ج6 - ف148

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السادس/ القسم الثاني

 

148- (مِن جَمَلا إلى أَفِيقَ)

 

13 / 07 / 1946

 

لا بدّ أنّهم قد أمضوا الليل في جَمَلا، لأنّ الوقت صباح هو الآن، إنّها صبيحة مصحوبة بالريح. ربّما البلدة تَنعَم بالهواء، المستحبّ كثيراً في بلاد الشرق، بسبب موقعها وبنائها على شكل مدرّجات مِن أعلى البلدة نزولاً إلى الأسوار الضخمة، والمزوّدة ببوّابات كبيرة مصفّحة بالحديد، بوّابات قلعة حقيقيّة. وإذا ما بدا لي البارحة أنّ البلدة جميلة، عندما كانت معرّضة للشمس، فإنّها الآن تبدو أكثر جمالاً. فالمنازل، بالطريقة التي نُظّمت فيها، لا تعيق رؤية البانوراما الشاسعة، لأنّ شرفة كلّ منزل هي على مستوى الشارع الأعلى، بحيث يبدو كلّ شارع كما لو أنّه شرفة طويلة يمكن التأمّل في الأُفق منها. إنّه أُفق يُظهِر مِن قمّة الجبل بانوراما كاملة، في حين إلى الأسفل قليلاً هو على شكل نصف دائرة، إنّما يبقى شاسعاً وبغاية الجمال. عند أسفل الجبل يُشكّل اخضرار أحراج السنديان واخضرار الريف إطاراً زمرّدياً إلى ما وراء الوادي العميق والقاحل الذي يحيط بجبل جَمَلا. ثمّ إلى الشرق، وعلى مدّ النَّظر، الزراعات السهليّة والزراعات النجديّة.

 

(أعتقد بأنّ هذا هو اسم قِطَع الأرض الواسعة والقليلة الارتفاع، إنّما إن كنتُ مخطئة، فأرجو أن تُصحّحوا باسمي، لأنّه ليس هناك قاموس في متناول يديّ. ففي الحقيقة أنا وحدي في غرفتي ويستحيل عليَّ الوصول إلى القاموس الموضوع على المكتب، البعيد عنّي حوالي الثلاثة أمتار. إنّني أقول ذلك كي أُذكّر بأنّ مَن تَكتُب هي مصلوبة في السرير.)

 

إلى ما وراء النجد هناك جبال حورانيطس [حوران] وما بعدها القمم الأعلى لباشان، وإلى الجنوب الشريط الخصيب بين نهر الأردن الأزرق والمرتفعات المتّصلة والمتراصّة الموجودة على الجهة الشرقيّة للنهر، والتي تشبه الدعامة للنجد، وإلى الشمال هناك الجبال البعيدة للسلسلة اللبنانيّة التي يتصدّرها حرمون المهيب، الذي يزيّنه ألف لون في هذه الساعة الصباحيّة المبكّرة. ونزولاً، مِن جهة الغرب القريب، جوهرة بحر الجليل. جوهرة حقيقيّة مثبّتة على عقد أزرق، أزرق مختلف عن نهر الأردن في انصبابه في البحيرة وخروجه منها، فاتحاً عندما يتدفّق إليها، غامقاً حيث يتابع الجريان جنوباً، لامعاً في الشمس، رائقاً بين ضفافه الخضراء، إنه توراتيّ بحقّ. أمّا بحيرة ميرون الصغيرة، فهي غير مرئيّة، بل محجوبة خلف التلال شمال بيت صيدا، إنّما يمكن تخمين مكانها بفعل الاخضرار الوافر للريف المحيط بها، الذي يمتدّ باتّجاه الشمال الغربيّ بين بحر الجليل وبحيرة ميرون، في السهل حيث تقع كورازين. أعتقد أنّني فيما مضى سمعتُ الرُّسُل يقولون بأنّه سهل جَنِّيسَارَتَ.

 

يسوع يستأذن السكّان بالانصراف، وهم، ومِن منطلق الفخر ببلدتهم، مشغولون بعرض مشاهد الأفق الجميلة، وجمالات بلدتهم المزوّدة بالأقنية، بالحمّامات والأبنية الجميلة. «لقد تمّ إنجاز كلّ ذلك بجهدنا ومالنا. لأنّنا تعلّمنا مِن الرومان، وحذونا حذوهم بما يتعلّق بالأمور المفيدة، إنّما نحن لسنا مثل الآخرين في المدن العشر! فنحن ندفع للرومان وهم يخدموننا. ولا شيء آخر! إنّنا أوفياء. حتّى هذه العزلة هي برهان على الوفاء...»

