ج8 - ف21

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثامن

 

21- (اللّقاء مع يوسف الذي مِن الرّامة، نيقوديموس ومَنَاين)

 

23 / 01 / 1947

 

إنّه درب شاقّ ذلك الّذي سلكه مَنَاين كي يقود يسوع إلى المكان حيث يتمّ انتظاره. إنّه درب جبليّ، ضيّق، مليء بالحجارة، وسط الدغل والأحراج. إنّ النور الساطع للقمر الّذي في ربعه الأوّل، بالكاد يشقّ طريقه عبر تشابك الأغصان، وأحياناً يختفي تماماً، ومَنَاين يُعوّض بمشاعل قد أعدّها وحملها متدلّية كما الأسلحة تحت ردائه. إنّه في الأمام، يتبعه يسوع، يتقدّمان بصمت في صمت الليل المطبق. مرّتين أو ثلاث مرّات، حيوان بريّ ما، بينما يركض بين الأحراج، بصوت يحاكي صوت خطوات، يجعل مَنَاين يقف مترصّداً. إنّما، فيما عدا ذلك، لا شيء يعكّر المسير الشاقّ.

 

«هو ذا يا معلّم. تلك هي جفينا. الآن ننعطف، سأعدّ ثلاثمائة خطوة، وسأكون عند المغاور حيث هما ينتظراننا منذ المغيب. هل بدا لكَ المسير طويلاً؟ ومع ذلك فقد مضينا عبر مسالك مختصرة، والّتي أظنّ أنّها تحترم المسافات الشرعيّة.»

 

يسوع يقوم بحركة كما ليقول: «ما كان بالإمكان فِعل خلاف ذلك.»

 

مَنَاين لا يعود يتكلّم، متيقّظاً لعدّ خطواته. إنّهما الآن في ممرّ صخريّ وأجرد، يشبه كهفاً صاعداً بين حواف الجبل الّتي تكاد تتلامس. تحسبها كَسْراً نتج عن كارثة ما مِن فرط ما هو غريب. ضربة سكين ضخمة في كتلة الجبل قد قطعت تقريباً ثلثاً منها بدءاً مِن القمّة. فوق، في الأعلى، إلى ما بعد الجانبين المتعامدين، إلى ما وراء التشابك الفوضوي لغصينات النباتات الّتي نمت على حوافّ الشقّ الهائل، تلمع النجوم، لكنّ نور القمر لا ينزل إلى هنا، إلى هذه الهوّة. النور المدخّن للمشعل يوقظ الطيور الجارحة، الّتي تصيح صافقةً بأجنحتها عند حوافّ أعشاشها بين الصدوع.

 

مَنَاين يقول: «هو ذا!» ويُطلِق داخل شقّ في الجدار الصخريّ صيحة تشبه نواح طائر بوم ضخم.

 

مِن العمق، يتقدّم نور مُحمرّ عبر ممرّ صخريّ آخر، إنّما الّذي هو مغلق في الأعلى. يَظهَر يوسف: «المعلّم؟» يَسأَل حيث لا يرى يسوع الّذي هو إلى الوراء قليلاً.

 

«أنا هنا يا يوسف. السلام لكَ.»

 

«لكَ السلام. تعال! تعاليا. لقد أشعلنا ناراً كي نرى الحيّات والعقارب ونطرد البرد. أنا أتقدّمكما.»

 

يستدير ويقودهما عبر انعطافات المسلك في أحشاء الجبل إلى موضع ينيره لهيب النار. هناك، قرب النار، يمكث نيقوديموس الّذي يلقي أغصان العرعر فوق النار.

 

«السلام لكَ أيضاً يا نيقوديموس. ها أنا معكما. تكلّما.»

 

«يا معلّم، ألم يلحظ أحد مجيئكَ؟»

 

«ومَن قد يكون يا نيقوديموس؟»

 

«إنّما أليس تلاميذكَ معكَ؟»

 

«معي يوحنّا ويهوذا بن سمعان. الآخرون يبشّرون مِن اليوم الّذي يلي السبت إلى مغيب الجمعة. لكنّني قد غادرتُ المنزل قبل الساعة السادسة، قائلاً ألّا ينتظرني أحد قبل فجر ما بعد السبت. لقد أصبح مِن المعتاد غيابي لساعات عديدة مِن دون أن يتسبّب ذلك بإثارة شكوك أحد. لذلك كونا مطمئنَّين. لدينا كلّ الوقت للكلام دون أيّة خشية مِن أن تتمّ مفاجأتنا. هنا… المكان مناسب.»

