ج2 - ف64
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثاني / القسم الثاني
64- (يسوع في طبريّا يبحث عن يوناثان في بيت خُوزي)
06 / 02 / 1945
أرى بلدة طبريّا الجميلة والحديثة. وهي بمجملها تُشير إلى أنّها حديثة وغنيّة. فمخطّطها أكثر تنظيماً مِن أيّة مدينة أخرى في فلسطين، وهي أكثر تناغماً وترتيباً حتّى مِن أورشليم ذاتها. جادّاتها جميلة، شوارعها مستقيمة ومجهّزة بأنماط مِن المجاري لتمنع ركود المياه وتراكم القمامة. ساحاتها كبيرة ومزيّنة بينابيع ذات أحواض رخاميّة رائعة. القصور فيها ضمن مساحات خالية على النمط الرومانيّ، وبوّاباتها مفرغة. مِن خلال بوّابات العربات، المفتوحة في هذا الوقت مِن الصباح، تَظهَر للعين ردهات واسعة وأروقة مرمريّة مزيّنة بستائر نفيسة ومفروشة بمقاعد وطاولات صغيرة. ولكلّ منها دار في وسطها، أرضها مرمريّة، مع ينابيع وشلّالات ماء وفسقيّات مفروشة بنباتات مُزهِرة.
بالإجمال، هي محاكاة للهندسة الرومانيّة، مُنفَّذة بشكل جيّد، ومُقلَّدة بشكل غنيّ. أجمل هذه البيوت تقع في الشوارع المجاورة للبحيرة. الثلاثة الأولى منها، الموازية للضفّة، هي بالحقيقة بيوت سادة. الأوّل يقع على طول جادّة تُساير الانحناء اللطيف للبحيرة، وهو رائع جدّاً. الجزء الأخير هو تتمّة فيلّات، واجهاتها الرئيسيّة تطلّ على الشارع الخلفيّ، ومِن جهة البحيرة حدائق غنيّة تَنـزل حتّى لَتكاد المياه تداعبها. هناك ميناء صغير لها جميعها، توجد فيه مراكب للنـزهات ذات مظلّات نفيسة ومقاعد أرجوانيّة.
يبدو أنّ يسوع قد نزل مِن مركب بطرس، ليس في ميناء طبريّا، إنّما في مكان آخر، قد يكون في الضواحي، وهو يتقدّم عبر جادّة تُحاذي البحيرة.
يسأله بطرس: «ألم تأت إلى طبريّا أبداً يا معلّم؟»
«أبداً.»
«إيه! أنتيباس قد أجاد صنع الأشياء، وبشكل رائع ليُمالِق طباريوس. إنّه بحقّ مرتش، هذا...»
«تحسبها بلدة استجمام أكثر منها مدينة تجاريّة.»
«التجّار في الجهة الأخرى. فيها الكثير من التجّار. إنّها غنيّة.»
«هل هذه البيوت فلسطينيّة؟»
«نعم ولا. كثير منها يملكها الرومان. ولكنّ الكثير... إيه! نعم! رغم امتلائها بالتماثيل وما شابه ذلك مِن الترّهات، فهي لليهود.» يتنهّد بطرس ويُتمتِم: «... أتمنى لو أنّهم لم ينتزعوا منّا سوى الاستقلال... إلّا أنّهم قد انتزعوا منّا الإيمان أيضاً... فنحن الآن في طريقنا لأن نصبح أكثر وثنيّة منهم!...»
«هذه ليست غلطتهم، يا بطرس. إنّ لهم عاداتهم، ولا يُرغِموننا على اتّباعها. ولكنّنا نحن مَن أردنا الفساد: مِن أجل مصالح أو لاتّباع الموضة، وبِتذلُّل...»
«أحسنتَ القول، إنّما أوّل مَن فَعَلَها كان حاكم الربع...»
«لقد وَصَلنا يا معلّم.» يقول يوسف الرَّاعي. «هذا هو منـزل القَيِّم على بيت هيرودس.»
يتوقّفون في آخر الجادّة حيث يوجد تَقاطُع تصبح عنده الجادّة هي الثانية بين الشوارع، بينما تقوم الفيلّات بينها وبين البحيرة. البيت الذي يشير إليه هو الأوّل، وهو محاط كلّه بحديقة مُزهِرة. الروائح العَطِرَة وزهور الحديقة مِن ياسمين وورود تمتدّ حتّى البحيرة.
