ج7 - ف228
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السابع / القسم الثاني
228- (يسوع وفاليريا. معجزة لاوي الصغير في نوبة)
05 / 11 / 1946
يسوع وسط المرضى أو المسافرين وقد قصدوه مِن أنحاء كثيرةً في فلسطين. هناك حتّى بحّار مِن صور، كان حادث بحريّ قد شلّه ويروي مُصابَه: سقوط حِـمْل بسبب ترنّح السفينة، فوقعت البضائع الثقيلة فوقه وجُرح عموده الفقريّ. لم يمت، إنّما ذلك بالنسبة له أسوأ مِن الموت، ذلك أنّه، لكونه عاجزاً، فهو يُجبِر أهله على ترك العمل للاعتناء به. يقول بأنّه ذهب معهم إلى كفرناحوم ومِن ثمّ إلى الناصرة، وأنّه عَلِم مِن مريم بأنّه كان في اليهوديّة وتحديداً في أورشليم. «لقد أعطتني أسماء الأصدقاء الّذين كان يمكنهم أن يستضيفوكَ. وجليليّ مِن سيفوريس قال لي بأنّكَ هنا، فأتيتُ. أعلم بأنّكَ لا تحتقر أحداً، ولا حتّى السامريّين. وأرجو أن تستجيبني. إنّ بي إيماناً كثيراً.» زوجته لا تتكلّم. إنّما، وهي جاثمة قرب النقّالة الّتي وضعوا عليها المريض، تنظر إلى يسوع بعينين أكثر توسّلاً مِن أيّ كلمة.
«أين أُصبتَ؟»
«تحت العنق. هناك بالضبط تلقّيت الصدمة الأقوى وسمعتُ صوتاً في رأسي، يشبه صوت برونز يُضرَب. الّذي استحال بعدها إلى هدير متواصل لبحر عاصف، وأنوار، أنوار مِن كلّ الألوان أخذت تتراقص أمامي… ثمّ ما عدتُ سمعتُ شيئاً لأيّام عدّة. وكنّا نبحر في مياه سينتيوم، ووجدتُ نفسي في المنزل لا أعرف كيف. وعاد الهدير إلى رأسي والأنوار إلى عينيّ لأيّام وأيّام. ثمّ تلاشى ذلك… إنّما الذراعان قد لبثتا ميّتتين وكذلك الساقان. رجل منتهٍ في الأربعين. ولي سبعة أطفال يا ربّ.»
«يا امرأة، ارفعي زوجكِ واكشفي المنطقة المصابة.»
المرأة تطيع مِن دون أن تتكلّم. وبحركات بارعة وأموميّة، يساعدها مَن أتى معها، لستُ أدري إن كان أخاها أم أخا زوجها، تمرّر ذراعاً تحت كتفيّ زوجها، فيما باليد الأخرى تسند رأسه، وبالرقة الّتي يتمّ فيها تحريك مولود جديد، ترفع الجسد الثقيل عن النقّالة. نُدبة، لا تزال حمراء، تدلّ على مكان الإصابة الأشدّ.
يسوع ينحني. الجميع يمدّون رقابهم لينظروا. يسوع يضع أطراف أصابعه على الندبة قائلاً: «أشاء!»
الرجل يهتزّ، كما لو أنّ تيّاراً كهربائيّاً قد مسّه، ويطلق صيحة: «يا لها مِن نار!»
يسوع يرفع أصابعه عن الفقرات المصابة ويقول: «انهض!»
الرجل لا يدعه يكرّر كلامه. يسند ذراعيه الخاملتين منذ أشهر على النقّالة، يُحرّك نفسه كي يتحرّر مِن اللذَين يسندانه، يقذف رجليه مِن على النقّالة، ويقف على رجليه، ويفعل كلّ ذلك بوقت أقلّ بكثير مِن الّذي استغرقني لأصف مراحل المعجزة.
الزوجة تصيح، القريب يصيح. الرجل الـمُبرأ يرفع يديه إلى السماء، وقد أخرسه الفرح. لحظة فرح منذهل، ثمّ يدور حول نفسه، بثقة أرشق رجل، ويجد نفسه وجهاً لوجه مع يسوع. حينئذ يستعيد صوته ويصيح: «مبارك أنتَ ومَن أرسلكَ! إنّني أؤمن بإله إسرائيل، وبكَ أنتَ، مسيحه.» ويرتمي على الأرض ليقبّل قدميّ يسوع وسط صيحات الناس.
ثمّ المعجزات الأخرى، على أطفال، نسوة، عجائز، الذين هم الأغلبية. ثمّ يتكلّم يسوع.
«لقد رأيتم معجزة عظام مكسورة تلتحم مجدّداً، وأطراف ميتة تعود حيّة. إنّ الربّ قد منحكم رؤية ذلك لتقوية الإيمان لدى مَن يؤمنون، واستنهاضه لدى مَن لا يملكونه. والمعجزة قد مُنِحَت لأناس مِن كلّ الأماكن، قد جاؤوا إلى هنا بحثاً عن الشفاء، مدفوعين بالإيمان بقدرتي الشفائيّة.
هنا يهود وجليليّون، لبنانيّون وسوريّون-فينيقيّون، سكّان مِن بطانيا البعيدة وسواحل البحر. والجميع أتوا غير عابئين بالفصل وطول الطريق، وقد رافقهم الأهل دونما تذمّر، دونما تحسّر على الأعمال الّتي تُركت معلّقة أو الصفقات المتروكة. لأنّ كلّ تضحية كانت لا شيء مقارنةً بما كانوا سيحصلون عليه. وكما سقطت أنانيّات الإنسان وشكوكه، فكذلك سقطت الآراء السياسيّة أو الدينيّة الّتي كانت تُشكّل ما يشبه الجدار الّذي يعيق اعتبار أنفسناً جميعاً إخوة، جميعاً سواسية في العيش والألم، في الرغبة والأمل بالصحّة والتعزية.
وأنا، لكلّ الّذين قد أحسنوا الاتّحاد برجاء هو بحقّ إيمان، قد مَنَحتُ الصحّة والتعزية. لأنّ مِن العدل أن يكون الأمر كذلك.
إنّني الراعي الشامل، ويجب أن أستقبل كلّ النعاج الّتي تريد دخول قطيعي. أنا لا أميّز بين النعاج السليمة والمريضة، بين النعاج الضعيفة والقويّة، بين النعاج الّتي تعرفني، كونها بالفعل مِن ضمن قطيع الله، والنعاج الّتي لم تكن تعرفني حتّى الآن، ولم تكن تعرف حتّى الله الحقّ. ذلك أنّني راعي الإنسانيّة وآخذ نعاجي مِن كلّ المواضع الّتي تتواجد فيها وتقصدني. أهي نعاج نحيلة، قَذِرة، ذليلة، جاهلة، مضروبة مِن قِبَل رعاة لم يحبّوها، ونبذوها معتبرين إيّاها نَجِسة؟ ما مِن دَنَس لا يمكن تطهيره. وما مِن دَنَس، إذ يريد أن يتطهّر ويطلب المساعدة لبلوغ ذلك، يمكن أن يُرفَض بحجّة أنّه كذلك.
إنّ الرغبات الصالحة، هو الله مَن يستنهضها. وإذا ما استنهضها، فتلك دلالة على أنّه يرغب في أن تغدو واقعاً. هو روح الله ذاته مَن يطلب بصلوات فائقة الوصف تَشَرُّب المحبّة هذا لجميع البشر، لأنّ روح الله يرغب بالانتشار والإثراء. الانتشار بأن يحبّ عدداً لا حصر له مِن الكائنات، الّتي هي بالكاد تكفي لمنح التعزية لمحبّته اللامتناهية، والإثراء بمحبّة عدد لا حصر له مِن الكائنات الّتي تجذبها إليه حلاوة عطوره. وعليه فليس مسموحاً لأيّ كان احتقار ورفض مَن يريد دخول القطيع المقدّس.
أقول هذا لأولئك مِن بينكم الّذين يمكن أن يكونوا غارسين في قلوبهم أفكار كُثُر مِن إسرائيل، أفكار تمييز وإدانة غير محبوبة مِن الله، لأنّها تتعارض مع غايته جعل كلّ الشعوب شعباً واحداً يحمل اسم المسيح المرسل مِن قِبَله.