 

«احرصوا على ألّا يكون وفاؤكم فقط شكليّاً، بل حقيقيّاً، حميميّاً، بارّاً. وإلّا فإن دفاعاتكم سوف تكون غير ذات جدوى. وأكرّر ذلك. أترون؟ لقد بَنَيتم هذه القناة. إنّها متينة ونافعة. إنّما إن لم يكن هناك نبع بعيد يغذّيها، فهل كانت لتزوّدكم بالماء للنوافير والحمّامات؟»

 

«لا. ما كانت لتعطينا أيّ شيء. سوف تكون عديمة الجدوى تماماً.»

 

«أنتم قلتموها: عديمة الجدوى. كذلك الدفاعات الطبيعيّة أو المستحدَثة هي عديمة الجدوى ما لم يُقوِّها أولئك الذين بنوها بمساعدة الله، والله لا يساعد أولئك الذين ليسوا أصدقاءه.»

 

«يامعلّم، إنّك تتكلّم كما لو أنّكَ تَعلَم أنّنا بحاجة ماسّة لله...»

 

«كلّ البشر بحاجة لله، ومِن أجل كلّ شيء.»

 

«نعم يا معلّم. لكن... يبدو كما لو أنّنا سنكون بحاجة إليه أكثر مِن أيّة بلدة في فلسطين و...»

 

«آه!...» صرخات حزن…

 

سكّان جَمَلا ينظرون إليه بارتباك. الأكثر جرأة مِن بينهم يَسأَل: «ماذا تظنّ؟ أنّنا سوف نواجه الفظاعات القديمة مرّة أخرى؟»

 

«نعم، بل وفظاعات أكثر هولاً بعد، وسوف تدوم لفترة أطول... أطول!... آه! يا وطني! طويلة جدّاً... وذلك سوف يَحدُث إذا لم تَستَقبِلوا الربّ!»

 

«لقد استقبلناكَ. إذن فقد خلصنا! المرّة الماضية كنّا قد تصرّفنا بحماقة، لكنّكَ غفرتَ لنا...»

 

«احرصوا على أن تثابروا في برّكم الحاليّ تجاهي، وبأن تنموا في البرّ وفقاً للشريعة.»

 

«سوف نفعل ذلك يا ربّ.»

 

إنّهم يودّون أن يتبعوه وأن يَستَبقوه لمدّة أطول، لكنّ يسوع يريد أن يلحق بالنسوة اللواتي سبقنه ممتطيات حميراً، ويتملّص مِن إلحاحهم بالنزول سريعاً عبر الطريق التي آتى منها بالأمس. يتمهّل فقط عندما يُصبِح حيث يَشتَغِل العمّال، ليرفع يده كي يُبارك التعساء الذين ينظرون إليه كما لو أنّهم كانوا ينظرون إلى الله.

 

عند قاعدة الجبل تتفرّع الطريق باتّجاهين، واحدة باتّجاه البحيرة، والأخرى نحو الداخل. الحمير الأربعة هي على الطريق الداخليّة، وهي تخبّ هازّة آذانها الطويلة، ومثيرة غبار الطريق التي جفّفها الصيف. ومِن وقت لآخر تلتفت واحدة مِن النسوة كي ترى ما إذا كان يسوع يلحق بهنّ، وهنّ يردن التوقّف كي يكنّ معه، ولكنّ يسوع يشير إليهنّ بيده أن يتابعن كي يجتزن بسرعة مقطع الطريق المكشوف الذي تُلهِبه الشمس، بحيث يصلن إلى الأحراج التي تمتدّ باتّجاه أَفِيقَ.

 

إنّ الجوّ منعش بين الأحراج التي يُشكّل تشابكها قُبّة خضراء فوق طريق القوافل. يدخلنه بسعادة، مُطلِقات صيحات انفراج. إنّ أَفِيقَ هي أكثر توغّلاً مِن جَمَلا إلى الداخل، بين الجبال، ولذلك لم يعد ممكناً رؤية بحيرة الجليل. في الواقع لم يعد ممكناً رؤية أيّ شيء، لأنّ الطريق يمتدّ صعوداً بين تلّتين تحجبان الرؤية.

