ج3 - ف22

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثالث / القسم الأول

 

22- (يسوع في بيت كفرناحوم بعد المعجزة على أليشع)

 

13 / 05 / 1945

 

عَبْرَ حديقة بَدَأَت كلّ مزروعاتها بالإيراق، يَدخُل يسوع إلى مطبخ واسع جدّاً حيث حَامِلَتا اسم مريم الأكبر سنّاً (مريم التي لحلفى ومريم سالومة) تُحَضِّران العشاء.

 

«السلام لكما!»

 

«آه! يسوع! يا معلّم!» تَلتَفِت المرأَتَان وتُلقِيان التحيّة، الأولى وبين يديها سمكة تُجوِّفها، والأُخرى ما تزال تُمسِك بالقِدر المليء بالخضار التي تطبخها، وكانت قد سَحَبَته لترى أين وَصَلَ الطهي. وجهاهما الرَّضيان، الذَّاويان قليلاً، والـمُحمَرَّان بفعل النار والعَمَل، يبتَسِمان فَرِحَين، وتبدوان وكأنّهما استعادتا الشباب، وأَصبَحَتا أكثر جمالاً في سعادتهما.

 

«لحظة، ويصبح كلّ شيء جاهزاً، يا يسوع. هل أنتَ تَعِب؟ يُفتَرَض أن تكون جائعاً.» تقول امرأة عمّه مريم التي لها دالّة (مَنْزِلَةُ) الأهل وتحبّ يسوع كثيراً، أظنُّ حتّى أكثر مِن وَلَدَيها.

 

«ليس أكثر مِن المعتاد. ولكنّني، بكلّ تأكيد، سوف آكل بسرور عارِم الأطعمة الشهيّة التي حَضَّرتُماها لي أنتِ ومريم. وكذلك الآخرون. ها هم يَفِدُون.»

 

«أُمّكَ في الغرفة العلويّة. تَعلَم!... لقد أتى سمعان... آه! إنّني بحقّ مسرورة هذا المساء! لا، ليس بحقّ، إذ... تعرف متى سأكون مسرورة بحقّ؟»

 

«نعم، أعرف ذلك.» ويدنو يسوع مِن امرأة عمّه، يُقَبِّلها مِن جبهتها، ثمّ يقول لها: «أعرف رغبتكِ، وأنّكِ بغير خطيئة تَحسدين سالومة. ولكن سيأتي اليوم الذي تستطيعين فيه القول مثلها: "كُلّ أولادي مِلك ليسوع". سأذهب إلى أُمّي.»

 

يَخرُج ويَصعَد السلّم الصغير المؤدّي إلى الشرفة التي تعلو نصف البيت، بينما النصف الآخر تَشغَله غرفة كبيرة تَنبَعِث منها أصوات رجال خَشِنَة، ومِن وقت لآخر، صوت مريم العذب، صوت صبيّة بَتوليّ صاف لم تُصَدِّعه السنون، والصوت ذاته الذي قال: "ها أنا ذا أَمَة للربّ." والذي كان يُهَدهِد للطفل.

 

يَدنو يسوع بغير جَلَبَة، مبتسماً، لأنّه يَسمَع أُمّه تقول: «مسكين ابني. لستُ أختَبِر ألم الابتعاد عن الناصرة إلّا حينما يكون هو بعيداً. ولكنّه عندما يكون قريباً... آه! لا يعود ينقصني شيء. ثمّ، لستُ أخاف على بيتي. فأنتم فيه...»

 

«آه! ولكن انظري، ها هو يسوع!» يَصيح حلفى بن سارة الذي، لكون وجهه مُلتَفِتاً صوب الباب، يَرى يسوع.

 

«أنا هنا، نعم. السلام لكم جميعاً. أُمّاه!» يُقَبِّل والدته مِن جبهتها ويتلقّى قُبلَتَها. ثمّ يلتَفِت إلى الضيوف غير الـمُنتَظَر قدومهم، وهُم سمعان ابن عمّه وحلفى بن سارة وإسحاق الراعي ويوسف الذي التقاه في عِمّاوس بعد حُكم المجمع.