إلاّ أنّني سأتحدّث الآن أيضاً لأولئك الآتين مِن الخارج، إلى النعاج الّتي هي برّيّة حتّى الآن، والّتي تشعر بالرغبة في دخول القطيع الواحد للراعي الأوحد. وأقول: لا يحبطنّها أيّ شيء، لا يذلّنّها أيّ شيء. ما مِن وثنيّة، ما مِن عبادة أصنام، ما مِن حياة مغايرة لتلك الّتي أُعلّمها، لا يمكن إنكارها ونبذها، للسماح للروح بأنّ يتجدّد، متخلّصاً مِن كلّ نبات فاسد، كي يكون مهيّأً لاستقبال البذور الجديدة، وارتداء رداء جديد. وهذا ما يجب أن يدفع الشعوب نحوي أكثر مِنه لصحّة الأعضاء.
ومثلما -وذلك ينطبق على عبرانيّي فلسطين، كما على عبرانيّي ومتهوّدي الشتات، وكما على الوثنيّين- مثلما تُحسِنون المجيء إليّ كي ما يُرفَع عن أجسادكم المريضة نير الآفة، كذلك أَحسِنوا المجيء كي يُرفَع عن أرواحكم نير الخطيئة أو الوثنيّة. كلّكم يجب أن تطلبوا منّي أوّلاً، وأن ترغبوا بكلّ قواكم، أن تتحرّروا ممّا يجعل روحكم عبداً لقوىً شرّيرةٍ تهيمن عليه. يجب أن ترغبوا بهذا التحرّر في المقام الأوّل، أن ترغبوا بملكوت الله فيكم بمثابة معجزة أولى. لأنّه ما أن يصبح هذا الملكوت فيكم، حتّى يُعطى كلّ شيء آخر لكم، ويعطى بحيث لا تُحسب العطيّة بمثابة عقاب في الحياة الأخرى.
أنتم لم تفكّروا بتقلّبات الطقس، المشقّة، خسارة المال، كي تحظوا بسلامة الأعضاء الّتي، ولو أنّها قد شُفيت اليوم، فإنّها سوف تفنى بالموت الجسديّ في غد قريب. وبذات القلب يجب أن تُحسِنوا مواجهة كلّ شيء لتنالوا صحّة الروح، والحياة الأبديّة، وتمتلكوا ملكوت الله. ما هي الاحتقارات والتهديدات مِن الأهل والمواطنين أو أصحاب النفوذ، مقارنةً بما ستحظون به كلّكم، مهما كان المكان الّذي تأتون منه، إذا ما أحسنتم المجيء إلى الحقّ والحياة؟ ومَن قد يتردّد في الذهاب إلى موضع، حيث يعلم أنّ حياةً سعيدةً تنتظره هناك، كي يلبث ليوم مِن أجل حفل ينتهي عند المغيب؟ ومع ذلك فهذا ما يفعله الكثيرون. وكي يَشبعوا، في جزء مِن الزمن، مِن أفراح العالم عديمة الطعم والفائدة، فإنّهم يحجمون عن الاندفاع إلى الموضع الّذي سيجدون فيه إلى الأبد غذاءً حقيقيّاً، صحّة حقيقيّة، فرحاً حقيقيّاً، ودونما خوف مِن رؤيتها وقد انتزعتها منهم كراهية عدوّة.
في ملكوت الله لا كراهية، لا حرب، لا ظلم. مَن يُحسِن الدخول إليه لا يعود يعرف الألم، القلق، الطغيان، بل يمتلك السلام الـمُبهِج الّذي ينبثق مِن أبي.
إنّني أصرفكم. اذهبوا. عودوا إلى بلداتكم. لقد أصبح تلاميذي كثيرين وهم منتشرون في كلّ مناطق فلسطين. أنصتوا إليهم، إذا ما أردتم أن تعرفوا عقيدتي وتكونوا مستعدّين ليوم القرار الّذي تتوقّف عليه الحياة الأبديّة لكثيرين. أعطيكم سلامي كي يمضي معكم.»
ويسوع، بعد أن بارك الجمع، يعود إلى المنزل... الرُّسُل يبقون في الخارج لبعض الوقت، ثمّ يعودون لتناول الطعام، ذلك أنّ الشمس، العالية في السماء، تشير إلى أنّ الوقت ظُهر.
يجلسون إلى المائدة الريفيّة، وبعد مباركة الطعام، المؤلّف مِن أجبان، هندباء مسلوقة ومتبّلة بالزيت، يتحدّثون عن أحداث الصباح، ويبتهجون بأنّ تعداد التلاميذ الّذين يبشّرون قد أصبح بشكل يريح المعلّم مِن تعب الكلام باستمرار، في ظروف التعب الّذي هو فيها.
بالفعل إنّ يسوع قد غدا أكثر نحولاً بعد في هذه الآونة الأخيرة، ولونه، الّذي هو بالعادة أبيض عاجيّ غامق، مع شيء مِن صبغة اللون الورديّ تحت الجلد المائل للسمرة، هو الآن عند قمّة الوجنتين أبيض تماماً، مثل بتلة منغوليا فقدت نضارتها. بالنسبة لي، أنا الّتي عشتُ في ميلانو لفترة طويلة وأعرف اللون الرهيف لرخام كاندوليا الّذي بنيت به القبّة الرائعة، فإنّ وجه الربّ يبدو لي بحقّ، في هذه الأشهر الأليمة الأخيرة لحياته الأرضيّة، بلون هذا الرخام الّذي لا هو أبيض، ولا هو وردي، ولا أصفر، بل يشبه هذه الألوان الثلاثة، بصبغة أكثر رهافة. العينان غائرتان أكثر وبالتالي تبدوان داكنتين أكثر، ربّما أيضاً لأنّ أثراً مِن تعب يكدّر جفونه ومحجريّ عينيه. عينان لشخص ينام قليلاً، يبكي كثيراً ويتألّم. واليد تبدو أطول لأنّها نحيلة وشاحبة، يد ربّي اللطيفة الّتي تُظهِر بالفعل نتوءات الأوتار والأوردة، بها تقعّرات جراء النحول، وقد أصبحت تشفّ عن مجموع العظام تحتها، اليد المقدّسة، الشهيدة، الجاهزة للمسمار الّذي سيخترقها، حيث سيكون مِن السهل على الجلّادين العثور على النقطة الّتي يضعون المسمار فيها، فلا طبقة مِن الشحم على يد ربّي الزاهدة. إنّها الآن، وكأنّها متعبة، تستريح فوق خشب الطاولة القاتم، فيما هو يهزّ رأسه مبتسماً بصعوبة لرُسُله الّذين يدركون التعب اللامتناهي لأطرافه، لصوته، وخصوصاً لقلبه، المحزون جدّاً، المتعب جدّاً مِن جهد وجوب أن يحفظ متّحدةً، قلوباً كثيرة مختلفة، وجوب تحمّل وإبقاء عار التلميذ غير القابل للإصلاح مخفيّاً…
بطرس يقرّر: «أنتَ يجب أن ترتاح تماماً إلى أن يحين عيد التكريس. نحن مَن سوف يعتني بمن يأتون. أنتَ تذهب… أي نعم! إلى منزل توما. سوف تكون قريباً، وفي سلام.»
توما يدعم اقتراح بطرس. إنّما يسوع يهزّ رأسه. لا. لا يريد الذهاب.
«فإذن، أنتَ لن تتكلّم في هذه الأيّام. نحن يمكننا القيام بذلك. لن يكون كلاماً رفيعاً، إنّما سنقول ما نعرفه. وأنتَ ستهتم فقط بالمرضى.»
«نحن أيضاً نستطيع القيام بذلك.» يقول يهوذا الاسخريوطيّ.
«همم! أنا، مِن جهتي، أمتنع عن ذلك.» يقول بطرس.
«ومع ذلك فقد فعلتَ ذلك قبلاً!»
«بالتأكيد. عندما لم يكن المعلّم معنا، وكان علينا أن نُمثّله ونجعله محبوباً، إنّما الآن فهو هنا، والمعجزة هو الّذي يجترحها. هو وحده جدير بها. نحن… نجترح معجزة! ولكن إن كنّا نحن أنفسنا بحاجة إلى معجزة تُجدّدنا، لأنّنا مِن تلقائنا، أُدرك ذلك جيّداً، لن نفعل أبداً شيئاً حسناً. إنّنا بائسون، خَطَأة وجَهَلة.»
«تكلّم عن نفسكَ، أرجوك. فأنا لا أشعر بأنّني بائس على الإطلاق!» يردّ يهوذا الاسخريوطيّ.
