ج5 - ف62

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الخامس/ القسم الثاني

 

62- (عشيّة السبت. /I/: في الصباح)

 

30 / 01 / 1946

 

في قصر لعازر الذي تحوَّلَ إلى غرفة نوم جماعيّة لهذه الليلة، يُرى رجال نائمون في كلّ مكان. ولا تُرى نساء. قد يكنّ في غرف الطابق العلويّ. الفجر الـمُنير يضفي بياضاً على مهل على المدينة، يَلِج باحات القصر، يوقظ بدايات الزقزقات الخجولة في أوراق الأشجار التي تظلّلهم، وبدايات هديل الحمام في إطار الإفريز. ولكنّ الرجال لا يستيقظون. إنّهم تَعِبون وقد شَبِعوا طعاماً وعواطف، ينامون ويحلمون…

 

يَخرُج يسوع دون جَلَبَة إلى البهو، ومنه يعبر إلى باحة الشَّرَف. يغتسل في عين ماء صافية تغرّد في وسط مربّع مِن آس في أسفله زنبقات صغيرة تشبه ما يُسمّى بزنبق الوادي الفرنسي. يرتّب نفسه، ودائماً دون صوت، يتوجّه إلى السلّم المؤدّي إلى الطوابق العليا وإلى الشُّرفة فوق البيت. يصعد إلى الأعلى للصلاة والتأمّل…

 

يروح ويجيء على مهل، وليس مَن يراه سِوى طيور الحَمَام التي، وهي تطيل أعناقها وتنحني، تبدو وكأنّ الواحدة تَسأَل الأخرى: «مَن يكون هذا؟» ثمّ يستند إلى السّور ويختلي بنفسه، لا يأتي بحركة. أخيراً يرفع رأسه، وقد يكون تفاجأ بأوّل شعاع للشمس يرتفع خلف الروابي التي تخفي بيت عنيا ووادي الأردن، وينظر إلى المشهد الممتدّ تحت قدميه.

 

قصر لعازر هو حتماً على واحدة مِن تلك المرتفعات التي تجعل مِن طرق أورشليم سلسلة مِن الارتفاعات والانخفاضات، وخاصّة في الأقلّ جمالاً منها. تقريباً في مركز المدينة، إنّما التي تميل قليلاً إلى الجنوب غرب.

 

إنّه مبنيّ على طريق جميلة تنفذ إلى السيست (Sixtus)، مُشكِّلاً معه T، ويطلّ على المدينة المنخفضة. تقابله بيزيتا ومورياح وعوفل، وخلف هذه سلسلة كُروم الزيتون؛ وفي الخلف، في المنطقة المرتفعة، جبل صهيون، بينما على الجانبين يمتدّ النَّظَر إلى الجنوب صوب روابيه، بينما في الشمال يخفي بيزيتا قسماً كبيراً مِن المشهد. أمّا فيما وراء وادي جيهون، فهناك رأس الجلجثة الأقرع يطفو باصفراره في نور الفجر الورديّ، دائم الحزن في ذلك النور البهيج.

 

ينظر إليه يسوع... نظرته، رغم أنّها أكثر رجوليّة واستغراقاً في التفكير، فهي تُذكِّرني بالرؤيا البعيدة ليسوع في الثانية عشرة، رؤيا نقاشه مع العلماء. أمّا الآن، فكما حينذاك، ليست نظرة رهبة. لا. إنّها النظرة المهيبة لبطل ينظر إلى ساحة آخر معركة له.

 

ثمّ يلتفت لينظر إلى روابي جنوب المدينة ويقول: «بيت قيافا!» وبنظره يرسم خط سير ذلك المكان في جَثْسَيْماني، ثمّ في الهيكل، وثمّ ينظر أيضاً إلى ما وراء سور المدينة صوب الجلجثة... وفي تلك الأثناء تُشرِق الشمس لِتُنار المدينة بأكملها…

 

ها هي سلسلة مِن الضربات القويّة على بوّابة القصر لا تنقطع. ينحني يسوع لينظر، ولكنّ الإفريز ناتئ كثيراً، بينما البوّابة متراجعة كثيراً في الجدار السميك، فلا يتمكّن مِن رؤية مَن يكون الطارق. بالمقابل، يَسمَع مباشرة صيحات النيام الذين يستيقظون بينما تُغلَق بِصَخَب البوّابة التي فتحها لاوي. ثمّ يَسمَع اسمه تَنطُقه أصوات عدد مِن الرجال والنساء... يستعجل في النـزول ليقول لهم: «ها أنا ذا. ماذا تريدون؟»

 

والذين كانوا ينادونه، ما أن يَسمَعوه حتّى يقفزون إلى السلّم يتسلّقونه راكضين وهُم يَصيحون. إنّهم الرُّسُل والتلاميذ الأكثر قِدَماً وفي وسطهم يونا الذي يسكن في جَثْسَيْماني. يتكلّمون جميعاً دفعة واحدة، فلا يُفهَم أيّ شيء.