 

«كنا قد ذهبنا إلى الناصرة، وقال حلفى إنّه ينبغي لنا المجيء إلى هنا، فأتينا. وقد شاء حلفى مرافَقَتنا، وكذلك سمعان» يشرح إسحاق.

 

«يبدو لي المجيء رائعاً» يقول حلفى.

 

«وأنا كذلك أردتُ إلقاء التحيّة والبقاء قليلاً معكَ ومع مريم.» يقول سمعان.

 

«وأنا مسرور جدّاً لوجودي معكم. لقد أحسنتُ التصرّف بعدم بقائي فترة أطول كما كان سكّان أشدود يُريدون، حيث كنتُ قد وصلتُ أثناء ذهابي مِن جرجسا إلى ميرون، وكذلك بعودتي بعدئذ من الطرف الآخر.»

 

«هل أنتَ آتٍ مِن هناك؟»

 

«نعم. ولقد أَظهَرتُ نفسي في الأمكنة التي كنتُ قد ذهبتُ إليها، وأبعَد أيضاً. فلقد مَضَيتُ حتّى جيسكالا.»

 

«يا لها مِن طريق طويلة!»

 

«إنّما يا له مِن حصاد! تَعلَم إسحاق، لقد كنّا ضيوف الرابّي غَمَالائيل. وقد كان طيّباً جدّاً. ثمّ التقيتُ رئيس مجمع منطقة المياه الحلوة. إنّه آتٍ، هو كذلك. أُفضي لكَ بذلك. ثمّ... ثمّ... كسبتُ ثلاثة تلاميذ...» ويبتسم يسوع ابتسامة عريضة بسعادة.

 

«مَن هُم؟»

 

«عجوز مِن قورازين أَسدَيتُ له خدمة ذات مرّة، والمسكين، وهو إسرائيليّ لا غشّ فيه، لكي يُظهِر لي حبّه، هَيَّأَ المنطقة لأجلي كما يُهيّئ الفلاح الأرض. والثاني طفل في الخامسة أو أكثر قليلاً، ذكيّ وشجاع. كنتُ قد حَدَّثتُه في المرّة الأولى عندما كنتُ ذاهباً إلى بيت صيدا، وتَذَكَّرَها أفضل مِن الكبار. والثالث، وهو أبرص سابق، شَفَيتُه قُرب قورازين ذات مساء، منذ زمن، ثمّ تَرَكتُه. فَعُدتُ الآن لأجده، وهو الذي أَنبَأَني عن جبال نفتالي. ولكي يؤكِّد كلامه، يرفع ما تبقّى مِن يديه اللتين قد شفيتا ناقصتين جزئياً، ويُظهِر قدميه اللتين شفيتا مشوّهتين، ومع ذلك هو يقطع بهما مسافات طويلة. ويُدرِك الناس إلى أيّ مدى كان مريضاً مِن خلال ما تبقى له، ويُصَدِّقون كلامه الذي تُطيِّبه دموع العِرفان. لقد كان سهلاً عليَّ الحديث هناك، لأنّ أحداً كان قد عَرَّفَ الناس عليَّ، وحَمَلَ الآخرين على الإيمان بي، وقد تَمَكَّنتُ مِن اجتراح معجزات كثيرة، فالذي يؤمن بحقّ يمكنه فِعل الكثير...»

 

حلفى، دون كلام، يوافق بإيماءة مِن رأسه. سمعان، يخفض رأسه بسبب العِتاب الـمُبَطَّن. أمّا إسحاق فيغتَبِط كثيراً لسرور المعلّم الذي سَيَروي المعجزة التي اجتُرحَت منذ قليل على حفيد إيلي.

