ج3 - ف56

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثالث / القسم الثاني

 

56- (الوصول إلى أورشليم)

 

20 / 06 / 1945

 

الطقس ماطر. بطرس يَحمِل يَعْبيص الصغير على كتفيه، وهو مغطّى بمعطف بطرس. ويَبرُز رأسه الصغير فوق رأس بطرس الأشيب الذي تَلُفّه ذِراعَا الصغير حول العُنق، وبطرس يضحك وهو يتخبّط في بُرَك الماء.

 

«كان بإمكاننا توفير هذا العناء على أنفسنا.» يُهمهِم الاسخريوطيّ الساخط بسبب الماء الساقط مِن السماء، والذي يتطاير مِن الأرض على ثيابه.

 

«هه! كان بإمكاننا توفير أشياء كثيرة على أنفسنا!» يجيب يوحنّا الذي مِن عين دور، وهو يُحدِّق بيهوذا الجميل الطَلعَة، بعينه الوحيدة التي أظُنُّها تَرَى كاثنتين.

 

«ما الذي تريد قوله؟»

 

«أريد القول إنّه عبثاً نَزعم أن تكون لبعض العناصر اعتبارات تجاهنا، حينما لا تكون لدينا تجاه مَن يُشبهونَنا، وبما هو أعظم مِن نقطتي ماء أو لَطخَة.»

 

«هذا صحيح، ولكنّني أحبّ دخول المدينة بهندام أنيق ونظيف، فلي أصدقاء كثيرون، أنا، وكلّهم مِن عَليَّة القَوم.»

 

«انتبه لِئلّا تَقَع.»

 

«هل تُناكِدني؟»

 

«لا! لكنّني معلّم قديم و... تلميذ قديم. مُذ حَييتُ وأنا أتعلّم. في البداية تعلّمتُ حياة الخمول، ثمّ فَتَحتُ عينيَّ على الحياة، ثمّ عَرَفتُ مرارة الحياة، مَارَستُ عدالة لَم تُجْدِ نَفعَاً: تلك التي لِمَرء يقف "وحيداً" ضدّ الله وضدّ المجتمع. لقد عاقَبَني الله بتأنيب الضمير، والمجتمع بالقيود؛ وبالنتيجة كنتُ أنا مَن سَقَطَ تحت سِياط العدالة. أخيراً  أَتعَلَّم الآن، بل ما زلتُ في مرحلة التعليم، أن "أحيا". والآن، كَوْني مُعلِّماً وتلميذاً، تُدرِك أنّه... أمر طبيعي بالنسبة إليَّ ترديد الدروس.»

 

«أمّا أنا فإنّني الرَّسول...»

 

«وأنا مجرّد بائِس، أعرف ذلك. وينبغي لي عدم السماح لنفسي بأن أُلقي عليكَ درساً. إنّما، كما ترى، لا يعرف المرء أبداً ما يمكنه أن يُصبِح. كنتُ أظنّني أموت في قبرص مُربِّياً فاضِلاً نزيهاً ومُحتَرَماً، فأَصبَحتُ قاتلاً ومحكوماً عليَّ بالأشغال الشاقّة. ولكن، عندما كنتُ أرفع السكين للانتقام، وحينما كنتُ أَجُرُّ السلاسل وأنا أَمقُت العالم بأسره، لو قيل لي حينذاك إنّني سأصبح تلميذاً للقدّوس، لكنتُ شككتُ بِعَقل قائلها لي. ومع ذلك... كما تَرى! مَن يدري إذاً إذا ما كنتُ أستطيع تلقين درس جيّد، حتّى لكَ أنتَ الرَّسول؟ بسبب تجربتي، وليس بسبب قداستي. إذ لم أُفكِّر بذلك حتّى.»

 

«لذاك الرومانيّ ملء الحقّ بتسميتكَ ديوجين.»

 

«طبعاً. ولكنّ ديوجين كان يبحث عن الإنسان فلا يجده. أمّا أنا فأكثر سعادة منه. ذلك أنّني وَجَدتُ حَيَّة كنتُ أظنّ أنّ فيها امرأة، وَقْواقاً في رَجُل كنتُ أتطلّع إليه كصديق، ولكن، بعد أن تُهتُ سنوات كثيرة، جُنِنتُ خلالها مِن جرّاء تلك المعرفة، فقد وَجَدتُ الإنسان، القدّوس.»

 

«أنا لا أعرف حكمة غير حكمة إسرائيل.»

 

«إذا كان الأمر هكذا، فلديكَ ما تُخلِّص به نفسكَ. والآن لديكَ العِلم كذلك، أو بالحريّ حكمة الله.»

 

«الأمر سيّان.»

 

«آه! لا! إنّه كيوم ضبابيّ بالمقارنة مع يوم مُشرِق تَسطَع فيه الشمس.»

 

«الخلاصة، هل تريد أن تعطيني دروساً؟ لا أريدها.»

