ج4 - ف129

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الرابع / القسم الأول

 

129- ("هل أنتَ مَسيّا؟" يَسأَل مُرسَلو المعمدان)

 

29 / 08 / 1945

 

يسوع وَحده مع متّى الذي، بسـبب جرح في قدمه، لم يستطع الذهاب مع الآخرين للتبشير. ولكن في هذه الأثناء، المرضى والراغبون في سماع البُشرى الحَسَنة يَشغَلون الشُّرفة والفَسحة الحُرّة مِن الحديقة لسماعه والحصول على مساعدته.

 

يُنهي يسوع حديثه بقوله: «بعد أن تأمّلنا معاً جملة سليمان العظيمة: "في وفرة العدالة تَكمُن القوّة العظمى" فإنّي أحُثّكم على امتلاك هذه الوفـرة، لأنّها هي المال اللازم لدخول ملكوت السماوات. فلتُقيموا مع سلامي وليكن الله معكم.»

 

ثمّ يلتفت إلى الفقراء والمرضى -وفي أغلب الحالات هُم مِن الاثنين معاً-  ويَستَمِع بكلّ طيب خاطر إلى شـكاواهم، يمنح معونة ماليّة، يَنصَح بالكلام، يُشفِي بوضع الأيدي وبالكلام. ومتّى إلى جانبه، يوزّع المال.

 

يُنصِت يسوع بانتباه إلى أرملة مسكينة، تتحدّث إليه باكية عن الموت المفاجئ لزوجها النجّار في مشغله، الذي وَقَعَ قبل بضعة أيّام: «لقد هرعتُ للبحث عنكَ هنا، وقد اتّهمني الأهل كلّهم بعدم اللياقة وقَسوة القلب، وهم يَلعَنونني الآن. أمّا أنا، فكنتُ قد أتيتُ لأنّني أَعلَم أنّكَ تقيم الموتى، وأَعلَم أنّني لو كنتُ وجدتكَ لكان زوجي قد قام مِن الموت. لم تكن هنا... الآن هو يَسكُن القبر منذ أسبوعين... وأنا باقية مع خمسة أطفال... الأهل يكرهونني ولا يساعدونني. لديَّ أشجار زيتون وكَرمَة. ليس كثيراً، ولكنّها كانت لِتوفّر لي خبز الشتاء لو كنت أستطيع الحفاظ عليها حتّى القطاف. إنّما لستُ أملك مالاً، لأنّ الرجل، منذ بعض الوقت، لم يكن في صحّة جيّدة. كان يعمل قليلاً، ولكي يَقِف على رجليه، كان يأكل ويُفـرِط في الشراب. كان يقول إنّ الخمرة تفيده... ولكنّها على العكس، فقد تسبَّبَت بأذى مضاعف، قَتله وتبديد المدّخرات التي كانت قد تناقصت لقلّة شـغله. كان على وشـك إنهاء عربة وصندوق، وكان قد شَرَعَ في صنع سريرين، وخَزائن وطاولات. إنّما الآن... فلم ينته شيء، وابني لم يبلغ الثامنة بعد. سوف أفقد المال... وسيكون عليَّ آنذاك أن أبيع العدّة والخشب. العربة والصندوق لا يمكنني بيعهما على هذه الحال، حتّى ولو كانا على وشك الانتهاء، وعليَّ بيعها كحطب للتدفئة. ولن يكفينا المال، فأنا وأُمّي العجوز والمريضة وأولادي الخمسة، سبعة أشخاص... سأبيع الكَرمَة وأشجار الزيتون... ولكنّك تَعلَم كيف هو العالم... إنّه يذبح الذين في عَوَز. قُل لي، ماذا عليَّ أن أفعل؟ كنتُ أودُّ الاحتفاظ بالـمَشغَل والعدّة من أجل ابني الذي أَصبَحَ يَعرف القليل عن الخشب... كنتُ أودُّ الاحتفاظ بالأرض لكي أعيش ولكي أؤمّن مَهر البنات...»