 

ولكن العشاء جاهز، والنساء مع مريم يضعن الطاولة في الغرفة ويجلبن الأطباق، وينسحبن بعدئذ إلى الأسفل. لم يبق سوى الرجال، ويسوع يُقدِّم ويُبارك ويُوزِّع.

 

إلّا أنّهم لم يكادوا يأكلون لُقَماً قليلة، حتّى صَعَدَت سُوسَنّة لتقول: «لقد أتى إيلي ومعه خُدَّام وهدايا كثيرة. لكنّه يريد التحدّث إليكَ.»

 

«آتي حالاً، أو بالحريّ دعيه يَصعَد.»

 

تَذهَب سُوسَنّة لتعود بعد قليل مع إيلي العجوز وخادِمَين يَحمِلان سَلّة كبيرة، وخلفهم النساء، ما عدا مريم الكلّية القداسة، يراقبن بفضول.

 

«الله معكَ أيّها الـمُحسِن إليَّ.» يقول الفرّيسيّ وهو يحيّيه.

 

«ومعكَ يا إيلي. ادخل. ماذا تريد؟ هل مازال الصغير مريضاً؟»

 

«آه! إنّه في صحّة ممتازة. وهو يقفز في الحديقة كالجَدْي. إنّما قبلاً، فقد كنتُ مُضطَرِباً للغاية، مرتبكاً جدّاً، لدرجة أنّني قَصَّرتُ في واجبي. أودُّ لو أُظهِرَ لكَ عرفاني بالجميل، وأرجوكَ ألّا ترفض الهدايا الصغيرة التي أُقدّمها لكَ. وهي عبارة عن بعض الأطعمة لكَ ولأتباعكَ. إنّها مِن محاصيل أملاكي. ثمّ... أودُّ... أودُّ دعوتكَ غداً إلى مائدتي لأُعَبِّر لكَ كذلك عن شكري، وأُكرِمكَ برفقة الأصدقاء. لا ترفض يا معلّم، وإلّا يمكنني الاعتقاد أنّكَ لا تحبّني، وأنّكَ إن شَفَيتَ أليشع فحبّاً به فقط وليس بي.»

 

«أشكركَ، ولكن لم يكن مِن ضرورة للهدايا.»

 

«كلّ العظماء والعلماء يَقبَلونها. إنّه العُرف.»

 

«وأنا كذلك. إنّما هناك هديّة أَقبَلها بشكل خاصّ وبكلّ رضا، بل حتى إنّني أبحث عنها.»

 

«قُل ما هي. وإن استطعتُ فسأمنحها لكَ.»

 

«قلبكم، فِكركم، أعطونيه لخيركم.»

 

«ولكنّني أُكرِّسه لكَ، يا يسوع المبارك! وهل يمكنكَ الشكّ بذلك؟ لقد... نعم... لقد أخطأتُ كثيراً بحقّكَ، ولكنّني الآن أَدرَكتُ. ولقد أُعلِمتُ كذلك بموت دوراس الذي أهانكَ. لماذا تبتسم يا معلّم؟»

 

«كنتُ أتذكّر حادثة.»

 

«وأنا كنتُ أُفكّر أنّكَ لم تكن تصدّق ما أقول.»

 

«آه! لا. أَعلَم أنّ موت دوراس أثَّر فيكَ حتّى أكثر مِن معجزة هذا المساء. ولكن لا تَخشَ مِن الله إذا كنتَ أدركتَ حقّاً، وإذا أردتَ بحقّ أن تكون الآن صديقاً لي.»

 

«أرى أنّكَ حقّاً نبيّ. أنا، كنتُ في الحقيقة خائفاً أكثر... كنتُ آتياً إليكَ، لا بسبب المعجزة، بل بسبب خوفي مِن عقاب يماثل عقاب دوراس. وقد قُلتُ هذا المساء: "هو ذا العقاب قد حَلَّ، وبشكل أعنف أيضاً، لأنّه لم يضرب السنديانة الهَرِمَة بحياتها الخاصّة، إنما بما تُحِبّ، بفرح حياتها، صاعِقاً السنديانة الصغيرة التي كنتُ أُسَرُّ بها". فما كان يجلبني كان ذاك أكثر مِن بؤسي. كنتُ قد أدركتُ أنّ ذاك هو العَدل، كما مع دوراس...»