 

«نعم. وكر حيّات ونسور… ولصوص في الفصل الجميل، عندما تكون هذه الجبال مليئة بالقطعان. إنّما الآن فاللصوص يُفضّلون مواضع أخرى، حيث يَنقَضّون بشكل أسرع على الحظائر والقوافل. إنّنا نأسف لجلبكَ إلى هنا. لكنّنا مِن هذا المكان نستطيع المغادرة عبر دروب مختلفة دون إثارة انتباه أحد. لأنّ يا معلّم، حيث يتمّ الاشتباه بوجود محبّة تجاهكَ، فإلى هناك يتركّز انتباه السنهدرين.»

 

«في هذا أنا أختلف مع يوسف. يبدو لي أنّنا الآن نحن مَن نرى خيالات حيث لا وجود لها. ويبدو لي كذلك أنّ الأمر قد هدأ كثيراً منذ بضعة أيّام...» يقول نيقوديموس.

 

«أنتَ مخطئ يا صديقي. أنا مَن أقول لكَ ذلك. لقد هدأ الأمر مِن جهة أنّه ما عادوا جاهدين في البحث عن المعلّم، لأنّهم باتوا الآن يعلمون أين يقيم. إنّه هو، لا نحن، مَن يُراقِبون. لهذا فقد نصحتُه بألّا يقول لأحد بأنّنا كنّا سنلتقي. كي لا يتهيّأ أحد… لأيّ شيء.» يقول يوسف.

 

«لا أظنّ بأن أهل أفرايم...» يعترض مَنَاين.

 

«لا أهل أفرايم ولا أحد مِن السامرة. فقط كي نتصرّف بشكل مختلف عمّا نفعله في الجانب الآخر...»

 

«لا يا يوسف. ليس لأجل هذا. إنّما لأنّ ليس لديهم في قلوبهم تلك الحيّة الخبيثة الّتي لديكم. إنّهم لا يخافون مِن أن يتم تجريدهم مِن أيّ امتياز. ليس عليهم الدفاع عن مصالح طائفيّة أو طَبَقيّة. ما مِن شيء بهم، باستثناء حاجة غريزيّة للشعور بمغفرة ومحبّة مَن أساء إليه أسلافهم، والّذين يواصلون الإساءة إليه بالبقاء خارج الدين الكامل. خارجاً لأنّهم، هم بتكبّرهم، وأنتم بتكبّركم كذلك، كلاكما لا تُحسِنان نزع البغضاء الّتي تُفرّق، ومدّ اليد باسم الآب الواحد. أجل، فحتّى لو كان فيهم الكثير مِن الإرادة الحسنة، فأنتم سوف تسحقونها. لأنّكم لا تُحسِنون المغفرة. أنتم لا تعرفون أن تقولوا، طَارِحين تحت أقدامكم كلّ حماقة: "الماضي مات، لأنّ أمير الدهر الآتي الّذي يجمعنا تحت علامته قد ظَهَرَ." بالفعل لقد أتيتُ وأجمع. أمّا أنتم! آه! بالنسبة لكم يظلّ ملعوناً حتّى مَن فكّرتُ بأنّه يستحقّ الجمع!»

 

«إنّكَ صارم معنا يا معلّم.»

 