 

كان ما يزال يَسـتَمِع إلى كلّ ذلك، عندما تَنبَّهَ، مِن خلال اضطراب بين الناس، إلى حدوث أمر ما جديد. يَلتَفِت لِيَنظُر فيرى ثلاثة رجال يَشقّون لهم طريقاً عَبْر الجمع. يستدير مِن جديد ليتحدّث إلى الأرملة: «أين تقطنين؟»

 

«في قورازين، قريباً مِن الدرب المؤدّي إلى النبع الدافئ. في بيت منخفض بين شجرتي تين.»

 

«حسناً. سوف آتي لأُنهي العَرَبَة والصندوق، وسوف تبيعينهما لِمَن طَلَبَهما. انتظريني غداً عند الفجر.»

 

«أنتَ! أنتَ، تَعمَل مِن أجلي!» الدهشة جَعَلَت المرأة تغصّ.

 

«سوف أُزاوِل عملي مِن جديد وأمنحكِ السـلام. وفي الوقت ذاتـه أُعطي أهـل قورازين عديمي القلب درساً في المحبّة.»

 

«آه! نعم! بلا قلب! لو كان إسحاق العجوز ما يزال حيّاً! لما كان تركني أموت مِن الجوع، ولكنّه عاد إلى إبراهيم...»

 

«لا تبكي. اذهبي مطمئنّة. هذا ما أنتِ في حاجة إليه اليوم. وغداً سوف أَحضُر أنا. اذهبي بسلام.»

 

تجثو المرأة لِتُقبِّل ثيابه، وتَمضي أكثر اطمئناناً وسَكينة.

 

«أيّها المعلّم المثلّث القداسة، هل يمكنني إلقاء التحيّة؟» يَسأَل أحد الرجال الثلاثة الذين قَدِموا ووقفوا باحترام خلف يسوع، في انتظار أن يَصـرف المرأة، والذين سَمِعوا إذن وَعدَ يسوع. والرجل الذي يُحيّي هو مَنَاين.

 

يَلتَفِت يسوع ويقول بابتسامة: «السلام لكَ يا مَنَاين! فلقد تذكَّرتني إذن؟»

 

«على الدوام، يا معلّم. وكنتُ قد قرَّرتُ المجيء لملاقاتكَ عند لعازر أو في بستان الزيتون لأكون إلى جانبكَ. إنّما قبل الفصح قُبِضَ على المعمدان. وأنا كنتُ أخشى أن تأمُر هيروديا بقتل القدّيس أثناء غياب هيرودس الذي جاء إلى أورشليم مِن أجل الفصح. لم تشأ هي أن تَمضي إلى صهيون مِن أجل الأعياد، مُدَّعية أنّها مريضـة. مريضة، نعم، إنّما مِن الحقـد والفجور... ولقد مضيتُ إلى مكرونة لأُراقب... وأمنع المرأة الغـادرة القادرة على القتل بيدها... وهي لم تفعل خوفاً مِن فقدانها حماية هيرودس الذي... بِفِعـل، إمّا الخوف وإمّا القناعة، يُدافِع عن يوحنّا، مكتفياً بالاحتفاظ به في السجن. في هذا الوقت هَرَبَت هيروديا مِن الحرّ الخانق في مكرونة لِتَمضي إلى قصر تمتلكه هي. وقد أتيتُ مع أصدقائي وتلاميذ يوحنّا. لقد أَرسَلَهم ليسألوكَ وقد انضممتُ إليهم.»

 

والناس، لدى سماعهم الحديث حول هيرودس وإدراكهم مَن يكون المتحدِّث، يتهافتون بفضول مُحتَشِدين حول يسوع والثلاثة.

 

«ما الذي كنتم تريدون سؤالي عنه؟» يَسأَل يسوع، بعد تبادُل التحيّات مع الشخصين الجادَّين.

 

«تكلّم يا مَنَاين، فأنتَ تعرف كلّ شيء، والأمر متعلّق بكَ أكثر.» يقول أحدهما.

