما على الدوام، والأكثر عفافـاً والأكثر حِكمـة تَرى بصيص نور في ظُلمات الأساطير: نور الحقيقة. إنّه تذكار النور الذي رأته قبل الحياة، الذي يُحرِّك فيها حقائق توجد فيها مقتطفات مِن الحقيقة الموحى بها. هل فَهِمتِني؟»

 

«جزئياً. ولكنني الآن سوف أُفكِّر فيها. فالليل هو صديق الذي يُفكِّر ويختلي في ذاته.»

 

«إذن هلمّوا بنا نختلي كلّ في ذاته. هيّا بنا يا أصدقائي. السلام لكنّ أيتّها النساء. السلام لكم يا تلاميذي. السلام لكَ يا اسكندر ميزاس.»

 

«وداعاً يا سيّد. ليكن الله معكَ.» يقول التاجر وهو ينحني...