ج2 - ف38
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثاني / القسم الأول
38- (يسوع في نَزْل بيت لحم وعِظَة على أنقاض بيت حنّة)
09 / 01 / 1945
في الساعات الأولى مِن صباح صيف مُشرِق، وقد اصطَبَغَت السماء بلون زهريّ على بعض السُّحب الصغيرة التي تبدو مثل قطع شاش واقعة على سجّادة مِن الساتان الفيروزيّ. ويَتَكَوَّن ائتلاف عصافير سَكِرَت مِن النور... عصافير دوري وشحارير وأبو الحناء تزقزق وتهذر وتتشاجر مِن أجل قَصَبَة، يسروع، عسلوج تحمله إلى أعشاشها، لتملأ مناقيرها أو لاتخاذها كمجثم. وسنونو تنزل مِن السماء في الجدول الصغير لغسل صدورها الثلجيّة الملوّنة في قمّتها بلون الزنجار، وحالما تنتعش، بعد أن تلتقط بمناقيرها ذبابة صغيرة ما تزال نائمة على قصبة، تطير إلى الأعالي بأجنحتها التي تضرب الهواء مثل شفرات فولاذيّة صقيلة، وهي تزقزق فرحة.
عصفوران يرتديان حريراً رماديّاً يتمشّيان بلطف مثل آنستين على امتداد شاطئ الجدول. إنّهما يرفعان ذيليهما المزيّنين بالمخمل الأسود، يتراءيان في المرآة فيجدان نفسيهما جميلين، ويتابعان نزهتهما ويَسخَر منهما شحرور يُصَفِّر لهما مِن الخلف بمنقاره الأصفر الطويل، صبيّ غابة حقيقيّ، على شجرة تفّاح برّي بإيراقها الكثيف، جانب الأنقاض، عندليب ينادي رفيقه بإصرار، ولا يصمت إلّا حينما يراه يَصِل ومعه يسروع طويل يتلوّى تحت ضغط المنقار الدقيق جدّاً. حمامتان بريّتان هارِبَتَان، على الأرجح، مِن أبراج حمام المدينة وقد اختارَتَا مسكنهما في تجاويف أنقاض برج، وقد استسلمتا لدفق عواطفهما، فهو مغوٍ مُضَلِّل وهي تَهدل بحياء.
يَنظر يسوع إلى كل هذه الحيوانات الصغيرة، ذراعاه متصالبان، ويبتسم.
يسأله سمعان مِن الخلف: «هل أنتَ جاهز يا معلّم؟»
«لقد أصبحتُ جاهزاً. هل ما يزال الآخرون نياماً؟»
«ما يزالون بعد.»
«إنّهم شباب... لقد اغتَسَلتُ في هذا الجدول... ماء منعش يَجلو الذهن.»
«إنّني ذاهب الآن إلى هناك.»
بينما يَغتَسِل سمعان وهو لا يرتدي سوى جلباب قصير ومِن ثمّ يرتدي ثيابه، يَنهَض يهوذا ويوحنّا: «ليحفظكَ الله يا معلّم. هل نحن متأخّران؟»
«لا إنّه الصباح بالضبط، إنّما أَسرِعا الآن ولنرحل.»
يغتَسِل الاثنان ويرتدي كلّ جلبابه ومعطفه.
قبل أن يبدأ المسير، يقطف يسوع زهيرات نَبَتَت في شقوق صخرتين ويضعها في علبة خشبيّة تحوي أشياء أخرى لم أميّزها جيّداً. يَشرَح: «سأحملها إلى أُمّي. ستكون عزيزة عليها... لنمضِ.»
«إلى أين يا معلّم؟»
«إلى بيت لحم.»
«مرّة أخرى؟ يبدو لي أنّ الجو غير ملائم لنا...»
«لا يهمّ. لنذهب. سوف أريكم أين حلّ المجوس وأين كنتُ.»