«أهنا يقطن يوناثان؟»
«قيل لي إنّه هنا. إنه قَيّم على بيت القهرمان. لقد وَقَعَ واقفاً. فخُوزي ليس سيّئاً، ويعرف كيف يُقَدِّر ويكافئ القَيّم على بيته. إنّه مِن القليلين النـزيهين في البلاط. هل أناديه؟»
«اذهب.»
يَقصد يوسف البوّابة الكبيرة ويَطرق. يَهرَع البوَّاب. يتحدّثان فيما بينهما. أرى يوسف يَعبس بخيبة. يُخرِج البوّاب رأسه الرماديّ وينظر إلى يسوع، ثمّ يطلب شيئاً يوافق عليه يوسف. ما يزالان يتحدّثان فيما بينهما.
ثمّ يأتي يوسف لملاقاة يسوع الذي يَنتَظِر بصبر في ظلّ شجرة. «يوناثان ليس هنا. إنّه في جبل لبنان. لقد أَخَذَ يُوَنّا امرأة خُوزي للتنـزّه في جوّ رطب ونقيّ، فهي مريضة جدّاً. ولقد قال الخادم إنّه هو الذي ذهب لأنّ خُوزي في القصر ولا يمكنه الخروج منه، منذ فضيحة هروب يوحنّا المعمدان. وقد كانت حالتها الـمَرَضيّة تتأزّم، وقال الطبيب إنّها لو بقيت هنا لماتت. وقد طَلَبَ أن تدخل لتأخذ قسطاً مِن الراحة. ذلك أنّ يوناثان قد تحدّث عن مَسيّا الطفل، وحتّى هنا اسمكَ معروف، والكلّ ينتظركَ...»
«هيّا بنا.»
يتحرّك الجميع. والبوَّاب الذي ألقى نظرة، يرى وينادي خدّاماً آخرين. يفتح البوّابة على مصراعيها، وقد كانت حتّى الساعة شبه مفتوحة، ويركض لملاقاة يسوع بإجلال حقيقيّ. «اسكب، أيّها الربّ، بركتكَ علينا وعلى هذا البيت الحزين. ادخل. آه! كم سيشعر يوناثان بالأسف لعدم وجوده هنا! لقد كان هذا أمله: رؤيتكَ. ادخل، ادخل أنتَ وأصدقاؤكَ.»
في الفناء خدّام وخادمات مِن كلّ الأعمار، يتزاحمون للسلام بكلّ الاحترام. وبقليل مِن الفضول أيضاً. وعجوز صغيرة القدّ تبكي في إحدى الزوايا.
يَدخُل يسوع ويبارك بحركة منه وتحيّة سلام. يُقَدَّم لهم طعام. يجلس يسوع على أحد المقاعد ويحيط به الجميع. «أرى أنّني لستُ مجهولاً بالنسبة إليكم.» يقول يسوع.
«آه! إنّ يوناثان قد أنشَأَنا على ذكرى سيرتكَ. إنّه رجل صالح. وهو يقول إنّ الفضل في ذلك يعود للقُبلة التي قَبَّلكَ إيّاها. ولكنّه هو كذلك بالطبيعة.»
«لقد قَبَّلتُ الكثيرين وقَبَّلني الكثيرون... ولكن كما تقول، فقط لدى الصالحين ينمو الصلاح بفضلها. والآن هل هو غائب؟ فأنا لأجله هو قد أتيتُ.»
«لقد قُلتُ ذلك: إنّه في جبل لبنان. فلديه أصدقاء هناك... إنّه الأمل الأخير للمعلّمة الشابّة، وإن لم ينجح ذلك...»
والعجوز في ركنها تبكي بأكثر شدّة. ينظر إليها يسوع بتساؤل.
«إنّها إستير مُرضِعة المعلّمة. إنّها تبكي لأنّها لا تستطيع التسليم بأنّها ستفقدها.»
يَدعوها يسوع لأن تأتي إلى جانبه. «تعالي أيّتها الأُمّ. لا تبكي هكذا. تعالي إلى جانبي. لم يقل أحد إنّ المرض يعني بالضرورة الموت!»
