ج2 - ف86

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO MEا

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثاني / القسم الثاني

 

86- (يسوع في منطقة المياه الحلوة: "أنا هو الربّ إلهكَ")

 

27 / 02 / 1945

 

لقد تَضاعَفَ اليوم عدد الحضور عمّا كان عليه في الأمس. فهنالك كذلك أشخاص ليسوا مِن الوسط الشعبيّ. بعضهم أتوا على ظهر الحمير وهم يتناولون طعامهم في العنبر. وفي انتظار المعلّم، رَبَطوا مَطاياهم إلى الأعمدة.

 

اليوم بارد ولكنّه صافٍ. الناس يتحدّثون فيما بينهم، والأكثر ثقافة منهم يَشرَحون مَن يكون، ولماذا يتحدّث المعلّم في هذا المكان. يقول أحدهم: «ولكن هل هو أعظم مِن يوحنّا؟»

 

«لا، إنّه مختلف. لقد كنتُ تابعاً ليوحنّا، وهو السابق وصوت العدل. أمّا هذا فإنّه مَسيّا، صوت الحكمة والرحمة.»

 

«كيف عرفتَ ذلك؟» يَسأَل الكثيرون.

 

«ثلاثة تلاميذ، كانوا تابعين ليوحنّا، قالوا لي ذلك. لو كنتم تَعلَمون! لقد رأوه يُولَد. تصوّروا: لقد وُلِدَ مِن النور، نور عظيم جدّاً، لدرجة أنّهم، وقد كانوا رُعاة، فَرّوا خارج الحظيرة، وسط الحيوانات الـمَذعورة والـمُروَّعة. لقد رأوا بيت لحم تحترق، ثمّ هَبَطَ ملائكة مِن السماء وأطفأوا النار بأجنحتهم. وكان هو على الأرض، هو الطفل المولود مِن النور. وأَصبَحَت النار كلّها نجمة...»

 

«ولكن لا، ليس هكذا.»

 

«بلى هكذا. هذا ما قاله لي، في طفولتي، رجل كان سائساً في بيت لحم. أمّا الآن وقد أَصبَحَ مَسيّا رجلاً، فإنّه يتباهى بذلك.»

 

«لا، وليس ذاك كذلك. فالنجمة أتت فيما بعد. لقد أتت مع مجوس الشرق. أحدهم كان مِن سُلالة سليمان، وبالتالي فهو قريب لمَسيّا، فهو مِن سُلالة داود، وداود كان أباً لسليمان. وسليمان وَقَعَ في حُبّ مَلِكَة سبأ لأنّها كانت جميلة، وبسبب الهِبات التي جَلَبَتها له. فأَنـجَبَت له وَلَداً هو مِن اليهوديّة، مع كونه، في آن، مِن ما وراء النيل.»

 

«ولكن ما الذي تَرويه؟ هل أنتَ مجنون؟!»

 

«لا. هل تريد القول إنّه ليس صحيحاً أنّه جَلَبَ له، وهو القريب، الطّيوب، كما هي العادة بين الملوك مِن تلك السُّلالة؟»

 

«أنا أعرف ما حَصَل.» قال آخر. «أعرف لأنّ لي صديقاً، هو إسحاق، وهو أحد الرُّعاة. إذن، وُلِدَ الصبيّ في إسطبل لبيت داود. هذا ما جاء في النبوءة...»

 

«ولكن، أليس مِن الناصرة هو؟»

 