«إذاً، عذراً يا معلّم، إنّما اسمَح لي بالكلام. سوف نقوم بالآتي: في بيت لحم وفي النَّزْل اسمح لي بالكلام وطرح الأسئلة. ذلك أنّه بالنسبة لكم كجليليّين لا يحبونكم كثيراً، في اليهوديّة وهنا أقلّ مِن أمكنة أخرى. إذاً فلنتصرّف هكذا: أنتَ ويوحنا ستُعرَفان أنّكما جليليّان ليس مِن شيء سوى الثوب. بسيط جدّاً. ومِن ثمّ... هذا الشعر! لماذا تُصِرّون على إبقائه هكذا طويلاً؟ أنا وسمعان سنعطيكما معطفينا وتعطياننا معطفيكما: أنتَ، سمعان، تعطيه ليوحنّا، وأنا للمعلّم. هاكما: هكذا، أترى؟ ستبدوان حالاً أكثر يهوديّة قليلاً. والآن هذا.» ويَخلَع عمرته: عمامة ذات خطوط صفراء وكستناويّة وحمراء وخضراء، مثل المعطف، مثبّتة بشريط أصفر. ويضعها على رأس يسوع ويرتّبها على امتداد خدّيه ليخفي الشعر الطويل الأشقر. ويأخذ يوحنّا عمرة سمعان الخضراء الداكنة جدّاً. «آه! هكذا أفضل! فأنا لديَّ الحسّ العمليّ.»
«نعم يا يهوذا، صحيح أنّ لديكَ الحسّ العمليّ، إنّما انتبه في هذه الأثناء لئلّا تتجاوز الحسّ الآخر.»
«أيّ حسّ يا معلّم؟»
«الحسّ الروحيّ.»
«آه! لا، إنّما ينبغي في بعض الحالات معرفة التصرّف بحنكة وسياسة حتّى أكثر مِن السُّفَراء. وانتبه... كن حليماً أيضاً... لمصلحتكَ... لا تُعارِضني إذا ما قلتُ أشياء... أشياء... نعم، هي ذي، غير صحيحة.»
«ما الذي تريد قوله؟ لماذا الكذب؟ أنا الحقّ، ولا أرضى بالكذب لا فِيَّ ولا حولي.»
«آه! لن أقول سوى أنصاف أكاذيب. سوف أقول إنّنا جميعنا عائدون مِن بلد بعيد، مِن مصر على سبيل المثال، ونريد معرفة أخبار أصدقاء عزيزين علينا، سنقول إنّنا يهود عائدون مِن المنفى... أساساً كلّ ذلك فيه شيء مِن الحقيقة... وثمّ، أنا أروي عنها... بقليل أو كثير مِن الخطأ.»
«ولكن! يا يهوذا لماذا الغشّ؟»
«دعها تمرّ يا معلّم. فالعالم يَكسَب جولاته بضروب مِن المراوغة الضروريّة أحياناً. حسناً، إرضاء لكَ سوف أقول فقط إنّنا قادمون مِن بعيد وإنّنا يهود. إنّها ثلاثة أرباع الحقيقة. ولا تتكلّم أنتَ يا يوحنّا. فستَكشف أمرنا.»
«سأبقى صامتاً.»
«ثمّ إذا سارَت الأمور بشكل جيد... حينئذ نقول البـاقي. ولكنّ أملي ضعيف... إنّني داهية "فهلوي" وألتقط الأمور وهي طائرة.»
«أرى ذلك يا يهوذا ولكنّني أُفَضِّل أن تكون بسيطاً.»
«ذلك لا يُجدي كثيراً، سوف أَضطَلِع بالمهمّات الصعبة ضمن مجموعتكَ. دعني أفعل ذلك.»
يسوع قليل الحماسة، ولكنّه يُذعِن.
يَذهَبون، يَدورون حول الأنقاض، ثمّ يُحاذون جداراً دون نوافذ يُسمع خلفه نهيق، خوار، صهيل، ثغاء، وكذلك الجِّمال بأصواتها الضخمة غريبة الأطوار. والجدار يُشكّل زاوية. يدورون. ينتهون إلى ساحة بيت لحم. بِركة النَّبع لا تزال في مركز الساحة التي تُرى دائماً بشكلها المنحرف، ومع ذلك فهي مختلفة في الجهة المقابلة للنَّزْل. هناك حيث كان المنزل الصغير -ما زلتُ أراه، عندما أفكّر به، مُجَلَّلاً بالفضّة الخالصة تحت أشعّة النجمة- هناك، مساحة كبيرة خاوية مليئة بالحطام. ما يزال السلّم الصغير فقط مُنتَصِباً مع منصّته الصغيرة. يَنظر يسوع ويتنهّد.
