ج3 - ف55
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثالث / القسم الثاني
55- (مِن شكيم [نابلس] إلى بَئيروت)
19 / 06 / 1945
كما النهر يمتلئ مِن انصباب الروافد الجديدة، كذلك الطريق مِن شكيم [نابلس] إلى أورشليم، يَزدَحِم باستمرار بالمسافرين، طالما تصبّ الدروب الفرعيّة التي تغصّ بالمؤمنين القادمين مِن البلدات في هذه الطريق، وهم يتوجّهون شطر المدينة المقدَّسَة. هذا الازدحام يساعد بطرس في جعل الصبيّ، الذي يحاذي الروابي التي انهال ترابها على والِدَيه، يسهو فلا ينتبه إليها.
بعد مسيرة طويلة، منذ أن تجاوزوا سيلو المنتصبة على جَبَلها، إلى اليسار، توقّفوا لأخذ قسط مِن الراحة وتناول الطعام في وادٍ أخضر، حيث خرير مياه صافية نقيّة. ثمّ يُعاوِد المسافرون السير، ويجتازون رابية كلسيّة جرداء، تُرسِل إليها الشمس أشعّتها الـمُحرِقة دون شفقة. يَشرَعون بالهبوط عَبْرَ سلسلة جميلة مِن الكروم التي تزيِّن بأغصانها سفوح الجبال الكلسيّة التي تضرب الشمس قِمَمها.
يبتسم بطرس ابتسامة رقيقة، ويشير إلى يسوع الذي يبتسم بدوره. لا يلاحظ الصبيّ شيئاً، فكلّه آذان صاغية ليوحنّا الذي مِن عين دور الذي يحدّثه عن بلدان أخرى زارها، وهي تُنتِج عنباً لذيذاً جدّاً لا يستخدمونه في النبيذ بقدر ما يستخدمونه في صنع حلوى ألذّ مِن فطائر العسل.
هو ذا صعود آخر أكثر حِدَّة. ويَترك الرُّسُل الطريق الرئيسيّة كثيرة الغبار، والمزدحمة، ويُؤثِرون هذه الطريق المختَصَرة عَبْرَ الغابات. ولدى وصولهم إلى القِمّة يَلمَع، في البعيد، بَحر مِن النور جليّ، يَفيض على كتلة بيضاء، قد تكون مجموعة مِن البيوت الـمُجَصَّصَة.
ينادي يسوع: «يَعْبيص، تعال إلى هنا. أترى تلك النقطة اللامعة كالذهب؟ إنّها بيت الربّ. هناك ستُقسِم أن تطيع الشريعة وتَخضَع لها. ولكن هل تعرفها جيّداً؟»
«كانت أُمّي تحدّثني عنها، وكان أبي يُعلِّمني الوصايا. أعرف القراءة و... أظنّني أعرف ما قالاه لي قبل موتهما...» الصبيّ الذي رَكَضَ مبتسماً لدى سماعه نداء يسوع، يبكي الآن خافِضاً رأسه، ممسكاً يد يسوع بيده المرتَجِفَة.
«لا تبكِ. اسمع. هل تعرف أين نحن؟ إنّنا في بيت إيل، حيث رأى يعقوب حلمه الملائكيّ. هل تعرفه؟ هل تتذكّره؟»
«نعم يا سيّدي. لقد رأى سُلّماً مُنتَصِباً مِن الأرض إلى السماء، وكان الملائكة يَصعَدون عليه ويَنـزلون. كانت أُمّي تقول لي إنّنا في ساعة الموت، إذا كنا صالحين على الدوام، فسنرى الرؤيا نفسها، ونذهب بواسطة هذا السلّم إلى بيت الله. لقد كانت أُمّي تقول لي أشياء كثيرة... أمّا الآن فلم تَعُد تقولها لي... وهذه كلّها لديَّ هنا، وهي كلّ ما أملِك منها...» وتَنهَمِر الدموع على الوجه الصغير الحزين جدّاً.
