ج3 - ف84

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثالث / القسم الثاني

 

84- (يسوع وأتباعه إلى مودين)

 

18 / 07 / 1945

 

بعد جبنيا تأتي الروابي، المتوجِّهة غرباً، بالنَّظر إلى نجمة القطب، فَترتَفِع، وتُرى خلفها روابي أعلى منها. وفي البعيد، مع أُفول النهار، تتوالى قمم جبال اليهوديّة الخضراء والبنفسجيّة. لقد غابت الشمس بسرعة، كما يَحدُث في البلاد الواقعة في الجنوب. فَمِن فَيض احمرار الشمس التي تَغيب، إلى أوّل وميض النجوم، أقلّ مِن ساعة، ويبدو مستحيلاً أن يَنطَفِئ لهيب الشمس هذه بسرعة، ساتِراً لون دم السماء تحت وِشاح يزداد سماكة، مِن لون حَجَر المعشوق الكريم الدمويّ إلى لون زهريّ يَشحب ويَميل أكثر فأكثر إلى الشفافيّة لِيَسمح برؤية سماء وهميّة، فهي ليست زرقاء، بل خضراء شاحبة، تُصبِح بعد ذلك عاتمة ذات لون أزرق ضارب إلى الخُضرة، كَلَون الشوفان الحديث، تمهيداً للون النيليّ الذي يُهيمِن أثناء الليل، وهو مُرصَّع بالماس كمعطف مَلَكيّ.

 

وها هي النجوم الأولى تضحك للشرق، في الوقت ذاته مع مِنجَل قمريّ في ربعه الأوّل. وتتحوّل الأرض إلى جنّة تحت ضوء النجوم وفي صمت البشر. إنّه أوان غناء الذي لا يَرتَكِب الخطيئة: تغريد الهَّزار، دوزان موسيقى المياه، حفيف الأوراق، غناء صراصير الليل، أمّا الضفادع فَتَبُثّ موسيقى المزمار وهي تغنّي للندى. وقد تكون النجوم كذلك تغنّي هناك في الأعالي... وهي الأقرب إلى الملائكة مِنّا.

 

يَخبو لهيب حرارة الجوّ، كلّما تَقَدَّم الليل، رَطباً بندى لطيف جدّاً على العشب والناس وعلى الحيوانات.

 

انتَظَرَ يسوع في أسفل إحدى الروابي، الرُّسُل الذين يَخرُجون مِن جبنيا، حيث مضى يوحنّا ليأتي بهم. إنّه يتحدّث إلى الاسخريوطيّ بِكُلّ لُطف، وهو يعطيه التبرّعات النقديّة والتعليمات في كيفيّة توزيعها. وخلفه يوحنّا، وهو صامت ويمسك بالتَّيس، بين الغيور وبرتلماوس اللذين يتحدّثان عن جبنيا حيث تَمَيَّز أندراوس وفليبّس. وفي الخلف الآخرون جميعهم، وقد تَجَمَّعوا، وهُم يتحدّثون بصوت مُرتَفِع، يَسردون باختصار مغامراتهم في أرض فلسطين، ويُظهِرون فَرَحهم بكلّ جلاء بالعودة القريبة إلى اليهوديّة مِن أجل العنصرة.

 

«ولكن هل حقّاً نمضي مباشرة؟» يَسأَل فليبّس الـمُتعَب جدّاً مِن الجري على الحَصى الـمُلتَهِب.

 

«هذا ما قاله المعلّم، وأنتَ سَمِعتَه.» يُجيب يعقوب بن حلفى.

 

«أخي يعرف ذلك بالتأكيد، ولكنّه يبدو هائماً في أحلامه. فما فَعَلوه في خلال الأيّام الخمسة هذه لَهُوَ لغز مُحيِّر.» يقول يعقوب بن زَبْدي.