«دعوني أتكلّم. وُلِدَ في بيت لحم لأنّه مِن نسل داود، وكان ذلك في زمن الـمَنشور. وقد رأى الرُّعاة نوراً، هو أروع ما وُجِدَ مِن نور. والأصغر سنّاً فيهم، لأنّه كان بريئاً، فقد كان أوّل مَن رأى ملاك الربّ. صوته الـمُتناغِم مثل قيثارة كان يقول: "لقد وُلِدَ المخلّص. اذهبوا وقَدِّموا فُروض العِبادة". وثمّ، ملائكة وملائكة كانت تُرنّم: "المجد لله والسلام للناس الصالحين". وذَهَبَ الرُّعاة ليَجِدوا طفلاً صغيراً في مِذوَد بين حمار وثور والأُمّ والأب. وقَدَّموا فروض العِبادة له، ثمّ أخذوه إلى بيت امرأة طيّبة. وكان الطفل ينمو، مثل كلّ الأطفال، جميلاً ولطيفاً ويملأ قلبَه الحبّ. ثمّ أتى مجوس ممّا وراء الفرات والنيل، لأنّهم رأوا نَجماً وتَعَرَّفوا مِن خلاله على نجم بَلْعام. ولكنّ الطفل حينئذ كان قادراً على المشي. والـمَلِك هيرودس أَصدَرَ أوامره بالمذبحة، نظراً لِغِيرته مِن مَلِك المستقبل. إلّا أنّ ملاك الربّ كان قد أَنذَرَ بالخطر. فمات أطفال بيت لحم، أمّا هو فلا، لأنّه كان قد هَرَبَ إلى ما أبعد مِن مطاريّا. ومِن ثمّ عاد إلى الناصرة ليعمل نجاراً. وعندما آن أوانه، بعدما بَشَّرَ به قريبه المعمدان، بدأ رسالته. في البداية بَحَثَ عن رُعاته. ولقد شَفى إسحاق مِن الشلل، بعد ثلاثين عاماً مِن العجز. وإسحاق هذا يعمل بلا كَلل للتبشير به.»

 

«ولكنّ تلاميذ المعمدان قالوا لي بالضبط تلك الكلمات!» يقول الأوّل وهو مَقهور.

 

«وهي صحيحة. أمّا ما هو غير ذلك فهو وصف السائِس. هل هو يتباهى بذلك؟ الأَولَى به لو يقول لسكّان بيت لحم أن يكونوا صالحين فيفعل أفضل. ولكنّه لم يستطع التبشير لا في بيت لحم ولا في أورشليم.»

 

«نعم! ولكن فَكِّر إذن إذا ما كان الكَتَبَة والفرّيسيّون يتقبّلون هذا الكلام. إنّهم أفاعي سامّة وضِباع، كما يُسمّيهم المعمدان.»

 

«أنا أودُّ لو أُشفَى. أترى؟ لديَّ ساق مصابة بالغنغرينا. لقد تحمَّلتُ عذاباً كاد يودي بي إلى الهلاك لأَصِل هنا على ظهر أتان. ولكنّني كنتُ قد بحثتُ عنه في صهيون، ولم يكن هناك...» يقول أحدهم…

 

«لقد هَدَّدوه بالموت.» يقول آخر.

 

«كلاب!»

 

«نعم، مِن أين أنتَ قادم؟»

 

«مِن اللدّ.»

 

«طريق طويلة.»

 

«أنا... أنا كنتُ أودُّ البوح له عن خطيئتي... لقد بُحتُ بها للمعمدان، ولكنّني هربت مِن كثرة اللوم الذي وَجَّهَهُ لي. اعتقَدتُ بعدم إمكانيّة الصفح عنّي...» يقول كذلك آخر.

 

«ماذا اقترفتَ إذن؟»

 

«الكثير مِن الشرّ. سوف أبوح له بذلك. ما قولكم؟ هل يلعنني؟»

 

«لا. فلقد سَمِعتُه يتحدّث في بيت صيدا، إذ صَادَفَ أن كنتُ هناك، ويا لحديثه!!! كان يتحدّث عن خاطئة. آه! كدتُ أتمنّى أن أكونها لأستحقّ كلامه!...» يقول عجوز فَارِضاً نفسه.

 

«ها هو ذا يأتي.» تهتف أصوات كثيرة.

 

«الرحمة! إنّني خَجِل!» يقولها مُرتَكِب الخطيئة ويهمّ بالهروب.

 

«إلى أين تهرب يا بنيّ؟ هل قلبكَ أسود كثيراً لتمقت النور إلى درجة تستوجب الهرب؟ هل أخطأتَ لدرجة جعلتكَ تخاف منّي أنا: الغفران؟ ولكن أيّة خطيئة يمكن أن تكون قد اقترفتَها؟ حتّى ولو كنتَ قد قتلتَ الله، فينبغي لكَ ألّا تخاف، إذا كانت لديكَ نَدامة حقيقيّة. لا تبكِ أو بالحريّ تعال، ولنبكِ معاً.» ويسوع الذي أَوقَفَ هروبه برفع يده، يُعانِقه بقوّة الآن. إلّا أنّه يلتفت إلى الذين ينتظرون ويقول لهم: «لحظة واحدة فقط، لمعالجة هذا القلب، ثمّ أعود إليكم.»

