ج6 - ف125
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السادس/ القسم الثاني
125- (في الناصرة)
09 / 05 / 1946
عند القدوم مِن ضواحي سيفوريس، فإنّ الدخول إلى الناصرة يكون مِن جهتها الشماليّة الشرقيّة، أي جهتها الصخريّة والأكثر ارتفاعاً. بحيث أنّ كامل الأرض المتدرّجة، والتي تتموضع الناصرة على تدرّجاتها تلك، تَظهَر عند الوصول إلى قمّة التلّة، وهي التلّة الأخيرة عند القدوم مِن سيفوريس، والتي تنحدر نزولاً بشكل حادّ إلى حدّ ما عبر وِهاد صوب المدينة. وفيما إذا كنتُ أذكر جيّداً، لأنّ وقتاً طويلاً قد مضى، ولأنّ هناك الكثير مِن المناطق الجبلية المشابهة، فإن المكان حيث يوجد يسوع الآن، هو ذات المكان حيث حاوَلَ أهل بلدته رجمه، والذي أوقفهم بقدرته مجتازاً في وسطهم.
يسوع يتوقّف لينظر إلى بلدته العزيزة التي تُكِنّ له العداء، وابتسامة سعادة تُنير وجهه. يا لتلك النّعمة، التي يتجاهلها ولا يستحقّها الناصريّون، هي ابتسامته الإلهيّة، التي تصبّ وتنشر النِّعم على الأرض التي احتَضَنَته عندما كان طفلاً ورأته يكبر، وحيث وُلِدت أُمّه، وحيث غدت عروس وأُمّ الله!
ابنا عمّه ينظران أيضاً إلى مدينتهما بفرح جليّ، لكنّ سعادة تدّاوس تَخفتها رصانة صارمة ومتحفّظة، فيما يعقوب أكثر انفتاحاً ولطافة، كما يسوع.
وبالرغم مِن أنّها ليست مدينته، فإنّ وجه توما يلمع متألّقاً بالفرح، إنّه يشير إلى منزل مريم الصغير، حيث تتصاعد حلقات الدخان مِن مدخنة الفرن، ويقول: «إنّ الأُمّ في المنزل، وهي تَخبز...» إنّه يتفوّه بتلك الكلمات بمحبّة متّقدة، بحيث يبدو أنّه يتحدّث عن أُمّه بكلّ مودّة الابن.
أمّا الغيور، فإنّه أكثر هدوءاً بسبب سنّه وتربيته، فإنّه يبتسم قائلاً: «نعم، وسلامها قد لمس قلوبنا منذ الآن.»
«لنسرع بالنزول» يقول يعقوب. «سوف نسلك هذا المَسلَك الوَعِر، فليس مِن المستحبّ أن يرانا الناصريّون. فقد يؤخّروننا...»
«ولكنّك ستبتعد عن منزلكَ... فأُمّكَ أيضاً متلهّفة لرؤيتكَ.»
«آه! يمكنكَ أن تكون متأكّداً يا سمعان مِن أنّ أُمّنا موجودة مع مريم. إنّها دوماً هناك بشكل تقريبيّ... وهي سوف تكون هناك لأنّهما تخبزان، وبسبب الفتاة المريضة.»
«نعم، لنسلك هذه الدرب. سوف نمرّ مِن خلف بستان حلفى، وسوف نصل إل سياج بستاننا» يقول يسوع.
ينزلون بسرعة عبر درب وَعِر، شديد الانحدار في البداية، ثمّ تقلّ حدّة انحداره قرب المدينة. يعبرون بساتين زيتون وحقول صغيرة عارية. يعبرون بالقرب مِن أوّل بستان في البلدة. والسياج العالي الـمُورِق، والذي تتدلّى مِن فوقه أغصان محمّلة بالفواكه، أو الجدران الحجريّة الصغيرة، المغطّاة كلّيّاً بأغصان تَبرز مِن البساتين، تحول دون ملاحظة مرورهم مِن قِبَل ربّات البيوت، اللواتي يرحن ويجئن في البساتين، أو اللواتي يغسلن وينشرن الغسيل فوق تكتّلات الأعشاب قرب المنازل…
السياج المتاخم لأحد جوانب بستان مريم، الذي يكون تَشابُك أشواك في الشتاء، ثمّ تكدُّس أوراق في الصيف، بعد إزهار الزعرور في الربيع، أو بعد أن تتلوّن الثّمار الصغيرة بلون الياقوت، هو الآن مزيَّن بالياسمين المترف، وبتموّج تويجات زهور، التي لا أعرف اسمها، والتي ترمي بأغصانها فوق السياج مِن داخل البستان، جاعلة إيّاه أكثر كثافة وجمالاً. عصفور يُغرّد ضمن السياج، وهديل الحمام يُسمع مِن داخل البستان.