 

«دعني أتكلّم! فبداية كنتُ أتحدّث إلى الأطفال: كانوا طائشين. بعد ذلك إلى الأطياف وكانت تَلعَنني. وبعدها إلى الدجاج، وكانت أفضل مِن سابِقاتها، أفضل كثيراً. والآن فإنّني أتحدّث إلى ذاتي، حيث لم أتوصّل بعد إلى إمكانيّة التحدّث إلى الله. لماذا تريد منعي؟ فليس لي سِوى نصف الرؤية، وقد حَطَّمَت المناجم حياتي، وقلبي مريض منذ سنوات كثيرة. فعلى الأقلّ اسمَح بألّا يُصبِح فِكري عقيماً.»

 

«يسوع هو الله.»

 

«أَعرِف ذلك وأؤمن به أكثر منكَ. لأنّني بفضله عُدتُ إلى الحياة، أمّا أنتَ فلا. ولكن رغم كونه كلّ الخير، فإنّه هو هو على الدوام: الله. وأنا التعيس البائس المسكين لا أجرؤ على التعامل معه بِدَالّة (حَميمِيّة) وبرفع الكلفة كما تفعل أنتَ. إنّ نفسي لَتُحدّثه... أمّا شفتاي فلا تجرؤان. النَّفْس، أظُنُّه يحسّ بها وسط دموعها، دموع عرفان الجميل والحبّ التائب.»

 

«هذا صحيح يا يوحنّا. أُحِسُّ بنفسكَ.» يَدخُل يسوع في الحِوار. يحمرّ يهوذا خَجَلاً والرجل الذي مِن عين دور مِن الفَرَح. «أُحِسُّ بنفسكَ حقّاً. وأُحِسُّ كذلك بعمل روحكَ. لقد أَحسَنتَ القول. حينما تصبح ثقافتك بي كافية، وكونكَ مُعلّماً وتلميذاً نبيهاً في السابق، فسيفيدكَ هذا. تحدّث، تحدّث حتّى مع ذاتكَ...»

 

«يا معلّم، لقد قُلتَ لي ذات مرة، ولم يمض على ذلك بعد وقت طويل، إنّ التحدّث إلى الذات الأنا هو أمر سيّئ.» يُعلِّق يهوذا بوقاحة.

 

«لقد قُلتُ ذلك حقّاً. ولكن لأنّكَ كنتَ تَنمّ مع أنا ذاتكَ. أمّا هذا الرجل فلا يَنمّ: إنه يتأمَّل، ولغاية رائعة. فهو لا يتصرّف بسوء.»

 

«خلاصة القول، يعني أنّني مخطئ.» يهوذا عدوانيّ.

 

«لا بل إن المطر ينهمر في قلبكَ. ولا يمكن للطقس أن يكون صحواً على الدّوام. الفلّاحون يرغبون بالمطر، ومِن قبيل المحبّة، الصلاة لأجل أن ينهمر. فالمطر أيضاً محبّة. ولكن انظر، هو ذا قوس قزح جميل، مِن عطروت إلى راما، لقد تجاوزنا عطروت، الوادي الحزين قد تمّ اجتيازه، وهذا المكان كلّ ما فيه مزروع وضاحك تحت الشمس التي تُشتّت الغيوم. عندما نصل إلى راما سنكون على ستّة وثلاثين طَوراً مِن أورشليم. سنراها مِن جديد بعد تلك الرابية التي تشير إلى مكان الدعارة الفظيع الذي استسلم له الغابونيون. إنّها لمريعة عضّة الجسد يا يهوذا»

 

لا يجيب يهوذا، بل يبتعد غاضباً وهو يخوض في المستنقعات.

 

«ولكن ما به اليوم؟» يَسأَل برتلماوس.

 

«اصمت كي لا يسمعكَ سمعان بن يونا. فلنتحاشَ النقاش، ولا نُسمِّمَنَّ سمعان. إنّه في غاية السعادة مع صَبيّه!»

 

«نعم يا معلّم. ولكنّ هذا ليس حسناً. سوف أقول له ذلك.»

 

«إنّه شاب يا نثنائيل. أنتَ أيضاً كنتَ كذلك.»

 

«نعم... ولكن... يجب ألّا يُقلّل احترامه تجاهكَ!» ويرفع صوته عن غير قصد.

 

يَهرَع بطرس: «ماذا هناك؟ مَن يُقلِّل احترامه؟ هل هو التلميذ الجديد؟» ويَنظُر إلى يوحنّا الذي مِن عين دور الذي يتوارى بحذر عندما أَدرَكَ أنّ يسوع كان يُقوِّم سلوك الرَّسول، والذي يتحدّث إلى يعقوب بن حلفى وسمعان الغيور.

 

«مُطلَقاً. إنّه مُراعٍ لواجبات الاحترام مثل بنت صغيرة.»

 

«آه! حسناً! غير ذلك... كانت عينه في خطر. إذن... إذن هو يهوذا!...»