 

«نعم. بالنسبة إليَّ لَم تَعُد الرغبة في معرفته ممكنة. أَقَلَّه الآن، لِنَلتَقِط أنفاسنا مِن ذلك... المنفى جبنيا. خمسة أيام، اضطُرِرنا خلالها إلى مراقبة كلّ كلمة منّا، كلّ نظرة وكلّ خطوة، لِتَحاشي أيّة بَليّة.» يقول بطرس.

 

«ومع ذلك نجحنا. لقد بدأنا نُجيد التصرّف.» يقول متّى وقد بدا عليه الرضى.

 

«حقّاً... لقد ارتَجَفتُ مرّتين أو ثلاثاً. فيهوذا بن سمعان، ذاك الـمُبَجَّل!... ولكن ألن يتعلَّم امتلاك زمام نفسه؟» يقول فليبّس.

 

«عندما يُصبِح عجوزاً. ومع ذلك فإنّه يتصرّف بحُسن نيّة. ألم تَسمَعه؟ حتّى المعلّم قال ذلك. إنّه يَندَفِع في تصرّفه...» يقول أندراوس مُلتَمِساً له العُذر.

 

«بالطبع! فالمعلّم تحدَّثَ هكذا لأنّه الصَّلاح والفِطنة، ولكنّني لا أظنُّه يُوافِق على ذلك.» يقول بطرس.

 

«وهو لا يكذب.» يُجيب تدّاوس.

 

«مِن جهة الكذب فلا. ولكنّه يَعرِف أنّ يُضَمِّن أجوبته كلّ الفِطنة التي لا يمكننا تضمينها إيّاها نحن. ويقول الحقيقة مِن غَير أن يُدمي قلب أحد، ومِن غير أن يَتسَبَّبَ في سُخط أحد، ودون توجيه الاتّهامات. هيه! فهو، هو!» يَتنَهَّد بطرس.

 

ويَسود الصمت، بينما يَسيرون في ضوء القمر الذي يزداد نوراً. ثمّ يقول بطرس ليعقوب بن زَبْدي: «حاوِل أن تُنادي يوحنّا. لستُ أدري لماذا يتحاشانا.»

 

«أقول لكَ حالاً: لأنّه يَعلَم أنّنا سنقضّ مَضجَعه مِن أجل أن نَعرِف.» يقول توما.

 

«حقّاً، وإنّه مع الاثنين الأكثر حَذَراً والأكثر حكمة.» يؤكّد فليبّس.

 

«حسناً، ومع ذلك حاوِل أن تُسدي لنا معروفاً.» يُصِرّ بطرس.

 

ويتفضّل يعقوب وينادي ثلاثاً يوحنّا الذي لا يَسمَع، أو يتظاهر بأنّه لم يَسمَع. برتلماوس، على العكس، يَلتَفِت؛ فيقول له يعقوب: «قُل لأخي أن يأتي إلى هنا.» ثمّ يقول يعقوب لبطرس: «ولكنّني لا أَخالنا سَنَعلَم.»

 

يوحنّا، مُطيعاً، يأتي حالاً ويَسأَل: «ماذا تريدون؟»

 

«معرفة ما إذا كُنّا سنذهب مِن هنا مباشرة إلى اليهوديّة.» يقول أخوه.

 

«هذا ما قاله المعلّم. لَم يَكُن بذلك يريد القول أن نعود إلى الوراء انطلاقاً مِن عَقْرُون. وقد كان يريد إرسالي لِجَلبكم، إنّما بعدئذ، فَضَّلَ المجيء إلى آخر المنحدرات... فَمِن هنا أيضاً يمكننا المضيّ إلى اليهوديّة.»

 

«عَبْر مودين؟»

 

«عَبْر مودين.»

 

«إنّها طريق غير آمنة. فَقُطّاَع الطُّرق يَتربَّصون فيها بالقوافل، ويَضربون بيد قويّة.» يَعتَرِض توما.

 

«آه!... معه!... لا شيء يُقاوِمه، هو!...» ويَرفَع يوحنّا صوب السماء وجهاً يَمضي به لستُ أدري إلى أيّة ذِكرى، ويبتسم.