«إنّني عادل. هل يمكنكما القول ربّما بأنّكما لم تلوماني، في قلبكما، على بعض أعمالي؟ أيمكنكما القول بأنّكما تؤيّدان رحمتي الّتي هي ذاتها لليهود والجليليّين، كما للسامريّين والوثنيّين، لا بل الّتي هي أكثر رحابة لهؤلاء وللخطأة الكبار، بالضبط لأنّهم بأكثر حاجة إليها؟ أيمكنكما القول بأنّكما لا تنتظران منّي أعمالاً عنيفة الجلال لإظهار أصلي فائق الطبيعة، وفوق كلّ شيء، انتبها جيّداً، رسالتي كمَسيّا وفقاً لمفهومكم عن المَسيّا؟ قُولا الصدق بحقّ: بغضّ النظر عن فرح قلبيكما بقيامة الصديق، أما كنتما تفضّلان على هذا لو كنتُ وصلتُ إلى بيت عنيا جميل المظهر وقاسياً، كما كان أجدادنا مع الأموريّين والباشانيّين، وكما كان يشوع مع أهل عَايَ وأريحا، أو بأفضل بَعد، أن أهدم بصوتي الحجارة والأسوار على أعدائي، كما فعلت أبواق يشوع بأسوار أريحا، أو جاذباً على أعدائي حجارة ضخمة (يشوع 10 - 11) مِن السماء، كما حدث عند النزول إلى بَيترون أيضاً في زمن يشوع، أو، كما في أزمنة أقرب، مستدعياً فرساناً سماويّين مُنقضّين في الفضاء، مكسوّيين بالذهب، ومسلّحين برماح كما فيالق، وموكب خَيّالة منظّمين في فِرَق، وهجمات مِن جانب ومِن الآخر، وهيجان دروع، وجيوش مُعتَمِرين خُوَذاً، وسيوفاً مسلولة، وراشقين سهاماً لإرهاب أعدائي؟ نعم، هذا ما كنتما لِتُفضّلان، لأنّ، وعلى الرغم مِن أنّكما تحبّانني كثيراً، فمحبّتكما لا تزال غير نقيّة، تتتغذّى لذلك على ما هو غير مقدّس، فكركما كإسرائيليّين، فكركما العتيق. ذاك الّذي عند غَمَالائيل كما عند الأخير مِن إسرائيل، الّذي عند كبير الكَهَنَة، عند رئيس الربُّع، عند الفلاّح، عند الراعي، عند البدويّ، عند إنسان الشتات: الفِكر المتجذّر عن المسيح الفاتِح. كابوس الّذين يخشون أن يحيلهم إلى لا شيء. أَمَل الّذين يحبّون الوطن بعنف محبّة بشريّة. مُشتَهَى مَن هم مُضطهَدون مِن قِبَل قوىً أخرى في أراضٍ أخرى. إنّها ليست غلطتكم. إنّ الفِكرة النقيّة، تلك الّتي كان قد أعطاها الله حول ما أكون، قد ذهبت بفعل ما تكدّست فوقها عبر العصور مِن شوائب عديمة الجدوى. وقليلون هم الّذين يُحسِنون، بالألم، إعادة الفكرة المسيحانيّة إلى نقائها الأوّل. الآن، فيما بعد، بما أنّ الأزمنة الّتي ستُعطى فيها العلامة الّتي ينتظرها غَمَالائيل قريبة، والّتي تنتظرها معه كلّ إسرائيل. الآن، وبحلول أزمنة تَجَليَّ الكامل، فإنّ الشيطان يعمل، لجعل محبّتكم ناقصةً أكثر، وفكركم أكثر تشوّهاً. لقد أتت ساعته. إنّني أقول لكما ذلك. وفي ساعة الظلمات هذه، فحتّى أولئك الّذين يَرَون حاليّاً، أو بهم ضعف البصر فقط، سيكونون عمياناً تماماً. إنّ قلّة، قلّة قليلة، سوف تعرف المسيح في الإنسان المسحوق. إنّ قلّة سوف تعرفه مسيحاً حقّاً، بالضبط لأنّه سيكون مسحوقاً كما رآه الأنبياء. إنّني أودّ، لخير صديقيَّ، حيث لا يزال نور، أن يُحسِنا رؤيتي ومعرفتي، كي يتمكّنا مِن معرفتي ورؤيتي حتّى حينما أكون مشوّهاً، وفي ظلمات ساعة العالم… إنّما قولا لي الآن ما كنتما تريدان قوله لي. إنّ الوقت يمضي بسرعة وسيحلّ الفجر. إنّني أتحدّث لأجلكما، إذ إنّني لا أخاف مِن اللقاءات الخطرة.»

 

«هو ذا. كنا نريد إذن أن نقول لكَ بأنّه لا بدّ أنّ أحداً ما قد أفصح عن مكان وجودكَ، وأنّ هذا الشخص بالتأكيد ليس أنا، ولا نيقوديموس، ولا مَنَاين، ولا لعازر ولا أختاه، ولا نيقي. مع مَن تحدّثت أيضاً عن الموضع المختار للجوئكَ؟»

 

«مع لا أحد يا يوسف.»