 

تتقدّمهم الأرملة كي تدلّهم على السبيل الأقصر، أو بالحريّ هي تترك طريق القوافل وتَسلك درباً يتّجه صعوداً عبر الجبل، وهو أكثر إنعاشاً وظلاًّ. إنّما أنا أُدرك سبب تركها للطريق عندما تلتفت سارة مِن على سرجها وتقول: «انظروا. هذه الأحراج مِلك لي. إنّها أشجار ذات قيمة. إنّهم يأتون حتّى مِن أورشليم ليشتروها كي يصنعوا منها صناديق الأغنياء. وهذه أشجار عتيقة، إنّما عندي أيضاً مَشتَل غِراس. تعالوا. انظروا...» وتقود حمارها نزولاً عبر منحدر، ثمّ صعوداً إلى القمم، ثمّ نزولاً مجدّداً، مُتَّبِعة الدرب الضيّق الذي يمتدّ عبر أحراجها، حيث هناك بالفعل مناطق فيها أشجار عتيقة، جاهزة للقطع، ومناطق فيها شجيرات نحيلة، في بعض الأحيان لا ترتفع سوى بضعة سنتيمترات عن الأرض، وسط أعشاب خضراء، تفوح منها كلّ روائح عبير الجبل.

 

«إنّ هذا المكان جميل ومعتنى به جيّداً. إنّكِ امرأة حكيمة» يقول يسوع ممتدحاً إيّاها.

 

«آه!... إنّما لي وحدي... كنتُ لأهتمّ بكلّ شيء، وباندفاع أكبر، لو كان لي ابن...»

 

يسوع لا يجيب.

 

يُتابعون السير. يمكن الآن رؤية أَفِيقَ وسط بساتين تفّاح وأشجار مثمرة أخرى.

 

«إنّ البستان هو أيضاً مُلك لي. لديَّ الكثير لي وحدي!... لقد كانت بالأساس كثيرة عندما كان لديَّ زوجي، كنّا قد اعتدنا أن ننظر إلى بعضنا البعض عند المساء في المنزل الذي كان فارغاً للغاية، كبيراً للغاية، مع مال كثير يوفّره لنا مردود محاصيل كثيرة جدّاً، وقد اعتدنا أن نقول لبعضنا: "ولكن لِمَن؟" وأقول ذلك الآن أكثر مِن ذي قبل...» إنّ كلّ أحزان الزواج العقيم تنطلق مِن كلمات المرأة.

 

«هناك دوماً أناس فقراء...» يقول يسوع.

 

«آه! نعم! ومنزلي يُفتَح لهم كلّ يوم. إنّما بعدئذ...»

 

«أتقصدين حينما تموتين؟»

 

«نعم يا ربّ. سوف يكون مؤلماً أن أترك، لِمَن؟... الأشياء التي اعتنيتُ بها...»

 

يبتسم يسوع ابتسامة خفيفة، ابتسامة مفعمة شفقة. لكنّه يُجيب بلطف: «أنتِ حكيمة في الأمور الأرضيّة أكثر منه في تلك السماويّة يا امرأة. أنتِ تحرصين على ضمان أن تنمو أشجاركِ جيّداً، وبألّا تُترَك مساحات فارغة في أَحراجكِ. إنّكِ مستاءة بسبب تفكيركِ بأنّه لن يتمّ الاعتناء بها لاحقاً كما الآن. إنّما هكذا أفكار ليست حكيمة جدّاً، لا بل هي غبيّة تماماً. أتعتقدين بأنّه سوف تكون هناك أيّة قيمة لهكذا أشياء تافهة كالأشجار، الثمار، المال، المنازل، في الحياة الأخرى؟ وبأنّ رؤيتها متروكة ستكون مُحزِنة؟ قَوِّمي أفكاركِ يا امرأة. أفكار هذا العالم لا وجود لها هناك، ليس في أيّ مِن الممالك الثلاث. ففي الجحيم: الكراهية والعقاب يعميان العقل بشراسة. وفي المطهر: التعطّش إلى التكفير يلغي كلّ الأفكار الأخرى. وفي اليمبوس: الانتظار المغبوط للبارّين لا تدنّسه أيّة أحاسيس. فالأرض بعيدة، بكلّ بؤسها، إنّما هي ليست قريبة سوى باحتياجاتها الفائقة الطبيعة، احتياجات النُّفوس، لا الاحتياجات للأشياء. إنّ الأموات، غير المدانين، يتوجّهون بأرواحهم نحو الأرض فقط بدافع محبّة فائقة الطبيعة، وهم يُوجِّهون صلواتهم إلى الله مِن أجل الذين على الأرض، لا لأيّ سبب آخر. وعندما سيدخل الأبرار ملكوت الله فيما بعد. فماذا تتوقّعين مِن هذا السجن البائس، هذا المنفى المسمّى الأرض، أن يكون بالنسبة لنفوس تتأمّل الله؟ ماذا تكون الأشياء المتروكة هناك؟ أيمكن للنهار أن يتأسّف على مصباح مدخّن، حينما تنيره الشمس؟»

 

«آه! لا!»

