ج5 - ف65
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الخامس/ القسم الثاني
65- (عشيّة السبت. /IV/: الوليمة الفصحيّة مع لعازر)
03 / 02 / 1946
عندما يَلِج يسوع القصر، أراه وقد اجتاحته جماعة مِن الخُدّام الآتين مِن بيت عنيا، منهمكين في الاستعدادات. لعازر ممدّد على سرير يتألّم كثيراً. يحيّي بابتسامة شاحبة معلّمه الذي يهرع إليه وينحني على سريره بحنان بالِغٍ سائلاً إيّاه: «تألّمتَ كثيراً، أليس كذلك، يا صديقي، مع اهتزازات العربة؟»
«كثيراً يا معلّم.» يُجيب لعازر، الـمُنهَك لدرجة أنّه، كي يتذكّر ما عاناه، دَمَعَت عيناه.
«إنّها غلطتي! سامحني!»
يُمسِك لعازر بإحدى يديّ يسوع ويحملها إلى وجهه. يمرّرها على خدّه الهزيل، يُقبلِّها ويُتمتِم: «آه! ليست غلطتكَ يا ربّي! وإنّي مسرور للغاية لتمضيتكَ الفصح معي... فِصحي الأخير!...»
«إن شاء الله، رغم كلّ شيء، سوف تحتفل بمناسبات فصح كثيرة بعد، يا لعازر. وسيبقى قلبكَ معي على الدوام.»
«آه! أنا، قد انتهيتُ! أنتَ تواسيني... إنّما قُضِيَ الأمر. وهذا يُحزِنني...» ويبكي.
«أتراه، يا ربّ؟ لعازر لا يفعل شيئاً سوى البكاء.» تقول مرثا بإشفاق. «قُل له ألاّ يَفعَل. إنّه يُنهِك نفسه!»
«ما يزال للجسد حقوقه. الألم شاقّ، يا مرثا، والجسد يبكي. إنّه يحتاج إلى هذا العزاء. إلاّ أنّ النَّفْس مُسَلِّمة، أليس كذلك يا صديقي؟ نَفْسكَ، نَفْس الصدّيق تُتمِّم عن رضى مشيئة الربّ...»
«نعم... ولكنّني أبكي لأنّكَ وأنتَ مضطَهَد هكذا، لن تكون حاضراً ساعة موتي... إنّني هَلِع، أخشى الموت... لو كنتَ هنا، لما كانت لي كلّ هذه الأحاسيس. لكنتُ التجأتُ إلى ذراعيكَ... ولكنتُ نمتُ هكذا... كيف العمل؟ كيف العمل للموت دون التصرّف بشكل يخالف الطاعة لهذه المشيئة الرهيبة؟»
«هيّا! لا تفكّر في هذه الأمور! أترى؟ إنّكَ تجعل أختيكَ تبكيان... الربّ سوف يعينكَ بِقَدر مِن الأبوّة تجعلكَ لا تخاف. فالخوف، ينبغي أن يكون لدى الخَطَأَة...»
«أمّا أنتَ، إن استطعت المجيء، فهل ستأتي ساعة نزاعي؟ عدني!»
«أعدكَ بذلك. وبأكثر منه أيضاً.»
«بينما تتمّ تهيئة الاستعدادات، اروِ لي ماذا فعلتَ هذا الصباح...»
يسوع، إذ يجلس على حافّة السرير، وبين يديه إحدى يديّ لعازر الهزيلة، يَروي بالتفصيل كلّ ماجرى حتّى غفا لعازر الـمُنهَك. ويسوع، حتّى أثناء ذلك، لم يتركه. يبقى ساكناً كي لا يُزعِج هذا النوم المعيد للنشاط، مشيراً إلى الإقلال قدر الإمكان مِن الضجيج، حتّى إنّ مرثا التي أحضَرَت ليسوع ما يقتات به، تنسحب على أطراف أصابعها مُسدِلة الستار الثقيل ومُغلِقة الباب الضخم. وضوضاء البيت المفعم حركة تخفت هكذا إلى دندنة بالكاد محسوسة. لعازر ينام. يسوع يصلّي ويتأمّل. تمضي الساعات هكذا إلى أن أتت مريم حاملة مصباحاً لأنّ الليل هَبَطَ وسوف تُقفَل النوافذ.
