ج5 - ف25
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الخامس/ القسم الأول
25- (امرأة قورازين الحَدباء)
21 / 11 / 1945
يسوع في معبد قورازين المكتظّ بالناس. المفروض أنّ أعيان البلد أَصرّوا على أن يُعلّم يسوع في يوم السبت هذا. أُدرِك ذلك مِن خلال اعتراضاتهم وأجوبة يسوع.
«نحن لسنا أكثر تكبّراً مِن اليهود أو سكان المدن العشر» يقولون «ومع ذلك تروح إلى هناك وتعود مرّات عديدة.»
«هنا أيضاً، الأمر ذاته. هنا، عَلَّمتُكم بالكلام والأفعال، وبالصمت والعمل.»
«إنّما لو كنّا أكثر قَسوة مِن الآخرين، فهذا سبب آخر للإصرار...»
«حسناً، حسناً.»
«بالتأكيد هذا حسن! نحن نؤمّن لكَ استخدام المعبد كي تُعلّم لأنّنا نرى بالضبط أنّ هذا حسن. فاقبل إذن الدعوة وتكلّم.»
يَفتَح يسوع ذراعيه، علامة صمت لجميع الحاضرين، ويبدأ حديثه ويقول بنغمة المزامير، تِلاوة بطيئة، منغّمة ومفخّمة: «"أَرَونا أجابَ داود: ’فليأخذ سيّدي الـمَلِك ويُصعِد ما يحسن في عينيه. ها هي العجول للمحرقة، العربة ونير الثيران تكون حطباً؛ هذا كلّ ما يُقدّمه أَرَونا للمَلِك، أيّها الـمَلِك‘. وأضافَ: ’ليَقبَل الربّ الإله نذركَ!‘ ولكنّ الـمَلِك أجاب: ’لن يكون كما أردتَ أنتَ. أريد الشراء بثمن ولستُ أُصعِد للربّ إلهي محرقات مجّانيّة‘".»
يَخفض يسوع نَظَرَه، ذلك أنّه كان يتكلّم ووجهه يكاد يكون موجّهاً صوب السقف، ويُحدِّق برئيس المعبد والأعيان الأربعة الذين كانوا معه، ويَسأَلهم: «هل أدركتُم المعنى؟»
«هذا مكتوب في سِفر الملوك الثاني، عندما اشترى الـمَلِك القدّيس بيدر أَرَونا... ولكنّنا لم نفهم لماذا أَورَدتَه. هنا، المقصود ليس وباء، وما مِن أُضحية تُقَدَّم. وأنتَ لستَ مَلِكاً... نريد القول لم تُصبِح بعد مَلِكاً.»
«الحقّ أقول لكم، إنّ فكركم بطيء في فهم الرموز، وإيمانكم ليس راسخاً. لو كان إيمانكم أكيداً لرأيتُم أنّني الآن مَلِك كما قُلتُ، ولو كانت لكم سرعة بديهة، لأدركتم أنّ وباء خطيراً للغاية موجود هنا، أخطر مِن ذاك الذي كان يقضّ مضجع داود. فلديكم وباء عدم الإيمان الذي يودي بكم إلى الهلاك.»
«حسناً! إذا كنّا بطيئي الفهم وغير مؤمنين، فأعطنا الذكاء والإيمان، واشرح لنا ما أردتَ قوله.»
«أقول: أنا لا أُقدِّم إلى الله أضحيات مفروضة عليَّ، تلك التي تُقَدَّم مِن أجل غاية دنيئة. أنا لا أقبل أن أتكلّم إذا ما سُـمِح بالكلام لِمَن أتى ليتكلّم فقط على سبيل التفضُّل. إنّه حقّي وأنا أستخدمه. تحت الشمس أو ضمن جدران أربعة، على قمم الجبال أو في عمق الوديان، في البحر أو على ضفاف الأردن، في كلّ مكان لي الحقّ وعليَّ واجب التعليم والحصول على المحرقات التي تُرضي الله فقط: القلوب التي اهتدت وأَصبَحَت تؤمن بكلمتي. أمّا هنا، فأنتم أهل قورازين، قد مَنَحتُم فرصة التحدّث للكلمة، ليس على سبيل الاحترام أو الإيمان، بل لأنّ في قلبكم صوتاً يعذّبكم كالدودة التي تنخر الخشب: "قِصاص الصقيع، هو بسبب قسوة قلوبكم". وتريدون إصلاح الأمر مِن أجل الغِلال وليس مِن أجل النَّفْس. آه! يا قورازين الوثنيّة والمتصلّبة! إنّما ليست قورازين كلّها هكذا. وللّذين ليسوا كذلك سأتحدّث بِـمَثَل.
اسمعوا. قَدَّمَ غنيّ لعامل، وقد كان الغنيّ غبيّاً، كتلة ضخمة مِن مادّة شقراء كالعسل الأكثر صفاء، وطلب منه أن يصنع منها قارورة موشّاة.