تعجّ الساحة بالناس حول باعة المأكولات والأدوات المنزليّة والأقمشة و... ألخ... وقد عَرَضوا بضائعهم على حصيرة أو في سلال أو حتّى على الأرض، والأكثريّة قابعون في متاجرهم... وآخرون واقفون ينادون ويومِئُون في جدالهم مع زبون يُحاوِر.
يقول سمعان: «إنه يوم تَسوّق.»
إنَّ الباب، أو بالأحرى المدخل الرئيسيّ للنَّزْل الكبير، مفتوح وتَخرُج منه قافلة مِن الحمير المحمّلة بالبضائع.
يَدخُل يهوذا أوّلاً. يَنظُر حوله. وينادي بتعالٍ صبيّاً صغيراً للإسطبل، قَذِراً ويرتدي فقط قميصاً بلا أكمام ويَصِل حتّى ركبتيه: «يا ولد! ناد المعلّم حالاً. أسرِع فما اعتدتُ الانتظار.»
يَجري الولد جارّاً خلفه مكنسة ذات ذراع.
«ولكن، يا يهوذا! يا لهذه الأساليب!»
«اصمت يا معلّم، ودعني أتصرّف. يجب أن يظنّوا أنّنا أثرياء جدّاً ومِن المدينة.»
يَجري ربّ العمل، حانياً ظهره مع انحناءات أمام يهوذا، الـمَهيب بمعطف يسوع الأحمر القاتم فوق ثوبه الفاخر الأصفر الذهبيّ مع نطاقه العريض وأهدابه.
«نحن قادمون مِن البعيد أيّها الرجل، يهود مِن الطائفة الآسيوية. وهذا مُضطَهَد. وهو في الأصل مِن بيت لحم، ويبحث عن أصدقاء عزيزين عليه مِن هنا. ونحن معه. إنّنا قادمون الآن مِن أورشليم حيث أدّينا واجبات العبادة لله تعالى في بيته. هل يمكنكَ أن تُقدّم لنا المعلومات؟»
«سيّدي... أنا خادمكَ... كُلّي لكَ. مُرني.»
«إنّنا نريد معلومات بخصوص بعض الناس... خاصّة حنّة، المرأة صاحبة البيت الذي في مقابل نزلكَ.»
«آه! يا لتعاستها! لن تجد حنّة إلّا في أحضان إبراهيم، وأولادها وبناتها معها.»
«مَيّتة؟ لماذا؟»
«أَوَلستم على عِلم بمذبحة هيرودس؟ لقد تكلّم عنها الناس جميعاً، وقد تعامَلَ معها قيصر مثل "خنزير متعطّش للدماء". آه! ماذا قلتُ؟ لا تُخبِر عنّي. هل أنتَ يهوديّ حقّاً؟»
«هاك، الصَّمت هو شِعار عشيرتي. تكلم إذن.»
«لقد قَتَلَ جنود هيرودس حنّة وكلّ أولادها ما عدا ابنة واحدة.»
«ولكن لماذا؟ لقد كانت صالحة جدّاً.»
«هل كنتَ تعرفها؟»
«بشكل جيّد جدّاً.» ويكذب يهوذا بصفاقة.
«لقد قُتِلَت لأنّها استضافت مَن قيل عنهما إنّهما أب وأُمّ المسيح... تعال هنا... في هذه الغرفة... فللجدران آذان، والكلام عن بعض الأمور... خَطِر.»
يَدخُلون إلى غرفة صغيرة ومنخفضة ومُعتِمة. ويَجلسون على أريكة منخفضة جدّاً.
