ج3 - ف77
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثالث / القسم الثاني
77- (فتاة بيت جِنّا غريبة الأطوار)
11 / 07 / 1945
لستُ أرى العودة إلى بيت صور، ولا حدائق الورود في بِتّير التي كم تمنَّيتُ رؤيتها. يسوع بمفرده مع الرُّسُل. حتّى مارغزيام لَم يَعُد هناك. بالتأكيد هو بقي مع السيّدة العذراء والنساء التلميذات. فالمكان جبليّ وَعِر جدّاً، إنّما فيه بعض الخُضرة، وهو غنيّ جدّاً بغابات الصنوبر، أو بالحريّ بأشجار جملونيّة، ورائحة الراتنج تنتشر في كلّ مكان، مُلَطِّفة ومُنعِشَة. ويسير يسوع مع أتباعه عَبْر تلك الجبال الـمُخضوضرة، وهو يُدير ظهره إلى الشرق.
أَسمَعهم يتحدّثون عن إليز التي يبدو أنّها تغيَّرَت كثيراً، والتي قَرَّرَت أن تَتبع يُوَنّا إلى مسكنها في بِتّير، وكذلك عن سماحة يُوَنّا. يتحدّثون كذلك عن جولة جديدة صوب السهول الخصيبة التي تسبق الشاطئ. وتعود إلى الذاكرة أسماء الأمجاد الماضية، مُفسِحة المجال لروايات وأسئلة، ولشروح وحِوارات ظريفة.
«عندما نُصبِح في قمّة ذلك الجبل، سأدلّكم مِن الأعلى على كلّ المناطق التي تَهمّكم. وسوف تتمكّنون، مِن خلال ذلك، مِن استخلاص أفكار لِخُطَبِكُم.»
«ولكن كيف سنتصرّف يا سيّدي؟ فأنا لا أَصلُح» يُتمتِم أندراوس، وينضمّ إليه بطرس ويعقوب.«إنّنا الأكثر بؤساً، نحن!»
«آه! في هذا! أنا لستُ بأفضل حالاً. لو كان الأمر يخصّ الذهب والفضّة لتمكَّنتُ مِن الحديث، إنّما عن تلك الأشياء...» يقول توما.
«وأنا؟ كنتُ ماذا؟» يَسأَل متّى.
«أمّا أنتَ فلا تخشى الجمهور، وأنتَ تعرف أن تتكلّم.» يجيب أندراوس.
«ولكن في أمور أخرى...» يجيب متّى.
«هيه! هذا صحيح!... إنّما... في النهاية أنتَ تَعرِف ما أبغي قوله، واعتَبِر نفسكَ كما لو أنّني قُلتُه لكَ. القضيّة هي أنّكَ أفضل مِنّا.» يقول بطرس.
«ولكن، يا أصدقائي، ما مِن حاجة إلى الذهاب إلى الأعالي. قولوا بكلّ بساطة بماذا تفكّرون، بماذا أنتم مُقتَنِعون. ثِقوا بأنّه عندما يَقتَنِع المرء بأمر ما، فهو قادر على الإقناع به دائماً.» يقول يسوع.
ولكنّ يهوذا الاسخريوطيّ يقول مُتوسِّلاً: «أعطِنا أنتَ أفكاراً كثيرة. فِكرة مطروحة بشكل جيّد يمكنها أن تَخدم أموراً كثيرة. إنّ تلك الأماكن قد بَقِيَت بدون إعلام عنكَ، أظنُّ ذلك، لأنّه لا يَظهَر على أحد أنّه يَعرِفكَ.»
«ذلك لأنّ رياحاً كثيرة ما زالت تأتي مِن مورياح... وتلك الرياح تُسبِّب جفافاً...» يُجيب بطرس.
«ذلك لأنّنا لَم نَزرَع. ولكنّنا سوف نَبذُر.» يُجيب الاسخريوطيّ، واثقاً مِن نفسه، سعيداً بِأُولى نجاحاته.