«إنّ المعلّم متعب. وتعبه معنويّ أكثر منه جسديّ. وإن كنّا حقّاً نحبّه، فلنتجنّب المشاحنات. فذلك هو أكثر ما يرهقه.» يقول الغيور بصرامة.
يسوع يرفع عينيه لينظر إلى الرسول المسنّ، الحكيم جدّاً على الدوام، ويمدّ له يده مِن فوق الطاولة كي يلاطفه. الغيور يأخذ بين يديه السمراويّين تلك اليد البيضاء ويُقبّلها.
«أنتَ على حقّ. إنّما أنا كذلك على حقّ عندما أقول بأنّه عليه أن يرتاح حتماً. إنّه يبدو مريضاً...» يصرّ بطرس.
الكلّ موافقون، بمن فيهم العجوز يوحنّا وإليز، الّتي تقول: «منذ وقت طويل وأنا أقول ذلك. ولذلك أودّ...»
قَرع على البوّابة.
أندراوس، الأقرب إلى الباب، يذهب ليفتح، ويخرج مغلقاً الباب خلفه.
يعاود الدخول: «يا معلّم، هناك امرأة. وهي تصرّ على رؤيتكَ. معها طفلة صغيرة. لا بدّ أنّها ذات مكانة عالية، رغم بساطة ثوبها. أحسب أنّهما ليستا مريضتين، لا هي ولا الطفلة. إنّما لا أعلم لماذا هي محجّبة بهذه الكثافة. والطفلة تحمل زهوراً رائعةً بين ذراعيها.»
«اصرفها. قد كنّا نقول بأنّ عليه أن يرتاح، وأنتَ لا تدعه حتّى ينهي طعامه!» يتمتم بطرس.
«لقد قلتُ لها ذلك. وأجابتني بأنّها لن تُتعِب المعلّم، وأنّه سيفرح حتماً برؤيتها.»
«قل لها أن تعود غداً، في موعد الجميع. فالمعلّم سوف يرتاح الآن.»
«أندراوس، رافقها إلى الغرفة العلويّة. سوف آتي في الحال.» يقول يسوع.
«هو ذا! كنتُ أعلم ذلك! هكذا يهتمّ بنفسه! تماماً كما كنّا نقول بأن يفعل!» بطرس بغاية الاستياء.
يسوع ينهض، وقبل أن يخرج يمرّ مِن وراء بطرس، يضع يديه على كتفيه، ينحني قليلاً كي يُقبّله على شعره قائلاً: «حسناً، يا سمعان! إنّ الّذي يحبّني يخفّف مِن تعبي أكثر مِن الراحة على سرير.»
«وهل تعلم أنتَ إذا ما كانت هذه تحبّكَ؟»
«آه! يا سمعان! القلق يجعلكَ تقول كلاماً سبق أن ندمتَ عليه، لأنّكَ تدرك بأنّه أرعن! كن طيّباً! كن طيّباً! إنّ امرأة تجيء مع طفلة بريئة، وتأتيني بطفلتها البريئة وذراعاها محمّلتان بالزهور، لا يمكن أن تكون سوى واحدة تحبّني، وتشعر بحاجتي لأن أجد القليل مِن الحبّ والنقاء وسط الكثير مِن الكراهية والدَنَس.» ويذهب بعد ذلك صاعداً دَرَج الشرفة، فيما أندراوس، وقد نَفَّذ مهمّته، يعاود الدخول إلى المطبخ.
تقف المرأة على باب الغرفة العلويّة. هي طويلة القامة، نحيلة تحت رداء رماديّ ثقيل، وجهها محجوب بوشاح حرير عاجيّ يهبط مِن غطاء الرأس المقفل حول وجهها. الفتاة الصغيرة، لا تزال طفلة، لأنّ عمرها حوالي ثلاثة أعوام على أبعد تقدير، ترتدي ثوباً صغيراً مِن صوف أبيض، ورداء مع غطاء للرأس أبيض أيضاً. إنّما غطاء الرأس منزلق كثيراً إلى ما وراء خصلات شعرها المجعّدة ذات اللون الكستنائي الفاتح الرهيف، لأنّ الطفلة تنظر إلى المرأة رافعةً وجهها الصغير الّذي يَبرز مِن الزهور الّتي تضمّها جيّداً بين ذراعيها. زهور رائعة لا يمكن إيجادها في شهر كانون الأوّل [ديسمبر] البارد إلّا في هذه البلاد: ورود لحميّة اللون مختلطة بزهور بيضاء رهيفة لا أعرف ما هي، فأنا لستُ على دراية جيّدة بزراعة الزهور.
ما أن تطأ قدم يسوع أرض الشرفة، حتّى يحيّيه الصوت الطفولي للفتاة الصغيرة، الّتي تهرع لملاقاته، مدفوعة مِن قِبَل المرأة، قائلةً: «سلاماً أيّها السيّد يسوع!»
يسوع يحني قامته الطويلة فوق الوَرِعة الصغيرة، ويقول لها واضعاً يده على شعرها: «ليكن السلام معكِ.» ومِن ثمّ يعاود النهوض، ويتبع الصغيرة الّتي تعود بتغريدة فَرِحَة صوب المرأة، الّتي انحنت بإجلال شديد، مبتعدةً عن الباب كي تدع المعلّم يمرّ.
يسوع يحيّيها بإيماءة مِن رأسه ويدخل إلى الغرفة، ليجلس على أوّل مقعد يجده، صامتاً كأنّه ينتظر. إنه ذو مظهر مَلَكيّ للغاية. إنّه وهو جالس على مقعده الخشبيّ المتواضع دون ظَهْر، يبدو جالساً على عرش، مِن فرط ما كان وقاره صارماً. إنّه بلا رداء، فقط بثوبه الصوفيّ غامق الزرقة جدّاً، بلا تزيينات، باهت قليلاً عند الكتفين، حيث مياه الأمطار، الشمس، الغبار والعَرَق، قد أثّرت على اللون، ثوب نظيف إنّما فقير. إنّه يبدو لابساً أرجواناً مِن فرط ما مظهره جليل. حازم جدّاً، تقريباً كهنوتيّ المظهر في وضعيّة رأسه فوق عنقه، اليدان على الركبتين والراحتان مفتوحتان، القدمان حافيتان على أرضية الآجرّ العتيق العاري، خلفه الجدار العاري والمبيّض بالكاد بالكلس، دونما ستارة أو مظلّة معلّقة فوق رأسه، إنّما مِنخَل طحين وحبل تتدلّى منه حِزَم ثوم وبصل. إنّه مَهيب أكثر ممّا لو كان هناك أرضيّة ثمينة تحت قدميه، وجدار ذهبيّ خلفه، ووشاح أرجوانيّ مرصّع بالجواهر على رأسه.
إنّه ينتظر. جلاله يشلّ المرأة بذهول تبجيليّ. كذلك الفتاة الصغيرة تصمت وتلبث بلا حراك قرب المرأة، خائفة بعض الشيء، ربّما. لكنّ يسوع يبتسم قائلاً: «أنا هنا لأجلكما. لا تخافا.»
حينئذ يتلاشى كلّ خوف. المرأة تهمس بشيء ما للطفلة، والطفلة تتقدّم، تتبعها المرأة، وتمضي صوب ركبتيّ يسوع، وتضع في حِجْرِهِ كلّ زهورها قائلةً: «ورود فوستينا لـمُخلّصها.» تقول ذلك على مهل، كمن لا يجيد لغةً ليست لغته. في هذه الأثناء ركعت المرأة خلف الطفلة، رادّةً حجابها إلى الوراء. إنّها فاليريا، أُمّ الطفلة، الّتي تحيّي يسوع بتحيّتها الرومانية: «سلاماً أيها المعلّم.»
«ليأتِ الله إليكِ يا امرأة. كيف تكونين هنا إذاً؟ وهكذا وحدكِ؟» يقول يسوع فيما يداعب الطفلة الصغيرة الّتي لم تعد خائفة، والّتي إذ هي غير راضية عن وضعها الزهور في حِجْرِ يسوع، فإنّها تنقّب بيديها في الباقة العَطِرة وتختار الورود الّتي تعتقد أنّها الأجمل، قائلةً: «خُذ! خُذ! إنّها لكَ، أتعلم؟» وترفع تارة إحدى الورود، وتارة إحدى تلك المظلّات العريضة البيضاء ذات النجوم العَطِرة، إلى قرب وجه يسوع، الّذي يَقبَلها، ومِن ثمّ يعيدها إلى الكومة العَطِرة.