 

يضطرّ يسوع إلى فرض التوقّف والصمت بصرامة، للتمكّن مِن جعلهم يهدأون. ينـزل إليهم ليقول لهم مباشرة: «ماذا يجري؟»

 

جَلَبَة أخرى يُحدِثها الانفعال، بلا جدوى، لأنّه لا يُفهَم منها شيء. وخلف الذين يصيحون تظهر وجوه النساء التلميذات الحزينة والمندهشة…

 

«لا يتكلّمنّ منكم غير واحد فقط في كلّ مرّة. أنتَ يا بطرس، ابدأ.»

 

«لقد جاء يونا... قال إنّهم كانوا كثيرين جدّاً وبَحَثوا عنكَ في كلّ مكان. هو كان منـزعجاً طوال الليل، وعند فتح الأبواب، مضى إلى يُوَنّا وعَلِمَ أنّكَ هنا. ولكن ماذا سنفعل؟ ينبغي لنا، مع ذلك، أن نُقيم شعائر الفصح!»

 

يونا جَثْسَيْماني عَزَّزَ النبأ بقوله: «نعم، ولقد أساؤوا معاملتي كذلك. كنتُ أقول إنّني لا أعرف مكان تواجدكَ، وإنّكَ قد لا تعود. ولكنّهم رأوا ثيابكَ وأدركوا أنّكم تعودون إلى جَثْسَيْماني. لا تسئ إليَّ يا معلّم! لقد استضفتُكَ على الدوام بحبّ، والليلة قد تألّمتُ بسببكَ. ولكن... لكن...»

 

«لا تخف! لن أجعلكَ في خطر بعد الآن. لن أقيم بعد في بيتكَ. سوف أكتفي بالمرور ليلاً للصلاة... لا يمكنكَ أن تمنعني مِن ذلك...» يسوع لطيف جدّاً مع يونا جَثْسَيْماني المذعور.

 

ولكنّ صوت مريم المجدليّة الذهبيّ يقاطعه بحميّة: «منذ متى، أيّها الرجل، قد نسيتَ أنّكَ خادم، وأنّ تنازلاً منّا سَمَحَ لكَ أن تَظهَر بمظهر المعلّم؟ لِمَن البيت وكرم الزيتون؟ ليس لأحد سِوانا أن يقول للرابّي: "لا تأتِ فتُسبّب الأضرار لممتلكاتنا". ولكنّنا لا نقولها. ذلك أنّ خيراً عظيماً يكون إذا ما أعداء المسيح، مِن أجل البحث عنه، هو، دمّروا الأشجار والأسوار وحتّى جعلوا الأفاريز تهوي، ذلك أنّ كلّ شيء سيكون قد دُمِّر مِن أجل الحصول على إقامة الحبّ، والحبّ يمنح حبّه لنا نحن أصدقاءه المخلصين. ولكن فليأتوا! وليُدمّروا! وليَدوسوا! ما الضّير؟ يكفي أن يحبّنا وأن يكون سالماً!»

 

يحار يونا بين خوفه مِن الأعداء وخوفه مِن معلّمته النَّـزِقة، ويُتمتِم: «وإذا أساؤوا إلى ابني؟...»

 

يواسيه يسوع: «لا تخف، أقول لكَ. لن أقيم بعد. يمكنكَ القول لِمَن يسأل إنّ المعلّم لن يقيم في جَثْسَيْماني... لا، يا مريم! جيّد هو الأمر هكذا. دعيني أفعل! أنا ممتنّ لكرمكِ... ولكنّ ساعتي لم تأتِ، لم تأتِ ساعتي بعد! أَفتَرِض أنّ فرّيسيّين كانوا هناك...»

 

«وسنهدريّين، وهيروديّين، وصدّوقيّين... وجنود لهيرودس... و... جميعهم... جميعهم... لم أتمالك نفسي مِن الرّعدة... ومع ذلك، أترى يا معلّم؟ لقد هرعتُ لأنبئكَ... لدى يُوَنّا... ثمّ هنا...» يَعمَل الرجل على إظهار أنّه يُخاطِر بطمأنينته ليقوم بواجبه تجاه المعلّم.