 

«هل أنتَ متأكّد مِن ذلك؟»

 

«متأكّد.»

 

«وهل أعطيتَ أوامر لتلاميذكَ بألّا يتكلّموا؟»

 

«قبل الرحيل لم أحدّثهم عن الموضع. وبوصولي إلى أفرايم، أعطيتهم أوامر بالذهاب للتبشير وبالعمل نيابة عنّي. وأنا واثق مِن طاعتهم.»

 

«و… أنتَ وحدكَ في أفرايم؟»

 

«لا. أنا مع يوحنّا ومع يهوذا بن سمعان. لقد سبق أن قلتُ ذلك. هو، يهوذا، لأنّني أقرأ فكركَ، لا يمكن أن يكون قد آذاني، بعدم تبصّره، لأنّه لم يبتعد أبداً عن المدينة، وفي هذا الوقت لا يمرّ بها مسافرون مِن أماكن أخرى.»

 

«إذن… هو بالضبط بعلزبول مَن تكلّم. لأنّ السنهدرين يعلمون أنّكَ هناك.»

 

«فإذن؟ ما هي ردود أفعالهم على تصرّفي؟»

 

«مختلفة يا معلّم. مختلفة جدّاً عن بعضها البعض. هناك مَن يقول بأنّ هذا منطقيّ. فعلى اعتبار أنّهم أبعدوكَ عن الأماكن المقدّسة، فلم يكن قد بقي لكَ إلّا اللجوء إلى السامرة. آخرون على العكس يقولون بأنّ هذا يُظهِرك على ما أنتَ عليه: سامريّاً بالروح أكثر منه بعد بالسلالة، وهذا يكفي لإدانتكَ. ومِن ثمّ الكلّ يغتبطون لتمكّنهم مِن إسكاتكَ ولتمكّنهم مِن إظهاركَ للجموع كصديق للسامريّين. إنّهم يقولون: "لقد ربحنا المعركة. الباقي سوف يكون لعبة أطفال". لكنّنا نرجوكَ، اجعل ألّا يكون ذلك صحيحاً.»

 

«لن يكون صحيحاً. أتركاهم يتكلّمون. إنّ الّذين يحبّونني لن يضطربوا بفعل المظاهر. دعا الريح تهدأ تماماً. إنّها ريح أرضيّة. ثمّ تأتي ريح السماء، وينفتح الحجاب ليظهِر مجد الله. ألديكما شيء آخر تقولانه لي؟»

 

«لا، فيما يتعلّق بكَ. انتبه، كن حذراً، لا تخرج مِن حيث أنتَ. ونقول لكَ بعد بأنّنا سوف نبقيكَ على اطلاع...»

 

«لا. ما مِن داعٍ. ابقيا حيث أنتما. قريباً سأحظى معي بالتلميذات، وهذا نعم، قولا لإليز ولنيقي أن تلحقا بالأخريات، إذا ما أرادتا ذلك. قولا ذلك أيضاً للأختين. وحيث أنّ مكاني قد بات معروفاً، فأولئك الّذين لا يخشون السنهدرين يمكنهم أن يأتوا مِن الآن فصاعداً مِن أجل تعزيتنا المتبادلة.»

 

«لا تستطيع الأختان المجيء إلى أن يعود لعازر. لقد غادر بأبّهة، وكلّ أورشليم قد علمت بأنّه كان ذاهباً إلى أملاكه البعيدة، وغير معلوم متى سيعود. لكنّ خادمه قد عاد للتوّ مِن الناصرة وقال، أيضاً هذا يجب أن نقوله لكَ، بأنّ أُمّكَ ستكون هنا مع الأخريات قبل نهاية هذا القمر. إنّها بخير ومريم الّتي لحلفى بخير. إنّ الخادم قد رآهما. إنّما ستتأخّران قليلاً لأنّ يُوَنّا تريد أن تأتي معهما ولا تستطيع ذلك حتّى نهاية هذا القمر. ومِن ثمّ، هو ذا، إذا ما سمحتَ لنا بذلك، فنحن نودّ مساعدتكَ… مساعدة صديقين مخلصين حتّى ولو… غير كاملين كما تقول.»