 

«اسمع يا سمعان، ألا يمكنكَ الاهتمام بصغيركَ؟ لقد أَخَذتَهُ منّي، ثمّ تريد حشر نفسكَ في نقاش أصدقاء بين نثنائيل وبيني. ألا يبدو لكَ أنّكَ تريد حمل أكثر مِن بطّيخة؟»

 

يبتسم يسوع بسكون يجعل بطرس يَحار في حُكمه. يَنظُر إلى برتلماوس... ولكنّه يرفع وجهه لينظر إلى السماء... ويَشعر بطرس بشكّه يتلاشى.

 

ظهور المدينة يجعله يَغفَل عن كلّ شيء. فلقد أَصبَحَت قريبة، وتُرى في كامل بهائها، بروابيها وبساتين الزيتون والبيوت وبشكل خاص المعبد. هذا المشهد كان على الدوام نبع تأثُّر وكبرياء للإسرائيليّين. وشمس نيسان (أبريل) الحارقة في اليهودية جَفَّفَت بسرعة حجارة الطريق القنصليّة. الآن ينبغي بحقّ البحث عن بُرَك ماء. بدأ الرُّسُل يُسوّون مظهرهم على حافّة الطريق، فيُنـزلون الثياب التي كانوا قد رَفَعوها. يَغسلون أقدامهم الـمُوحِلة في ساقية نظيفة، يُرتِّبون شَعرهم ويرتدون معاطفهم. وكذلك يفعل يسوع. أرى الجميع يفعلون الشيء ذاته.

 

الدخول إلى أورشليم، يُفتَرَض أنّه على جانب كبير مِن الأهمّيّة. فالحضور أمام أسوارها في زمن العيد هذا، كان كالمثول في حضرة مَلِك. فالمدينة المقدّسة كانت مَلِكَة إسرائيل "الحقيقيّة". أُدرِك ذلك جيّداً هذه السنة، حيث يمكنني أن أُلاحِظ تصرّفات الجموع على الطريق القنصليّة تلك. قوافل العائلات المختلفة تَنتَظِم هنا. جميع النساء معاً في مجموعة، والرجال في مجموعة أخرى، والأولاد في هذه المجموعة أو تلك. ولكنّهم جميعاً جادّون، وفي الوقت ذاته وجوههم مُنطَلِقة. يَطوي البعض معاطفهم المستَعمَلَة ليُخرِجوا أُخرى جديدة مِن حقائب السفر، أو يبدّلون الأحذية. ثمّ يصبح المسير احتفاليّاً، وهو الآن حسب الطقوس. في كلّ مجموعة هناك الـمُرنِّم الـمُنفَرِد (السوليست) الذي يُعطي النغمة. وتُرَنَّم التراتيل، أناشيد داود القديمة والمجيدة. يَرَى الناس بعضهم بعيون أفضل، وكأنّ رؤية بيت الله قد جَعَلَتهم أكثر وداعة. يَنظُرون إلى البيت المقدَّس، مُكعَّب ضخم مِن المرمر تعلوه قُبّة الذهب، جوهرة حقيقيّة تتوسّط سور المعبد الـمَهيب.

 

وهنا تتشكّل الجماعة الرَّسوليّة على الشكل التالي: في المقدّمة يسوع وبطرس يتوسّطهما الصبيّ، وفي الوسط سمعان والاسخريوطيّ ويوحنّا، ثمّ أندراوس الذي أَرغَمَ يوحنّا الذي مِن عين دور على أخذ مكانه بينه وبين يعقوب بن زَبْدي، وفي الصفّ الرابع ابنا عم الربّ مع متّى، وأخيراً توما وفليبّس وبرتلماوس. هنا يسوع هو الذي يُنشِد بصوته القويّ والرخيم والجميل جدّاً، الصوت الجَّهير الخفيف Baryton، الذي يظهر عُرَب الصادح Tenor، ويجيب يهوذا الاسخريوطيّ، صادِح حقيقيّ، ويوحنّا بصوته الذي ما زال فتيّاً. وصوتا الجَّهير لابني عمّ يسوع وصوت توما القَرار Basse، جَهير عميق للغاية لدرجة لَم يَعُد معها جَهيراً. الآخرون ذوو الأصوات الأقلّ جمالاً، يُرافِقون بأصوات خافتة أفراد جوقة المجموعة البارِعِين. (المزامير هي المزامير المعروفة والمسمّاة التراتيل Graduels). يَعْبيص الصغير، صوت ملاك وسط أصوات الرجال القويّة، يُرتِّل بشكل رائع، لأنّه قد يكون يَعرف أكثر مِن الآخرين المزمور المائة والحادي والعشرين: “فَرِحتُ بالقائلين لي: "إلى بيت الربّ ننطلق".” في الحقيقة، إنّ الوجه الصغير الذي كان منذ أيّام حزيناً، يُشرِق الآن بالفرح.

 

هي ذي الأسوار أَضحَت قريبة جدّاً. هو ذا باب السَّمَك. هي ذي الطرقات تَغُصّ بالجموع.

 

مُباشَرَة إلى الهيكل مِن أجل الصلاة الأولى. ثمّ السَّكينة، في سَكينة جَثْسَيْماني، العشاء والاستراحة.

 

والرحلة إلى أورشليم انتهت.