«إنّ أنفي مقعّر. وأنا لستُ صاحب نَزْل مِن فراغ! لقد وُلِدتُ هنا، صاحِب نَزْل أباً عن جدّ. الدَّهاء في دمي، لم أستَقبِلهُم. كان مِن الممكن أن أجد لهم زاوية. إنّما... جليليّون... فقراء... مجهولون... إيه! لا، فحزقيّال لا يَدَع نفسه يؤخَذ على حين غرّة! ثمّ... كنتُ أشعر... كنتُ أحسّ أنّهم مختلفون... تلك المرأة... العينان... شيء ما لا أدري ما هو... لا، لا، لا بدّ أن يكون الشيطان ساكِنها وقد كان يُكَلِّمها. وجاءت به إلينا هنا، ليس إليَّ، إنّما إلى المدينة. لقد كانت حنّة أكثر براءة مِن نَعجة، وأَسكَنَتهم أيّاماً بعد ذلك ومع الطفل، وقد كان يُقال إنّه مَسيّا... آه! كَم كَسبتُ مِن الأموال في تلك الأيّام! أكثر مِن أيّام الإحصاء! كان أناس كثيرون يأتون، حتّى الذين لم يكونوا مُلزَمين بالمجيء مِن أجل الإحصاء. كان الناس يَفِدون حتّى عن طريق البحر، حتّى مِن مصر، لرؤيته... وكان هذا طوال أَشهُر! وكم حقّقتُ مِن الأرباح!... وفي النهاية أقبَلَ ثلاثة ملوك، ثلاثة رجال ذوو سلطان، ثلاثة مجوس... ما أدراني؟ موكب لا نهاية له! واستأجَروا كلّ الإسطبلات، ودَفَعوا بالذهب ثمن علف يكفي لمدّة شهر، ثمّ مَضوا في اليوم التالي تاركين كلّ شيء هنا. وكَم وَزَّعوا مِن الهدايا للأولاد ولنساء الخدمة! ولي كذلك! آه!... بالنسبة لي لا يمكنني التحدّث عن هذا المَسيّا إلّا بكلّ خير، سواء أكان الحقيقيّ أم المزيّف. فلقد جَعَلَني أربح مِن المال مِلء أكياسي. لم أتحمّل أعباء ثقيلة. ولم أفقد قتلى كذلك، لأنّني كنتُ قد تزوجتُ حديثاً، حينذاك... إنّما الآخرون!»
«نريد رؤية أمكنة المذبحة.»
«الأمكنة؟ ولكنّها كانت كلّ البيوت. وكان القتلى بالآلاف في بيت لحم. تعالوا معي.»
يَصعَدون سُلّماً يَصِل إلى السطح. ومِن الأعلى ظَهَرَ مَدى رَحب مِن الريف وبيت لحم كاملة وهي ممتدّة على روابيها على شكل مروحة.
«هل تَرَون الأنقاض؟ هناك أيضاً أُحرقت منازل لأنّ الآباء دافعوا عن أبنائهم بالسلاح. أترون هنالك ذلك الجُبّ المغطّى باللبلاب؟ إنّه كلّ ما تبقّى مِن المَجْمع. لقد أُحرِقَ مع رئيس المَجْمع الذي أكَّدَ أنّه كان المسيح. لقد أحرَقَهُ ناجون أفقدهم الغضب صوابهم بسبب مقتل أولادهم. ولقد تَحَمَّلنا آنذاك المتاعب... وهنا، وهناك، وهنالك... هل تَرَون تلك القبور؟ إنّها لضحايا... كنتَ لتَحسَبهم نِعاجاً مستلقية فوق العشب على مدى النَّظَر. كلهم أبرياء مع آبائهم وأُمّهاتهم... هل تَرَون هذه البِركة؟ لقد اصطَبَغَ ماؤها باللون الأحمر عندما غَسَلَ الجنود أسلحتهم وأيديهم. وذاك النهر هناك في الخلف، هل رأيتموه؟... لقد صَبَغَه الدم الذي تدفّق إليه مِن المجاري باللون الأحمر... وهنا، انظروا هنا في المقابل، إنّه كلّ ما بقي مِن منزل حنّة.»
يبكي يسوع.
«هل كنتَ على معرفة جيّدة بها؟»
يُجيب يهوذا: «كانت وأُمّه مثل أختين! أليس صحيحاً أيّها الصديق؟»
فيجيب يسوع فقط بـ «نعم».
ويقول صاحب النَّزْل: «فهمتُ.» ويبقى مستغرقاً في التفكير.
ينحني يسوع ليهمس في أذن يهوذا.
ويقول يهوذا: «صديقي يبغي الذهاب إلى تلك الأنقاض.»