«هل ما يزال نائماً؟» تُتمتِم.
«نعم. إنّه في سكون. وهذا يفيده.»
«لم ينم هكذا منذ أشهر... أظنّه كان مضطرباً جدّاً خوفاً مِن الموت. وبوجودكَ بقربه لم يعد يخاف... مِن أيّ شيء... محظوظ، هو!»
«لماذا، يا مريم؟»
«لأنّه سيتمكّن مِن الحصول عليكَ قريباً منه ساعة موته. أمّا أنا...»
«لماذا ليس أنتِ؟»
«لأنّكَ تريد أن تموت... وقريباً. وأنا، مَن يدري متى سأموت. اجعلني أموت قبلكَ، يا معلّم!»
«لا، عليكِ الاستمرار في خدمتي لفترة طويلة.»
«وإذن أنا على حقّ في قولي إنّ لعازر محظوظ!»
«المحبوبون سيكونون جميعاً محظوظين مثله، وأكثر منه.»
«مَن يكونون؟ الأطهار، أليس كذلك؟»
«الذين يعرفون أن يحبّوا بالكامل. أنتِ، مثلاً، يا مريم.»
«آه! معلّمي!» وتنـزلق مريم أرضاً على البساط متعدّد الألوان الذي يغطّي بلاط الغرفة تلك، وتمكث هائمة بيسوعها.
مرثا التي تبحث عنها، تُطِلُّ برأسها إلى الداخل. «تعالي، إذن! علينا تهيئة الغرفة الحمراء مِن أجل عشاء الربّ.»
«لا، يا مرثا. فهذه تُقدِّمينها للأكثر تواضعاً، لفلاّحي جيوقانا، مثلاً.»
«ولكن لماذا، يا معلّم؟»
«لأنّ الفقراء يُساوون يسوع وأنا في كلّ واحد فيهم. كَرِّما على الدوام الفقير الذي لا يحبّه أحد، إذا أردتما أن تَبلُغا الكمال. فيما يخصّني، ستُحضِّران في الرُّدهة. مع إبقاء الأبواب الكثيرة المفضية إلى داخلها مفتوحة، فيراني الجميع، وأنا، أرى الجميع.»
ومرثا، غير راضية تماماً، تَعتَرِض: «ولكن أنتَ، في رُدهة!... هذا لا يليق بكَ!...»
«اذهبي، اذهبي. افعلي ما قلتُه لك. إنّه لائق جدّاً فِعل ما يُوصِي به المعلّم.»
تَخرُج مرثا ومريم دون جَلَبَة، ويبقى يسوع بطول أناة يَسهَر على الصديق النائم. الموائد كلّها في طريق الإعداد. توزيع الضيوف ليس عادلاً مطلقاً مِن وِجهة النَّظَر البشريّة، ولكنّه رُسِم مِن وجهة نظر فائقة، بحيث يَمنَح الكرامة والحبّ للذين يُهمِلهم العالم عادة.
هكذا في القاعة الملوكيّة الحمراء الرائعة، حيث القنطرة مرتكزة على عمودين مِن الرخام الأحمر، وقد أُعدَّت المائدة الطويلة بينهما، يجلس فلاّحو جيوقانا، ومعهم مارغزيام وإسحاق وتلاميذ آخرون وصولاً إلى العدد المطلوب. في القاعة التي تمّ فيها تناول العشاء في الليلة السابقة، هناك تلاميذ آخرون وسط الأكثر تواضعاً. في القاعة البيضاء، حُلم الطهارة، التلميذات العذراوات الأربعة فقط، ومعهن أختا لعازر وأنستاسيا وشابّات أخريات. ولكنّ مَلِكَة الاحتفال هي مريم، العذراء بامتياز. في الغرفة المجاورة، التي قد تكون مكتبة حيث هي مفروشة بِعُلَب مرتفعة مُظلِمة، قد تحتوي على لفافات أو كانت تحويها، هناك الأرامل والزوجات وعلى رأسهنّ إليز التي مِن بيت صور ومريم التي لحلفى. وهكذا دواليك.