في تلك الأثناء تتكلّم فاليريا: «كنتُ في طبريّا لأنّ ابنتي كانت مريضة قليلاً، وطبيبنا قد نصح بذلك...» فاليريا تتوقّف لوقت طويل، يتبدّل لونها، ومِن ثمّ تقول باستعجال: «وأنا قد تألّمتُ كثيراً في قلبي، وكنتُ أتوق إليكَ. لأنّه بالنسبة لألمي فقط طبيب واحد كان يمكنه أن يجد الشفاء: أنتَ يا معلّم، الّذي عندكَ كلام عدل في كلّ الأمور… ولذلك كنتُ سآتي في كلّ الأحوال. بدافع أنانيّة الحصول على تعزيتكَ، وكذلك كي أعلم ما الّذي عليَّ فِعله لـ… نعم، لِأُظهِر اعترافاً بالجميل تجاهكَ وتجاه إلهكَ، حيث منحتماني أن أحظى بطفلتي هذه… إنّما نحن نعلم أموراً كثيرة يا معلّم. إنّ تقارير أصغر أحداث المستعمرة توضع يوميّاً على طاولة عمل بيلاطس البنطيّ، الّذي يأخذ علماً بها، إنّما كي يتّخذ القرارات بشأنها فإنّه يتشاور كثيراً مع كلوديا… تقارير كثيرة كانت تتحدّث عنكَ وعن العبرانيّين الّذين يُبقون البلد في حالة هيجان، جاعلين منكَ رمز يقظة وطنيّة وسبب كراهية أهليّة في ذات الوقت. إنّ كلوديا على صواب في قولها لزوجها بأنّ واحداً فقط في فلسطين بأسرها يجب ألّا يخشاه كأنّه سبب شؤم له: هو أنتَ. وبيلاطس يصغي إليها يوماً بعد يوم… إنّ كلوديا هي الأقوى حتّى الآن. لكن إذا ما سيطرت قوّة أخرى على بيلاطس غداً… وقد علمتُ وشعرتُ بالتالي بأنّ طفلتي البريئة قد تعزّيكَ...»
«إنّ لكِ قلباً مفعماً شفقة واستنارة يا امرأة. لينركِ الله كلّيّاً، ويسهر على طفلتكِ هذه، الآن وعلى الدوام.»
«شكراً يا سيّد. إنّني بحاجة إلى الله...» دموع تتساقط مِن عينيّ فاليريا.
«نعم إنّكِ بحاجة له. في الله سوف تجدين كلّ تعزية وسوف تُحسِنين إيجاد المرشد كي تكوني عادلة في الحكم، في المغفرة، وفي الحبّ أيضاً، وفوق كلّ شيء في تنشئة هذه الصغيرة، كي تحظى بالحياة السعيدة لِمَن هم أبناء الله الحقّ.
أنتِ ترين. إنّ الله الّذي لم تكوني تعرفينه، الّذي ربّما كنتِ تسخرين منه ومِن شريعته، المختلف جدّاً عن آلهتكم وشريعتكم وممارساتكم الدينيّة، الّذي كنتِ حتماً قد أسأتِ إليه بأسلوب حياة حيث الفضيلة لم تكن محترمة في الكثير مِن الأمور، هي طفيفة بعد، إن أردتِ، إنّما كانت تقود إلى جرح الفضيلة بأكثر جسامة، والإساءة إلى الألوهة، الّتي خلقتكِ أنتِ أيضاً، هذا الإله الّذي أحبّكِ إلى درجة أنّه عَبْر ألم كنتِ تشعرين به في إنسانيّتكِ كأُمّ، وأُمّ لا تعرف عن الحياة الآتية، وبالتالي عن الانفصال المؤقّت عن لحم لحمها، قد قادكِ إليَّ. لقد أحبّكِ إلى درجة أنّه قادني إلى قيصريّة عندما كنتِ تقريباً تنازعين قرب جسد طفلتكِ الصغيرة الّذي كان قد بدأ يبرد بالفعل في النزاع. لقد أحبّكِ إلى درجة أنّه أعادها إليكِ، كيما تكون ماثلة أمامكِ على الدوام طيبة الله الحقّ وقدرته، وكيما تمتلكين كابحاً ضدّ كلّ إباحة وثنيّة، وتعزية في كلّ آلامكِ كامرأة متزوّجة. لقد أحبّكِ إلى درجة أنّه بألم آخر قد قَوّى فيكِ إرادة المجيء إلى الطريق، إلى الحقّ، إلى الحياة، والثبات فيها مع طفلتكِ، كيما هي على الأقلّ، منذ طفولتها المبكّرة، تمتلك ما هو تعزية وسلام، خلاص ونور في أيّام الأرض الحزينة، وأن تحظى بها كي تكون مصانةً مِن كلّ ما يؤلمكِ، في الجزء الأفضل مِن كيانكِ، وفي الجزء العاطفيّ. الأوّل، الّذي هو بالفطرة صالح ولا يطيق تحمّل الوحل القاتم الّذي هو مُجبَر على العيش فيه. والثاني، الّذي هو غير منتظم في صلاحه.
هذا لأنّكِ وثنيّة في مشاعركِ يا امرأة. هذا ليس خطأكِ. إنّه خطأ العصر الّذي تعيشين فيه، وخطأ الوثنيّة الّتي نشأتِ فيها. فقط مَن هو في الدين الحقّ يُحسِن إعطاء المشاعر قيمتها، مداها، ومظاهرها الصحيحة. فأنتِ، الأُمّ الّتي لا تعرف الحياة الأبديّة، كنتِ تحبّين طفلتكِ بطريقة فوضويّة، وبرؤيتكِ إيّاها تموت، كنتِ تتمرّدين بيأس على هذه الخسارة، وقد أفقدكِ الموت الوشيك صوابكِ. كَمَن يرى مجنوناً يقبض على الشخص الأعزّ عليه، ويراه معلّقاً فوق هوّة لن يعود يمكنه العودة مِن قاعها إذا ما سقط فيها، لا بل لن يكون مستطاعاً بعد إعادته حتّى جثّة باردة لأجل قبلة محبّته، هكذا كنتِ ترين عزيزتكِ فوستا معلّقةً فوق هوّة العدم… أُمّ مسكينة ما كانت لتحظى بعد بابنتها! لا بجسدها، ولا بروحها. العدم. النهاية، النهاية المحتومة الّتي هي الموت لأولئك الّذين لا يؤمنون بالحياة الروحيّة.
أنتِ، الزوجة الوثنيّة، الـمُحِبّة، الـمُخلِصة، قد أحببتِ في زوجكِ حُبّاً جسديّاً إلهك الأرضيّ، إلهك الجميل الّذي كان يُعبَد مِن قِبَلكِ، حاطّاً مِن كرامتك إلى مستوى خنوع عبدة. لتكن الزوجة خاضعةً لزوجها، متواضعة، وفيّة وعفيفة. نعم. فهو، الرجل، رئيس العائلة. إنّما الرئيس لا يعني الطاغية. الرئيس لا يعني السيّد النَزَويّ المسموح له بكلّ نزوة، ليس على الجسد وحسب، بل على الجزء الأفضل لعروسه. أنتم تقولون: "حيث أنتَ تكون يا غايوس، هناك أكون أنا غايا[1]". أيّتها النسوة المسكينات اللواتي مِن مكان حيث الإباحة موجودة فيه حتّى في أساطير آلهتكم، أولئك اللواتي منكنّ لسن بفاجرات جامحات، كيف يمكنكنّ أن تكنّ حيث يكون أزواجكنّ؟ إنّه أمر حتميّ بالنسبة لِمَن هي ليست إباحيّة ولا فاسدة، أن تنفصل بنفور وتكابد ألماً مبرّحاً بحقّ، كأنّ أوتاراً تتمزّق، تَفَجُّع، انهيار لكلّ التعبّد نحو الزوج المعتبر دوماً كإله، عندما تكتشف أنّ ذاك الّذي كانت تعبده كأنّه إله، هو كائن بائس، تسيطر عليه حيوانيّة وحشيّة، إباحيّ، فاسق، لاهٍ، غير مبالٍ، يسخر مِن مشاعر زوجته وكرامتها.
لا تبكي. أنا أيضاً أعلم كلّ شيء، وحتّى دونما حاجة إلى تقارير قادة المئة. لا تبكي يا امرأة. بدلاً مِن ذلك تَعَلّمي أن تحبّي زوجكِ ضمن النظام.»