«إيه! فليذهب! إنّها لكلّ الناس!»
يَنزلون، يُحَيّون ويَمضون. يبقى صاحب النَّزْل خائب الأمل، فقد يكون آنذاك مُنتَظِراً الإكراميّة.
يَجتازون الساحة، يَصعَدون السلّم الصغير الوحيد الباقي.
يقول يسوع: «هنا جَعَلَتني أُمّي أحيّي المجوس. ومِن هنا هَبَطنا لنهرب إلى مصر.»
يَنظُر أناس إلى الأربعة بين الأنقاض، ويسأل أحدهم: «أهل المتوفاة؟»
«أصدقاء.»
تَصرُخ امرأة: «لا تؤتوا شرّاً للمتوفاة، أنتم على الأقلّ، مثل أصدقائها أولئكَ، عندما كانت على قيد الحياة، وقد هَرَبوا بعد ذلك سليمين معافين.»
يقف يسوع على سطح يحدّه الجدار ويَشغَل مساحة مترين تقريباً مع فسحة خلفه، إنّها فسحة سماويّة تحيطه بأكمله بهالة، جاعلة ثوبه الكتّاني الأبيض يبدو أكثر بياضاً، خاصّة وقد بقي وحده على جسده بعدما تطايَرَ معطفه مِن على منكبيه مُشكّلاً عند قدميه تمثالاً متعدّد الألوان. وفي الخلف كذلك عمق الخضرة والعوسج مِن بقايا ما كان حديقة ومنزل حنّة، وقد أصبَحَا الآن مَهجُورَين يَعُمّهما الخراب.
يمدّ يسوع ذراعيه. ويهوذا الذي يرى الحركة يقول: «لا تتكلّم. فليس هذا مِن الفطنة في شيء!»
إلّا أن يسوع يملأ المكان بصوته الهادر: «يا أبناء يهوذا! يا أبناء بيت لحم اسمعوا! اسمعن أنتنّ يا نساء الأرض التي كُرِّسَت لراحيل! أنصتوا إلى أحد أبناء داود، الذي قاسى واضطُهِد. وقد أضحى أهلاً لمخاطبتكم، وهو يكلّمكم ليمنحكم النور والتعزية. أنصتوا.»
يتوقّف الناس عن الصراخ والتزاحم والابتياع ويتجمهرون.
«إنّه رابّي!»
«إنّه قادم مِن أورشليم بكل تأكيد.»
«مَن يكون؟»
«يا له مِن رجل رائع!»
«يا لهذا الصوت!»
«يا لهذا السلوك!»
«بالتأكيد! فهو مِن نَسل داود!!»
«مِن نَسلنا إذن!»
«لنستمع، لنستمع!»
ويتجمهرون جميعهم حول السلّم الذي بدا وكأنّه مِنبَر.
«قيل في سِفر التكوين: "أَجعَل عداوة بينكِ وبين المرأة... هي تسحق رأسكِ وأنتِ تَرصُدين عِقبها". وقيل أيضاً: "لَأُكثرنّ مشقّات حملكِ بالألم... وشَوكاً وحَسَكاً تُنبِت الأرض". وذاك هو الحُكم على الرجل والمرأة وعلى الحيّة.
قادماً مِن بعيد لتكريم مَثوى راحيل، سَمِعتُ في نسيم المساء وندى الليل، وفي أَنّات العندليب الصباحيّة، صدى نحيب راحيل القديمة، تُردّده أُمّهات بيت لحم مِن فم إلى فم في سرّ القبور أو سرّ القلوب، سَمِعتُ زئير ألم يعقوب مِن خلال الأرامل الذين فَقَدوا زوجاتهم اللواتي قَتَلَهنّ الألم... أبكي معكم. إنّما اسمعوا يا أبناء وطني. إنّ بيت لحم، الأرض المباركة، الأصغر في مدن يهوذا إنّما الأعظم في عينيّ الله والإنسانيّة لأنّها مَهد المخلّص، كما قال ميخا، بالضبط لأنّها ذاك، لأنّها مُختارة لتكون مظلّة تابوت العهد حيث يُقيم مجد الله، نار الله، حبّه المتجسّد، تُثير حقد الشيطان.