ولكن الذي يَصعَق هو رؤية يسوع في الرُّدهة الرخاميّة. صحيح أنّ الذوق المرهف لأختي لعازر جَعَلَ مِن الرُّدهة المربّعة صالوناً حقيقيّاً مُناراً، مُزهِراً، وأروع مِن قاعة. ولكنّها تبقى رُدهة! يسوع ومعه الاثني عشر، إنّما لعازر إلى جانبه. ومع لعازر هناك أيضاً مكسيمين.
الأطباق تتوالى بحسب الطقس... ويسوع يشعّ فرحاً لكونه وسط كلّ تلاميذه الأوفياء.
ما إن انتهى العشاء، بعدما شُرِبَ آخر كأس، ورُتّل آخر مزمور، كلّ الذين كانوا في القاعات المختلفة، يتدفّقون إلى الردهة. ولكنّهم لا يَلِجُونها بسبب المائدة الـمُعيقة.
«فلنذهب إلى القاعة الحمراء، يا معلّم. سوف نزيح المائدة إلى الجدار ونكون جميعنا حولكَ.» يقترح لعازر، ويُشير إلى الخُدّام أن يتأهّبوا للتنفيذ.
الآن وقد جلس يسوع في الوسط، بين العمودين الثمينين، تحت مَنارة تُنيره بشدّة، مُرتَفِعاً على قاعدة مِن مُتَّكَأَين كانا يُستَخدمان في العشاء، يبدو بحقّ مَلِكَاً يستوي على عرشه وسط حاشيته. ثوبه الكتّاني الذي لبسه قبل العشاء يَلمَع كما لو أنّه مصنوع مِن خيوط ثمينة، ويبدو أكثر بياضاً وهو يَبرُز على احمرار الجدار الداكن واحمرار العامودين البرّاق. وجهه إلهيّ بحقّ وملوكيّ بينما هو يتكلّم أو يستمع إلى الذين يحيطون به. حتّى الأكثر تواضُعاً، الذين أرادَهم الأقرب إليه، إذ يَشعُرون بحبّ الآخرين لهم كإخوة، يتكلّمون بثقة مُعرِبين عن آمالهم ومتاعبهم ببساطة وصدق.
ولكنّ الأكثر سعادة بين سعداء كثيرين، هو جدّ مارغزيام! لا يبتعد عن حفيده ولا للحظة، ويتلذّذ بالنَّظَر إليه وسماعه... ومِن حين إلى آخر، وهو جالس قرب مارغزيام الواقف، يدلي برأسه الشائب على صدر حفيده الذي يلاطفه.
يراه يسوع يفعل ذلك مرّات وينادي العجوز: «أيّها الأب، هل قلبكَ سعيد؟»
«آه! سعيد جدّاً يا ربّي! ويبدو لي هذا وكأنّه غير حقيقيّ. لم يعد لي سوى رغبة واحدة...»
«ما هي؟»
«التي قُلتُها لابني، ولكنّه لم يوافق عليها.»
«أيّة رغبة هي؟»
«هي أنّني أودُّ، إن أمكن، الموت في هذا السلام. قريباً، على الأقلّ. ذلك أنّني قد حصلتُ الآن على أعظم خير. ولا يمكن لمخلوق على الأرض أن يحصل على أكثر منه. أن أذهب... ألّا أعود أتألّم... الذهاب... كما قلتَ في الهيكل، يا ربّ! "مَن يُقدِّم ذبيحة مِن مال الفقراء هو كَمَن يَنحَر ابناً أمام عينيّ أبيه". فقط الخوف الذي توحي به إلى جيوقانا يوقفه عن منافسة دوراس. إنّه في طريقه إلى نسيان الذي جرى مع الآخر. حقوله تَزدَهِر، ويُخصبها بعرقنا. أفلا يكون العرق مال الفقير، ذاته التي يستنـزفها في أتعاب تفوق قدراته؟ إنّه لا يضربنا، يعطينا فقط ما يجعلنا نصمد للعمل. ولكن ألا يستغلّنا أكثر مِن الثيران؟ قولوا ذلك أنتم يا رفاقي...»