«لم أعد أستطيع أن أحبّه. فهو لم يعد يستحقّ ذلك. إنّني أحتقره. لن أحطّ مِن قدر نفسي بمجاراته، إنّما لم أعد أستطيع أن أحبّه. لقد انتهى كلّ شيء بيننا. لقد تركتُه يرحل… دون أن أحاول إبقاءه… في قرارة نفسي كنتُ ممتنّةً له للمرّة الأخيرة لرحيله… لن أعاود البحث عنه. وفضلاً عن ذلك، متى كان رفيقاً لي؟ الآن وقد تحرّرتُ مِن تعبّدي له، فإنّني أتذكّر وأحكم على أفعاله. أكان يا ترى مع قلبي عندما كنتُ أبكي وجوب اللحاق به إلى هنا، تاركةً أُمّي المريضة ووطني، وقد كنتُ عروساً جديدة وعلى وشك الإنجاب؟ هو، مع أصدقائه، كان يضحك ساخراً، مِن دموعي وغثياناتي، محذّراً إيّاي فقط مِن توسيخ ثوبه. هل كان يا ترى إلى جانبي في حنين اغترابي؟ لا. كان خارجاً، مع أصدقائه، في الولائم الّتي لم تكن تسمح حالتي بالذهاب إليها… هل كان ربّما ينحني معي فوق مهد المولودة؟ لقد ضحك حين أروه الفتاة قائلاً: "إنّني لراغب بدفنها. فأنا لم أضع عليَّ نير الزواج كي أحظى بإناث". ولم يحضر التطهير قائلاً عنه: "تمثيليّة عديمة الفائدة". ولأنّ الصغيرة كانت تبكي، فقد قال وهو يخرج: "أعطوها اسم ليبيتينا، ولتكن مكرّسةً للآلهة". وعندما كانت فوستا تحتضر، هل شاركني قلقي؟ أين كان في الليلة الّتي سبقت مجيئكَ؟ في منزل فاليريان لوليمة. إنّما كنتُ أحبّه، فقد كان، وقد قلتَ الصواب، كان آلهتي. كلّ شيء فيه كان يبدو لي صالحاً، صائباً. كان يسمح لي بأن أحبّه… وكنتُ العبدة الأكثر عبوديّة لإرادته. أتعلم لماذا نبذني؟»
«أعلم ذلك. لأنّ النَّفْس قد استيقظت في جسدكِ، ولم تعودي أنثى، بل امرأة.»
«تماماً. لقد أردتُ أن أجعل مِن منزلي منزلاً فاضلاً… وهو طلب إرساله إلى أنطاكية إلى عند القنصل، فارضاً عليَّ عدم اللحاق به، مصطحباً معه عبداته المفضّلات. آه! لن ألحق به! لديّ ابنتي. لديّ كلّ شيء.»
«لا. ليس لديكِ كلّ شيء. لديكِ جزء، جزء صغير مِن الكلّ، ما تحتاجينه كي تكوني فاضلة. الكلّ هو الله. يجب ألاّ تكون ابنتكِ سبب ظلم، بل عدل، نحو الكلّ. لأجلها ومعها عليكِ واجب أن تكوني فاضلة.»
«لقد أتيتِ كي أعزّيكَ، وأنتَ مَن تعزّيني. إنّما قد أتيتُ أيضاً كي أسألكَ عن كيفيّة تربية هذه الطفلة كي أجعلها جديرة بمخلّصها. لقد فكّرتُ بأن أجعل مِن نفسي مهتدية لكَ، وأن أجعلها كذلك هي أيضاً...»
«وزوجكِ؟»
«آه! كلّ شيء قد انتهى معه.»
«لا. كلّ شيء يبدأ. إنّكِ ما تزالين زوجته. وواجب الزوجة الصالحة هو جعل قرينها صالحاً.»
«هو يقول بأنّه يريد أن يُطلّق. وسيفعل ذلك حتماً. لذلك...»
«وسيفعل ذلك. لكنّه لم يفعل ذلك بعد. وطالما لم يفعل، فأنتِ زوجته كذلك حتّى وفقاً لشريعتكم. وعلى هذا النحو فمن واجبكِ البقاء كزوجة في مكانكِ. ومكانكِ هو مُعاوِنة للزوج في المنزل، بجانب ابنتكِ، على مرأى الخدّام والعالم. إنّكِ تفكّرين: هو أعطى المثال السيّئ. هذا صحيح. إنّما هذا لا يعفيكِ مِن أن تُقدّمي أنتِ مَثَل فضيلة. هو قد رحل. هذا صحيح. أنتِ خذي مكانه بجانب ابنتكِ والخدّام.
ليس كلّ شيء مستحقّ اللوم في عاداتكم. فعندما كانت روما أقلّ فساداً، كانت نساؤها عفيفات، مجتهدات، وكنّ يخدمن الألوهة بحياة فضيلة وإيمان. وعلى الرغم مِن أنّ وضعهنّ البائس كوثنيّات كان يجعلهنّ يخدمن آلهةً زائفة، فإنّ الفكرة كانت صالحة. لقد كنّ يمنحن فضيلتهنّ لفكرة الدِّين، في احتياج احترام دِين، ألوهة كان اسمها الحقيقيّ مجهولاً لهنّ، إنّما الّتي كنّ يستشعرن وجودها، والّتي هي أعظم مِن الأولمب الفاسق، الّتي كانت الآلهة المنحطّة تستوطنه وفقاً للأساطير الميثولوجيّة [الخرافيّة]. إنّ أولمبكم لا وجود له، آلهتكم لا وجود لها. إنّما فضائلكم القديمة كانت ثمرة القناعة الحقّة بوجوب أن تكونوا فاضلين، كيما تنظر إليكم الآلهة بمحبّة؛ كانت ثمرة الواجب الّذي شعرتم به تجاه الألوهة الّتي كنتم تعبدونها. إنّكم في عيون العالم، وبخاصّة عالمنا اليهوديّ، كنتم تبدون حمقى لهذا التكريم مِن جانبكم لما لم يكن له وجود. إنّما بالنسبة للعدل الأزليّ والحقّ، بالنسبة إلى الله العليّ، الخالق الأوحد والكليّ القدرة، خالق كلّ الخليقة والأشياء، فتلك الفضائل، ذاك الاحترام، ذلك الواجب، لم تكن عبثاً. إنّ الخير هو دوماً خير، للإيمان دوماً قيمة إيمان، للدِين دوماً قيمة دِين، إذا ما كان الّذي يتبعها ويمارسها ويمتلكها مقتنعاً أنّه في الحقّ.
إنّني أحثكِ على الاقتداء بنسائكن الراقيات القديمات، المجتهدات والوفيّات، بالبقاء في مكانكِ، عموداً ونوراً في منزلكِ ولمنزلكِ. لا تظنّي بأنّ احترام الخدم لكِ ينقص لأنّكِ بقيتِ وحدكِ. فقد خدموكِ إلى الآن بدافع خوف، وأحياناً بشعور كراهية خفيّ وتمردّ. ومِن الآن فصاعداً سوف يخدمونكِ بمحبّة. فالتعساء يحبّون التعساء. عبيدكِ يعرفون الألم. إنّ فرحكِ كان بالنسبة لهم مِنْخَساً مُرّاً. وآلامكِ، وقد جرّدتكِ مِن بَريق العشيقة البارد، بأقبح معاني هذه الكلمة، سوف تُلبِسكِ نور شفقة دافئ. ستكونين محبوبةً يا فاليريا، مِن قِبَل الله ومِن قِبَل ابنتكِ ومِن قِبَل خدّامكِ. وحتّى لو لم تعودي الزوجة، إنّما الـمُطَلَّقة، فتذكّري (يسوع ينهض) أنّ الانفصال الشرعيّ لا يلغي واجب أن تكون المرأة وفيّةً لِقَسَمها كزوجة.
أنتِ تودّين دخول دِيننا. إنّ أحد تعاليمه هو أنّ المرأة هي لحم مِن لحم الزوج، وأنّ لا شيء ولا أحد يمكنه أن يفصل ما جعله الله جسداً واحداً. أيضاً نحن لدينا الطلاق. لقد تأتّى بمثابة الثمرة السيّئة للفسق البشريّ، للخطيئة الأصليّة، لفساد البشر. لكنّه لم يأتِ تلقائيّاً مِن الله. إنّ الله لا يغيّر كلامه. والله قال، موحياً لآدم، الّذي كان لا يزال بريئاً، ومتحدّثا بالتالي إلى ذكاء لم تشوّشه الخطيئة، بأنّه على الزوجين، ما أن يتّحدا، أن يكونا جسداً واحداً. واللحم لا ينفصل عن اللحم إلّا بمصاب موت أو مرض.