«آه! إنّه الموت! الموت! مُذ وَضَعَت وليدها، وكانت الولادة الوحيدة والتعيسة، وهي تموت! الزواني تَلِدن في الخِفية، ومع ذلك يَعشن، وهي، هي الصالحة والنـزيهة والعزيزة جدّاً، ينبغي لها أن تموت!»
«ولكن مِن أيّ شيء تعاني في الوقت الحاضر؟»
«من حرارة تحرقها وتفنيها... إنّها مثل سراج يحترق في الهواء... في هواء يزداد شدّة وهي تزداد ضعفاً. آه! كنتُ أودُّ الذهاب معها، ولكنّ يوناثان أراد لها خادمات شابّات، فهي منهوكة القوى، جَسَد خامِد يجب نقله وتحريكه، وأنا لم أعد أَصلُح... لم أعد أَصلُح لذلك... إنّما لأحبّها فنعم... تلقّيتُها مِن على صدر أُمّها... كنتُ خادمة، ومتزوّجة أنا أيضاً، وكنتُ قد وَضَعتُ قبل شهر. أرضعتُها لأنّ أُمّها الضعيفة جدّاً لم تكن لتتمكّن مِن ذلك... وكنتُ لها الأُمّ عندما أضحَت يتيمة، عندما لم تكن تكاد تعرف أن تقول "ماما". لقد شاب شعري وتَجعَّدَت جبهتي مِن جرّاء سَهَري عليها وهي مريضة... لقد خُطّتُ لها ثياب العرس، وقُدّتُها إلى الزفاف... فَرِحتُ لأمنيات الأمومة لديها... وبَكيتُ معها طفلها الذي مات... لقد تَقبَّلتُ كلّ أفراح وأحزان حياتها... ومنحتُها كلّ ابتسامات وتشجيع حبّي... والآن هي تموت، ولستُ إلى جانبها...» العجوز تُثير الشَّجن والأسى.
يُلاطِفها يسوع، إنّما دون نتيجة. «اسمعي أيّتها الأُمّ، هل لديكِ إيمان؟»
«بكَ، نعم.»
«بل بالله يا امرأة. هل يمكنكِ الإيمان بأنّ كلّ شيء مستطاع لدى الله؟»
«أؤمن بذلك، وأؤمن أنّكَ أنتَ مسيحه، يمكنكَ ذلك. آه! نعم، يتحدّثون في المدينة عن قدرتكَ! هذا الرجل (تشير إلى فليبّس) منذ مدّة،كان يتحدّث عن معجزاتكَ عند المَجْمع، وقد قال له يوناثان: "أين مَسيّا"؟ فأجابه: "لا أعرف". وقد قال لي يوناثان آنذاك: "لو كان هنا، أؤكّد لكَ أنها كانت شُفِيَت". ولكنّكَ لم تكن هنا.. ولقد ذَهَبَ معها... والآن هي ستموت...»
«لا. آمني. قولي لي حقيقة ما في قلبكِ: هل يمكنكِ الإيمان بأنّها لن تموت بفضل إيمانكِ؟»
«بفضل إيماني؟ آه! إذا أَردتَه فهو لكَ. خُذ أيضاً حياتي، حياتي المتقدّمة في السنّ... فقط دعني أراها معافاة.»
«أنا الحياة... وأَمنَح الحياة لا الموت. لقد أعطيتِها أنتِ الحياة ذات يوم بحليب صدركِ. وقد كانت حياة بائسة يمكن أن تنتهي. والآن، بإيمانكِ، امنحيها حياة بلا نهاية. ابتسمي أيّتها الأُمّ.»
«ولكنّها ليست هنا...» والعجوز تتأرجح بين الأمل والخوف. «إنّها غائبة وأنتَ هنا.»
«فليكن لديكِ إيمان. اسمعي. إنا ذاهب الآن إلى الناصرة لبضعة أيّام. هناك أيضاً لديَّ أصدقاء مرضى... ثمّ سأذهب إلى لبنان. إذا ما عاد يوناثان خلال ستّة أيام، أرسليه إلى الناصرة عند يسوع بن يوسف. وإذا لم يأتِ فسوف آتي أنا لاحقاً.»
«كيف ستجده؟»
«ملاك طوبيّا سوف يقودني. أمّا أنتِ فتقوّي في الإيمان. لا أطلب منكِ سوى ذلك. لا تعودي تبكين أيّتها الأُمّ.»