 

يبتعد عن البيت، وفيما هو ينعطف إلى الركن، يصطدم بالمرأة المحجّبة، وقد كانت تستمع إليه. يُحدّق يسوع بها لحظة، ثمّ يسير قُرابة العشر خطوات ويتوقّف: «ماذا فعلتَ يا بنيّ؟»

 

يجثو الرجل على ركبتيه. إنّه رجل في حوالي الخمسين مِن العمر. وقد أَحرَقَت الشهوات وجهه وأَتلَفَه ألم مُبرّح دَفين. يمدّ ذراعيه ويصرخ: «لكي أصرف على النساء الإرث الأبويّ كلّه، قَتَلتُ أُمّي وأخي... وبعدها لم أعد أشعر بالسلام... غِذائي... دم! نومي... كابوس... متعتي... آه! على صدر النساء، وفي صرختهنّ الماجنة، كنتُ أُحِسُّ بجثّة أُمّي المتجلّدة، وحَشرَجة أخي الـمَسموم. ملعونات هنّ نساء المتعة، الأفاعي السامّة، قناديل البحر، الشيقيات النَّهِمَة (نوع مِن الأسماك البحريّة المفترسة تتميّز بجلدها عديم الحراشف وشكلها الذي يشبه الأنقليس) هلاك، هلاك، هلاكي!»

 

«لا تلعن، فأنا لستُ ألعنكَ...»

 

«ألستَ تلعنني؟»

 

«لا. بل أبكي وأحمل خطيئتكَ على مِنكَبيّ!... كم هي ثقيلة! إنّها تُحطّم لي أعضائي، ولكنّني أَهصُرها بقوّة لأقضي عليها بدلاً منكَ... أمّا أنتَ فأمنحكَ الغُفران. نعم، إنّي أَغفر لكَ خطيئتكَ العظيمة.» ويَبسط يديه على رأس الرجل الذي يَجهَش بالبكاء ويصلّي: «يا أبتي، لأجله أيضاً يُسفَك دمي. في انتظار ذلك هي ذي دموعي وصلاتي. أبتي اغفر له لأنّه نادِم. فابنكَ الذي يعود إليه كلّ شيء في القضاء، يريد ذلك!...» ويَبقى هكذا بضعة دقائق أخرى، ثمّ ينحني ويُنهِض الرجل ويقول له: «الخطيئة قد غُفِرَت. وعليكَ الآن أن تُكفّر، بحياة تَوبة، عمّا تَبقّى مِن جريمتكَ.»

 

«هل غَفَرَ لي الله؟ وأُمّي؟ وأخي؟»

 

«ما يَغفره الله يَغفره الجميع. اذهب ولا تَعُد تُخطئ أبداً.»

 

يَجهَش الرجل بالبكاء بشكل أقوى ويُقَبِّل له يده. يتركه يسوع لدموعه ويعود إلى البيت. يبدو أنّ المرأة المحجّبة تَوَدُّ الذهاب للقائه، ولكنّها في النهاية تَخفض رأسها ولا تتحرّك. ويمرّ يسوع بجانبها دون أن يَنظُر إليها.

 

يَعود إلى مكانه. يتحدّث: «لقد عادت نَفْس إلى الربّ. لتتبارك قُدرته الكلّيّة التي تَنتَزِع النفوس التي خَلَقَها مِن أحابيل الشيطان، وتُعيدها إلى درب السماء. لماذا ضَلَّت تلك النَّفْس؟ لأنّها تاهت عن الشريعة.

 

قيل في الكتاب إنّ الربّ يَظهَر في سيناء بكامل قُدرته الرهيبة، ليقول كذلك مِن خلالها: "أنا الإله. هذه هي إرادتي. وهي ذي الصواعق جاهزة للمتمرّدين على إرادة الله". وقبل أن يتكلّم، أَمَرَ ألّا يَصعَد أحد مِن الشعب ليَنظُر إلى الكائِن، وأنَّ حتّى على الكَهَنَة أن يتطهّروا قبل الاقتراب مِن الحدود التي ثَبَّتَها الله كي لا يُصابوا بالضربات. كان ذلك لأنّ الزمن كان زمن العدل والاختبار. لقد كانت السماء مُغلَقَة، كما بصخرة، على سرّ السماء وعلى غضب الله، فقط سِهام العدالة كانت تسقط مِن السماء على الأبناء المذنبين. إنّما الآن، فلا. لقد أتى البارّ ليُتمّ كلّ عدل. لقد حان الوقت الذي تتحدّث فيه الكلمة الإلهيّة إلى الإنسان دون صاعقة ودون حدود، لتَمنَح الإنسان النعمة والحياة.