قال العامل للغنيّ: "هذه المادّة غير ملائمة للعمل، إنّها رخوة ومطّاطة. فكيف يمكنني نَحتها وتشكيلها؟".
"كيف؟ أليست صالحة؟ إنّها راتنج ثمين، وأحد أصدقائي صَنَعَ منها جرّة تجعل للنبيذ طعماً لذيذاً. ولقد دفعتُ ثمنها ثِقلها ذهباً لأحصل على جرّة أكبر وأقهَر بها صديقي الذي يتباهى بالتي لديه. اصنعها لي، وفي الحال، وإلّا قلتُ إنّكَ عامل غير كفء".
"ولكن ألا يمكن أن تكون جرّة صديقكَ مِن المرمر الأشقر؟"
"لا، بل هي مِن هذه المادّة".
"أليست مِن الكهرمان الناعم؟"
"لا، هي مِن هذه المادّة".
"قد تكون، فلنفرض ذلك، مِن المادّة ذاتها، إنّما بعد أن أَصبَحَت متماسكة، قاسية، بفعل الزمان الطويل أو بفعل مزجها بموادّ أخرى جَعَلَتها صلبة. اسأله وعُد إليَّ وأخبرني كيف صُنِعَت جرّته".
"لا، بل إنّه قد باعني إيّاها هو نفسه، مؤكّداً لي أنّه يجب استخدامها بهذا الشكل".
"إذن فلقد نَصَبَ عليكَ ليعاقبكَ على اشتهائكَ جرّته الجميلة".
"انتبه لكلامكَ! اعمل وإلّا عاقبتكَ بإزالة مشغلكَ الذي لا قيمة له مقارنة بقيمة هذا الراتنج غير العاديّ".
وشَرَعَ العامل يعمل وهو حزين. صَنَعَ منها عجينة... ولكن العجينة التصقت بيديه. كان يحاول تصليب قطعة باستخدام الصمغ والمساحيق... ولكن الراتنج فَقَدَ شفافيّته الذهبيّة. وحَمَلَها قرب البوتقة آملاً أن تمنحها النار صلابة، وكان عليه نزعها عن يديه مع الشعر، لأنّها كانت تسيل. أَرسَلَ يجلب ثلجاً مِن على قمة حرمون، وغَمَسَها فيه... فتصلّبت، وكانت جميلة، إنّما غير قابلة للتشكيل. فقال: "سوف أُشكِّلها بالإزميل". ولكن لدى أوّل ضربة إزميل تحطَّمَ الراتنج.
والعامل، إذ يَئِس تماماً، وقد اقتنع بأنّ لا شيء يمكنه أن يَصلح للعمل بهذه المادّة، لذا حاول آخر محاولة. لَملَمَ القطع، مُعرّضاً إيّاها لنار الفرن لتصبح سائلة، جمَّدَها مِن جديد بالثلج، إنّما بشكل خفيف، وحاوَلَ العمل في الكتلة، وهي بالكاد رخوة، بواسطة الإزميل والمسواط (spatule). فتشكّلت. آه! نعم! ولكن ما أن رَفَعَ الإزميل والمسواط حتّى عادت إلى شكلها الأوّليّ، كما لو أنّها عجين خبز انتَفَخَ في الـمَعجَن.
أقرَّ الرجل بفشله. ولكي يفرّ مِن وجه الغنيّ وقِصاصاته، وينجو مِن الإفلاس، فإنّه، أثناء الليل، أتى بعربة ليضع فيها امرأته وأولاده وأغراضه وأدوات عمله، وتَرَكَ في وسط مشغله، الذي كان قد تركه فارغاً، كتلة الراتنج الشقراء وعليها رُقعَة كُتِبَ عليها: "العمل بها مستحيل"، ويهرب خارج الحدود…
لقد أُرسِلتُ لأعمل على القلوب، لِأُدخِل الحقّ والسلام إليها. فوجدتُ بين يديَّ قلوباً مِن حديد، مِن رصاص، مِن قصدير، مِن رخام ومرمر، مِن فضّة وذهب، مِن أحجار كريمة. قلوباً قاسية، قلوباً متوحّشة، قلوباً حنونة جدّاً، قلوباً متقلّبة جدّاً، قلوباً جَعَلَها الألم صلبة، قلوباً ثمينة، كلّ أنواع القلوب. ولقد عَمِلتُ عليها كلّها. وقد شَكَّلتُ منها الكثير، بحسب رغبة الذي أَرسَلَني. البعض منها جَرَحَني أثناء العمل، والبعض الآخر فَضَّلَ التحطّم على الاستسلام للعمل به في العمق. ولكنّهم قد يكونون يحتفظون دائماً، إلى جانب الحقد، بذكرى لي.