 

يُلاحِظ الجميع ذلك، ويقول بطرس: «قُل، هل أنتَ الآن في صدد قراءة قصّة رائعة في السماء الـمُرَصَّعة بالنجوم، حتّى يكون لكَ وجه كهذا؟»

 

«أنا؟ لا...»

 

«هيّا! حتّى الحجارة تَرَى أنّكَ بعيد عن العالم. قُل ما الذي جَرَى لكَ في عَقْرُون؟»

 

«ولكن لا شيء، يا سمعان، أؤكّد لكَ. لَم أكن لِأبدو سعيداً لو حَصَلَ لي شيء مُضنٍ.»

 

«ليس مُضنياً، على العكس!... هيّا! تَكلَّم!»

 

«ولكن ليس لَديَّ ما أُضيفه عَمّا قاله هو لكم. لقد كانوا طيّبين، كأناس، دُهِشوا، ذُهِلوا بالمعجزات. هذا كلّ شيء. تماماً كالذي قاله هو.»

 

«لا.» ويهزّ بطرس رأسه. «لا. لا، لا تعرف الكَذِب. إنّكَ نقيّ كماء النبع. لا. إنّ لونكَ يتغيّر. وأنا أعرفكَ مُذ كنتَ صغيراً جدّاً. ولن تعرف الكَذِب أبداً بسبب عجز قلبكَ وفِكركَ ولسانكَ عنه، حتّى جِلدكَ الذي يتغيّر لونه. لأجل ذلك أُحبّكَ كثيراً، وقد أحببتُكَ كثيراً على الدوام. هيّا، تعال هنا، إلى جانب صديقكَ العجوز سمعان بن يونا. هل تَذكُر أوان ما كنتَ صغيراً، وكنتُ أنا آنذاك رجلاً؟ كم كنتُ أُدلّلكَ؟ كنتَ تريد قِصصاً ومراكب صغيرة فلّينية لا تَغرق أبداً، كما كنتَ تقول، والتي ما كانت إلّا لكي تذهب بها بعيداً... فالآن كذلك، تمضي إلى البعيد، وتترك سمعان المسكين على الشاطئ. ومركبكَ الصغير لن يَغرَق. فهو يَمضي ممتلئاً زهوراً، كتلك التي كنتَ تَرميها، وأنتَ صغير، في بيت صيدا، في النهر، لكي يَحمِلها النهر إلى البحيرة، ولكي تذهب، كي تذهب. هل تَذكُر؟ أحبّكَ كثيراً يا يوحنّا. جميعنا نحبّكَ كثيراً. فأنتَ شِراعنا. أنتَ مَركَبنا الذي لا يَغرق. تأخُذنا في مخر سفينتكَ. فلماذا لا تروي لنا معجزة عَقْرُون؟»

 

وبينما كان يتحدّث، كان يلفّ يوحنّا بذراعه، ولكنّ يوحنّا كان يُحاوِل التهرّب مِن الإجابة بقوله: «وأنتَ أيّها الرئيس، لماذا لا تُخاطِب الجموع بهذه اللهجة الـمُقنِعة التي تَستَخدِمها معي؟ فَهُم في حاجة إلى الإقناع، أمّا أنا فلا.»

 

«هذا لأنّني أشعر بارتياح معكَ. أنتَ، أُحبّكَ. بينما هم فلا أعرفهم.» يقول بطرس لِيَعتَذِر.

 

«أنت لا تحبّهم، وهذه غلطتكَ. أَحبِبهُم حتّى ولو لم تكن تعرفهم. قُل لذاتكَ: "إنّهم ينتمون لأبينا". وسَترى أنّه سَيبدو لكَ أنّكَ تَعرفهم، وسوف تحبّهم. ولِتَنظُر إليهم وكأنّهم يوحنّا...»