"أَجعَل عداوة بينكِ وبين المرأة. هي تسحق رأسكِ تحت قَدَمها وأنتِ تَرصُدين عِقبها". أيّة عداوة أعظم مِن تلك التي نالت مِن الأطفال، قلب قلب المرأة؟ وأيّ قَدَم أقدَر مِن قَدَم أُمّ الـمُخَلِّص؟ لذلك كان طبيعيّاً جدّاً انتقام الشيطان المهزوم، ولم يكن الهجوم مُوجَّهاً إلى عقب الأُمّ، إنّما إلى قلب الأُمّهات.
آه! ضِيقات الأُمّهات التي لا تُحصى لفقدهنّ الأطفال بعد ولادتهم! آه! المحنة المخيفة في العمل وسَيل العرق مِن أجل الأولاد وديمومة الأبوّة ولكن دون بقاء ذريّة. إنّما افرَحي يا بيت لحم! فدمكِ الطَّاهِر، دم الأبرياء قد فَتَحَ درب اللَّهَب والأرجوان لمَسيّا...»
الجُّموع التي تنامت همساتها باستمرار منذ أن ذَكَر يسوع الـمُخَلِّص وأُمّه، يَظهَر اضطرابها الآن بشكل أكثر جلاء.
يقول يهوذا: «اصمت يا معلّم. ولنرحل.»
ولكنّ يسوع لا يَسمَعه، ويتابع: «...مَسيّا الذي أنقَذَته نعمة الله-الآب مِن الطُّغاة لتحفظه للشعب فَيُخَلِّصه و...»
ويهتف صوت امرأة حاد: «خمسة، لقد وَضَعتُ خمسة، ولم يبق منهم واحد في بيتي! يا لي مِن بائسة!» وتصرخ بشكل هستيريّ.
إنّها بداية الـمُشاجرة.
وأخرى تتمرّغ في التراب، تُمزّق ثيابها وتُبرِز صدرها الـمُشوَّه وتَصرُخ: «هنا، هنا على هذا الصدر ذَبَحوا بِكري! وقد قَطَع السيف رأسه وصدري معاً. آه! يا أليشع ابني!»
«وأنا؟ أنا؟ هوذا بيتي! ثلاثة قبور في واحد، يَسهَر عليهم الأب. الزوج والأبناء جميعهم. هاك، هاك!... إذا كان هو الـمُخَلِّص فليُعِد لي أولادي، وليُعِد لي زوجي، وليخلّصني مِن اليأس، ولينقذني مِن بعلزبول.»
يَصرُخ الجميع: «أبناؤنا، أزواجنا، آباؤنا، فليُعِدهم لنا إن كان هو الـمُخَلِّص!»
يُحَرِّك يسوع ذراعيه طالباً الصمت: «يا أبناء بلدي، كنتُ أودُّ إعادة أبنائكم إلى الحياة، نَعَم إلى الحياة، إنّما أقول لكم: كونوا صالحين، مُستَسلِمين لإرادة الله. اغفروا، تأمّلوا، ابتَهِجوا في الرجاء وتهلّلوا في اليقين. لن يطول الزمن حتّى تُلاقوا أبناءكم، ملائكة في السماء، فمَسيّا سيفتَح أبواب السماء، وإذا كنتم صالحين، فسيكون الموت بالنسبة لكم الحياة الآتية والحبّ العائد...»
«آه! هل أنتَ هو مَسيّا؟ قُل بحقّ الله.»
يَخفض يســوع ذراعيه بحركته اللطيفة الوَدودة، حتّى لكأنّه يبدو يريد العِناق، ويقول: «أنا هو.»
«اذهب! اذهب! فبسببكَ إذاً!»
ويَطير حجر وسط الصفير وصيحات الاستنكار.
وهنا بدا موقف يهوذا رائعاً... آه! لو ظَلَّ هكذا على الدَّوام! يقف أمام المعلّم على جدار الشُّرفة، مُشَرِّعاً معطفه، ويتلقّى بجُرأة صدمات الحجارة حتّى يسيل دمه. يَصرُخ في سمعان ويوحنّا: «خُذا يسوع خلف هذه الأشجار. وسوف ألحق بكما. اذهبوا بحقّ السماء!» وللجُّموع: «أيّتها الكلاب المسعورة! إنَّني مِن الهيكل وسوف أشي بكم إلى الهيكل وروما.»