يستحيل العمل بكم. فحرارة الحبّ، والصبر في التثقيف، برودة الاتهامات، تعب الإزميل، لا شيء ينفع فيكم. ما أن ترتفع يديَّ عنكم تعودون إلى سابق عهدكم. عليكم القيام بعمل واحد لتتبدّلوا: أن تستسلموا لي كلّيّاً. وأنتم لا تفعلون ذلك، ولن تفعلوه مطلقاً. العامل، إذ أَصبَحَ حزيناً، يترككم لمصيركم. ولكن، بما أنّه عادل، فإنّه لا يترككم جميعكم بالطريقة ذاتها. ففي حزنه لا يزال يعرف اختيار الذين يستحقّون حبّه، يُشدّد عزائمهم ويباركهم. تعالي أيّتها المرأة هنا!» يقول هذا مشيراً بالإصبع إلى امرأة واقفة جانب الجدار، حدباء إلى درجة أنّها تبدو كإشارة استفهام.
يَنظُر الناس إلى الجهة التي يُشير إليها يسوع، ولكنّهم لا يَرَون المرأة التي، بسبب وضعها، فهي أيضاً لا تتمكّن مِن رؤية يسوع ويده. «هيّا اذهبي يا مرثا! إنّه يناديكِ.» يقول لها كثيرون. وتذهب المسكينة وهي تَعرُج مع عصاها، التي تقع قمّتها في مستوى رأسها.
هي الآن أمام يسوع الذي يقول لها: «يا امرأة، فلتكن لكِ ذِكرى لمروري مِن هنا، ومكافأة على إيمانكِ الصامت والمتواضع. ولتتحرّري مِن عاهتكِ.» يَهتف في النهاية واضعاً يديه على كتفيها.
فجأة، تنتَصِب المرأة، مستقيمة كشجرة النخيل، وترفع ذراعيها هاتفة: «هوشعنا! لقد شفاني! لقد نَظَرَ إلى خادمته الأمينة وصَنَعَ لها معروفاً. التسبيح للمخلّص ومَلِك إسرائيل! هوشعنا لابن داود!»
ويردّ الناس على هوشعنا المرأة التي أضحت الآن جاثية عند قدميّ يسوع تُقبِّل طرف ثوبه، بينما يقول لها يسوع: «اذهبي بسلام وثابري على إيمانكِ.»
رئيس المعبد الذي ما تزال كلمات يسوع التي قالها قبل المثل تُلهِبه، يريد أن يُفرِغ سمّه بسبب اللوم، ويَصيح بسُخط، بينما الجموع تَفسَح المجال لمرور تلك التي شُفِيَت بالمعجزة: «توجد ستّة أيام للعمل، ستّة أيام للسؤال وللعطاء. تعالوا إذن خلال هذه الأيّام، للطَّلَب بقدر ما للعطاء. تعالوا لتُشفوا خلال تلك الأيّام، دون انتهاك للسبت، أيّها الخطأة والكافرون، الفاسدون والمفسدون للشريعة!» ويُحاوِل طرد الجميع مِن المعبد، كما لِيَطرد التدنيس مِن مكان الصلاة.
ولكنّ يسوع الذي يراه، يُساعِده الأعيان الأربعة المشار إليهم آنفاً، وآخرون موزَّعون بين الجمع، يُعبِّرون عن عثارهم بشكل واضح والألم الذي سَبَّبَته لهم... جريمة يسوع، يَصيح بدوره، وذراعاه متصالبتان، وهو صارم فارض هيبته وهو يَنظُر إليه: «أيّها المراؤون! مَن منكم لم يحل ثوره أو حماره اليوم مِن المعلف ولم يمض به ليشرب؟ مَن منكم لم يحمل حزم العشب لنعاج القطيع ولم يَحلب الضروع المليئة؟ وإذا كان لديكم ستّة أيام لتفعلوا ذلك، فلماذا فعلتموه اليوم كذلك؟ أَمِن أجل القليل مِن الحليب، أو خشية أن يموت الثور أو الحمار مِن العطش؟ وأنا أليس عليَّ أن أُحِلّ هذه المرأة مِن السلاسل التي قيَّدَها بها الشيطان منذ ثمانية عشر عاماً، فقط لأنّه السبت؟ هيّا. لقد استطعتُ حلّ تلك مِن بؤسها اللاإراديّ. ولكنّني لن أستطيع أبداً حلّكم مِن بؤسكم الإراديّ، يا أعداء الحكمة والحقّ!»
أبناء قورازين الشرفاء، الموجودين وسط أولئك الكثيرين الذين هم غير ذلك، يُقِرّون ويثنون، بينما الآخرون، ممتقِعين مِن الغضب، يَمضون تاركين رئيس المعبد الممتقِع في الساحة.
يسوع كذلك يتركه وحيداً ويَخرُج مِن المعبد، يحيط به الطيّبون الذين استمرّوا في مواكبته إلى أن بَلَغَ القرية. حينئذ بارَكَهم للمرّة الأخيرة، ويَسلك الطريق العامّ مع أبناء عمه وكذلك بطرس وتوما...