«البوّابة أيضاً محميّة ومغطّاة كلّياً بالأغصان الـمُزهِرة» يقول يعقوب الذي هرع إلى الأمام كي يُلقي نظرة على البوّابة الخشبيّة الكائنة في الجهة الخلفيّة للبستان، تلك التي لم تكن قد استُعمِلت لسنوات، والتي فُتِحَت لإدخال وإخراج عربة بطرس مِن أجل يوحنّا وسِنْتيخي.
«سنسلك الممرّ ونطرق على الباب، فقد تحزن أُمّي فيما إذا أُتلِفَت هذه الحماية» يُجيب يسوع.
«بستانها المسيّج!» يصيح يوضاس بن حلفى.
«نعم. وهي وردته» يقول توما.
«كزنبقة بين الأشواك» يقول يعقوب.
«الينبوع المختوم» يقول الغيور.
«بل أسمى: نبع الماء الحيّ، الذي يفيض بغزارة مِن جبل رائع، معطياً ماء الحياة للأرض، ومندفعاً نحو السماء بجماله الأخّاذ» يقول يسوع.
«بعد قليل سوف تكون مبتهجة لرؤيتكَ» يقول يعقوب.
«يا أخي، أجبني على أمر أتوق إلى معرفته منذ وقت طويل. كيف ترى مريم؟ كأُمّ أم كتابع؟ إنّها اُمّكَ، ولكنّها امرأة، وأنتَ الله...» يَسأَل تدّاوس.
«كأخت وكعروسة، فرح الله وراحته، وعزاء الإنسان. أرى كلّ شيء وأَنعَم بكلّ شيء مِن خلال مريم، كإنسان وكإله. هي التي كانت فرح الأقنوم الثاني مِن ثالوث السماء، فرح الكلمة، كما هي فرح الآب والروح، فرح الإله المتجسّد، وسوف تكون فرح الإنسان-الإله الـمُمجَّد.»
«يا له مِن سرّ! إذن فالله قد حَرَمَ نفسه مِن فرحه مرّتين؟ فيكَ وفي مريم، ومَنَحَكما للأرض...» يستنتج الغيور.
«يا لها مِن محبّة! كان يجدر بكَ أن تقول: المحبّة التي حثّت الثالوث كي يمنح يسوع ومريم للأرض» يقول يعقوب.
«وأيضاً، إنّما فيما إذا تمّ استثناؤكَ، يا مَن أنتَ الله، وبالإشارة إلى وردته، ألم يكن متخوّفاً مِن أن يعهد بها إلى البشر، الذين هم كلّهم غير جديرين بحمايتها؟» يَسأَل توما.
«يا توما، إنّ نشيد الإنشاد يُجيبكَ: "كان لِمُحِبّ السلام كَرْمة، وقد عهد بها إلى كرّامِين، والذين، كوّنهم مُدَنِّسين ومدفوعِين مِن قبل الـمُدَنِّس، كانوا على استعداد لدفع مبالغ كبيرة لامتلاكها، أي، كلّ الإغراءات كي يغوونها، لكنّ كَرْمة الربّ الجميلة صانت نفسها بنفسها، ولم تشأ إعطاء ثمارها لأيّ أحد إلّا للربّ، ولا التّفتّح إلّا له، معطية الكنز الذي لا يُقدّر بثمن: الـمُخلّص."»
لقد وصلوا الآن إلى باب البيت، وفيما يسوع يطرق على الباب، فإنّ يوضاس بن حلفى يُعلّق قائلاً: «إنّه الوقت المناسب كي تقول: "افتحي يا أختي، يا عروسي، يا حَمَامتي المحبوبة الطاهرة"...»