 

يبتسم يسوع بطيبة مُشفِقة ويقول: «أرى ذلك! أراه! فليكافئكَ الله. الآن اذهب إلى بيتكَ بسلام. سوف أُرسِل مَن يقول لكَ أين تُرسِل الحقائب، أو أُرسِل أنا مَن يأخذها.»

 

يمضي الرجل ، وما مِن أحد سوى يسوع ومريم الكلّيّة القداسة لم يوفّر له الملامات والسخريات. لاذعة هي تلك التي لبطرس، لاذعة جدّاً تلك التي للإسخريوطيّ، تهكّمية هي تلك التي لبرتلماوس. يوضاس تدّاوس لا يتكلّم، ولكنّه يرميه بإحدى نظراته! التّمتمات ونظرات اللّوم ترافقه حتّى في صفوف النساء، وفي النهاية الصاروخ الختامي لمريم المجدليّة التي تجيب لدى انحناءة الخادم الفلاّح: «سوف أُعلِم لعازر أن يمضي إلى أراضي جَثْسَيْماني لتأمين الفراريج المسمّنة مِن أجل الوليمة....»

 

«ليس لديَّ قنّ دجاج، يا معلّمتي.»

 

«أنتَ ومرقس ومريم: ثلاثة ديكة ممتازة!»

 

يضحك الجميع لهذا الـمَخرَج غير اللطيف والمعبّر الذي لمريم لعازر الغاضبة مِن رؤية رجال تابعين لها يرتعدون، وحرمان المعلّم، المجبر على التخلّي عن عشّ جَثْسَيْماني الناعم.

 

«لا تغضبي يا مريم! هدوءاً! هدوءاً! لا يملك الجميع قلباً مثل قلبكِ!»

 

«آه! لا، بكلّ أسف! ليت للجميع قلباً مثل قلبي، يا رابّوني! لما كانت حتّى الرماح والسهام المقذوفة عليَّ لتفصلني عنكَ!»

 

تَمتَمة بين الرجال... تنتبه له مريم وتُجيب بحماس: «نعم. وسوف نرى! ونأمل أن يكون قريباً، إذا كان ذلك يساهم في تلقينكم الشجاعة. لا شيء سيخيفني، إذا تمكّنتُ مِن خدمة رابّي! خدمة! نعم! خدمة! ففي أوان الخطر تتمّ الخدمة، أيّها الإخوة! بالنسبة إلى الآخرين... آه! بالنسبة إلى الآخرين، هي ليست خدمة! هي استمتاع!... وليس مِن أجل المتعة ينبغي اتّباع مَسيّا!»

 

خَفَضَ الرجال رؤوسهم، وقد لسعتهم تلك الحقيقة.

 

تجتاز مريم الصفوف لتأتي قبالة يسوع. «ماذا تقرّر يا معلّم؟ إنّها عشيّة السبت. أين سيكون فصحكَ؟ أَصدِر أمركَ... وإذا حظيتُ بنعمة بالقرب منكَ، فاسمح لي أن أُقدِّم لكَ علّيّة مِن التي لي، وأن أهتمّ بكلّ شيء...»

 

«قد نلتِ نعمة لدى الآب السماويّ، نعمة إذن لدى ابن الآب، حيث كلّ حركة مِن الآب مقدّسة لديه. ولكن إن قبلتُ العلّيّة، فدعيني أمضي إلى الهيكل لتقدمة الحَمَل، كإسرائليّ صالح...»

 

«وإذا ما أوقفوكَ؟» يقول البعض.

 

«لن يقبضوا عليَّ. أمّا ليلاً، في الظُّلمة، كما يَفعَل المجرمون، فيمكنهم أن يتجاسروا على ذلك. إنّما وسط الجموع الذين يحترمونني، فلا. لا تُصبِحوا جُبناء!...»

 

«آه! ثمّ الآن هناك كلوديا!» يهتف يهوذا. «الـمَلِك والملكوت لم يعودا في خطر!...»

 

«يهوذا، أرجوكَ! لا تجعلهما يتداعيا فيكَ! لا تنصب لهما الشِّراك فيكَ. فمملكتي ليست مِن هذا العالم. وأنا لستُ مَلِكاً كالذين يجلسون على العروش. مملكتي روحيّة هي. فإذا أَنزَلتَها إلى دناءة المملكة البشريّة، فإنّكَ تنصب لها الشِّراك وتجعلها تتداعى فيكَ.»