 

«هاكَ يا معلّم. عليكَ أن تكون متسامحاً إذا كان التلاميذ، وبكثير مِن الحبّ، يَصِلون إلى حد الارتياب مِن الذي يعتقدون أنّه ضدّ معلّمهم أو راغباً في أن يحلّ محلّه. هذا ما يفعلـه أتباعكَ وكذلك أتباع يوحنّا. إنّها غَيرة مفهومة تُظهِر حبّ التلاميذ كلّه نحو معلّمهم. أمّا بالنسبة إليَّ... فإنّني غير مُنحاز، وهؤلاء الذين أتوا معي بإمكانهم قول ذلك، ذلك أنّني أعرفكَ وأعرف يوحنّا، وأحبّكما بحقّ، لدرجة أنّني، رغم حبّي لكَ، لِما أنتَ عليه، فضّلتُ أن أُضحّي بأن أبقى إلى جانب يوحنّا لأنّني أُجِلّه، هو كذلك، لِما هو عليه، وحاليّاً لأنّه في خطر أكثر منكَ. والآن بسبب هذا الحبّ الذي يؤجّجه الفرّيسيّون بحقدهم، فهم قد وَصَلـوا إلى حدّ الشكّ بأنّكَ مَسيّا. ولقد اعتَرَفوا بذلك ليوحنّا، وهُم يظنّون أنّهم إنّما يُرضُونه بقولهم: "بالنسبة لنا، أنتَ هو مَسيّا. ولا يمكن أن يوجد مَن هو أكثر منكَ قَداسة." وشَرَع يوحنّا باتّهامهم مُسمّياً إيّاهم بالمجدِّفين وثمّ، بعد الاتّهامات، بأكثر لُطفاً، شَرَحَ لهم ما الذي يَدلّ على أنّكَ مَسيّا الحقيقيّ. أخيراً، عندما وَجَدَهم ما يزالون غير مُقتَنِعين، أَخَذَ اثنين منهم، هذين، وقال لهما: "امضيا إليه وقولا له باسمي: ‘أأنتَ الآتي أم علينا أن ننتظر آخَر؟’". لَم يُرسِل التلاميذ الذين كانوا رُعاة فيما مضى ذلك أنّهم يؤمنون ولا فائدة مِن إرسالهم، ولكنّه اختار هذين الاثنين مِن بين الذين يَشُكّون ليتقرّبوا منكَ، ولكي يُبدِّد كلامهم شكّ الذين مثلهم. ولقد رافقتُهم لأتمكّن مِن رؤيتكَ. ها قد تكلّمتُ. أنتَ الآن خَفِّف مِن شكوكهم.»

 

«ولكن لا تظنّ أنّنا أعداء يا معلّم! فكلام مَنَاين يمكنه جعلكَ تُفكِّر بذلك. نحن... نحن... نَعرف المعمدان منذ سنوات عدّة، وهو في نَظَرنا على الدوام قدّيس، مُكَرَّسة هي حياته، ومُلهَم هو. أمّا أنتَ... فلا نعرفكَ إلّا مِن خلال أقوال الآخرين. وأنتَ تَعلَم ما هو كلام الناس... يَخلق ويُحطّم الشهرة والمجد بالتّضاد بين الذين يُشيِّدون والذين يَذمّون، كما يتشكّل السحاب ويتبدّد بفعل ريحَين متعاكستين.»

 

«أعرِف، أعرِف. إنّي أقرأ في روحكَ، وعيناكَ تقرأان الحقيقة في ما يحيط بكَ، كما أنّ أذنيك قد سَمِعَتا حديثي مع الأرملة. وهذا يكفي لإقناعكم. إنّما أقول لكم: انتبهوا إلى ما يحيط بي. هنا لا يوجد أغنياء ولا  طلّاب لذّة، لا يوجد أشخاص مُشينون، بل هنا فقراء، مرضى، إسرائيليّون نزيهون يريدون معرفة كلمة الله. وليس غير ذلك. فهذا وذاك وتلك المرأة وتلك الطفلة أتوا إلى هنا مَرضى وهم الآن في صحّة جيّدة. اسألوهم وسيجيبونكم ماذا كان بهم وكيف شَفيتُهم، وكيف هُم الآن. هيّا، هيّا افعلوا. وفي هذه الأثناء أتحدّث أنا مع مَنَاين.» ويهمّ يسوع بالانسحاب.

 

«لا يا معلّم. لسنا نشكّ بكلامكَ. فقط أَعطِنا إجابة نَحمِلها إلى يوحنّا، ليرى أنّنا أتينا وليعتمد عليها في إقناع رفاقنا.»