أَخَذَت الجَّمعَ الرَّهبةُ للحظة، إنّما ما لَبِثوا أن عادوا إلى المعركة برشقات الحجارة، ولكن، لحسن الحظّ، بشكل غير مُرَكَّز. ويتلقّى يهوذا الوابل برباطة جأش، مُجيباً بالشتائم على سوء تربية الجمع. حتّى إنّه يمسك بحجر طائر ويعيده إلى رأس شيخ مسكين فيصيح مثل طائر يُنتَف ريشه وهو حيّ. وبما أنّهم يُحاوِلون اقتحام مكان وقوفه، يَندَفِع ويُمسك غصناً مُلقى على الأرض، إذ إنّه كان قد نَزل مِن على الجدار، ويُجيله على الظهور والرؤوس والأيدي بلا رحمة.
يَهرَع الجنود، وتحت خطر المقذوفات، يَشقّون لأنفسهم طريقاً: «مَن أنتَ؟ ولماذا هذا الشجار؟»
«أنا يهوديّ وقد هاجَمَني هؤلاء الناس. كان معي رابّي مِن الكَهَنَة معروف. كان يتحدّث إلى هؤلاء الكلاب، فتألّبوا علينا وهاجمونا.»
«مَن تكون؟»
«أنا يهوذا الاسخريوطيّ، سابقاً مِن الهيكل والآن تلميذ الرابّي يسوع الجليليّ. إنّني صديق الفرّيسيّ سمعان والصدّوقيّ جيوقانا ومستشار السنهدرين يوسف الذي مِن الرّامة، وأخيراً ما يمكنكَ التأكّد منه هو أنّني صديق أليعازر بن حنّان الصديق الأكبر للوالي.»
«سوف أتحقّق مِن ذلك. إلى أين أنتَ ذاهب؟»
«مع صديقي إلى إسخريوط ثمّ إلى أورشليم.»
«اذهب وسوف نحميكَ.»
ويُعطي يهوذا الجنود بعض القطع النقديّة. مِن المفروض أنّ ذلك مِن الـمَحظورات، إنّما... قد أضحى عاديّاً، إذ إنّ الجندي يَدُسّها بسرعة في جيبه، ويحيّي بإجلال ويبتسم. يقفز يهوذا إلى أسفل المنصّة، ويَهرَع بقفزات عبر الحقل البور ليلحق بأصحابه.
«هل جراحكَ كثيرة؟»
«لا شيء يا معلّم، ثمّ إنّ هذا مِن أجلكَ... لقد رَدَدتُ عليهم أيضاً. المفروض أنّني مُلَطَّخ بالدم...»
«نعم، خَدّكَ. توجد هنا سلسلة ماء.»
يُبَلِّل يوحنّا قطعة قماش ويَمسح خدّ يهوذا.
«إنّ هذا ليؤرّقني يا يهوذا، إنّما انظر... هذا بالرغم مِن قولنا لهم إنّنا يهود، حسب حِسّكَ العمليّ...»
«إنّهم حيوانات. أظنّ أنّكَ ستكون مُضطَهَداً يا معلّم ، ولن تبقى على إصراركَ.»
«آه! لا! إنّما ليس بفعل الخوف، بل لأنّ ذلك لا يُجدي في الوقت الحالي. عندما لا يَقبَلوننا فلا نَلعَن، إنّما ننسَحِب ونحن نصلّي مِن أجل المجانين المساكين الذين يموتون جوعاً ولا يَرَون الخبز. لنمضِ عبر هذه الطريق المتطرّفة المنعزلة. أظنّنا سنصل إلى طريق الخليل... عند الرُّعاة، إذا ما وجدناهم.»
«لكي نُهاجَم بالحجارة؟»
«لا، بل لكي أقول لهم: "هذا أنا".»
«إيه! حينئذ! سيكون الضرب بالعصيّ!... منذ ثلاثين عاماً وهُم يعانون بسببكَ!...»
«سوف نرى.»
يَعبُرون غابة كثيفة، ظليلة ورطبة. ولا أعود أراهم.