«ولكن لا تبكِ هكذا! اسمع يا يَعْبيص. أنا كذلك لديَّ أُمّ اسمها مريم، وهي قدّيسة وصالحة وتعرف أن تقول أشياء كثيرة. إنّها أكثر حِكمة مِن معلّم، وأَفضَل وأَجمَل مِن ملاك. سوف نذهب الآن للقائها، وستحبّكَ كثيراً. وستقول لكَ أشياء كثيرة. وبصحبتها أُمّ يوحنّا، وهي أيضاً صالحة جدّاً، واسمها مريم. كذلك أُمّ أخي يوضاس، وهي أيضاً رقيقة مثل شعاع عسل، وهي أيضاً تُدعَى مريم. سوف يحببنكَ كثيراً لأنّكَ صبيّ نَجيب، وحُبّاً بي، أنا الذي أحبّكَ كثيراً. وسوف تنمو معهنَّ، وحين تُصبِح كبيراً، ستُصبِح أحد قدّيسي الله. وكَحَبر سوف تُبشِّر بيسوع الذي أعاد لكَ أُمّاً هنا، والذي سيَفتَح أبواب السماء لأُمّكَ المتوفّاة ولأبيكَ، ولكَ أيضاً عندما تأتي ساعتكَ. فلن تكون مُضطَرّاً لصعود سُلّم السماء الطويل ساعة الموت. لأنّكَ ستكون قد صَعَدتَه أثناء حياتكَ، بكونكَ تلميذاً صالحاً، وستجد نفسك هناك على عَتَبَة الفردوس المفتوحة، وسأكون أنا هناك، وسأقول لكَ: تعال يا صديقي، ويا ابن مريم". ونكون معاً.» والابتسامة الـمُشرِقَة ليسوع الذي يسير منحنياً قليلاً ليكون أقرب إلى وجه الصبيّ الصغير الذي يسير إلى جانبه، يده في يده، والرؤية الرائعة تُجفِّف الدموع وتجعل ابتسامته تُشرِق.
الصبيّ ليس غبيّاً، ولكنّه فقط مُثقَل بآلام كثيرة وحِرمان، وهو مهتمّ بالقصّة. يَسأَل: «ولكنّكَ تقول إنّكَ ستفتح أبواب السماوات. أليست هي موصَدَة بسبب الخطيئة العظيمة؟ كانت أُمّي تقول لي إنّه لا يمكن لأحد الدخول دون مجيء الغُفران، وإنّ الأبرار كانوا ينتظرون في اليمبس.»
«هو هكذا. ولكنّني سأمضي إلى الآب، بعد إعلان كَلِمَة الله و... حصولي لكم على الغُفران، وسوف أقول: "أيّها الآب، الآن أتممتُ مشيئتكَ بالكامل. وأريد الآن المكافأة على تضحيتي. فليأتِ الأبرار الذين ينتظرون ملكوتكَ". ويقول لي الآب: "فليكن كما تشاء". حينئذ سأهبط وأستدعي كلّ الأبرار، وسيَفتَح اليمبس أبوابه لدى سماعه صوتي، وسيَخرُج الأحبار القدّيسون مُبتَهِجِين، ومعهم الأنبياء الـمُشرِقُون ونساء إسرائيل المبارَكات، ثمّ هل تَعلَم كَم مِن الأطفال؟ مثل حِرج مِن الزهور، أطفال مِن كلّ الأعمار! وسيتبعونني صاعِدِين إلى الفردوس البهيّ وهم يُرتِّلون.»
«هل ستكون أُمّي هناك؟»
«بالتأكيد.»
«لَم تَقُل لي إنّها ستكون معكَ عند باب السماء حينما أموت أنا أيضاً...»
«بل هي، ومعها أبوكَ، لن يكونا في حاجة إلى التواجد عند ذلك الباب، فَهُما، كملاكَين، لن يتوقّفا عن الطيران مِن السماء إلى الأرض، ومِن يسوع إلى يَعْبيص الصغير. وعندما تكون مُشرِفاً على الموت سيفعلان كما يفعل هذان العصفوران، هناك في ذاك السياج، أتراهما؟» يَحمل يسوع الصغير بين ذراعيه ليرى بشكل أفضل. «هل ترى كيف يَربُضان على بيوضهما الصغيرة؟ ينتظرانها حتّى تَفقس، وبعد ذلك يَبسطان أجنحتهما على فِراخهما ليحمياها مِن كلّ سوء، ثمّ، عندما تَكبر الفِراخ وتصبح مؤهّلة للطيران، يَحمِلانها بأجنحتهما القوية ويأخذانها هناك في الأعالي، في الأعالي، في الأعالي... صوب الشمس. كذلك سيفعل أَبَوَاكَ معكَ.»
«هل سيكون هكذا حقّاً؟»
«بالضبط هكذا.»
«ولكن هل ستقول لهما بأن يتذكَّرا أن يأتيا؟»
«لن تكون هناك حاجة، كونهما يحبّانكَ. ولكنّني سأقول لهما.»