يوافق فلاّحو جيوقانا، القدامى منهم والجُّدُد على السواء.
«هوم! أخشى أن... نعم، أن تجعله كلماتكَ أكثر مصّاً للدماء مِن أيّ وقت مضى، وأكثر ضرراً لهم... لماذا قُلتَها يا معلّم؟» يَسأَل بطرس.
«لأنّه كان يستحقّها. أليس كذلك، أنتم يا أبناء الحقول؟»
«آه! نعم! في الأشهر الأولى... كان قد تحسَّنَ قليلاً. أمّا الآن... فإنّه أسوأ مِن ذي قبل.» يؤكّد ميخا.
«دلو البئر يهبط بفعل وزنه الخاصّ.» يقول الكاهن يوحنّا بأسلوب الحِكَم.
«نعم، والذئب يتعب سريعاً مِن التظاهر بمظهر الحَمَل.» يزيد هَرْماس.
تُتمتِم النساء فيما بينهنّ مُشفِقات.
يسوع، وقد وَسَّع فتحة عينيه إشفاقاً، يَنظُر إلى الفلاّحين المساكين، مغموماً لعدم قدرته على إراحتهم.
يقول لعازر: «لقد عرضتُ أموالاً بجنون للحصول على تلك الحقول ومنحهم السلام. ولكنّني لم أنجح في الحصول عليها. دوراس يحقد عليَّ، وهو يُشبِه أباه في كلّ شيء.»
«حسناً... نموت نحن هكذا. إنّه مصيرنا. ولكنّ الاستراحة في حضن إبراهيم قادمة لا محالة!» يقول شاول، فلاّح آخر لجيوقانا.
«في حضن الله يا بنيّ! في حضن الله. الفداء سيكون قد تمّ، والسماوات فُتِحَت وتذهبون إلى السماء و...»
ولكن هناك مَن يَطرق على البوّابة بضربات قويّة يترجّع صداها بشدّة. كلّ المجتمعين أضحوا في حالة استنفار.
«مَن يكون؟»
«مَن يتجوّل في ليلة الفصح؟»
«جنود؟»
«فرّيسيّون؟»
«جنود لهيرودس؟»
إنّما بينما وتيرة الاضطراب تتصاعد، يَظهَر لاوي، حارس القصر: «سامحني، أيّها الرابّي» يقول. «هناك رجل يطلبكَ. إنّه في المدخل. يبدو حزيناً للغاية. إنّه مُسِنّ ويبدو لي أنّه مِن عامّة الشعب. يريدكَ، أنتَ، وعلى وجه السرعة.»
«أوه لا، لا! ليست ليلة معجزات! فليعد غداً...» يقول بطرس.
«لا. كلّ ليلة هي ساعة معجزة ورحمة.» يقول يسوع ويَنهَض عن كرسيّه ويهبط ليذهب صوب الردهة.
«أتذهب وحدكَ؟ آتي أنا أيضاً.» يقول بطرس.
«لا. أنتَ ابقَ حيث أنتَ.»
ويَخرُج إلى جانب لاوي.
في العمق، جانب البوّابة الثقيلة، في الردهة نصف المظلمة، ذلك أنّ المصابيح التي كانت تنيره سابقاً قد أُطفِئَت، هناك عجوز مضطرب للغاية. يدنو يسوع منه.