لدى بلوغهم قمّة الجبل، تَنفَتِح على ذلك المكان بانوراما واسعة، وبديع أن يتأمّل المرء في الظلّ الأشجار الـمُورِقة التي تُكَلِّل القمّة، تَشابُك سَلاسل الجبال كثيرة الاختلاف والمشمسة، التي تمضي في كلّ الاتّجاهات كأمواج محيط مُتحَجِّرة ضَرَبَتها الرياح المعاكسة، ثمّ، كما في خليج ساكن، يَسكن كلّ شيء في أَلَق نور لا حدود له، وهي تَسبق سهلاً شاسعاً، حيث يَرتَفِع جبل صغير، وحيداً مِثل فَنار في مَدخَل أحد الموانئ.
«هي ذي تلك البلدة الـمُترَبِّعة هكذا على القمّة، كما لتتمتّع بالشمس، فيها سوف نُقيم، إنّها مِثل مِحور قُبَب الأماكن التاريخيّة. تعالوا هنا. هناك (في الجنوب) يعاريم. هل تَذكرون يشوع؟ هزيمة الملوك الذين أرادوا اجتياح معسكر إسرائيل الذي أَصبَحَ ذا بأس بتحالفه مع الجبعيّين. وبالقرب منه بيت شمس، مدينة يهوذا الكهنوتيّة، حيث أعاد الفلسطينيّون التابوت مع نذور الذهب المفروضة على الشعب مِن قِبَل العَرَّافين والكَهَنَة، للتحرُّر مِن النَّكبات التي كانت تؤرّق الفلسطينيّين المذنبين. وهو ذا هناك مَوضِع صرعة موطن شمشون، تجلّله الشمس، وإلى الشرق قليلاً تِمنَة، حيث اتَّخَذَ لنفسه امرأة، وحيث قام بالكثير مِن المآثر والحماقات. وهناك عَزيقة وسوكو حيث أُقيم آنذاك مخيّم فلسطينيّ، وإلى الأسفل قليلاً سانَة، وهي واحدة مِن مدن يهوذا. وهناك، التَفِتُوا، وادي البطم حيث داود صَرَعَ جالوت. وهناك مسادة حيث هَزَمَ يشوع الأموريّين. دُورُوا أيضاً، هل تَرَون ذلك الجبل المنفرد وسط السهل الذي كان يوماً للفلسطينيّين؟ هناك هي جتّ موطن جالوت وملجأ داود إلى جانب أشير، لِيَهرب مِن جنون غضب شاول، وحيث الـمَلِك الحكيم تظاهَرَ بالجنون لأنّ العالم يُدافِع عن المجانين ضدّ الحكماء. ذاك الأفق الـمُنفَتِح هو سهل وأرض الفلسطينيّين الخصيبة. سنمضي مِن هنا وحتّى الرملة. الآن فلندخل إلى بيت جِنّا [بيت جِمال]، وأنتَ، أنتَ بالتحديد، فليبّس، يا مَن تَنظُر إليَّ مُتَوَسِّلاً. سوف تمضي مع أندراوس إلى البلدة. نحن نمكث هنا بينما تَمضِيان أنتما هناك، قرب الينبوع، أو إلى ساحة البلدة.»
«آه! يا رب! لا تُرسِلنا وحدنا! تعال أنتَ أيضاً!» يقول الاثنان مُتَوَسِّلَين.
«هيا. لقد قُلتُ ذلك. إنّ الطاعة سوف تُوَفِّر لكم عَوناً أكثر مِن وجودي الصامت.»
... يَمضي فليبّس وأندراوس إذن، على غير هُدى، عَبْر البلدة، حتّى وَجَدَا نَزْلاً صغيراً، هو بالأحرى مطعم حقير، وفي داخله تُجَّار مواشي يُساوِمون الرُّعاة على بعض الحِملان. يَلِجَان، ويَقِفان مَذهولَين وسط الدار المحاطة بأروقة مُغرِقَة في الريفيّة.
يَهرَع صاحب النَّـزل: «ماذا تريدان؟ سَكَنَاً؟»
يَستَشير الاثنان بعضهما بالنَّظَر، بِنَظرَة مُرتَعِدة. أغلب الظنّ أنّهما لَم يَعودا يَجِدان كلمة واحدة ممّا كانا قد قَرَّرا قوله. فأندراوس هو بالضبط مَن استعادَ رباطة جأشه أوّلاً، وهو يجيب: «نعم، سَكَن لنا ولرابّي إسرائيل.»