 

«ولكن كلوديا!...»

 

«كلوديا وثنيّة. هي إذن لا تُدرِك قيمة الروح. وكثير إذا كانت ترى وتُسانِد الذي هو، بالنسبة إليها، حكيم... كثيرون في إسرائيل لا يعتبرونني حتّى حكيماً!... ولكنّكَ لستَ وثنيّاً، يا صديقي! فاعمل على ألاّ يصبح لقاؤك الربّانيّ بكلوديا مسيئاً إليكَ. وكذلك يجب ألاّ تتصرّف بطريقة تجعل عطيّة الله الـمُعدّة لتثبيت إيمانكَ وإرادتكَ في خدمة الربّ، تصبح بؤساً روحيّاً لكَ.»

 

«وكيف يكون ذلك ممكناً، يا ربّ؟»

 

«بكلّ بساطة. وليس فيكَ فقط. إذا كانت نعمة ممنوحة لمعونة الإنسان على ضعفه، فبدلاً مِن دعمه وجعله يرغب أكثر وعلى الدوام بالخير فائق الطبيعة، أو حتّى فقط بالخير الوجدانيّ، يعمل على تحميلها ثِقل الشهوات البشريّة وإبعادها عن الطريق المستقيمة، على دروب تجعلها تهبط، حينذاك تصبح النّعمة مُضرّة. الكبرياء يكفي لجعل النعمة مُضرّة. يكفي فقدان التوجّه بأمر يثير الحماس ويُفقِد رؤية النهاية الفائقة والصالحة، ليجعل النّعمة مُضرّة. هل اقتنعتَ؟ ينبغي لمجيء كلوديا أن يمنحكَ فقط قوّة اعتبار. هي هذه: إذا كانت وثنيّة قد شَعَرَت بِعَظَمة مذهبي وضرورة انتصاره، فأنتَ، ومعكَ كلّ التلاميذ، ينبغي لكم الشعور بكلّ ذلك بقوّة أعظم، وبالنتيجة، إعطاؤه ذواتكم بالكامل. إنّما دائماً روحيّاً. دائماً... والآن، فلنقرّر. أين تقولون إنّه يجدر بنا أن نتمّ الفصح؟ أودُّ أن يكون روحكم في سلام مِن أجل هذه الشعائر، لسماع الله الذي لا نسمعه أثناء الاضطراب. نحن كثيرون، ولكنّه يسعدني أن نكون جميعنا معاً لأجعلكم تقولون: "لقد أتممنا فصحاً معه". اختاروا إذن مكاناً حيث، بانقسامنا بحسب القواعد الطقسيّة، بشكل يتمّ معه تشكيل مجموعات كافية تُقدِّم فيها كلّ واحدة حَمَلَها الخاص، يمكن مع ذلك القول: "كنّا متّحدين وكان كلّ منّا قادراً على سماع صوت الأخ الآخر".»

 

جَرَت تسمية هذا المكان وذاك. ولكن اختا لعازر تتغلّبان. «آه! يا ربّ! هنا! سوف نُرسِل لجلب أخينا. هنا! كثيرة هي الغرف والقاعات. سنكون معاً، باتّباع الطقس. وافق، يا ربّ! فالقصر يتّسع لمائتي شخص مقسَّمين إلى مجموعات مِن عشرين. ونحن لسنا كثيري العدد. تكرّم علينا بذلك، يا ربّ! مِن أجل لعازرنا الحزين جدّاً... المريض جداً...» وتبكي الأختان في ختام كلامهما: «...حتّى لا يمكن التفكير بأنّه يعيش إلى فصح آخر...»

 

«ما قولكم؟ هل تعتقدون أنّه يجب تحقيق رغبة الأختين الطيّبتين جدّاً؟» يقول يسوع مُوجّهاً الكلام للجميع.

 

«أنا، أقول نعم.» يقول بطرس.

 

«أنا كذلك.» يقول الاسخريوطيّ مع كثيرين آخرين في الآن نفسه. والذين لا يقولون شيئاً يوافقون.

 

«اهتمّا بذلك إذن. ونحن، فلنذهب إلى الهيكل لِنُظهِر أنّ مَن كان واثقاً مِن طاعته للعليّ لا يخاف وليس جباناً. هيّا بنا، وسلامي للذين يبقون.»

 

يهبط يسوع ما تبقّى مِن السلّم، يجتاز البهو ويَخرُج مع التلاميذ إلى الطريق المكتظّة بالناس.