 

«فإذن؟ لماذا تتحسّرين على ما ستتركين؟»

 

«إنّما أَرغَب بوريث كي يُتابع الـ...»

 

«كي يتمتّع بِغِنىً أرضيّ يَجِد فيه عائقاً مِن أن يصير كاملاً، في حين أنّ الابتعاد عن الثروات هو السلّم للتنعّم بغنىً أزليّ؟ أترين يا امرأة؟ إنّ العائق الأكبر الذي يمنعكِ مِن أن تحظي بهذا الصبيّ البريء ليس أُمّه وحقوقها على ابنها، إنّما هو قلبكِ. إنّه بريء، بريء حزين، إنّما يظلّ بريئاً عزيزاً على الله بسبب حزنه بالذات. إنّما إذا جعلتِ منه بخيلاً، جَشِعاً، وربّما فاسداً، بسبب ما تملكينه، ألن تكوني تحرمينه بذلك مِن إيثار الله له؟ وأنا الذي أعتني بهؤلاء الأطفال الأبرياء، أأكون معلّماً مستهتراً يسمح لأحد تلاميذه الأبرياء بأن يضلّ؟ اشفي نفسكِ أوّلاً، جرّدي نفسكِ مِن إنسانيّتكِ التي لا تزال ناشطة للغاية، حرّري برّكِ مِن قشرة الإنسانيّة التي تُوهِنه، وعندها سوف تستحقّين أن تكوني أُمّاً. لأنّه ليست الأُمّ هي فقط مَن تَلِد طفلاً، أو مَن تحبّ ابناً بالتبنّي وترعاه وتهتمّ باحتياجاته كمخلوق حيوانيّ. فعلى الرغم مِن أنّ أُمّ هذا الصبي قد وَلَدَته، لكنّها ليست أُمّاً لأنّها لا تهتمّ لا بجسده ولا بروحه. المرأة تكون أُمّاً عندما تعتني قبل كلّ شيء بما لا يموت، أي بالروح، وليس فقط بما يفنى، أي الأمور المادّيّة. وصدّقيني يا امرأة، إنّ أولئك الذين يحبّون الروح، سوف يحبّون الجسد أيضاً، لأنّهم يمتلكون الحبّ الصحيح، ولذلك سوف يكونون بارّين.»

 

«لقد فقدتُ الابن، أُدرك ذلك...»

 

«ليس بالضرورة. فلتحثّكِ رغبتكِ على امتلاك القداسة، والله سوف يستجيب لكِ. سوف يكون هناك دوماً أيتام في العالم.»

 

إنّهم الآن عند طلائع المنازل، إنّ أَفِيقَ ليست بلدة تضاهي جَمَلا أو إيبّو. إنّها تميل لكونها ريفيّة أكثر مِن أيّ شيء آخر، ولكن ربّما بسبب كونها على عقدة طرق هامّة، فهي ليست بالبلدة الفقيرة. فهي بلدة عبور للقوافل القادمة مِن المناطق الداخليّة والمتوجّهة إلى البحيرة، أو المتوجّهة مِن الشمال إلى الجنوب، فكان مِن الضروريّ أن تكون مُعدّة لتقديم المأوى واللباس والنِّعال والزّاد للمسافرين، ومِن أجل ذلك فهناك الكثير مِن المحلّات والنُّزُل.

 

إنّ منزل الأرملة هو في الساحة قرب نَزْل، والطبقة الأرضيّة هي عبارة عن مَتجَر ضخم يحتوي على كلّ أنواع البضائع، ويُديره رجل مسنّ كبير الأنف وملتحٍ، وهو يصرخ مثل ممسوس في وجه بعض المشترين البخلاء.

 

«صموئيل!» تنادي المرأة.

 

«سيّدتي!» يجيب الرجل العجوز منحنياً بقدر ما تسمح له بالات البضائع المكدّسة أمامه.