«أيّ رابّي؟ فهناك منهم الكثير! ولكنّهم سَادَة عِظام. لا يأتون إلى بلدات الفقراء لِيَحملوا إليهم حكمتهم. على الفقراء أن يمضوا هُم للقائهم، وأيضاً إنّها لنعمة لو تَحَمَّلوا جوارنا!»
«إن رابّي إسرائيل فريد. وهو يأتي بالضبط لِيَحمل البُشرى الحَسَنة إلى الفقراء، وكلّما كانوا فقراء وخطأة كلّما بَحَثَ عنهم وقَرَّبَهم إليه.» يجيب أندراوس برفق.
«ولكن، حينذاك، لن يكوّن له ثروة!»
«إنّه لا يبحث عن الثروات. إنّه فقير وطيّب. ويمتلئ يومه حينما يُخَلِّص نَفْساً.» يجيب أيضاً أندراوس.
«هه! إنّها المرّة الأولى التي أَسمَع فيها عن رابّي أنّه طيّب وفقير. المعمدان فقير ولكنّه صارِم. الآخرون كلّهم صارِمون وأغنياء. إنّهم نَهِمون مثل العَلَق. هل سمعتم أنتم؟ تعالوا هنا، أنتم يا مَن تَجوبُون العالم. يقول هذان الرجلان بوجود معلّم فقير وطيّب، وهو يأتي بحثاً عن الفقراء والخَطَأَة.»
«آه! يُفتَرض أنّه مَن كان يرتدي الأبيض كالأسينيّين. لقد رأيتُه منذ بعض الوقت في أريحا.» قال أحد تجّار المواشي.
«لا، إنّ ذاك بمفرده. يُفتَرَض أن يكون ذاك الذي كان توما يتحدَّث عنه إلى رُعاة في لبنان.» يُجيب راعٍ ضخم مفتول العضلات.
«نعم هذا صحيح! وإذا كان في لبنان فإنّه يأتي هنا كُرمَى لعينيكَ، عينيّ القِطّ!» يقول آخر.
بينما يُحاوِر صاحب النَّـزل زبائنه، يَمكث الرَّسولان هناك، ثابِتَين في وسط الباحة. أخيراً يقول أحد الرجال: «هيه! أنتما! تعاليا هنا! مَن يكون؟ مِن أين يأتي ذاك الذي تتحدّثان عنه؟»
«إنّه يسوع بن يوسف مِن الناصرة.» يقول فليبّس برصانة، ويَثبَت في مكانه وكأنّه يَنتَظِر أن يُهزَأَ به. ولكنّ أندراوس يضيف: «إنّه مَسيّا الـمُبَشَّر به. أقسم لكم، لخيركم، استَمِعوا إليه. لقد ذَكَرتُم المعمدان، وأنا كنتُ مِن أتباعه، وهو مَن دَلَّنا على يسوع الذي كان مارّاً بقوله: "هذا هو حَمَل الله الحامل خطايا العالم". وعندما نَزَلَ يسوع إلى مياه الأردن لِيَعتَمِد فيه، انفَتَحَت السماوات وهَتَفَ صوت: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سُرِرتُ". وحُبّ الله هَبَطَ بشكل حمامة لتتألّق على رأسه.
«أترى؟ إنّه هو الناصري! إنّما قولا، أنتما يا مَن تَدَّعِيان أنَّكُما صديقاه...»
«أصدقاء، لا. إنّنا رُسُل، تلاميذ ومُرسَلون مِن قِبَله لإعلان قدومه، لكي يذهب إليه مَن كان في حاجة لأن يَخلُص.» يصحّح أندراوس.