 

الكلمة الأولى للآب والربّ هي هذه: "أنا هو الربّ إلهكَ".

 

لا تمرّ لحظة مِن اليوم لا يتردّد فيها صوت هذه الكلمة ولا تَظهَر بصوت وإصبع الله. أين؟ في كلّ مكان... لا يتوقّف شيء عن قولها، مِن العشب حتّى النجمة، مِن الماء إلى النار، مِن الصوف إلى الغِذاء، مِن النور إلى الظُّلُمات، مِن الصحّة إلى المرض ومِن الغِنى إلى الفقر. كلّ شيء يقول: "أنا هو الربّ. أنا مَن وَهَبَكَ هذا، فِكرة منّي تمنحكَ إيّاه وفِكرة أخرى تنـزعه منكَ. فما مِن سلاح، مهما بَلَغَت قوّته، ولا أيّ دفاع يمكنه جعلكَ تُفلِت مِن إرادتي". فهي تهتف في صوت الهواء وتُرتّل في همس الماء، وتنتشر في عبير الزهور، وتَضرب قمّة الجبال. إنّها تهمس، تتحدّث، تنادي وتصرخ في الضمائر: "أنا هو الربّ إلهكَ".

 

لا تنسوا هذا أبداً! لا تَعموا عيونكم وتَصمّوا آذانكم، لا تَخنقوا ضميركم لكي لا تَسمَعوا هذه الكلمة. لن يتضاءل وجودها. لقد حان الوقت الذي فيه، على جدار قاعة الوليمة، أو على أمواج البحر الهائجة، وعلى شفاه الأطفال الضاحكة، أو على شحوب عجوز مُشرِف على الموت، على الوردة العَطِرَة أو في نتانة القبر، تَصِل مكتوبة بيد الله الناريّة. ويأتي الوقت الذي فيه، في سُكر الخمرة والمتعة، في خضمّ الأعمال، في سكون الليل وفي نُزهة مُنفَرِدة، تَرفَع صوتها وتقول: "أنا هو الربّ إلهكَ". وهذا الجَّسَد الذي تقبّله بنهم، وهذا الغذاء الذي تلتهمه بشراهة، وهذا الذهب الذي يُكدّسه بخلكَ، وهذا السرير الذي تمكث فيه بكسل، والصمت، والنوم، لا شيء يمكنه إسكاتها.

 

"أنا هو الربّ إلهكَ". الرفيق الذي لا يترككَ، الضيف الذي لا يمكنكَ طرده. هل أنتَ صالح؟ ها هو الضيف الرفيق يصبح خير صديق. هل أنتَ مُنحَرِف ومُذنِب خاطئ؟ ها هو الضيف الرفيق يصبح الـمَلِك الغاضِب ولا يمنح السلام. ولكنّه لا يُفارِق، لا يُفارِق، لا يُفارِق. لا يسمح بالانفصال عن الله لغير الـمُدانين المحكوم عليهم. ولكنّ هذا الانفصال هو الألم المبرّح الأبديّ الذي لا يَسكن أبداً. "أنا هو الربّ إلهكَ"، ويضيف: "الذي أَخرجَكَ مِن أرض مصر، من بيت العبوديّة". آه! حقيقة كم يقولها الآن بصوابيّة! مِن أيّ مصر، مِن أيّ مصر يخرجكَ ليقودكَ إلى الأرض الموعودة التي ليست هذا المكان، إنّما هي السماء! ملكوت الربّ الأزليّ، حيث لا جوع ولا عطش ولا برد ولا موت، بل كلّ ما فيه يتدفّق بالفرح والسلام، وحيث تَشبَع كلّ نَفْس مِن السلام والفرح.