 

«هيّا واحملوا هذا إلى يوحنّا: "الصُمّ يَسمَعون، هذه الطفلة كانت صمّاء بكماء. البُكم يتكلّمون، وذاك الرجل كان أبكماً منذ الولادة. العُميان يُبصِرون". أيّها الرجل هلمّ إلى هنا. قل لهم ماذا كان بكَ.» يقول يسوع ممسكاً بذراع أحد الذين بَرِئوا بمعجزة.

 

ويقول ذاك: «أنا بَنّاء، وقد سقط على وجهي دلو ملئ بالكلس الحيّ. وأَحرَقَ عيني. وعشتُ في ظلام منذ أربع سـنوات. ولقد بلَّلَ مَسيّا عينيَّ الجافّتين بلعابه فعادتا أفضل مما كانتا عليه عندما كنتُ في العشرين مِن عمري. فليكن مباركاً.»

 

ويُعاوِد يسوع الكلام: «بالإضافة إلى الصُمّ والبُكم والعُميان الذين بَرِئوا، فإنّ العُرج يَنتَصِبون والـمُقعَدين يركضون. ها إنّ ذاك العجوز الذي كان السـاعة مُشوّهاً، وهو الآن مُنتَصِب مثل نخلة الصحراء ورشيق مثل الغزال. والأمراض الأكثر خطراً تَبرأ. أنتِ أيّتها المرأة ماذا كان بكِ؟»

 

«ألم في الصدر بسبب إكثاري مِن إعطاء الحليب لأفواه نَهِمة، وألم الصدر كان يُنغِّص عليَّ حياتي. الآن انظروا.» وتفتح ثوبها قليلاً مُظهِرة صدرها سليماً، وتضيف: «ما كان إلّا عبارة عن تقرّح وقميصي الذي ما يزال مغطّىً بالقيح يُظهِر ذلك. وأنا ماضيـة الآن إلى البيت لأرتدي ثوباً نظيفاً. إنّي الآن قويّة وسعيدة. بينما بالأمس فقط كنتُ أحتضر، وقد أتى بي إلى هنا أناس مُحسِنون وأنا تعيسة للغاية... بسبب الأولاد الذين كانوا سيصبحون بلا أُمّ. التسبيح  للمخلّص إلى الأبد‍‍‍‍!»

 

«هل تَسمَعون؟ ويمكنكم أن تَسأَلوا رئيس هيكل هذه المدينة عن قيامة ابنته مِن الموت، وفي طريقكم إلى أريحا مُرّوا بنائين. استعلِموا عن الشاب الذي أُقيم مِن الموت، بحضور البلدة كلّها، بينما كان على وشـك أن يُوضَع في القبر. وهكذا يمكنكم أن تنقلوا إليه أنّ الموتى يَقومون. وأنّ بُرصاً كثيرين قد بَرِئوا، ويمكنكم معرفة ذلك مِن أماكن كثيرة في إسرائيل، إنّما لو أردتم الذهاب إلى سيكامينون [حيفا]، فابحثوا وسط التلاميذ وستجدون منهم كثيرين. فقولوا إذن ليوحنّا إن البُرص يَبرؤون. وقولـوا، بما أنّكم قد رأيتم، إنّ البُشرى الحَسَنة تُعلَن للفقراء. ومغبوط هو الذي لا يشكّ بي. قولوا هذا ليوحنّا. وقولوا له إنّني أباركه بكلّ حبّي.»

 

«شكراً يا معلّم. بارِكنا نحن كذلك قبل ذهابنا.»

 

«لا يمكنكم الذهاب في هذا الحرّ. كونوا إذاً في ضيافتي حتّى المساء. سوف تَعيشون، على مدى يوم، حياة هذا المعلّم الذي ليس هو يوحنّا، ولكن يوحنّا يحبّه لأنّه يَعرِف مَن يكون. تعالوا إلى المنـزل. فهناك رطوبة وانتعاش وأُقدّم لكم الطعام. وداعاً أيّها المستمعون إليَّ. السلام معكم.» وبعد صَرف الجموع يعود إلى البيت مع الضيوف الثلاثة…

 

...لستُ أدري ما يقولون خلال ساعات الحرّ الخانق تلك. ما أراه الآن هو استعدادات التلميذين للسفر إلى أريحا. يبدو أنّ مَنَاين باق، فلم يؤتَ بحصانه مع الحمارين القويّين أمام فتحة جدار الحوش. ومُرسَلا يوحنّا، بعد انحناءات عدّة للمعلّم ومَنَاين، يمتطيان الحمير، وما زالا يلتفتان ويحيّيان حتّى حَجَبَهما مُنعَطَف الطريق عن الأنظار.