«توقّف، يا معلّم. قد أكون لمستُ ميتاً، ولا أريد أن أنجّسكَ. أنا قريب لصموئيل، زوج أناليا. كنا نتناول عشاء الفصح، وكان صموئيل يشرب ويشرب... كما ليس مسموحاً به له أن يفعل. ولكنّ الرجل يبدو لي مجنوناً منذ بعض الوقت. إنّه تأنيب الضمير، يا ربّ! وهو شِبه سكران كان يقول وهو يَشرب مِن جديد: "هكذا لا أعود أتذكّر أنّني قلتُ له إنّني أكرهه. ذلك أنّني، اعلموا ذلك، قد لعنتُ الرابّي". وكان يبدو لي وكأنّه قايين، لأنّه كان يُردِّد: "خطيئتي عظيمة جدّاً. لا أستحقّ الغفران! يجب أن أشرب! أشرب كي لا أتذكّر! إذ قيل إنّ الذي يلعن الله سوف يحمل خطيئته، وهو يستحقّ الموت". وكان يهذي هكذا، عندما دخل إلى البيت أحد أقارب أُمّ أناليا ليسأل عن سبب للطلاق. وصموئيل، نصف السكران، ردَّ بكلمات نابية، فهدّده الرجل بأنّه سيقوده إلى القاضي مِن أجل الإساءة التي ألحَقَها بشرف العائلة. وبدأ صموئيل بصفعه على وجهه. ووصلا إلى العراك بالأيدي... أنا عجوز وأختي مُسِنّة، الخادم والخادمة متقدّمان في العمر. ماذا كان بوسعنا أن نفعل، نحن الأربعة والبنتان أختا صموئيل؟ كان بوسعنا الصراخ! محاولة تفريقهما! ليس أكثر...وتناوَلَ صموئيل الفأس التي استعنّا بها لتحضير الحطب مِن أجل الحَمَل وهوى بها على رأس الآخر... لم يشجّ له رأسه ذلك أنّه ضرب بها مِن الخلف وليس مِن الجهة الحادّة. ولكنّ الآخر ترنّح وهو يُخرخِر وهوى... لم نعد نصرخ... كي... كي لا نجلب الناس... اعتصمنا في البيت... مصعوقين... كنّا نأمل أن يعود الرجل إلى وعيه، برشّ رأسه بالماء. ولكنّه يُخرخِر، يُخرخِر. بالتأكيد سوف يموت. للحظات بدا وكأنّه قد مات. وفي واحدة من هذه اللَّحظات فررتُ لأستدعيكَ. فغداً... أو حتّى قبل ذلك، أهل الرجل سوف يبحثون عنه، وعندنا، إذ إنّهم يعلمون بالتأكيد أنّه أتى، وسوف يجدونه ميتاً... وصموئيل، بحسب الشريعة، سوف يُقتَل... يا ربّ! يا ربّ! العار واقع علينا... أمّا هذا، فلا! رحمة بأختي، يا ربّ! هو لعنكَ... ولكنّ أُمّه تحبّكَ... ماذا علينا أن نفعل؟»
«انتظرني هنا. أنا آتٍ.» ويعود يسوع إلى القاعة منادياً مِن الباب: «يهوذا الاسخريوطيّ، تعال معي.»
«إلى أين يا ربّ؟» يقول يهوذا مطيعاً في الحال.
« سوف تعرف. امكثوا بسلام وحبّ. سنعود حالاً.»
يَخرُجان مِن القاعة، مِن الردهة ومِن البيت. يجتازون الشوارع الخاوية والمعتمة بسرعة. يبلغون البيت المشؤوم.
«بيت صموئيل؟! لماذا...»
«اصمت يا يهوذا. لقد أخذتُكَ لأنّني أثق بحسّكَ السليم.»
أَعلَنَ العجوز عن نفسه. يَدخُلون. يصعدون إلى قاعة العشاء الفصحيّ حيث جُرَّ الذي ضُرِب.
«ميت؟! ولكن، يا معلّم! سوف نتنجّس.»
«هو ليس بميت. ترى أنّه يتنفّس وتسمع حشرجته. الآن سوف أشفيه...»
«ولكنّه مضروب على رأسه! فهنا جريمة حصلت! مَن ضَرَبه؟... وفي يوم الحَمَل!» يهوذا مُروَّع.