 

إنّه ينتزعكم الآن مِن العبوديّة الحقيقيّة. هو ذا الـمُحَرِّر. إنّه أنا. لقد أتيتُ لأحطّم قيودكم. يمكن لكلّ ذي سيادة بشريّ أن يَذوق الموت، وبموته تستعيد الشعوب الـمُستَعبَدَة حرّيتها. ولكنّ الشيطان لا يموت. إنّه أبديّ. وهو الـمُتسَلّط الذي قَيَّدَكم بالأغلال ليَجرّكم أَنّى يريد. الخطيئة فيكم، والخطيئة هي القيد الذي يُكبّلكم به الشيطان. وأنا أتيتُ لأُحطّم هذا القيد. باسم الآب أتيتُ وكذلك هي رغبتي. ليتمّ الوعد الذي لم يُفهَم. "لقد أخرجتُكَ مِن مصر ومِن العبوديّة".

 

الآن تمّ إنجازه الروحيّ. الربّ إلهكم ينتشلكم مِن أرض الوَثَن التي أَغوَت الأبوين الأوّلين، هو ينتزعكم مِن عبوديّة الخطيئة، يعيد إليكم ثوب النعمة، يَقبَلكم في ملكوته. الحقّ أقول لكم إنّ الذين يأتون إليَّ يستطيعون، في نعومة الصوت الأبويّ، ســماع العــليّ يقــول في قلــوبهم المغبــوطة: "أنـا هو الـربّ إلهـكَ، أســتميلكَ إلـيَّ حُرّاً وسعيداً".

 

هيا أَقبِلوا. وَجِّهوا صوب الربّ قلبكم ووجهكم وصلاتكم وإرادتكم. لقد أتت ساعة النعمة.

 

يُنهي يسوع كلامه. ويمرّ مُبارِكاً ومُداعِباً عجوزاً وطفلة سمراء ضاحكة.

 

«اشفِني يا معلّم. إنّني أتألم جدّاً!» يقول مريض الغنغرينا.

 

«النَّفْس أوّلاً، النَّفْس أوّلاً. عليكَ أن تتوب...»

 

«عَمِّدني مثل يوحنّا. لم أعد قادراً على الذهاب إليه. إنّني مريض.»

 

«هيّا.» ويَهبط يسوع باتّجاه النهر الواقع وراء حقلين كبيرين وغابة تحجبه. يَخلَع نَعليه، وكذلك يفعل الرجل الذي جَرَّ نفسه مع عكّازيه. يَنـزِلان إلى الضفّة، ويسوع، جاعلاً مِن كَفّيه مُجتَمِعَين كوباً، يَسكب الماء على رأس الرجل الذي نَزِل في الماء حتّى منتصف ساقيه.

 

«انزع الأربِطة الآن.» يَطلب منه يسوع بينما هو يَصعَد على الدرب.

 

يُطيع الرجل. الساق شُفِيَت. يصرخ الجميع مِن الذهول.

 

«أنا أيضاً!»

 

«أنا أيضاً!»

 

«أنا أيضاً، المعموديّة مِن يديكَ!» يَهتف الكثيرون.

 

ويسوع، الذي بَلَغَ منتصف الطريق، يلتفت: «غداً. أمّا الآن فامضوا وكونوا صالحين. السلام معكم.»

 

ينتهي كلّ شيء، ويعود يسوع إلى البيت، في المطبخ الذي أَصبَحَ عاتماً، رغم كَون الوقت لم يتجاوز الساعات الأولى مِن بعد الظهر.

 

يتزاحم التلاميذ حوله، ويَسأَله بطرس: «ذاك الرجل الذي أَخَذتَه خلف البيت، ماذا كان به.»

 

«كان في حاجة إلى أن يتطهّر.»

 

«ومع ذلك لم يَعُد، ولم يطلب المعموديّة.»

 

«لقد ذَهَبَ حيث أَرسَلتُه.»

 

«أين؟»

 

«إلى التكفير يا بطرس.»

 

«في السجن؟»

 

«لا، إلى التكفير بقيّة حياته.»

 

«إذن أفليس بالماء يتمّ التطهير؟»

 

«الدموع أيضاً هي ماء.»

 

«صحيح. الآن وقد اجتَرَحتَ معجزة، مَن يدري كم عدد الذين سيأتون!... فاليوم كانوا الضُّعف...»