 

تَجَمَّعَ الكثير مِن سكان كفرناحوم لِيَروا هذا الرحيل، ذلك أنّ نبأ قدوم تلميذي يوحنّا، وإجابة يسوع لهما قد شاعا في البلدة، وأظنُّ في البلدات المجاورة. أرى أناساً مِن بيت صيدا وقورازين، وقد تعرَّفوا بأنفسهم إلى مُرسَليّ يوحنّا سائِلين عن أخباره ومُرسِلين تحيّاتهم له -قد يكونون تلاميذ قُدامى ليوحنّا- وقد مَكَثوا الآن مع مجموعة مِن أهالي كفرناحوم لتبادل الحديث. ويهمّ يسوع ومعه مَنَاين بالدخول إلى البيت وهو يتكلّم. ولكنّ الناس يَحتَشِدون حوله، يملأهم الفضول لرؤية أخي هيرودس بالرضاعة وأساليبه المفعمة احتراماً ليسوع ويَرغَبون بالحديث إلى المعلّم.

 

كذلك يائيروس رئيس المعبد موجود، إنّما، الحمد لله ليس هناك فرّيسيّون. إنّه يائيروس بالذات الذي يقول: «سوف يُسَرّ يوحنّا! فإنّكَ لم تُرسِل له فقط إجابة شاملة وافية، إنّما كذلك بإبقائكَ إيّاهم، قد تمكّنتَ مِن أن تُعلِّمهم وتُريهم معجزة.»

 

«ثمّ، أيّة معجزة!» يقول أحد الرجال.

 

«لقد جَلَبتُ ابنتي اليوم متعمّداً حتّى يَروها. فلم يَسبُق أن كانت في حال جيّدة كحالها اليوم، وبالنسبة لها، مِن دواعي سرورها أن تأتي لملاقاة المعلّم. هل سَمِعتم إجابتها؟ "لستُ أذكر شيئاً عن ماهية الموت. ولكنّني أذكر أنّ ملاكاً ناداني، جاعلاً إيّايَ أعبُر مِن خلال نور يزداد تألّقاً باستمرار، وقد كان يسوع في نهايته. لم أعد أراه الآن كما رأيتُهُ آنذاك بروحي التي كانت تعود إليَّ. أنتم وأنا الآن نرى الإنسان، ولكنّ روحي رأت الإله الـمُحتَبَس في الإنسان". وكم أَصبَحَتْ وديعة منذئذ! هي كانت وديعة، أمّا الآن فإنّها بحقّ ملاك. آه! بالنسبة لي، فليقل الجميع ما يشاؤون، فما مِن قدّيس سواكَ أنتَ!»

 

«ولكنّ يوحنّا كذلك قدّيس.» يقول أحد أهالي بيت صيدا.

 

«نعم، ولكنّه صارم جدّاً.»

 

«هو ليس كذلك بالنسبة للآخرين أكثر ممّا هو بالنسبة لنفسه.»

 

«ولكنّه لا يصنع المعجزات، ويقال إنّه يصوم ليصبح كالمجوس.»

 

«ومع ذلك فهو قدّيس» ويمتدّ النقاش بين الجمع.

 

يَرفَع يسوع يده ويَمدّها بالحركة المعتادة التي يقوم بها لِيَفرض الصمت والانتباه عندما يريد التحدّث. فيخيّم الصمت في الحال.

 

يقول يسوع: «يوحنّا قدّيس وعظيم. لا تَنظُروا إلى طريقة عمله وإلى غياب المعجزات. الحقّ أقول لكم: "إنّه عظيم في ملكوت الله". وهنا يبدو في كلّ عظمته.