«حسناً، إنّما قولا، هل هو كما يقول عنه البعض، قدّيس، بل أكثر قداسة مِن المعمدان، أم هو شيطان كما يقول الآخرون؟ يا مَن أنتم برفقته، لأنّكم إذا كنتم تلاميذه، فإنّكم معه على الدوام، فقولا وبصراحة: هل صحيح أنّه فاسِق وخَليع؟ وأنّه يحبّ الفاجِرات والعَشَّارين؟ وأنّه يُمارِس تحضير الأرواح، فيستدعي الأرواح في الليل لمعرفة أسرار القلوب؟»
«ولكن لماذا تَسأَل هَذَين الرَّجُلين عن ذلك؟ اسأل بالحريّ إذا كان صحيحاً أنّه صالح، فإنّهما سوف يُسيئان الفَهم، ويَمضيان لِيُخبِرا الرابّي عن سوء نوايانا، وهو سوف يَلعَنَنا. فنحن لا نَعلَم!... وإن يكن الله أو الشيطان، فَمِن الـمُستَحسَن على الدوام إجادة معاملته.»
هذه المرّة يتكلّم فليبّس: «يمكننا أن نجيبكم بصراحة، إذ ما مِن سوء، ولا مِن شيء يتوجّب إخفاؤه، فمعلّمنا هو القدّيس وسط القدّيسين. يُمضي يومه وسط متاعب التعليم، لا يَعرِف الكَلَل، يتنقَّل مِن مكان إلى آخر بحثاً عن القلوب. أمّا ليله فيمضيه في الصلاة مِن أجلنا. لا يزدري المائدة والصداقة، ولكنّها ليست ضمن اهتماماته الأساسيّة الحَقَّة، إنّما هي كوسيلة لتقريب الذين لا يمكنه مجانَبَتَهم بغير تلك الطريقة. لا يردّ العشّارين والفاجرات ولا يُخَيِّبهم، وذلك فقط مِن أجل افتدائهم. والَبصمة التي يتركها على طريقه هي معجزات الفِداء، ومعجزات على المرضى والأمراض. تُطيعه الرياح والبحر، ولكنّه لا يحتاج إلى أحد في اجتراح المعجزات، ولا استدعاء الأرواح لمعرفة القلوب.»
«وكيف يتمكن مِن ذلك؟... لقد قُلتَ إنّ البحر والرياح تطيعه، ولكنّها أشياء لا عَقل لها. فكيف يمكنه أن يأمرها؟» يَسأَل صاحب النَّـزل.
«أجِبني أيّها الرجل: حسب رأيكَ، ما الأصعب، أن تؤمر الرياح والبحر أم أن يُؤمَر الموت؟»
«هيه! بَل الموت. فلا يُمكِن أن يُؤمَر! بينما البحر يمكن أن يُسكَب فيه الزيت، ويمكن أن يقاوَم بالأشرعة، ويمكن، ببعض الحكمة، عدم الإبحار. أمّا الريح فيمكن مقاومتها بالمزاليج. وأما الموت فلا يُؤمَر. إذ لا زيت يُسَكِّنه، وما مِن شراع، إذا ما ارتفع على مركبنا الصغير، يجعله أكثر سرعة حتّى يُبعِد الموت. ولا مزاليج تَصدّه. وعندما يبغي المجيء يمرّ، حتّى حينما تُحكَم الأقفال. هيه! ما مِن إنسان يأمر تلك الـمَلِكة!»
«ومع ذلك معلّمنا يأمره. ليس فقط عندما يكون وشيكاً، بل حتّى حينما يُدرِك فريسته. كان شاب مِن نائين على وشك أن يُوضَع في فوهة القَبر الفظيع، وقال له: "أقول لكَ قُم!" وعاد الشاب حيّاً. ونائين ليست في الأصقاع الشماليّة القصوى، يمكنكم الذهاب والتحقُّق.»
«ولكن، أهكذا؟ وعلى مرأى مِن الجميع؟»
«على الطريق أمام نائين كلّها.»