 

«لا. إنّ التلاميذ الّذين يذهبون للتبشير يجلبون عشية كلّ سبت ما هو ضروريّ لهم ولنا نحن الّذين نبقى في أفرايم. لا يلزم شيء آخر. إنّ العامل يعيش مِن أجره. وهو أمر عادل. الباقي سيكون غير ضروريّ. أعطياه لبعض البائسين. هذا أيضاً ما فرضتُه على أهل أفرايم وعلى رُسُلي ذاتهم. إنّني أفرض بألّا يكون معهم أيّ نقد احتياطيّ عند عودتهم، وأن تُعطى كلّ صَدَقَة على الطريق، آخذين لنا منها ما يكفي فقط لطعام لنا مُقتَصِد لمدة أسبوع.»

 

«إنّما لماذا يا معلّم؟»

 

«كي أُعلّمهم التجرّد مِن الثروات وسيطرة الروح على هموم الغد. لأجل هذا ولأجل أسباب صالحة أخرى تخصّني كمعلّم، أرجوكما ألّا تُصرّا.»

 

«كما تشاء. إنّما يؤسفنا عدم التمكّن مِن خدمتكَ.»

 

«سيأتي الوقت حيث تفعلان ذلك… أليس هذا أوّل نور للفجر؟» يقول ملتفتاً نحو الشرق، أي إلى الجهة المعاكسة للّتي جاء منها، ومشيراً إلى انبلاج خجول بالكاد يظهر عبر فتحة تطلّ على خلفيّات بعيدة.

 

«إنّه كذلك. علينا أن نفترق. أنا أعود إلى جفينا، حيث تركتُ الدابة، ونيقوديموس سوف ينزل مِن هذه الجهة الأخرى صوب بَئيروت [البيرة]، ومِن هناك إلى راما، ما أن ينتهي السبت.»

 

«وأنتَ يا مَنَاين؟»

 

«آه! أنا سوف أذهب علناً عبر الطرق الرئيسيّة نحو أريحا، حيث هيرودس متواجد الآن. لديَّ حصاني في منزل أناس فقراء، الّذين لأجل صَدَقَة لا يأنفون مِن شيء، ولا حتّى مِن سامريّ كما يظنّونني. إنّما الآن أبقى معكَ. في كيسي قُوت لشخصين.»

 

«لنودّع بعضنا إذن. سوف نتلاقى في الفصح.»

 

«لا! لن تريد حقّاً تعريض نفسكَ لهذا الخطر!» يقول يوسف ونيقوديموس. «لا تفعل ذلك يا معلّم!»

 

«في الحقيقة إنّكما صديقان سيّئان، إذ تنصحانني بالخطيئة والجبن. أيمكنكما أن تحبّاني بعد ذلك، وأنتما تتمعّنان بتصرّفي؟ قولا ذلك. كونا صادقَين. أين عليَّ أن أذهب كي أعبد الربّ في فصح الفطير؟ أربّما على جبل جِرِزيمَ؟ أليس عليَّ المثول أمام الربّ في هيكله الّذي في أورشليم، كما يتوجّب على كلّ رجل مِن إسرائيل في الأعياد السنويّة الثلاثة الكبرى؟ ألا تذكران بأنّه يتمّ اتّهامي بعدم احترام السبت، رغم أنّني -ومَنَاين هنا ليشهد على ذلك- حتّى اليوم، التزاماً برغبتكما، فقد انتقلتُ في المساء لمكان يوفّق بين رغبتكما وشريعة السبت؟»

 

«نحن أيضاً قد توقّفنا في جفينا لهذا السبب… وسوف نضحّي كي نُكفّر عن تجاوز غير متعمّد لضرورة كانت مفروضة. لكن أنتَ يا معلّم!... إنّهم سوف يرونكَ في الحال...»

 

«وحتّى إن لم يكونوا يرونني، فسوف أعمل على أن يروني.»

 

«إنّكَ تريد هلاك نفسكَ! إنّ الأمر كما لو أنّكَ تنتحر...»