 

يَمتَعِض الكثيرون لما كان عليه وهو صارم لدرجة يبدو معها قاسـياً. الحقّ أقول لكم إنّه عَمل عملاً جبّاراً لِيُعِدّ طُرُق الربّ. ومَن يعمل هكذا لا وقت لديه يضيّعه في الميوعة. أفلم يكن هو يقول، عندما كان على مدى نهر الأردن، الكلام الذي أَعلَن فيه إشَعياء، عنه وعن مَسيّا: "كلّ واد يمتلئ، وكلّ جبل وتلّ ينخفض، والمعوجّ يتقوّم، وَوَعْر الطريق يصير سهلاً" وذلك لإعداد طُرُق المخلّص والـمَلِك؟ ولكن، في الحقيقة لقد عَمِل، هو، أكثر مِن كلّ إسرائيل لِيُعِدَّ الطريق! والذي سَيَدُكّ الجبال ويملأ الوديان، ويُقوِّم السُّبُل ويُلطِّف المسالِك الصاعدة الـمُضنية، لا يمكنه العمل إلّا بصرامة. ذلك أنّه كان السابق، ولم يكن يَسبقني سِوى ببضعة أشهر، وكان يجبّ أن يكون كلّ شيء مُهيّأ قبل ارتفاع شمس يوم الفِداء. لقد حَلَّ هذا اليوم، والشمس تَطلع لتسطع على صهيون ومنه على كلّ العالم. يوحنّا قد أعدَّ الطريق، كما كان ينبغي. ماذا مَضيتم تَرَون في البرّيّة؟ أَقَصَبة تَلويها الريح في كلّ اتّجاه؟ ولكن ماذا مَضَيتم تَنظُرون؟ أرجلاً يَلبس الليّن الناعم؟ ولكنّ أولئك الناس يَسكنون بيوت الملوك، متدثّرين ثياباً ناعمة، ويَخدمهم بإجلال ألف خادم ومتزلِّف، وهم كذلك يتزلّفون لإنسان مسكين. وهنا أحدهم. اسألوه إن لم يكن مُشمئزّاً مِن حياة القصور والإعجاب، مِن أجل الصخرة المنعزلة والغليظة التي تتحطّم عليها عَبَثاً الصاعقة والبَرَد، والتي تتصارع عليها الرياح الحمقاء لتنتزعها، في الوقت الذي تبقى فيه صلبة مع شموخ كلّ أجزائها صوب السماء، بقمّتها التي تُبشِّر بالفرح مِن الأعلى لشدّة شموخها، حادّة كشعلة ترتفع.

 

هذا هو يوحنّا. هكذا يراه مَنَاين لأنّه أَدرَكَ حقيقة الحياة والموت، ويَرَى العَظَمَة حيث هي، حتّى لو اختَبَأَت تحت مظاهر وحشيّة.

 

وأنتم ماذا رأيتم في يوحنّا عندما ذهبتم لرؤيته؟ نبيّاً؟ قدّيساً؟ أقول لكم: إنّه أكثر مِن نبيّ. إنّه أكثر قداسة مِن قدّيسين كثيرين، بل هو أكثر مِن قدّيس، لأنّه هو مَن كُتِبَ عنه: "ها أنذا أُرسِل أمامكَ ملاكي لِيُعِدّ لكَ طريقكَ".

 

ملاك. تصوّروا. أنتم تَعلَمون أنّ الملائكة أرواح طاهرة خَلَقَها الله على مثاله روحيّاً، لتكون الرابط بين الإنسان: كمال الخليقة المنظورة والمادّيّة، والله: كمال السماء والأرض، خالِق ملكوت الروح والمملكة الحيوانيّة. ففي الإنسان، حتّى الأكثر قداسة، هناك دائماً الجسد والدم لجعل هوّة بينه وبين الله. والهوّة تُصبِح أكثر عمقاً بِفِعل الخطيئة التي تُثقِل حتّى ما هو روحيّ في الإنسان. وها هو الله يخلق الملائكة، تلك المخلوقات التي بلغت قمّة سلّم الخليقة، كما خَلَقَ الجمادات التي تشكِّل قاعدته، الجمادات، أي الغبار الذي يشكّل الأرض، الموادّ اللاعضويّة بشكل عام. المرآة النقيّة لفِكر الله، الشُّعلات التي تَدأَب على التصرّف بحبّ، الجاهزة لِتُدرِك، الـمُندَفِعة للعمل، الحُرّة في إرادتها مثلنا، إنّما بإرادة مقدّسة تماماً تَجهَل التمرّد وفِعل الخطيئة. أولئك هُم الملائكة الذين يَعبدون الله، المرسلون إلى الناس، الذين يَحموننا، ويعطوننا النور الذي يُغلّفهم والنار التي يحصلون عليها مِن عبادتهم.