ويَنظُر صاحب النَّـزل والزَّبائن إلى بعضهم بصمت. ثمّ يقول صاحب النَّـزل: «ولكن، هل يَفعَل ذلك لبعض الأصدقاء؟»
«لا يا رجل. بل يفعل ذلك لكلّ الذين يؤمنون به، وليس فقط لهم. إنّه الرحمة على الأرض، ثِق بذلك. لا أحد يتوجّه إليه مِن أجل لا شيء. اسمعوا جميعكم. أليس فيكم أحد يتألّم وبَكِيَ مِن أمراض في عائلته، مِن شكوك، مِن تبكيت ضمير، مِن تجارب الشيطان، ومِن جهالات؟ تَوَجَّهوا إلى يسوع، مَسيّا البُشرى الحَسَنَة. إنّه هنا اليوم. وغداً سيكون في مكان آخر. لا تَدَعوا نعمة الربّ تمرّ دون الاستفادة منها.» يقول فليبّس الذي يُحافِظ على رباطة جأشه على الدوام.
يُمرِّر صاحب النَّـزل يده بين شعره، يَفتَح فاه ويُغلِقه، يَعبَث بأهداب حِزامه... وأخيراً يقول: «سوف أحاول!... لديَّ ابنة، كانت حتّى الصيف الماضي في صحّة جيّدة، ثمّ أَصبَحَت غريبة الأطوار. تبقى صامتة، قابِعة كحيوان في ركن على الدوام، وتُحاوِل أُمّها بصعوبة إلباسَها وإطعامَها. يقول الأطبّاء إنّ الشمس قد أَحرَقَت لها دماغها. ويقول آخرون إنّه حزن ناجم عن حُبّ. والناس يقولون إنّ بها مَسّاً مِن الشيطان. ولكن كيف، إذا كانت تلك الصغيرة لَم تَخرُج مِن هنا على الإطلاق؟ أين تَلَقَّت ذاك الشيطان؟ ماذا سيقول معلّمكَ عن ذلك؟ هل يمكن للشيطان أن يَسكُن حتّى البريء؟»
ويجيب فليبّس، وكلّه ثقة بالنفس: «نعم، كي يُؤرِّق الأهل ويحملهم على اليأس.»
«و... هو يشفي غَريبات الأطوار؟ هل عليَّ أن أرجو وآمُل؟»
«بل عليكَ أن تُؤمِن.» يقول أندراوس بحماس. ويروي قصّة معجزة الجراسيّين، ويُجيب مُختَتِماً: «إذا كان الشياطين أولئك الذين يُعَدّون جيشاً في قلوب الخَطَأَة، قد هَرَبوا هكذا، فكيف لا يَهرُب مَن وَلَجَ عُنوة قَلباً فتيّاً؟ أقول لكَ أيّها الرجل: لكلّ مَن يأمل به يُصبِح المستحيل سهلاً كالتنفّس. فلقد رأيتُ أعمال سيّدي وأَشهَد بقدرته.»
«آه! ولكن مَن مِنكما سيناديه؟»
«أنا، أيّها الرجل، انتظرني لحظة.» ويمضي أندراوس في الحال، بينما يبقى فليبّس يتحدّث.
عندما يَلحَظ أندراوس يسوع تحت أحد الأروقة، مُحتَمِياً مِن الشمس الحارقة التي تملأ ساحة البلدة الصغيرة، يَهرَع إليه قائلاً: «تعال، تعال يا معلّم. إنّ ابنة صاحب النَّـزل غريبة الأطوار، وأبوها يَلتَمِس منكَ شفاءها.»
«ولكن، هل كان يَعرِفني مِن قبل؟»
«لا، يا معلّم، بل عَمِلنا نحن على التعريف بكَ...»
«وقد نَجَحتُما في ذلك. عندما يتوصَّل أحدهم إلى الإيمان أنّ في استطاعتي الشفاء مِن مَرَض دون أدوية، فيكون آنذاك قد تَقدَّمَ في الإيمان. وقد كنتُما خائِفَين مِن عدم معرفتكما القيام بذلك. ماذا قُلتُما؟»
«لستُ أعرف حتّى أن أقول ذلك لكَ. فلقد قُلنَا ما نُفكِّر به عنكَ وعن أعمالكَ. قُلنا، بشكل خاصّ، إنّكَ الحبّ والرحمة. العالم يسيء معرفتكَ جدّاً!!!»