 

«لا. إنّ روحكما مغلّف بالكامل بالظلمات. الأمر ليس كما لو أنّني أريد قتل نفسي، بل هي حصراً طاعة لصوت أبي الّذي يقول لي: "اذهب. لقد حانت الساعة". لقد سعيتُ دوماً إلى التوفيق بين الشريعة والضرورة، أيضاً في ذاك اليوم الّذي كان عليَّ فيه الهروب مِن بيت عنيا واللجوء إلى أفرايم، لأنّها لم تكن قد حانت بعد ساعة القبض عليَّ. إنّ حَمَل الخلاص لا يمكن أنّ يضحّى به إلّا في فصح الفطير. أتودّان، إذا ما فعلتُ ذلك لأجل الشريعة، ألّا أفعله لأجل أمر أبي؟ امضيا، امضيا! لا تحزنا هكذا. ولأجل ماذا جئتُ إن لم يكن لأجل أن يُنادى بي مَلِكاً على كلّ الأمم؟ لأنّ هذا معنى "المسيا"، أليس كذلك؟ نعم. هذا معناه. وكذلك معناه "الفادي". إنّما حقيقة معنى هذين الاسمين لا يتطابق مع ما تتصوّرانه. لكنّني أبارككما، متضرّعاً أن ينزل عليكما شعاع سماويّ مع بركتي. لأنّني أحبّكما ولأنّكما تحبّانني. لأنّني أودّ أن يكون برّكما ساطعاً كلّيّاً. بالفعل إنّكما لستما سيّئين، لكنّكما أيضاً "إسرائيل العتيق"، ولا تمتلكان الإرادة البطوليّة لتتجرّدا مِن الماضي وتجعلا نفسيكما جديدين. وداعاً يا يوسف. كن بارّاً. بارّاً مثل مَن كان وصيّاً عليَّ لسنوات كثيرة، وكان قادراً على التجدّد كلّيّاً كي يخدم الربّ إلهه. لو كان بيننا، هنا، آه! كم كان سيُعَلّمكما أن تُحسِنا خدمة الله بشكل كامل، أن تكونا بارّين، بارّين، بارّين. إنّما حسن أنه أصبح في حضن إبراهيم!... كي لا يرى جور إسرائيل. خادم الله القدّيس!... إنّه إبراهيم الجديد، وبقلبه المجروح، إنّما بإرادته الكاملة، ما كان لينصحني بالجبن، إنّما لكان قال لي الكلام الّذي كان يقوله حينما كان يُثقِل علينا شيء ما مؤلم: "لنرفع روحنا. وسنلاقي نظر الله وننسى أنّ البشر هم مَن يسببّون لنا الألم. ولنقم بكلّ ما هو مؤلم، كما لو أنّ العليّ كان يقدّمه لنا. إنّنا بهذا الشكل سوف نقدّس كذلك حتّى أصغر الأشياء، وسوف يحبّنا الله". آه! هذا ما كان ليقوله أيضاً في معرض تشجيعي على تحمّل أعظم الآلام… كان ليعزّينا… آه! أيا أُمّي!...»

 

يسوع يترك يوسف، الّذي كان يعانقه، ويحني رأسه ويلبث صامتاً، متأمّلاً حتماً استشهاده القريب واستشهاد أُمّه المسكينة… ثم يرفع رأسه ويعانق نيقوديموس قائلاً: «إنّ أوّل مرّة أتيتَ فيها إليّ كتلميذ في الخفاء، قلتُ لكَ أنّه لدخول ملكوت الله وامتلاك ملكوت الله فيكم، فإنّه مِن الضروريّ أن يولد روحكم ثانيةً، وأن تحبّوا النور بأكثر ممّا يحبّه العالم. اليوم، وربّما هي المرّة الأخيرة الّتي نلتقي فيها خفيةً، فإنّني أعيد عليكَ الكلام ذاته. عليكَ أن تولد ثانيةً بروحكَ يا نيقوديموس، كي تتمكّن مِن أن تحبّ النور الّذي هو أنا، ولأسكن فيكَ كمَلِك ومخلّص. امضيا. وليكن الله معكما.»

 

يمضي عضوا السنهدرين مِن الجهة المقابلة للجهة الّتي أتى منها يسوع. وعندما ابتعد وقع خطواتهما، فإنّ مَنَاين، الّذي كان قد لبث عند مدخل المغارة كي يشاهدهما يبتعدان، يعود للداخل، قائلاً بوجه معبّر جدّاً: «ولمرّة واحدة، فإنّ مَن سينتهك شريعة السبت سيكونان هما! ولن يحظيا بالسلام إلى أن يسدّدا دينهما للأزليّ بالتضحية بحيوان! أما كان مِن الأفضل لهما لو ضحيّا بسكينتهما بالقول أنّهما "خاصّتكَ" علانيةً؟ ألا يكون ذلك أكثر إرضاءً للعليّ؟»

 

«كان ليكون كذلك بالتأكيد. إنّما لا تدِنْهما. إنّهما عجينتان تختمران على مهل. إنّما في الوقت المناسب، وعندما ينهار كُثُر يظنّون أنّهم أفضل منهما، فهما سيقفان ضدّ عالم بأكمله.»