 

لقد سُمّي يوحنّا "ملاكاً" بالتعبير النبويّ. إذاً، أقول لكم: "لَم يُولَد أعظم مِن يوحنّا بين مواليد النساء أبداً". ومع ذلك، فإنّ الأصغر في ملكوت السـماوات سـيكون أعظم منه كإنسان. لأنّ مَن كان مِن ملكوت السماوات فهو ابن الله وليس ابن امرأة. فاعملوا إذن جميعكم على أن تكونوا مِن أبناء الملكوت.

 

عمّا كنتم تتساءلون فيما بينكم؟»

 

«كنّا نقول: "ولكن هل سيكون يوحنّا في الملكوت؟ وكيف سيُصبِح هناك؟»

 

«هو، بروحه، ابن للملكوت منذ الآن، وسيُصبح هناك بعد موته كأحد شموس أورشليم الأبديّة الأكثر سطوعاً. وذلك بسبب أنّ النعمة التي فيه، هي بلا عيب، وبسبب إرادته الخاصّة. فهو كان وما زال صارماً حتّى مع ذاته، مِن أجل نهاية مقدَّسة.

 

وابتداءً مِن المعمدان سيكون ملكوت السماوات لِمَن يَعرف أن يستولي عليه بقوّة مُقارَعَة الشرّ، والعنيفون هُم مَن يستولون عليه. ذلك أنّه قد أَصبَحَ الآن معلوماً ما يجب فِعله، وقد تمّ منح كلّ ما يلزم مِن أجل هذا الاستيلاء. لقد ولّى الزمن الذي لم يكن الكلام فيه إلّا للشريعة والأنبياء. فهم قد تكلّموا حتّى يوحنّا. أمّا الآن فكلمة الله هي التي تتحدّث ولا تُخفي نقطة ولا حرفاً صغيراً ممّا يجب معرفته مِن أجل هذا الاستيلاء. إذا كنتم تؤمنون بي، فعليكم إذن النَّظَر إلى يوحنّا كأنّه ايليا المزمع أن يأتي. ومَن له أذنان للسماع فليسمع.

 

ولكن بأيّ شيء أُشبِّه هذا الجيل؟ إنّه يُشبه ما يَصِفه أولئك الأطفال الجالسين في الساحة يَصيحون إلى رفاقهم قائلين: "عزفنا لكم فلم ترقصوا؛ ونَدبنا لكم فلم تبكوا". بالفعل، أتى يوحنّا الذي لا يأكل ولا يشرب، ويقول هذا الجيل: "يمكنه فِعل هذا لأنّ به شيطاناً يساعده". وابن الإنسان أتى، وهو يأكل ويشـرب، ويقولون: "أكول، سـكّير، وصديق للعشّارين والخطأة". هكذا تَرى الحكمة أبناءها يُنصِفونها! الحقّ أقول لكم، وحدهم الأطفال يُجيدون التعرّف على الحقيقة لأنّهم لا خُبث فيهم.»

 

«أَصَبتَ أيّها المعلّم.» يقول رئيس المعبد. لذلك فابنتي التي لا خُبث فيها بعد، تَراكَ كما لم نتوصّل بعد نحن أن نراكَ. ومع أنّ هذه المدينة والمدن المجاورة تفيض بسلطانكَ وكذلك حكمتكَ وصلاحكَ، فعليَّ أن أعترف أنّها لا تتقدّم إلّا بالخبث تجاهكَ. إنّهم لا يتوبون، والخير الذي تُقدِّمه لهم، يتخمّر حقداً تجاهكَ.»

 

«كيف تقول هذا يا يائيروس؟ إنّكَ تفتري علينا! إنّنا هنا لأنّنا مؤمنون بالمسيح وأوفياء له.» يقول أحدهم وهو مِن بيت صيدا.