إنّ الطلاق الموسويّ، الممنوح لتحاشي خطايا فظيعة، لا يَمنح المرأة سوى قدر ضئيل مِن الحرّيّة. إنّ الـمُطَلَّقة هي دوماً أدنى درجة في نظر البشر، سواء لبثت مُطَلَّقة، أو انتقلت إلى زواج جديد. في حكم الله هي تعيسة إن غدت مُطَلَّقة بسبب عدائيّة الزوج ولبثت مُطَلَّقة، إنّما هي ليست سوى خاطئة، زانية، إن غدت كذلك بسبب خطاياها الخاصّة المخزية أو تزوّجت مرّة ثانيةً. أمّا أنتِ فإن أردتِ الدخول في دِيننا، وتفعلين ذلك كي تتبعيني، حينئذ، أنا، كلمة الله، أقول لكِ، وقد حلّ زمن الدِين الجديد، ما أقوله للكثيرين، ليس مسموحاً للإنسان أن يُفرّق ما جمعه الله، وزانٍ دوماً هو الّذي ينتقل، أو الّتي تنتقل، إلى زواج آخر في حياة القرين.
الطلاق هو بغاء شرعيّ، إذ يضع الرجل والمرأة في موضع ارتكاب خطايا فسق. فالمرأة الـمُطَلَّقة تلبث بصعوبة أرملة رجل حيّ، وأرملة وفيّة. والرجل الـمُطَلَّق لا يبقى أبداً وفيّاً للاقتران الأوّل. وسواء هو أم هي، بالانتقال إلى زيجات أخرى، يهبطان مِن مرتبة البشر إلى مرتبة البهائم، المسموح لها بتبديل الأنثى عند كلّ نداء للحواس. إنّ الزنا الشرعيّ، الخَطِر حيال الأسرة والوطن، هو جريمة بحقّ الأبرياء. على أطفال الـمُطَلَّقين أن يُحاكِموا أهلهم. وإنّه لقاسٍ حكم الأبناء! على الأبناء إدانة أحد الوالدين على الأقلّ. والأطفال يُحكَم عليهم، بسبب أنانية الوالِدَين، بحياة عاطفيّة مشوّهة. وإذا ما أضيف بعد ذلك إلى النتائج العائليّة للطلاق، الّذي يحرم الأبناء الأبرياء مِن الأب أو الأُمّ، أضيف الزواج الجديد للزوج الّذي عُهِد إليه بالأبناء، فإلى إدانة أحد الوالدين بالتسبّب بحياة عاطفيّة مشوّهة، يضاف التسبّب بالتشوّه الآخر، تشوّه الخسارة، الشاملة نوعاً ما، لعاطفة الوالد الآخر، الّذي فصله أو شغله كلّياً الحبّ الجديد أو أطفال الزواج الجديد.
إنّ الحديث عن عرس، عن زواج، في حال اقتران جديد لـِمُطَلَّق أو مُطَلَّقة، هو تدنيس لماهية الزواج وجوهره. فقط موت أحد الزوجين والترمّل الّذي ينتج عنه بالنسبة للآخر هو ما يمكن أن يبرّر الزواج الثاني. رغم أنّني أرى أنّه مِن الأفضل الخضوع للحكم العادل دوماً للّذي يضبط مصائر البشر، والانعزال في العفّة، حين يكون الموت قد أنهى الحالة الزوجيّة، بالتكرّس الكامل للأطفال، ومحبّة القرين المنتقل للحياة الأخرى في أطفاله. وهي محبّة مجرّدة مِن كلّ مادّيّة، محبّة مقدّسة وحقيقيّة.
يا للأبناء المساكين! أن يعرفوا بعد الموت، أو انهيار المنزل، قسوة أب ثانٍ أو أُمّ ثانية، وقلق رؤية الملاطفات مشتركة مع أبناء آخرين ليسوا إخوة!
لا. لن يوجد طلاق في ديني. وزانٍ وخاطئ سيكون مَن يبرم طلاقاً مدنيّاً كي يعقد زواجاً جديداً. إنّ الشريعة البشريّة لن تبدّل قراري. فالزواج في ديني لن يعود بعد عقداً مدنيّاً، وعداً أخلاقيّاً، مبرماً ومصادقاً عليه مِن قِبَل شهود منوطين بالأمر. إنّما سيكون رباطاً لا ينفصم، تُقيّده، تَشدّه، تُقدّسه القدرة المقدّسة الّتي سأمنحها له، سيغدو سرّاً. كي أجعلكِ تفهمين: طقساً مقدّساً. قدرة سوف تساعد على ممارسة كلّ الواجبات الزوجيّة بقداسة، إنّما ستكون أيضاً تأكيداً لعدم انفصام الرابطة.
إنّ الزواج حتّى الآن هو عقد طبيعيّ وأخلاقيّ بين شخصين مِن جنسين مختلفين. وبدءاً مِن اللحظة الّتي ستحلّ فيها شريعتي، فسوف يمتدّ إلى نَفْس الزوجين. وسوف يغدو بالتالي عقداً روحيّاً كذلك، يقرّه الله بواسطة خدّامه. إنّكِ الآن تعلمين أنّ ما مِن شيء فوق الله. وبالتالي، فإنّ ما يكون قد جمعه هو، ما مِن سلطة، شريعة أو نزوة بشريّة يمكنها أن تفرّقه بعد.
إنّ "حيث أنتَ تكون يا غايوس، هناك أكون أنا غايا[1]" الّتي مِن طقسكم، تستمرّ فيما بعد في طقسنا، في طقسي، لأنّ الموت ليس نهاية، بل انفصال مؤقّت للزوج والزوجة، وواجب المحبّة يدوم أيضاً ما بعد الموت. لهذا أقول بأنّني أريد العفّة لدى الأرامل. لكنّ الإنسان لا يُحسِن أن يكون عفيفاً. لذلك أقول أيضاً أنّ الزوجين لديهما واجب متبادل لتحسين أداء بعضهما البعض.
لا تهزّي رأسكِ. هذا هو الواجب، وهذا الواجب ينبغي إتمامه لِمَن يريد حقّاً أن يتبعني.»
«إنّكَ قاسٍ اليوم يا معلّم.»
«لا. أنا معلّم. وأمامي مخلوقة يمكنها أن تنمو في حياة النعمة. إنّكِ لو لم تكوني على ما أنتِ عليه، لفرضتُ عليكِ أقلّ. إنّما بكِ صلابة جيّدة، والعذاب ينقّي معدنكِ أكثر فأكثر ويقويّه. ستتذكّرينني يوماً وتباركينني لكوني على ما أنا عليه.»
«إنّ زوجي لن يعاود الرجوع إلى الوراء...»
«وأنتِ سوف تمضين قُدُماً. سوف تسيرين على طريق البرّ، ممسكةً بريئتكِ بيدها. دونما كراهية، دونما انتقام، وكذلك دونما انتظار بلا جدوى، وبلا ندم على ما فُقِد.»
«تعلم ذلك إذن، أنّني فقدتُه!»
«أعلم ذلك: إنّما لستِ أنتِ، بل هو مَن فقدكِ. لم يكن يستحقّكِ. الآن أنصِتي… الأمر قاسٍ. نعم. لقد جلبتِ لي وروداً وابتسامات بريئة لتعزيتي… أنا… لا يمكنني إلّا أن أعدّكِ لحمل إكليل شوك الزوجات المهجورات… إنّما فكّري. لو كان يمكن للزمن أن يعود إلى الوراء، ويعيدكِ إلى ذاك الصباح الّذي كانت فيه فوستا تحتضر، ولو كان قلبك قد وُضِع أمام الاختيار بين ابنتكِ وزوجكِ، وكان عليكِ حتماً أن تفقدي أحدهما، فَمَن كنتِ لتختاري؟»
المرأة تفكّر، شاحبة إنّما شُجَاعة في ألمها، بعد بعض الدموع الّتي سكبتها في بداية الحِوار… ثمّ تنحني فوق صغيرتها، الّتي جلست على الأرضيّة وتلهو بوضع زهور بيضاء صغيرة حول قدميّ يسوع، تحملها، تعانقها وتصيح: «هي مَن سأختار، فلها يمكنني منح قلبي بذاته، وجعلها تنمو كما تعلّمتُ كيف يجب أن نحيا. أيا طفلتي! وأن نكون مجتمعتَين كذلك في ما وراء الحياة. أنا أُمّها دوماً، وهي دوماً ابنتي!» وتغطّيها بقبلات، فيما الصغيرة تشدّ على عنقها وهي بكلّيتها محبّة وابتسامات.