 

«نادِ إيليّا أو فيلبّس إلى هنا والحق بي إلى المنزل» تأمر الأرملة، ومِن ثمّ تُخاطِب المعلّم قائلة: «تعال. ادخل إلى منزلي وكن ضيفي المرحّب به.»

 

يَدخُلون كلّهم، مارّين عبر المخزن، فيما توخذ الحمير، مِن قِبَل صبّي طويل القامة قد حَضَرَ لهذه الغاية، لا أدري إلى أين. فيما وراء المخزن، الذي لا يعطي المنزل مظهراً فنّياً، هناك باحة جميلة بأروقة على الجانبين. في الوسط نافورة، أو على وجه الدقّة، حوض، لأنّه ما مِن ماء يتدفّق. هناك أشجار دلب ضخمة على الجانبين تُظلّل الجدران الـمُبَيَّضة. دَرَج يَصعَد إلى الشُّرفة. أبواب غُرَف مفتوحة على الجانبين الخاليين مِن الأروقة: إنّه الموضع الأبعد عن المستودع.

 

«فيما مضى، أيّام زوجي، كان هذا المكان مزدحماً، كنّا نأوي تجّاراً قد أدركهم الليل. الأروقة للبضائع، الاصطبلات للحيوانات، والحوض هناك لإروائها. تعال إلى الغرف» وتجتاز الباحة بشكل منحرف متوجّهة نحو الجزء الأجمل مِن المنزل. وتنادي: «مريم! يُوَنّا!»

 

تهرع خادمتان، الواحدة يداها مكسوّتان بالطحين، والأخرى تحمل مكنسة في يدها.

 

«سيّدتي! ليكن السلام معكِ ومعنا، الآن وقد عدتِ»

 

«ومعكما. أكانت هناك مشاكل في الأيّام القليلة الماضية؟»

 

«يوسف، ذاك الطائش، قد كَسَر شجيرة الورد التي كنتِ مولعة بها. لقد عاقبتُه بشدّة. عاقبيني لسماحي له بالاقتراب منها.»

 

«ليست بتلك الأهمّيّة...» لكنّ عينيّ سارة تُغرَورقان بالدموع، وهي تُبرّر ذلك بالقول: «زوجي جَلَبَها لي في آخر ربيع كان فيه بصحّة جيّدة...»

 

«إيليّا كسر ساقه، الأمر الذي جَعَلَ صموئيل غاضباً جدّاً، لأنّه لم يعد هناك مَن يساعده في أيّام السُّوق المزدحمة هذه... لقد سَقَطَ عن السلّم عند الجانب الآخر مِن المنزل بينما كان يتدلّى كي يُبيّض الجدران مِن أجلكِ» تقول المرأة الأخرى وتُنتهي بالقول: «إنّه يتألّم كثيراً، وسيظلّ معوجّ الساق. وأنتِ يا سيّدتي، هل كانت رحلتكِ سعيدة؟»

 

«أكثر ممّا كنتُ آمُل. لقد عدتُ مع رابّي الجليل. هيّا! باشِرا التحضيرات لأجل ضيوفي. ادخل يا معلّم!»

 

يَدخُلون المنزل عابِرِين مِن أمام الخادمتَين المنذهلتَين.

 

تتمّ استضافتهم في غرفة واسعة ومنعشة، ذات ضوء خافت، مجهّزة بمقاعد وصناديق. تَخرُج الأرملة لتعطي تعليماتها، ويسوع يستدعي الرُّسُل كي يُرسِلهم عَبْر البلدة كي يُهيّئوا الناس لمجيئه. يَدخُل صموئيل، وقد تبدَّلَ مِن بائع إلى رئيس خَدَم، تتبعه الخادمتان بِجِرار وأحواض، للتطهّر قبل تناول الطعام. يُحمَل على صوانٍ واسعة: خبز، فاكهة، حليب.

 

تعود السيدة: «لقد قلتُ لخادِمي أنّكَ هنا. إنّه يرجوكَ أن تكون رحيماً تجاهه، وأنا أسألكَ أيضاً. الكثير مِن الناس يَعبُرون مِن هنا مِن أجل عيد المظالّ. والعبور الرئيسيّ يبدأ مباشرة بعد قمر شهر تيسري (سبتمبر-اكتوبر) الجديد. لا أعرف كيف سنتصرّف، إذا كان مريضاً، لا أدري...»

 

«قولي له أن يأتي إلى هنا.»