«هو» يقول يسوع مشيراً إلى صموئيل، الذي ارتمى في إحدى الزوايا منكفئاً على نفسه، وكأنّه ميت أكثر مِن الميت نفسه، يُحَشرِج مِن الرعب كما يُحَشِرج الآخر في النـزاع، رَفَلَ معطفه على رأسه كي لا يَرى ولا يُرى. يَنظُر إليه الجميع بهلع، ما عدا الأُمّ التي تجمع بين الرعب مِن القتل والتمزّق مِن أجل ابنها الجاني والمحكوم مسبقاً بشريعة إسرائيل الحديديّة. «هل ترى إلامَ تقود خطيئة أُولى؟ إلى هذا، يا يهوذا! لقد بدأ بالقَسَم زوراً لزوجته، ثم لله؛ ثمّ أَصبَحَ مُفترياً، كذّاباً، مجدّفاً، ثمّ أدمَنَ على الخمر، والآن هو قاتل. فهكذا يصبح المرء مِلكاً للشيطان، يا يهوذا. تذكّر هذا على الدوام...» يسوع رهيب بينما هو يشير إلى صموئيل مادّاً ذراعيه.
ثمّ بعد ذلك يَنظُر إلى الأُمّ، متّكئة على النافذة، تعاني مِن البقاء واقفة، تهزّها رجفة، وتبدو وكأنّها على وشك أن تموت. ويقول يسوع بحزن: «وهكذا، يا يهوذا، تُقتَل الأُمّهات، بدون أيّ سلاح آخر سوى جريمة ابنهنّ، الأُمّهات المسكينات!.... فعليها أنا أُشفِق. أُشفِق على الأُمّهات، أنا! أنا، الابن الذي لن يرى رحمة بأُمّه...»
يبكي يسوع... يَنظُر إليه يهوذا مذهولاً…
ينحني يسوع على الذي يُنازِع ويضع إحدى يديه على رأسه. يصلّي. يفتح الرجل عينيه، ويبدو سكراناً قليلاً، مندهشاً... ولكنّه سرعان ما يستعيد وعيه. يجلس وهو يسند كفّيه على الأرض ينظر إلى يسوع. يَسأَل: «مَن أنتَ؟»
«يسوع الناصريّ.»
«القدّيس! لماذا أنتَ إلى جانبي؟ أين أنا؟ أين أختي وابنتها؟ ما الذي حدث؟» يُحاوِل أن يتذكّر.
«أيّها الرجل، أنتَ تدعوني قدّيساً. أتؤمن أنّي هكذا إذن؟»
«نعم، يا ربّ. إنّكَ مَسيّا الربّ.»
«إذن فكلمتي مقدّسة بالنسبة إليكَ؟»
«نعم، أيّها السيّد»
«إذن...» ينتصب يسوع واقفاً. إنّه مهيب: «إذن، أنا، كمعلّم وكمَسيّا، آمركَ أن تُسامِح. فأنتَ أتيتَ هنا وأُهِنتَ...»
«آه! صموئيل! نعم!... الفأس! سأبلّـ...» يقول وهو ينهض.
«لا. سامِح باسم الله. لأجل هذا شفيتُكَ. في قلبكَ تحمل أُمّ أناليا، لأنّها تألّمت. أُمّ صموئيل تتألّم أكثر أيضاً. سامِح.»
يُماطِل الرجل قليلاً. يَنظُر إلى الذي ضربه بحقد جليّ. يَنظُر إلى الأُمّ القلقة. وينظر إلى يسوع الذي يهيمن عليه... لا يصل إلى قرار.
يفتح له يسوع ذراعيه ويسحبه إلى صدره قائلاً: «حبّاً بي!»
يبكي الرجل... أن يكون هكذا بين ذراعيّ مَسيّا، يشعر بنَفَسه في شعره، وبقبلة منه حيث تلقّى الضربة!... يبكي، ويبكي…
«نعم، أليس كذلك؟» يقول يسوع. «تَسامَح حبّاً بي؟ آه! طوبى للرحماء! ابكِ، ابكِ على صدري. ومع الدموع فليخرج كلّ حقد! ولتكن جديداً كلّيّاً! طاهراً كلّيّاً! هاك، كن هكذا! وديعاً! آه! وديعاً كما ينبغي على ابن الله أن يكون...»