«أمّا أنتم فتعرفونني جيّداً. وهذا يكفي.»
يَصِلون إلى النَّـزل الصغير. كلّ الزبائن على الباب، مِلؤُهُم الفضول، وفي وسطهم فليبّس، مع صاحب النَّـزل الذي يُتابِع حديثه الـمُنفَرِد، وعندما يَرى يسوع، يَهرَع للقائه: «يا معلّم، يا ربّ، يا يسوع... أنا... أنا أؤمن، أؤمن أنّكَ أنتَ هو، أنّكَ تعرف كلّ شيء، وأنّكَ ترى كلّ شيء، وأنّكَ عالِم بكلّ شيء، وقادر على كلّ شيء. وأؤمن لدرجة أنّني أقول لكَ: ارحَم ابنتي، رغم كلّ الخطايا التي أحمِلها في قلبي. فلا يكن ضَنايَ مُعاقَباً لأنّني لم أكن شريفاً في مهنتي. لن أعود إلى الجَّشَع، أُقسِم. إنّكَ ترى قلبي بماضيه وبماذا يُفكِّر الآن. الصَّفح والرحمة يا معلّم. سأتحدَّث عنكَ إلى كلّ الذين يَنـزلون عندي هنا...» ويجثو الرجل.
يقول له يسوع: «انهض وثابر على مشاعرك الحاليّة. خُذني إلى ابنتكَ.»
«إنّها في إسطبل يا سيّدي. فالحرارة المرتفعة تُفاقِم مَرَضَها، ولا تريد الخروج.»
«لا يهمّ، سأمضي إليها. ليست الحرارة، بل هو الشيطان الذي يحسّ بقدومي.»
يَدخُلان إلى الدار، ثمّ إلى إسطبل مُظلِم، يَتبَعهُما كلّ الآخرين. الصغيرة، بشعرها الأشعث، خائفة، تَرتَعِد في الركن الأكثر ظلاماً، وعندما تَرَى يسوع تَصيح: «ارجع، ارجع إلى الوراء! لا تضايقني. أنتَ مسيح الربّ، وأنا أحد الذين تُلاحِقهم. دعني. لماذا تَتَعَقَّبني على الدوام؟»
«اخرج منها. اذهب. تلك هي مشيئتي. أَعِد فريستكَ إلى الله واخرس!»
صَرخَة تُفَتِّت الفؤاد، استرخاء مُفاجِئ، جسد يتمدَّد على القش. وثمّ أسئلة هادئة، حزينة ومُندَهِشة: «أين أنا؟ لماذا أنا هنا؟ مَن هُم هؤلاء الناس؟» ونداء «ماما» مِن الفتاة الخَجِلَة لكونها دون وِشاح، وثوبها مُمَزَّق، وهي على مرأى مِن غُرَباء كثيرين.
«آه! أيّها الربّ الأزلي! ولكنّها شُفِيَت!...» الغريب هو رؤية دموع طفل على وجه صاحب النـَّزل الأحمر... إنّه سعيد ويبكي، ولا يعرف القيام بغير تقبيل يديّ يسوع، بينما الأُمّ تبكي وسط صغارها المذهولِين، وتُقبِّل ابنتها البِكر وقد تَحَرَّرَت مِن الشيطان.
يهتف الحضور، جميعهم معاً. ويَهرَع آخرون لرؤية المعجزة، وقد غَصَّت الدار بهم.
«امكث هنا يا سيّدي، سوف يَهبط اللّيل. امكث تحت سقفي.»
«إنّنا ثلاثة عشر شخصاً يا رجل.»
«حتّى ولو كنتم ثلاثمّائة، لا يهمّ. أعرف ما تودّ قوله. ولكنّ صموئيل الجَّشِع، غير النَّـزيه، قد مات، يا ربّ. فشيطاني كذلك قد مَضى. الآن صموئيل جديد. سيظلّ صاحب النَّـزل، إنّما بِقَدَاسة. تعال، تعال معي لأحتفي بكَ كَمَلِك، كإله. ما أنتَ كائِنَه. آه! فلتتبارك شمس اليوم التي قادتكَ إليَّ»...