 

«مستحيل. لا يستطيع الوقوف.»

 

«قولي له بأنّ الرابّي لن يذهب إليه، ولكنّه يريد أن يراه.»

 

«سوف أجعل صموئيل ويوسف يحملانه.»

 

«لا ينقص سوى هذا! إنّني عجوز ومُتعَب» يتمتم صموئيل.

 

«قُل لإيليّا أن يأتي ماشياً على قدميه. إنّني أشاء ذلك.»

 

«رابّي مسكين! فلا حتّى غَمَالائيل ذاته يقدر على ذلك» يُتمتِم مجدّداً الخادم العجوز.

 

«اصمت يا صموئيل!... اغفر له يا معلّم! إنّه خادم وفيّ. لقد وُلِدَ هنا مِن خادِمَين لعائلة زوجي، إنّه ماهر وشريف... لكنّه متصلّب في أفكاره كإسرائيليّ عتيق...» تقول الأرملة بصوت خافت كي تُبرّر له.

 

«أَتفَهَّم روحه. لكنّ المعجزة سوف تُغيّره. اذهبي وقولي لإيلي بأن يأتي، وهو سوف يأتي.»

 

تذهب الأرملة وتعود: «لقد قلتُ له. وقد هَرَبتُ في الحال، حيث أنّني لا أريد أن أراه يضع ساقه السوداء والمتورّمة على الأرض.»

 

«ألا تؤمنين بالمعجزة؟»

 

«أنا، بلى. لكنّ تلك الساق مريعة... أخاف أن تُفسِدها الغنغرينا تماماً. إنّها لامعة، لامعة... مرعبة و... آه!»

 

إنّ تَوقُّفها عن الكلام ودهشتها هما بسبب رؤيتها لإيليا يركض نحوهم بأفضل مِن إنسان سليم، ويرتمي عند قدميّ يسوع قائلاً: «التسبيح لِمَلِك إسرائيل.»

 

«التسبيح لله وحده. كيف أتيتَ؟ كيف تجرّأتَ؟»

 

«لقد أطعتُ. لقد فكّرتُ: "إنّ القدّوس لا يكذب. ولا يَأمُر بحماقات. لي إيمان، إنّني أؤمن" وحرّكتُ ساقي. ما عادت تؤلمني، وقد استطعتُ تحريكها. وضعتُها على الأرض، ساقي كانت تحملني. خَطَوتُ خطوة. وقد كنتُ قادراً على ذلك. فهرعتُ إلى هنا. إنّ الله لا يخيّب الذين يؤمنون به.»

 

«انهض يا رجل. الحقّ أقول لكم بأنّ قلّة مِن الناس لديهم إيمان هذا الرجل. ممّن أتاكَ؟»

 

«مِن تلاميذكَ الذين أتوا إلى هنا مبشّرين بكَ.»

 

«أكنتَ أنتَ الوحيد الذي استَمَعَ إليهم؟»

 

«لا، الجميع قد استمعوا إليهم، لأنّهم كانوا ضيوفنا هنا بعد العنصرة.»

 

«وأنتَ وحدكَ آمنتَ... إنّ روحكَ متقدّمة جدّاً على دروب الربّ. استمرّ...»

 

العجوز صموئيل تتقاذفه مشاعر متضاربة... إنّما، مثل الكثيرين في إسرائيل، إنّه لا يقدر أن يتحرّر مِن العقليّة القديمة لصالح الجديدة، ويتصلّب قائلاً: «سِحر! سِحر! إنّه مكتوب: "على شعبى ألّا يُفسِده السَّحَرَة والعرّافون، وإذا ما لجأ إليهم أحدهم، فسوف أشيح بوجهي عنه وأُهلِكه." ارتعدي يا سيّدتي، لئلّا تكوني عاصية للشرائع!» ويمضي صارماً، مستنكراً كما لو أنّه كان قد رأى الشيطان قد استوطن في المنزل.

 

«لا تعاقبه يا معلّم! إنّه مسنّ! لقد كان إيمانه دوماً هكذا...»

 

«لا تخافي. إن كان عليَّ أن أُعاقِب كلّ الذين يقولون بأنّني شيطان، لكانت قبور كثيرة قد انفتحت لابتلاع فرائسها. إنّني أُحسِن الانتظار... سأتكلّم عند الغروب... ثمّ سوف أغادر أَفِيقَ. أمّا الآن فأنا أَقبَل البقاء تحت سقفكِ.»