 

«نعم. وإذا كان ينبغي لي أن أفعل كلّ شيء، لما استطعتُ إلى ذلك سبيلاً. فأنتم مَن سيُعَمِّدون. في البدء واحداً كلّ مرة، ثمّ اثنين، فثلاثة، فمجموعة. وأنا سوف أكرز وأشفي المرضى والخَطَأَة.»

 

«نحن نُعَمِّد؟ آه! أنا لستُ أهلاً لذلك! اعفني يا معلّم مِن هذه المهمّة! فأنا مَن يحتاج إلى المعموديّة!» يجثو بطرس على ركبتيه ويتوسّل.

 

ولكنّ يسوع ينحني ويقول: «ستكون أنتَ بالذات أوّل مَن يُعَمِّد. ومنذ الغد...»

 

«ربّي! كيف أفعل إذا كنتُ أكثر سواداً مِن هذا الـمَوقِد؟»

 

يبتسم يسوع لصدق التلميذ وتواضعه، وهو يجثو على ركبتيه عند ركبتي يسوع، حيث يضمّ يديه، يَدَيّ الصيّاد الضخمتين. بعد ذلك يُقَبِّله على جبهته، عند حدود الشَّعر الذي يَخطّه الشّيب، والذي قد انتفَشَ وما تَجَعّد: «هاك، أُعَمِّدكَ بقُبلة. هل أنتَ مسرور؟»

 

«سأقترف حالاً خطيئة أخرى، لأحظى بقُبلة أخرى!»

 

«لهذا لا. لا يجوز الاستهزاء بالله للمبالغة في نَيل النعمة.»

 

«وأنا أفلا تُقَبِّلني؟ فأنا أيضاً لديَّ خطيئة.» يقول الاسخريوطيّ.

 

يُحَدِّق به يسوع. ونظرته المتغيّرة تتبدّل مِن نور السعادة الذي كان يُنيره عندما كان يتحدّث إلى بطرس، إلى ظلّ مُتجَهّم، أحسَبهُ مِن التعب، ويقول: «نعم... لكَ أيضاً. هيّا. لستُ أُجحِف بحقّ أحد. كُن صالحاً يا يهوذا. إذا كنتَ تريد‍... ما زِلتَ شابّاً، وما زالت أمامكَ حياة بكاملها لتَرقَى باطّراد لتصل إلى كمال القداسة...» ويُقَبِّله.

 

«الدَّور لكَ الآن يا سمعان صديقي. وأنتَ يا متّى، يا انتصاري، وأنتَ برتلماوس الحكيم. وأنتَ يا فليبّس الوفيّ الأمين. وأنتَ يا توما يا ذا الإرادة السعيدة. هيا يا أندراوس، يا ذا الفاعِليّة الصامِتة. وأنتَ يا يعقوب اللقاء الأوّل. والآن أنتَ يا يوحنّا، يا فرح معلّمكَ. وأنتَ يا يوضاس رفيق الطفولة والشباب. وأنتَ يا يعقوب، يا مَن تُذكّرني بالعادل بمظهركَ وقلبكَ. هاكم جميعكم، جميعكم... إنّما تَذَكَّروا أنّه إذا كان حبّي متعدّداً، فإنّه يتطلّب كذلك إرادتكم الحَسَنَة. خُطوة أخرى إلى الأمام في حياتكم كتلاميذي سوف تَخطونها بدءاً مِن الغد. ولكن فكّروا أنّ كلّ خُطوة إلى الأمام هي شرف والتزام.»

 

«يا معلّم...» يقول بطرس «لقد قُلتَ يوماً ليوحنّا ويعقوب وأندراوس ولي أنا أنّكَ ستُعَلِّمنا الصلاة. وأظنّ أنّنا لو كنّا نصلّي كما تصلّي أنتَ لكنّا نتمتّع بالأهليّة والكفاءة لنقوم بالعمل الذي تطلبه منّا.»

 

«ولقد أجبتُكَ آنذاك: "عندما ستصبحون مُؤهَّلين، بما فيه الكفاية، فسوف أُعلّمكم الصلاة الفائقة العَظَمَة، لأترك لكم ’صلاتي‘. ولكنّها هي كذلك لن تكون شيئاً البتّة إن لم تُتْلَ سِوى بالشفاه. حاليّاً، ارتقوا إلى الله بِنَفْس راغبة بصدق. فالصلاة نعمة يهبها الله للإنسان، والإنسان يقدّمها لله".»