 

«أتقول هذا مِن أجلي يا ربّ؟ إنّما انتزع منّي حياتي، لكن لا تجعلني أنكركَ.»

 

«أنتَ لن تنكر. إنّما فيكَ عناصر مختلفة عن الّتي لهم كي تساعدكَ أن تكون وفيّاً.»

 

«نعم. إنّني… الهيروديّ، أو بالأحرى، كنتُ الهيروديّ. وبالفعل كما فصلتُ نفسي عن المجلس، كذلك فصلتُ نفسي عن الفريق حين رأيتُه جباناً وظالماً نحوكَ كما الآخرين. كون المرء هيروديّاً!... هو بالنسبة للطبقات الأخرى أقلّ مِن وثنيّ بقليل. أنا لا أقول إنّنا قدّيسون. هذا صحيح. لقد ارتكبنا الفواحش لأجل غايات دَنِسة. أتحدّث كما لو أنّني ما زلتُ هيروديّ الزمن السابق، قبل أن أكون لكَ. فنحن إذاً دَنِسون بشكل مضاعف، وفقاً للتقدير البشريّ، ولأنّنا متحالفون مع الرومان، ولأنّنا فعلنا ذلك لأجل هدف نفعيّ. إنّما قل لي يا معلّم، أنتَ الّذي دوماً تقول الحقيقة ولا تمتنع عنها خوفاً مِن خسارة صديق. مِن بيننا، نحن الّذين تحالفنا مع روما لأجل… تحقيق المزيد مِن الانتصارات الشخصيّة سريعة الزوال، والفرّيسيّين، رؤساء الكَهَنة، الكَتَبَة، الصدّوقيين، الّذين يتحالفون مع الشيطان للقضاء عليكَ، مَن هم الأكثر دَنَساً؟ أنا، ترى ذلك، الآن وقد رأيتُ أنّ فريق الهيروديّين يصطفّ ضدّكَ، فقد تركتُهم. لا أقول ذلك كي أحظى بمديحكَ على ذلك، إنّما كي أُفصِح لكَ عن فكري. وأولئك، أتحدّث عن الفرّيسيّين والكَهَنة، الكَتَبة والصدّوقيّين، يعتقدون بأنّهم يستفيدون مِن هذا التحالف غير المتوقّع للهيروديّين معهم! التعساء! إنّهم لا يعلمون أنّ الهيروديّين يفعلون ذلك لينالوا استحقاقات أكثر، وبالتالي حماية أكثر مِن طرف الرومان، وبعد ذلك… ما أن يتّضح وينتهي السبب والدافع الّذي يجمعهما حاليّاً، حتّى يتمّ القضاء على مَن يتّخذونهم الآن كحلفاء. الطرفان يلعبان هكذا. فكلّ شيء يقوم على الخداع، وهذا يثير اشمئزازي لدرجة أنّني أصبحت مستقلّاً عن كلّ شيء. أنتَ… أنتَ شبح عظيم يرعبهم، جميعاً! وإنّكَ أيضاً الذريعة للّعبة المشبوهة لمصالح الأطراف المختلفة. الدافع الدينيّ؟ السخط المقدّس على "الـمُجدِّف" كما يدعونكَ؟ ليس كلّ هذا سوى أكاذيب! إنّ الدافع الوحيد ليس هو حماية الدين، ليس هو الغيرة المقدّسة على العليّ، إنّما مصالحهم، الجشعة، النَّهِمة. إنّهم يُقرفونني كما الأشياء النّجسة. وأودّ… نعم، أودّ لو تكون القلّة الّتي ليست نجسة أكثر جرأة. آه! أصبح يُثقل عليّ مِن الآن فصاعداً أن تكون لي حياة مزدوجة! أودّ أن أتبعكَ أنتَ وحدكَ. لكنّني أخدمكَ هكذا بأكثر ممّا لو كنتُ أتبعكَ. إنّه يُثقل عليَّ… لكنّكَ تقول بأنّ الأمر سيكون عمّا قريب... كيف… إنّما هل حقّاً ستتمّ التضحية بكَ لأنّكَ الحَمَل؟ أليست لغة مجازيّة؟ إنّ حياة إسرائيل منسوجة برموز ومجازات...»