 

«إجابتكَ مُتسرِّعة! كما لو كان ممكناً استبدال الصلّ والنيص بكَ أنت أيّها الطفل الأبديّ.»

 

«آه! لا! أنا مثل كلّ الناس.»

 

«لا، يا أخي. فأنتَ لستَ كَكُلّ الناس. أمّا نحن، عدا برتلماوس وأندراوس والغيور، فإنّنا لَنَقول حتّى للأعشاب ما يجري معنا وما يَجعلنا سُعداء. أمّا أنتَ فَتَصمت. بينما عليكَ أن تقول ذلك لي أنا أخيكَ البِكر. فأنا بالنسبة إليك بمثابة الأب.» يقول يعقوب بن زَبْدي.

 

«الأب هو الله، والأخ هو يسوع، أمّا الأُمّ فهي مريم...»

 

«والدم إذن، أفلا أهميّة له بالنسبة إليكَ؟» يَزعَق يعقوب غاضباً.

 

«لا تَغضَب. فأنا أُبارِك الدم والأحشاء التي كَوَّنَتني: أبي وأُمّي؛ وأبارككَ، أنتَ أخي، المتحدِّر مِن الأبوين إيّاهما، لأنّ الأَبَوين أنجَباني ورَبَّياني لِيَأذَنا لي باتّباع المعلّم، وأنتَ لأنّكَ تَتبَعه. وأُمّي، مُذ أَصبَحَت تلميذة، وأنا أحبّها حبّاً مضاعفاً. باللحم والدم، كَوني ابنها؛ وبالروح، كَوني تلميذاً مثلها. آه! يا لِفَرح الاتّحاد بحبّه هو!...»

 

يَتراجَع يسوع لدى سماعه صوت يعقوب غاضِباً، وقد أَوضَحَت الكلمات الأخيرة له المسألة. «دَعوا يوحنّا بسلام. فلا فائدة مِن تعذيبه. إنّه يُشبه أُمّي كثيراً، ولن يتكلّم.»

 

«إذن فاروِ لنا ذلك أنتَ، يا معلّم.» يقول الجميع مُتَوَسِّلين.

 

«حسناً: لقد اصطَحَبتُ يوحنّا معي، لأنّه كان الأصلح لِما كُنتُ أريد فِعله. فَقَدَّم لي العَون، وقد أَصبَحَ أفضل. تِلكُم هي القصّة.»

 

بطرس ويعقوب أخو يوحنّا وتوما والاسخريوطيّ يَنظُرون إلى بعضهم وهُم يَمطّون شفاههم خائبين. أمّا يهوذا فلا يَقِف عند حدّ إظهار خيبته، بل يقول: «لماذا جَعله يُصبح أفضل وهو أساساً الأفضل؟»

 

يُجيبه يسوع: «أنتَ مَن قُلتَ: "لكلّ أسلوبه ويستخدمه". فَلي أسلوبي. وليوحنّا أسلوبه الذي يُشبِه أسلوبي كثيراً. لا يمكن لِأُسلوبي أن يتحسّن. أمّا أُسلوبه فَبَلى. وأُريد أن يكون ذلك، لأنّه حَسَن أن يكون. ولأجل ذلك أَخَذتُه، لأنّني كنتُ في حاجة إلى مَن يكون له ذلك الأسلوب وتلك النَّفْس. إذن، فلا داعي للانزعاج ولا للفضول. نحن ماضُون إلى مودين. الليل صاف ومُنعِش ومُنير. سنسير طالما القمر يُضيء، ثمّ ننام حتّى الفجر. سأصطَحِب يهوذا ويوضاس لتكريم قَبر المكابيّين، وهُما يَحملان منهم الاسم المجيد.»

 

«نحن معكَ وحدنا!» يقول الاسخريوطيّ سعيداً.

 

«لا، بل مع الجميع. إنّما زيارة القبر معكما، لِتَعرِفا الاقتداء بهم بشكل فائق الطبيعة، في المعارك والانتصارات، في حقل روحيّ بِمُجمَله.»