ولكن عندما يُفتَح الباب، ويظهر الوجه العذب للعذراء، فإنّ يسوع يقول الكلمة الأعذب، فاتحاً ذراعيه لاحتضانها: «أُمّي!»
«آه! بُنيّ! أيّها المبارك! ادخل وليكن السلام والحبّ معكَ»
«ومع أُمّي، ومع المنزل ومَن فيه» يقول يسوع فيما يَدخُل، يتبعه الآخرون.
«أُمّكما هناك، أمّا التلميذتان فمشغولتان بالخَبز والغسيل...» تشرح مريم بعد تبادل التّحيات مع الرُّسُل ونَسيبَيها، الذين ينسحبون بهدوء، تاركين الأُمّ وابنها لوحدهما.
«ها أنا ذا معكِ يا أُمّي. سوف نكون معاً لبعض الوقت... كم هي عذبة العودة... البيت، وأنتِ خصوصاً يا أُمّي، بعد الكثير مِن السفر بين البشر...»
«والبشر قد أصبحوا يعرفونكَ أكثر فأكثر، ومِن خلال تلك المعرفة بكَ مِن قبلهم ، فقد أصبحوا منقسمِين إلى مجموعتين: أولئك الذين يحبّونكَ... وأولئك الذين يكرهونكَ... والمجموعة الأخيرة هي المجموعة الأكبر...»
«إنّ الشرّ يُدرِك بأنّه على وشك أن يُهزَم، وهو يستشيط غضباً... ويجعل الناس يثورون... كيف حال الفتاة؟»
«أفضل قليلاً... لكنّها كادت تموت... وكلامها، الآن وبعد أن ذهب عنها الهذيان، ورغم أنّه أكثر اتّزاناً، إلّا أنّه ما يزال يتطابق مع الكلام الذي كانت تتفوّه به عندما كانت تهذي. قد يتمّ تكذيبنا بقول أنّنا لم نختلق قصّتها... يا للفتاة المسكينة!...»
«نعم، لكنّ العناية الإلهيّة كانت قد سهرت عليها.»
«والآن؟...»
«الآن لا أدري. أوريا لا تخصّني كمخلوقة بشريّة. إنّما نفسها هي التي تخصّني، إنّها كمخلوقة بشريّة تخصّ فاليريا. في الوقت الحالي، هي ستبقى هنا، كي تنسى...»
«ميرتا ترغب في أن تكون معها.»
«أنا أعلم ذلك... ولكن ليس مِن حقّي أن أتصرّف مِن دون إذن السّيدة الرومانيّة. وحتّى إنّني لا أعلم فيما إذا كنّ قد اشترينها بالمال، أو أنّهن ببساطة استخدمن سلاح الوعود... وعندما تُطالب السّيدة الرومانيّة بها...»
«أنا سوف أذهب بدلاً عنكَ يا بنيّ. ليس حسناً أن تذهب أنتَ... دع أُمّكَ تتصرّف... فنحن النساء... الكائنات التي لا قيمة لها بالنسبة لإسرائيل، أقلّ عُرضة للملاحظة فيما إذا ذهبنا وتحدّثنا إلى وثنيّات. وأُمّكَ مجهولة جدّاً بالنسبة للعالم! ولا أحد سوف يُلاحظ امرأة يهوديّة مِن عامّة الشعب، تمضي عبر شوارع طبريّا، مغطّاة بردائها، وتطرق باب سيّدة رومانيّة...»
«يمكنكِ الذهاب إلى عند يُوَنّا... وأن تتحدّثي إلى السيّدة هناك...»
«سوف أفعل ذلك يا بنيّ. لعلّ قلبكَ يرتاح، يا يسوعي!... إنّكَ محزون كثيراً... أفهم ذلك... وأودُّ فِعل الكثير مِن أجلكَ...»
«وأنتِ تفعلين الكثير يا أُمّي. شكراً لكِ على كلّ ما تفعلينه...»
«آه! إنّني عون ضئيل جدّاً يا بنيّ! لأنّني لا أنجح في جعلكَ محبوباً، ولا أنجح في منحكَ... الفرح... طالما هو مسموح لكَ أن تفرح قليلاً... إذاً فما أنا؟ تلميذة مسكينة، لا أكثر...»