يَرفع الرجل وجهه، ويقول وهو يبكي: «نعم، نعم. حبّكَ لذيذ للغاية! أناليا على حقّ! الآن أفهمها... يا امرأة لا تعودي تبكين! الماضي مضى. لن يعلم أحد منّي شيئاً. افرحي بابنكِ الـمُستَرَدّ، إذا ما أمكَنَه أن يمنحكِ الفرح. وداعاً، يا امرأة. أعود إلى بيتي.» ويَخرُج.
يقول له يسوع: «آتي معكَ، يا رجل. وداعاً أيّتها الأُمّ. وداعاً إبراهيم. وداعاً يا بناتي.» دون أيّة كلمة لصموئيل الذي بدوره لا يجد كلاماً يقوله.
ترفع الأُمّ المعطف عن رأسه، وكردّة فعل على ما جرى، ترتمي على ابنها: «اشكر معلّمكَ، أيّها النَّفْس القاسية! اشكره، يا لكَ مِن مُخزٍ!...»
«دعيه، دعيه يا امرأة! فكلمته لا قيمة لها. الخمر يجعله أبلهاً ونَفْسه مُغلَقة. صلّي مِن أجله... وداعاً.»
يهبط السلّم، ويلحق بيهوذا والآخر على الطريق. يتخلّص مِن إبراهيم الذي يريد تقبيل يديه، ويمشي مسرعاً في ضوء القمر الذي يبزغ.
«هل تسكن بعيداً؟» يَسأَل يسوع الرجل.
«عند سفح موريا.»
«إذن علينا أن نفترق.»
«يا ربّ، لقد حَفظتَني لأولادي، لزوجتي وللحياة. فماذا عليَّ أن أفعل مِن أجلكَ؟»
«أن تكون صالحاً، أن تُسامِح وتصمت. عليكَ ألاّ تتفوّه بكلمة واحدة عمّا جرى، لأيّ سبب كان، على الإطلاق... هل تَعِد بذلك؟»
«أُقسِم على ذلك بالهيكل المقدّس! رغم أنّني أتألّم لعدم تمكّني مِن القول إنّكَ أنقذتَني...»
«كُن مستقيماً، وأنا، سوف أُخلِّص نفسكَ. وهذا يمكنكَ قوله. وداعاً يا رجل، السلام معكَ.»
يجثو الرجل، يحيّي. يفترقون.
«يا لهذه الأمور! يا لهذه الأمور!» يقول يهوذا، الآن وقد أَصبَحَا وحدهما.
«نعم. مريعة. يهوذا، أنتَ أيضاً لن تقول شيئاً عنها.»
«لا، يا ربّ، ولكن لماذا شئتَ أن أكون معكَ؟»
«ألستَ مسروراً لثقتي؟»
«آه! للغاية! ولكن...»
«ولكن لأنّني كنتُ أريدكَ أن تُفكِّر إلى ماذا يمكن أن يقود الكذب، شهوة المال، السُكْر والممارسات الميتة لديانة فارغة مِن المشاعر والممارسات الروحيّة. وماذا كانت تعني الوليمة الرمزيّة لصموئيل؟ لا شيء! قصوف. تدنيس المقدّسات. وفي أثناء هذه الوليمة أَصبَحَ قاتلاً. كثيرون، في المستقبل، سيكونون مثله. فمع طعم الحَمَل على اللسان، ليس الحمَل المولود مِن نعجة، إنّما الحَمَل الإلهيّ، يمضون إلى الجريمة. لماذا هذا؟ كيف هذا؟ ألن تتساءل عنه؟ أمّا أنا، فأقول لكَ مع ذلك: لأنّهم أَعدّوا لهذه الساعة بكثير مِن الطيش، بداية؛ بعناد بعد ذلك. تذكّر هذا يا يهوذا.
«نعم، يا معلّم. وماذا سنقول للآخرين؟»
«إنّ أحداً كان في حالة خطرة. وهذه هي الحقيقة.»
ويَدوران مُسرِعَين عَبْر إحدى الطرقات، ولا أعود أراهما.