«قُل لي، آه! قُل لي يا معلّم، أنتَ الّذي تُعلّم العيش ببطولة، ماذا، كيف أربّيها كي نكون كلانا في مملكتكَ؟ أيّ كلام، أيّة أفعال أُعلّمها؟...»
«لا ضرورة لكلام وأفعال خاصّة. كوني كاملةً كيما تعكس هي كمالكِ. أحبّي الله والقريب كي تتعلّم هي أن تحبّ. عيشي على الأرض بعواطفكِ تجاه الله. هي سوف تقتدي بكِ. للآن هكذا. ولاحقاً أبي، الّذي أحبّكما بطريقة خاصّة، سوف يوفّر احتياجاتكما الروحيّة، وتغدوان حكيمتين في الإيمان الّذي سيحمل اسمي. هذا كلّ ما يتوجّب فِعله. في محبّة الله ستجدين كلّ كابح للشرّ. في محبّة القريب ستحظين بمعونة ضدّ غمّ الوحدة. وعَلّمي المغفرة. لنفسكِ… ولطفلتكِ. أتفهمين ما الّذي أقصده؟»
«أفهم… هذا صحيح… إنّني أغادركَ يا معلّم. بارك امرأة مسكينة… مسكينة أكثر مِن متسوّلة لديها رفيق وفيّ...»
«أين أنتِ الآن؟ في أورشليم؟»
«لا. في بِتّير. إنّ يُوَنّا، الطيّبة جدّاً، قد أرسلتني إلى قصرها… قد كنتُ أعاني كثيراً هناك فوق… سوف أبقى فيه إلى أن تأتي يُوَنّا إلى أورشليم، وذلك سيكون قريباً. إنّها تنحدر إلى اليهوديّة مع أُمّكَ والتلميذات الأخريات عند دفء الربيع الأوّل. بعدها سأكون معها لبعض الوقت. بعد ذلك ستأتي الأخريات وأذهب معهنّ. إنّما الوقت سيكون قد أبرأ الجرح.»
«الوقت، وفوق كلّ شيء الله وابتسامة طفلتكِ. وداعاً يا فاليريا. ليعزّكِ ويحمكِ الله الحقّ الّذي تبحثين عنه بروح صالحة.» يسوع يضع يده على رأس الصغيرة مُبارِكاً إيّاها. ثمّ يدنو مِن الباب المغلق سائلاً: «أأتيتِ وحدكِ؟»
«لا. مع مُعتَقَة. إنّ العربة تنتظرني في الحرج عند أوّل القرية. هل سنلتقي بعد يا معلّم؟»
«في عيد التكريس سأكون في أورشليم، في الهيكل.»
«سأكون هناك يا معلّم. إنّني بحاجة إلى كلامكِ لحياتي الجديدة...»
«اذهبي بسلام. فالله لا يترك مَن يبحث عنه بلا عون.»
«إنّني أؤمن… آه! كم عالمنا الوثنيّ كئيب!»
«الكآبة في كلّ مكان حيث لا حياة حقيقيّة في الله. حتّى في إسرائيل يبكون… وذلك بسبب أنّهم ما عادوا يعيشون في شريعة الله. وداعاً. ليكن السلام معكِ.»
المرأة تنحني انحناءة عميقة، وتلمّح للصغيرة بأمر ما. والصغيرة ترفع وجهها، تمدّ ذراعيها الصغيرين، وتُردّد بصوتها الّذي يشبه صوت عصفور صغير: «سلاماً أيّها السيّد يسوع!»
يسوع ينحني، ليقطف مِن الفم الصغير القبلة البريئة الّتي تتكوّن فيه، ويباركها مرّة أخرى… ثمّ يعاود الدخول إلى الغرفة ويجلس مستغرقاً بالتفكير قرب الزهور المبعثرة على الأرض.
يمضي بعض الوقت هكذا. ثمّ أحدهم يقرع الباب.
«تعال.»
الباب ينفتح قليلاً ويطلّ مِن الفتحة الوجه النزيه لبطرس.
«أهذا أنتَ؟ تعال...»
«لا. أنتَ مَن يجب أن يأتي إلينا. إنّ الجو بارد هنا. يا للزهور الجميلة! مُكْلِفة!» بطرس يراقب معلّمه فيما يتكلّم.
«نعم، مُكْلِفة. إنّما الفِعل والطريقة الّتي تمّ تقديمها بها لهما قيمة أكثر مِن الزهور. لقد جلبتها لي ابنة فاليريا الصغيرة، الرومانيّة صديقة كلوديا.»
«إيه! أعلم! أعلم! ولماذا؟»
«كي تعزّياني. إنّهما تعلمان ما أكابده، وفاليريا قد أتتها هذه الفكرة، لقد فكّرت بأنّ زهوراً مِن بريئة يمكن أن تعزّيني...»
«رومانيّة!... ونحن أبناء إسرائيل لا نمنحكَ سوى الألم… إنّ ظنّ يهوذا كان صحيحاً. كان يقول بأنّه رأى عربة متوقّفة، وأنّ المرأة كانت حتماً رومانيّة… و… وكان مضطرباً يا معلّم...» بطرس مستفسراً كلّيّاً.
لكنّ يسوع يقول فقط: «أين يهوذا؟»
«في الخارج. أقصد على الطريق، عند الحرج. يريد أن يرى مَن أتى إليكَ...»
«لننزل.»
أَصبَح يهوذا في المطبخ. إنّه يلتفت وقد رأى يسوع يدخل، ويقول: «حتّى ولو أردتَ أن تنكر، فإنّكَ لن تستطيع أن تنكر أن تلك المرأة قد أتت كي… تتذمّر مِن أمر ما! أما زال لديهنّ ما يقلنه بعد؟ أليس لديهنّ انشغالات أخرى سوى التجسّس والوشاية و...»
«لستُ مضطراً لأن أجيبكَ. إنّما أفعل ذلك لأجل الجميع. وسمعان بطرس يعلم بالفعل مَن هي، وللجميع أقول لماذا أتت. حتّى أولئك الّذين يبدون في الظاهر أنّهم الأكثر سعادة يمكن أن يكونوا بحاجة إلى تعزية ونصح… أندراوس، اصعد لجمع الزهور الّتي جلبتها الفتاة الصغيرة واحملها إلى الصغير لاوي.»
«لماذا؟»
«لأنّه يحتضر.»
«يحتضر؟ لكنّني رأيتُه عند الساعة الثالثة، وقد كان بصحّة جيدة؟» يقول برتلماوس مذهولاً.
«كان بصحّة جيدة، قبل المساء سيكون ميتاً.»
«إن كان بهذا السوء، فلن يستمتع بالزهور...»
«لا. إنّما في المنزل الـمُرَوَّع، الزهور المرسلة مِن المخلّص سوف تقول كلاماً نيّراً.»
يسوع يجلس، فيما الجميع يتحدّثون عن هشاشة الحياة، وإليز ترتدي رداءها قائلةً: «أذهب أنا أيضاً مع أندراوس… يا للأُمّ المسكينة!...»
يُرى أندراوس وإليز مع الزهور في أيديهما يبتعدان…
يسوع يصمت. كذلك يهوذا يصمت. حائراً. يسوع صامت إنّما غير صارم… يهوذا يدور حوله، تنخسه الرغبة في المعرفة، القلق الـمُعذِّب لشخص ضميره ليس في سلام. إنّما ينتهي إلى جذب بطرس على حده وسؤاله. يطمئنّ بعد أن تحدّث مع بطرس، ويذهب ليُنكّد على متّى الّذي يكتب بهدوء فوق زاوية مِن الطاولة.
يعود أندراوس متعجّلاً، يتكلّم لاهثاً: «يا معلّم، ...إنّ الطفل يحتضر بحقّ… بشكل مفاجئ… تحسبهم مجانين… لكن عندما قالت إليز: "هو الربّ الّذي أرسلها"، وأنا… كنتُ أعتقد بأنّهما سيفهمان أنّها: "للسرير الجنائزي"، فإنّ الأُمّ والأب… قد قالا معاً" آه! هذا صحيح! اهرع وناده. هو سوف يشفيه".»