«أُمّي! أُمّي! لا تقولي هذا! إنّ قوّتي تأتيني عبر صلواتكِ. إنّ عقلي يرتاح عندما أُفكّر بكِ، وأيضاً، انظري، قلبي يجد العزاء هكذا، حين أسند رأسي إلى قلبكِ المبارك... يا أُمّي!...» يسوع يجذب أُمّه إليه، حيث كانت واقفة قبالته، فيما كان هو يجلس على صندوق موضوع قبالة الجدار، ويسند جبهته على صدر مريم، التي تداعب شعره بلطف... إستراحة مَحبّة.
ثمّ يرفع يسوع رأسه، ينهض ويقول: «لنذهب إلى الآخرين وإلى الفتاة» ويَخرُج مع أُمّه إلى البستان.
التلميذات الثلاث، الواقفات قرب باب الغرفة حيث توجد الفتاة المريضة، يتحدّثن إلى الرُّسُل. ولكن عندما يرين يسوع، فإنّهنّ يصمتن ويركعن.
«السلام لكِ يا مريم التي لحلفى، ولكما يا ميرتا ونُعْمي. هل الفتاة نائمة؟»
«نعم، إنّها ما تزال نائمة. هي ما تزال محمومة، وحرارتها تُخدّرها وتُضنيها. وفيما إذا استمرّت على هذه الحال فسوف تموت. فجسدها الضعيف لن يقاوم المرض، وعقلها مضطرب بسبب الذكريات» تقول مريم التي لحلفى.
«نعم... إنّها لا تتفاعل، لأنّها تقول بأنّها تريد أن تموت، كي لا تعود ترى أيّ رومانيّ...» تؤكّد ميرتا.
«وذلك يحزننا، لأنّنا أحببناها...» تقول نُعْمي.
«لا تَخَفْن!» يُجيب يسوع ماضياً حتّى عتبة باب الغرفة الصغيرة ورافعاً الستارة…
على سرير صغير قرب الجدار، قبالة الباب، يظهر وجه الفتاة الصغير والنحيل، محمرّ عند الوجنتين، فيما هو أبيض ثلجي في باقي أنحاء الوجه، يغوص في كتلة شعرها الذهبيّ الطويل. إنّها تنام بشكل مضطرب، تتمتم بكلمات مبهمة، وبيدها المرتخية على الأغطية، تقوم بين الحين والآخر بحركة كما لو أنّها تُبعِد شيئاً ما.
يسوع لا يدخل. ينظر إليها بعينين ملؤهما الشّفقة. ثمّ يناديها بصوت عالٍ: «أوريا! تعالي! مخلّصكِ هنا.»
تجلس الفتاة على سريرها فجأة، تراه، وتَنهَض صائحة، وتركض حافية القدمين نحو يسوع، بثوبها الطويل الفضفاض، وتركع عند قدميه قائلة: «ربّي! الآن قد حرّرتني بحقّ!»
«لقد شُفِيَت. أَتَرون؟ لن تموت، لأنّه يتوجّب عليها أن تصبح مُدركة للحقّ أوّلاً.» ويقول للفتاة التي تُقبّل قدميه: «انهضي وعيشي بسلام» ويضع يده على الرأس الذي لم يعد محموماً.
أوريا تبدو كملاك، بثوبها الكتّاني الطويل، الذي هو ربّما أحد أثواب العذراء، الطويل لدرجة أنّه يصل إلى الأرض، وشعرها المرخيّ ينسدل على جسدها النّحيل كما الرّداء، وعيناها الرماديّاين-الزرقاوان اللتان لا تزالان تبرقان بفعل الحرارة التي فارقتها للتوّ، وبسبب الفرح الذي ما لبث أن ملأها.
«الوداع! نحن سوف ننسحب إلى المشغل فيما تعتنين أنتنّ بالفتاة وبالمنزل...» يقول المعلّم، ويدخل إلى مشغل يوسف القديم، متبوعاً مِن رُسُله الأربعة، ويجلسون على المناضد التي لم تعد تستخدم...