 

«وأنتَ تودّ أن يكون الأمر هكذا بالنسبة لي… لكنّه ليس مجازيّاً بالنسبة لي.»

 

«ليس مجازيّاً؟ أأنتَ متأكّد مِن ذلك؟ يمكنني… يمكننا، بعدد كبير، أن نكرّر مبادرات قديمة ونمسحكَ مسيحاً ونحميكَ. تكفي كلمة، وبآلاف وعشرات الآلاف سوف يهبّ المدافعون عن الحبر الأعظم القدّوس الحقّ والحكيم. لا أتكلّم عن مَلِك أرضيّ، حيث أنّني الآن أعلم أنّ مُلككَ روحيّ تماماً. لكن، حيث إنّنا بشريّاً لن نعود بعد أبداً أكثر قوّة وأحراراً، فعلى الأقلّ لتكن قداستكَ لتعضد وتشفي إسرائيل الفاسد. لا أحد، وأنتَ تعلم ذلك، يحبّ الكهنوت الحاليّ ومَن يساندونه. أتريد يا ربّ؟ مُر وأنا سأتصرّف.»

 

«لقد تقدّم تفكيركَ كثيراً أيا مَنَاين. لكنّكَ ما تزال بعيداً عن الغاية كبعد الأرض عن الشمس. أنا سأكون كاهناً، وللأبد، حبراً أعظم خالداً بجسد سوف أُحييه حتّى نهاية الدهور. إنّما لن أُمسَح بزيت الابتهاج، ولن أُنَصَّب ويُدافَع عنّي بعنف مبادرات تشاؤها قلّة مِن المؤمنين للإلقاء بالوطن في شقاق أكثر ضراوة، وجعله بأكثر عبوديّة ممّا كان عليه في أيّ وقت مضى. وهل تعتقد أنّ بوسع يد إنسان أن تمسح المسيح؟ الحقّ أقول لكَ أن لا. إنّ السلطة الحقّة الّتي ستمسحني حبراً ومسيحاً هي سلطة مَن أرسلني. لا أحد آخر، ليس هو الله، بوسعه أن يمسح الله مَلِكاً للملوك وربّاً للأرباب إلى الأبد.»

 

«إذن لا شيء؟! ما مِن شيء يمكن فِعله!؟ آه! يا لألمي!»

 

«كلّ شيء. بأن تحبّوني. لهذا يعود كلّ شيء. أن تحبّوا لا الكائن الّذي يحمل اسم يسوع، بل ما هو يسوع. أن تحبّوني بالإنسانيّة وبالروح، هكذا كما أنا بالروح والإنسانيّة أحبّكم، كي تكونوا معي في ما وراء الإنسانيّة. انظر لهذا الفجر الجميل. إنّ ضوء النجوم الهادئ لم يكن يصل إلى هنا في الداخل، لكن نور الشمس الظافر، فبلى. هكذا سيكون الحال في قلوب مَن سيتمكّنون مِن أن يحبّوني ببرّ. تعال إلى الخارج. في صمت الجبل، النقيّ مِن المصالح البشريّة. انظر إلى الأعلى إلى تلك النسور كيف تبتعد محلّقة على نطاق واسع بحثاً عن فريسة. أنرى نحن تلك الفريسة؟ لا. إنّما هي [النسور] فبلى. لأنّ عين النسر أقوى مِن عيننا، ومِن الأعلى حيث يتنقّل، يرى أفقاً واسعاً ويُحسِن الاختيار. أنا أيضاً، أرى ما لا ترونه، ومِن الأعلى حيث يُحلّق روحي، أُحسِن اختيار فرائسي اللطيفة. لا كي أفترسها كما تفعل العقبان والنسور، إنّما كي أحملها معي. سنكون سعداء جدّاً في الأعلى، في ملكوت أبي، نحن الّذين نحبّ بعضنا!...»

 

ويسوع، الّذي خرج وهو يتكلّم ليجلس تحت الشمس عند عتبة المغارة، يجذب إليه مَنَاين الّذي كان إلى جانبه دون كلام، مبتسماً لستُ أدري لأيّة رؤيا...