«آه! كَم أحبّكَ!» ما زال الصبيّ بين ذراعيّ يسوع، يلتَصِق بعنقه ويُقبِّله باندفاع مُغتَبِطاً للغاية، حتّى إنّ يسوع قد تأثَّر منه ويَردّ له القبلة ويضعه أرضاً.
«آه! حسناً! نتابع الآن شطر المدينة المقدَّسة. علينا أن نَبلغها غداً مساء.»
«لماذا كلّ هذه العَجَلَة؟ هل تُخبِرني؟ ألا يكون حسناً كذلك أن نَصِلها بعد غد؟»
«لا. فالأمر ليس سيّان. ففي الغد تكون عشيّة السبت، وبعد غياب الشمس لا يمكننا أن نسير إلا ستّة أطوار. لا يمكننا أكثر لأنّ استراحة السبت تكون قد بَدَأَت.»
«أَفَنَتَكاسل في السبت؟»
«لا، بل نصلّي إلى الربّ تعالى.»
«ما اسمه؟»
«أدوناي Adonai. ولكنّ القدّيسين يستطيعون قول اسمه.»
«وكذلك الأطفال العاقلون. قُله إذا كنتَ تَعرِفه.»
«يهوه.»
«ولماذا نصلّي إلى الربّ تعالى يوم السبت؟»
«لأنّه طَلَبَ ذلك مِن موسى وهو يعطيه لوحَيّ الوصايا.»
«آه! نعم؟ وماذا قال؟»
«قال أن يُقَدِّس يوم السبت. "ستعمَل ستّة أيّام وفي اليوم السابع تستريح وتُريح، لأنّني أنا هكذا فعلتُ بعد الخَلق.»
«كيف؟ الربّ استراح؟ هل تَعِبَ في الخَلق؟ هل هو حقّاً الذي خَلَق؟ كيف عرفتَ ذلك؟ أنا أعرف أنّ الله لا يتعب أبداً.»
«لا يتعب. فالله لا يَسير ولا يُحرِّك ذراعيه، ولكنّه فَعَلَ ذلك ليُعلِّم آدم ويُعلِّمنا أن يكون يوم نُفكّر فيه به. وهو الذي خَلَقَ كلّ شيء بالتأكيد. فكتاب الربّ يقول ذلك.»
«ولكن هل هو مَن كَتَبَ الكِتاب؟»
«لا. ولكنّها الحقيقة. ويجب الإيمان بها لتحاشي الذهاب إلى لوسيفورس.»
«تقول لي إنّ الله لا يسير ولا يُحرِّك ذراعيه. كيف خَلَقَ إذن؟ كيف هو شكله؟ هل هو تمثال؟»
«هو ليس صَنَمَاً! إنّه الله. والله هو... الله هو... دعني أُفكِّر وأتذكَّر ما كانت تقوله أُمّي، وأَحسَن منها ذاك الرجل الذي ذَهَبَ باسمكَ يبحث عن الفقراء في مرج ابن عامر... كانت أُمّي تقول، لتَجعَلني أُدرِك ما هو الله: "الله هو مِثل حُبّي لكَ. لا جسد له، ومع ذلك هو موجود". وذلك الرَّجُل القصير ذو الابتسامة الرقيقة جدّاً كان يقول لي: "الله روح أزليّ، واحد وثالوث. والأقنوم الثاني اتَّخَذَ جسداً، حُبّاً بنا، نحن المساكين. واسمه..." آه! يا سيّدي! الآن وأنا أُفكِّر فيه... إنّه أنتَ!» والصبيّ مُنذَهِلاً، يرتمي أرضاً عابداً.
يَهرَع الجميع، ظَنّاً منهم أنّه وَقَعَ. ولكنّ يسوع، إصبعه على شَفَتيه، يُشير بأن يَصمتوا. ثمّ يقول: «انهَض يا يَعْبيص. ينبغي ألّا يخاف الأطفال منّي.»
يَرفَع الصبيّ رأسه مِن جديد مُكرِّماً إيّاه. يَنظُر إلى يسوع وقد اختَلَفَت قَسَماته، تكاد تكون وَجِلة. لكنّ يسوع يبتسم ويمدّ له يده قائلاً: «إنّكَ حكيم، أيّها الإسرائيليّ الصغير. فلنُكمِل الامتحان بيننا. الآن وقد عَرَفتَني، هل تَعلَم ماذا قيل عنّي في الكِتاب؟»
«آه! نعم يا سيّدي! منذ البدء وحتّى الآن. كلّ ما قيل عنكَ. فأنتَ الـمُخلِّص الموعود. الآن أُدرِك لماذا ستفتح أنتَ أبواب اليمبس. آه! ربّي! ربّي! أوتُحبّني كثيراً؟»
«نعم يا يَعْبيص.»