 

«كيف؟ أَلَسنا بعد أهلاً لأن نصلّي؟ في إسرائيل، الجميع يُصَلّون...» يقول الاسخريوطيّ.

 

«نعم يا يهوذا، ولكنّكَ تَرى، مِن خلال أفعالهم وتصرّفاتهم، كيف يُصَلّون في إسرائيل. لا أريد أن أجعل منكم خَوَنة. فالذي لا يصلّي سوى ظاهريّاً دونما استعدادات داخليّة، إنّما هو يقف ضدّ الخير، وهو خائن.»

 

«والمعجزات» ما زال يهوذا يَسأَل «متى تجعلنا نجترحها؟»

 

«نحن، معجزات، نحن؟ يا للرحمة الأبديّة! مع ذلك نحن نشرب ماء نقيّاً! نحن، معجزات؟ ولكن، يا وَلَد، هل تهذي؟ بطرس ساخط، مذعور، وقد خَرَجَ عن طَورِه.

 

«لقد قال لنا ذلك في اليهوديّة. لعلّ ذلك غير صحيح؟»

 

«بلى هذا صحيح. لقد قُلتُ إنّكم سوف تجترحونها. ولكن طالما أنّكم ما تزالون مادّيّين جدّاً، فلن يكون لكم اجتراح المعجزات.»

 

«سوف نصوم كثيراً.» يقول الاسخريوطيّ.

 

«بدون جدوى. فَمِن خلال الجسد، أَسمَع الشهوات الـمُنحطّة، الجوع الثلاثيّ، وفي أَثَر هذا الثالوث الغدّار، زُمرة رذائله... وهي تشبه أطفالاً مِن زواج غير شريف، وكبرياء الروح تُنجِب، مع شهوة الجسد والسيطرة، كلّ الشرور الموجودة في الإنسان وفي العالم.»

 

«نحن، مِن أجلكَ، قد تَرَكنا كلّ ما كان لدينا.» يُجيب يهوذا.«إذن، أفيجب علينا أن نموت؟ لكي نكون معكَ سوف نفعلها، أنا على الأقلّ...»

 

«لا، لستُ أطلب موتكم المادّيّ. أنا أطلب أن تموت فيكم ميولكم الحيوانيّة والشيطانيّة؛ وهي لا تموت طالما يحتفظ الجسد برغباته، طالما يُقيم فيكم الكذب والكبرياء والغضب والتَّفاخٌر والشَّراهة والبُخل والكسل.»

 

«إنّنا بَشريّون لدرجة كبيرة إلى جانبكَ، أنتَ القدّيس فائق العَظَمَة!» يهمس برتلماوس.

 

«إنّه على هذه الدرجة مِن القداسة دائماً. يمكننا تأكيد ذلك.» يؤكّد يعقوب ابن العمّ.

 

«إنّه يَعلَم كيف نحن...» يقول يوحنّا «ينبغي لنا ألّا نكون مُنهارِين لذلك. إنّما أن نقول له فقط: "أعطِنا في كلّ يوم القوّة لنخدمكَ". فلو كنّا نقول: "إنّنا بلا خطيئة" لكنّا مَخدوعِين وخَادِعين. ممّن؟ مِن ذواتنا نحن الذين نَعلَم ما نحن عليه، حتّى ولو لم نكن نريد أن نقول ذلك؟ مِن الله الذي لا يمكننا خِداعه؟ ولكن لو قلنا: "إنّنا ضعفاء وخَطَأَة، هلمّ لنجدتنا بقُدرتكَ وغفرانكَ". فالله آنذاك لا يُخَيّب أملنا. وبصلاحه وعدله، يَغفر لنا ويُطهّرنا مِن جُور قلوبنا المسكينة.»

 

«طوبى لكَ يا يوحنّا، لأنّ الحقّ يتحدّث بشفاهكَ التي يفوح منها عطر البراءة، ولا تَقبَل سوى الحبّ المعبود.» ولدى قوله هذا يَنهَض يسوع ويشدّ إلى قلبه ذلك المفضّل الذي تَحَدَّثَ مِن زاويته المظلمة.