 

«نعم. إنّنا كذلك. ولكن كم يبلغ عددنا نحن؟ أقلّ مِن مائة مِن مُدن ثلاث ينبغي لها أن تكون عند أقدام يسوع. ومِن بين الغائبين، أتكلّم عن الرجال، نصفهم أعداء، والرُّبع لا مُبالون، أمّا الباقون فَبِودّي أن أظُنّ أنّهم لا يستطيعون المجيء. أليست هذه خطيئة في عينيّ الله؟ ألن يُعاقِب كلّ هذا الحقد وهذا العناد في الشرّ؟ حدّثني يا معلّم، يا مَن تُعلِّم، ويا مَن إذا ما بقيتَ صامتاً فبسبب صلاحكَ، إنّما ليس لأنّكَ تَجهَل. إنّكَ سخيّ كريم، ويُترجَم هذا على أنّه جَهل وضعف. تحدَّث إذن، وليهزّ كلامكَ اللامبالين على الأقلّ، بما أنّ الأشرار لا يهتدون، بل يُمعِنون في الشرّ باستمرار.»

 

«نعم، هي خطيئة، وبسببها سوف يَنـزل القصاص. لأنّه ينبغي ألّا تُحتَقَر موهبة الله ولا تُستَعمَل في فعل الشرّ. الويل لكِ يا قورازين، والويل لكِ يا بيت صيدا، يا مَن تُسيئان استخدام عطايا الله! لو صُنِعَت العجائب التي صُنعَت فيما بينكم منذ زمن بعيد، في صور وصيدون، لكان الأهالي مُستعدّين لأن يأتوا إليَّ بتوبة لابسين المسوح ويغطّيهم الرماد. كذلك أقول لكم إنّه بالنسبة لصور وصيدون، فإنّهما سَتُعامَلان بأكثر رأفة وحِلماً منكم يوم الحساب. وأنتِ يا كفرناحوم، هل تظنين أنّكِ لمجرد قبولكِ استضافتي ستُبعَثين حتّى السماء؟ بل إنّكِ سـوف تهبطين حتّى الجحيم. لأنّه لو صُنِعَت العجائبُ التي صَنَعتُها فيكِ في صادوم، لكانت ما تزال مزدهرة عامرّة، لأنّها كانت ستؤمن بي وتهتدي. وكذلك صادوم فسوف تُعامَل بأكثر حِلماً ورأفة، لأنّها لم تَعرف المخلّص وكلمته، وبالتالي فإنّ خطيئتها أقلّ فداحة مِن خطيئتكِ أنتِ، يا مَن عرفتِ مَسيّا وسَمِعتِ كلمته ولم تهتدي. آنئذ، بما أنّ الله عادل، فبالنسبة لأهالي كفرناحوم وبيت صيدا وقورازين الذين آمنوا ويُضحّون بأنفسهم طاعة لكلمتي، هؤلاء سوف يُعامَلون برحمة عظيمة. لأنّه ليس مِن العدل أن يَشمل هلاك الخَطَأَة الأبرار. أمّا فيما يخصّ ابنتكَ يا يائيروس وابنتكَ يا سمعان، وابنكَ يا زكريّا وأولادكَ يا بنيامين، أقول لكم إنّهم يُشاهِدون الله الآن لأنّهم بغير خُبث. وتَرَون كم إيمانهم نقيّ ويَعمَل فيهم، مُتّحداً بالحكمة السماويّة ورغبة المحبّة، وهذا ما لا يمتلكه الكبار.»

 

ويرفع يسوع عينيه صوب السماء، التي تُظلِم بهبوط المساء، ويَهتف: «أشكركَ أيّها الآب، ربّ السماء والأرض، لأنّكَ أخفيتَها عن الحُكماء والعُلماء، وكَشَفتَها للأطفال. لأنّه هكذا حَسَن لديكَ أيّها الآب. فكلّ هذا أُعطِيَ لي مِن أبي، ولا أحد يعرفه سوى الابن ومَن يريد الابن أن يَكشف لهم. وأنا قد كشفتُ ذلك للأطفال، للمتواضعين، للأطهار، لأنّهم يَتَّحِدون بالله، والحقّ يَنـزل كالزَّرع في الأراضي الحُرّة، وعليها يُمطِر الآب أنواره لكي يتجذّر وينبت. في الحقيقة إنّ الله يُعِدُّ تلك الأرواح التي للصغار سنّاً أو إرادة، لكي يَعرفوا الحقيقة، وأحظى أنا بفرح إيمانهم.