«لا، ليس يَعْبيص بعد الآن، بل امنحني اسماً له معنى أنّكَ أحببتَني وخَلَّصتَني...»
«الاسم سأختاره مع الأُمّ. اتّفقنا؟»
«على أن يعني هذا بالضبط. وسأتَّخِذه يوم أُصبِح ابناً للشريعة.»
«ستتّخذه منذ ذاك اليوم.»
تَجاوَزوا بيت إيل وتَوقَّفوا في وادٍ صغير مُنعِش، فيه وَفرة مِن الماء، ليتناولوا طعامهم. وبقي يَعْبيص شبه مَبهور بالتجلّي، ويأكل بصمت، مُتقبِّلاً بإجلال كلّ لقمة يُقدِّمها له يسوع. ولكنّه، رويداً رويداً، يتجاسر، وبعد فسحة جميلة مع يوحنّا، بينما يستريح الآخرون على العشب الأخضر، يعود صوب يسوع مع يوحنّا مبتسماً، وهم الثلاثة يُشكِّلون دائرة صغيرة.
«لَم تَقُل لي بَعد، مَن تحدَّثَ عنّي في الكِتاب؟»
«الأنبياء يا سيّدي. وقبل ذلك تحدَّثَ عنكَ الكِتاب بعد أن طُرِدَ آدم. ثمّ بيعقوب وإبراهيم وموسى... آه! كان أبي يقول لي إنّه ذَهَبَ إلى يوحنّا -ليس هذا، بل الآخَر، ذاك الذي في الأردن- وإنّه هو، أي النبيّ العظيم، كان يُسمّيكَ الحَمَل... الآن فَهِمتُ حَمَل موسى... الفصح هو أنتَ!»
يُناكِده يوحنّا: «ولكن مَن هو النبيّ الذي تَنبَّأَ عنه بشكل أفضل؟»
«إشَعياء ودانيال، ولكن... دانيال يعجبني أكثر، الآن وقد أحببتُكَ مثل أبي. هل يمكنني قول ذلك؟ القول إنّني أحبّكَ كما أحببتُ أبي؟ نعم؟ حسناً، الآن أُفضِّل دانيال.»
«لماذا؟ فالذي تَحَدَّث كثيراً عن المسيح هو إشَعياء.»
«نعم، ولكنّه يتحدث عن آلام المسيح. أمّا دانيال فعلى العكس، إنّه يتحدّث عن الملاك وقدومكَ. صحيح... هو كذلك يقول إنّ المسيح سيُقَدَّم ضَحيّة. ولكنّني أظُنُّ أنّ الحَمَل سيُنحَر بضربة واحدة فقط. ليس كما يقول إشَعياء وداود. كنتُ أبكي عندما أسمَعهُم أثناء قراءتهم، وكانت أُمّي تَكفّ عن الحديث إليَّ.» يوشِك الآن أن يبكي، بينما يُداعِب يد يسوع.
«لا تُفكِّر في ذلك الآن. اسمع. هل تعرف الوصايا؟»
«نعم يا سيّدي، أعتقد أنّني أعرِفها. فقد كنتُ أُردِّدها في الغابات لكيلا أنساها، ولِسماع كلمة أُمّي وأبي. إنّما الآن، فلن أبكي (بالحقيقة في عينيه إشراقة عظيمة) لأنّني الآن أمتلككَ، أنتَ.»
يبتسم يوحنّا ويُعانِق يسوع قائلاً: «كَلِماتي ذاتها! فكلّ مَن له قلب طفل يستخدم اللّغة ذاتها.»
«نعم، لأنّ الكلام يأتي مِن حكمة فريدة. والآن يجب أن نمضي بشكل نَصِل فيه إلى بَئيروت [البيرة] باكراً. الجموع تزداد، والوقت يتدارَكنا. ستُحجَز كلّ الأماكن ولا أريدكم أن تُصابوا بمرض.»
يُنادي يوحنّا رفاقه ويُعاوِدون المسير حتّى بَئيروت [البيرة] عَبْرَ سهل ليس جيّد الزَّرع، ولكنّه ليس أجرداً كالرابية التي اجتازوها مِن شيلوه.