«هي كلمة الإيمان. هيا بنا.» ويخرج يسوع راكضاً تقريباً. بالطبع يتبعه الجميع، حتّى العجوز يوحنّا، وهو يعرج، خلف الجميع.
المنزل عند طرف البلدة. لكنّ يسوع يصله سريعاً ويشقّ له ممرّاً وسط الناس الّذين يزحمون الباب المفتوح. يمضي مباشرةً إلى غرفة في نهاية المدخل، لأنّه منزل واسع يقطنه كُثُر، ربّما إخوة فيما بينهم.
في الغرفة، الأب، الأُمّ وإليز، مُنحنون فوق السرير المهيّأ بعجالة… لا يَرَون يسوع إلّا بعدما يقول: «السلام لهذا المنزل.»
حينئذ، يغادر الأبوان البائسان السرير ويرتميان عند قدميّ يسوع. وحدها إليز تبقى حيث هي، مُنكبّةً على فرك الأطراف الّتي تبرد بمواد عطريّة.
الطفل يلفظ أنفاسه الأخيرة بحقّ، إنّ لجسده ثقل واستسلام الموت، والوجه الصغير شمعيّ والـمِنخَرَان قَاتِـمَان والشفتان بنفسجيّتان. الصغير يتنفّس بصعوبة، مع تشنّجات في الصدر الصغير، وكلّ نَفَس يبدو أنّه الأخير مِن فرط ما هو بعيد عن سابقه.
الأُمّ تبكي ووجهها فوق قدميّ يسوع. الأب، المنحني هو كذلك حتّى الأرض، يقول: «أَشفِق! أَشفِق!» لا يُحسِن قول شيء آخر.
يسوع يقول: «لاوي، تعال إليّ.» ويمدّ ذراعيه.
الطفل، هو صغير في حوالي الخامسة مِن العمر، ينتابه ما يشبه الرعشة، كما لو أنّ شخصاً قد ناداه بصوتٍ عالٍ فيما كان ينام. يجلس دونما صعوبة، يفرك عينيه بقبضتيه الصغيرتين، ينظر حوله باندهاش، وإذ يرى يسوع يبتسم له، فإنّه يرتمي مِن سريره الصغير ويمضي واثقاً، بجلبابه الصغير، نحو المخلّص.
الأبوان، المنحنيان، لا يريان شيئاً. لكنّ هتافات إليز الّتي تصيح: «يا للصلاح الأزلي!»، وصياح الرُّسُل والفضوليّين الّذين يُطلِقون مِن الرّدْهة «آه!» انذهال، تُنبّههما لما يحدث، يرفعان وجهيهما عن الأرض، ويريان ابنهما الصغير هناك، بكامل صحّته كما لو أنّه لم يكن محتضراً.
الفرحة تُضِحك، تُبكِي، تدفع إلى الصياح وإلى الصمت، وفقاً لردّ فعل كلّ شخص. هنا هي تُحدِث ذهولاً صامتاً، خائفاً إلى حدّ ما… فهناك فرق كبير بين الوضع السابق والوضع الحاليّ، والأبوان المسكينان، اللذان قد صعقهما الألم، يتردّدان في تقبّل الفرح.
إنّما أخيراً يتمكّنان مِن ذلك، بينما أصبح الطفل بين ذراعيّ يسوع، إذّاك يتبع الصمت طوفان مِن الكلمات الممزوجة بأصوات فَرَح وتبريكات، مِن الصعب متابعة هذا السيل مِن الكلمات الّتي تفيض بعضها على بعض بشكل فوضويّ. إنّني بموجبها أعيد ترتيب الأحداث، فالصبي، الّذي كان يلعب في البستان حوالي الساعة السادسة، كان قد عاد إلى المنزل شاكياً مِن آلام في البطن. والجدّة حملته بين ذراعيها وأبقته قرب النار، وكان يبدو أنّه يتحسّن. إنّما بعد ذلك، قبيل الساعة التاسعة، بدأ يتقيّأ موادّ معويّة ودخل في حالة احتضار مباشرة. إنّه التهاب الصّفاق [البيريتوان] الصاعق المعتاد.
وهرع الأب إلى أورشليم عند أولى علامات المرض، وعاد مع طبيب، الّذي إذ رأى الطفل، وقد بدأ بالتقيّؤ في تلك الأثناء، فقال: «لا يمكن أن يعيش.» ورحل. وبالفعل فَمِن دقيقة إلى دقيقة كانت حالة الطفل تتدهور وجسده يبرد، والأبوان، في كرب المصيبة المفاجئة، لم يتمكّنا مِن التفكير في خلاصه الوشيك. وفقط عندما دخل أندراوس مع إليز مع زهور قائِلَين: «يسوع يرسلها إلى لاوي.» حلّ بهما نور داخليّ وقالا: «يسوع سوف يخلّصه.»
«وقد خلّصتَه أيّها المبارك للأبد! زهوركَ! الرجاء! الإيمان! آه! نعم! الإيمان بمحبّتكَ لنا! إنّما كيف علمتَ؟ أيّها المبارك! اطلب منّا ما تشاء. مُرنا كما لعبدين! إنّنا مدينان لكَ بكلّ شيء!...»
يسوع ينصت إليهما وهو لا يزال يحتضن الطفل بين ذراعيه. يدعهما يتكلّمان إلى أن يتعبا، إلى أن تغدو مسترخية أعصابهما الخاضعة لتوتّر مهول. ثمّ يقول برفق: «أُحِبّ الأطفال والقلوب الوفيّة. قد كنتم كلّكم يا أهل نوبة طيّبين معي. وإذا ما كنتُ طيّباً مع مَن يكرهونني، فماذا أمنح مَن يحبّونني؟ لقد كنتُ أعلم… وكنتُ أعلم أيضاً أنّ الألم كان يجعلكما تنسيان ينبوع الحياة. وأردتُ أن أدلّكما على الطريق...»
«إنّما لماذا لم تأتِ بذاتكَ يا ربّ؟ أكنتَ تخشى ربّما ألّا نستقبلكَ؟»
«لا. لقد كنتُ أعلم بأنّكم كنتم لتستقبلوني بمحبّة. إنّما مِن بين مَن هم حولنا كان هناك مَن هو بحاجة إلى الاقتناع بأنّني لا أجهل شيئاً فيما يخصّ البشر وحال القلوب. وأردتُ أيضاً أن يَفهَم آخرون أن الله يستجيب لِمَن يبتهلون إليه بإيمان. كونوا الآن في سلام. وانموا دوماً أكثر في الإيمان برحمة الله. ليكن السلام معكم جميعاً. وداعاً يا لاوي. اذهب إلى أُمّكَ الآن. وداعاً يا امرأة. كرّسي للربّ أيضاً الّذي تحملينه في أحشائكِ، ذكرى للصلاح الّذي أبداه الربّ تجاهكِ. وداعاً أيّها الرجل. احفظ روحكَ في البرّ.»
يستدير كي يرحل، مارّا بصعوبة بين الأقارب الّذين يتزاحمون عند المدخل: جدود، أعمام، أبناء أعمام الّذي تمّت عليه المعجزة، الّذين يريدون جميعهم التحدّث إلى يسوع، مباركته، أن يباركهم، تقبيل ثيابه، يديه…
ومِن ثمّ، بعد الأقرباء كثيري العدد، هناك أهل القرية الّذين يريدون أن يفعلوا الأمر ذاته، إنّما هؤلاء يتدفّقون على الطريق خلف يسوع، تاركين أهل المنزل الّذي باركته المعجزة لفرحهم. وعلى الدروب الّتي أصبحت معتمة، مع الصخب المعتاد لساعات الابتهاج، فإنّ نوبة بأسرها تصحب يسوع ثانيةً إلى المنزل الصغير الّذي ليوحنّا، وتستلزم كلّ سُلطة الرُّسُل لإقناع الأهالي بالعودة إلى منازلهم كي يتركوا المعلّم بسلام، وإلى السُلطة عليهم أن يضيفوا أيضاً وسائل أكثر حزماً، كالتهديد بأنّهم إن لم يتركوه يرتاح، فإنّهم سيرحلون كلّهم مِن هناك في الغد، للنجاح في مسعاهم.
وأخيراً، يمكن للمتعب أن يرتاح.
----------
[1] (Ubi tu Gaius, ibi ego Gaia) صيغة طقسية للزفاف الروماني.