أمّا العجوز فعلى العكس، تجهش بالبكاء أكثر، إنّها عند قدميّ يسوع، ورأسها على ركبتيه الإلهيّتين، تُقَبِّل يده المباركة التي تُبلّلها بالدموع. يسوع يلاطفها باليد الأخرى، وبما أنّ الخدّام الآخرين يؤنّبونها لمتابعتها البكاء يقول: «دعوها تفعل، إنّه الآن بكاء التعزية. هذا مفيد لها. هل أنتم جميعاً مسرورون لأنّ معلّمتكم سوف تتمكّن مِن استرداد صحّتها؟»
«آه! إنّها صالحة للغاية. معلّمة مثلها هي صديقة، وتُحَبّ. إنّنا نحبّها. ثق بذلك.»
«أنا أقرأ ما في قلوبكم. أنتم أيضاً، كونوا أفضل. أنا ذاهب. لا يمكنني الانتظار. المركب هنا. أبارككم.»
«ارجع أيّها المعلّم. عد إلينا مرّة أخرى!»
«سوف أعود مرات عديدة، عديدة. الوداع. السلام لهذا البيت ولكم جميعاً.»
يَخرُج يسوع مع أتباعه، يرافقهم الخدّام الذين يُهلّلون له.
«إنّكَ معروف هنا أكثر مِن الناصرة.» يقول يعقوب ابن عمّه بحزن.
«هذا البيت قد هَيَّأه أحد الناس ويَملك الإيمان بمَسيّا. أمّا بالنسبة للناصرة، فأنا النجّار... وحسب.»
«و... نحن لا نملك القدرة لنَكرز بكَ حسب ما أنتَ عليه.»
«ألا تملكونها؟»
«لا يا ابن العمّ، لسنا أبطالاً مثل رعاتكَ...»
«هل تظنّ ذلك يا يعقوب؟» يبتسم يسوع وهو ينظر إلى ابن عمّه الذي يشبه أباه كثيراً، فهو مثله كستناويّ الشعر والعينين، والوجه يميل إلى اللون الأسمر، بينما يوضاس شاحب الوجه وقد أحاطت به لحية داكنة السّواد والشعر مجعّد، مع عينين زرقاوين تميلان إلى البنفسجيّ، وتُذَكِّران بشكل مُبهَم بعينيّ يسوع. «وإذن! أقول لكَ إنّكَ لا تعرف نفسكَ. فأنتَ ويوضاس قويّان.»
يهزّ ابنا عمّه رأسيهما.
«سوف تَرَيان بأنّني لستُ مخطئاً.»
«هل سنذهب حقّاً إلى الناصرة؟»
«نعم، أنا أبغي التحدّث إلى أُمّي، و... القيام أيضاً بأمر آخر. مَن يُرِد المجيء فليأتِ.»
الجميع يَبغون المجيء. أمّا الأكثر سروراً فهما ابنا عمه: «ذلك مِن أجل الأب والأُمّ. أتُدرِك؟»
«أُدرِك. سوف نمرّ بِقَانا، ومِن ثمّ إلى هناك.»
«بِقَانا؟ إذن سنذهب إلى سُوسَنّة. سوف تعطينا البيض والفواكه مِن أجل أبينا، يا يعقوب.»
«ومِن عسلها الممتاز، بكلّ تأكيد. فهو يحبّه كثيراً.»
«علاوة على ذلك فهو يغذّيه.»
«مسكين أبي، إنّه يعاني كثيراً! وهو مثل نبتة اقتُلِعَت مِن جذورها، إنّه يشعر بالحياة تهرب منه... ولا يريد الموت...» وينظر يعقوب إلى يسوع بتوسّل صامت... ولكن يبدو أنّ يسوع لا يراه. «هل كان موت يوسف مؤلماً كذلك؟»
«نعم.» يُجيب يسوع «ولكنّه كان يعاني أقلّ لأنّه كان متّكلاً على الله.»
«وثمّ كنتَ أنتَ لديه، لقد كان يمتلككَ.»
«كان باستطاعة حلفى امتلاكي كذلك...»
ويتنهّد ابنا عمّه حزينين. وينتهي كلّ شيء.