 

«كنتَ قد أدركتَ أن ذلك عدل... ولكنّكَ لم تكن قد آمنتَ بمن هو الصَّلاح.»

 

«أنتَ مُحقّ. إنّما لم يعد الأمر الآن كما كان. فلقد فهمتُ. وإذاً، هل توافيني غداً؟»

 

«إيلي، كنتُ قد قرّرتُ الرحيل عند الفجر، ولكن لكي لا تُفكّر أنّني أحتقركَ، سأُرجِئ رحيلي يوماً آخر. وسوف أكون عندكَ غداً.»

 

«آه! في الحقيقة إنّكَ صالح. سوف أتذكّر هذا على الدوام.»

 

«وداعاً يا إيلي. شكراً على كلّ شيء. إنّها لَرائعة هذه الفواكه وهذه الأجبان، ويُفتَرَض أنّها دَسِمة جدّاً. والنبيذ بالتأكيد لذيذ جدّاً. ولكن كان بإمكانكَ مَنح كلّ هذا للمساكين باسمي.»

 

«يوجد كذلك لهم، لو أردتَ، في الأسفل. وقد كانت هبة لكَ.»

 

«إذاً فسنوزّعها معاً غداً قبل أو بعد الأكل. لتمض، وليلة هادئة يا إيلي.»

 

«وأنتَ كذلك. وداعاً.» ويمضي مع خُدّامه.

 

يُخرِج بطرس، وبحركات إيمائية، محتويات السلّة لإعادتها (أي السلّة) للخُدّام. ويضع النقود على الطاولة أمام يسوع، كما لو أنّه يَختم حديثاً داخليّاً. يقول: «هذه المرّة هي الأولى التي يتصدّق بها هذا البُوم العجوز.»

 

«صحيح.» يؤكّد متّى. «لقد كنتُ بخيلاً، ولكنّه كان يفوقني في ذلك. ولقد ضَاعَفَ ممتلكاته بالرّبا.»

 

«حسناً... وإذا نَدِمَ... فهذا جيّد، أليس كذلك؟» يقول إسحاق.

 

«بالتأكيد إنه أمر جيد. ويبدو أنّه كذلك.» يؤكد فليبّس وبرتلماوس.

 

«إيلي العجوز اهتدى! آه! آه!» يضحك بطرس مِن قلبه.

 

سمعان ابن العمّ، المستغرق في أفكاره، يقول: «يا يسوع، أودُّ... أودُّ لو أتبعكَ. ليس مثلهم، إنّما على الأقلّ كما تفعل النساء. اسمح لي بالانضمام إلى أُمّي وأُمّكَ. الجميع يُقبِلون... أنا، أنا قريب لكَ... لستُ أُطالِب بمكان بينهم، إنّما على الأقلّ هكذا، كصديق حميم...»

 

«ليباركك الله يا بنيّ! كم كنتُ أنتظر منكَ هذه الكلمة!» تهتف مريم التي لحلفى.

 

«تعال. فأنا لا أرفض أحداً كما لستُ أُرغِم أحداً. ولستُ أُطالِب الجميع بكلّ شيء. بل إنّني آخُذ ما يمكنكَ أن تعطيني إيّاه. بالنسبة للنساء، يُستحسَن ألّا يبقين وحيدات على الدوام، عندما نمضي إلى مناطق مجهولة بالنسبة إليهنّ. شكراً لكَ يا أخي.»

 

«سأُخبِر مريم بذلك.» تقول والدة سمعان، مُضيفَة: «إنّها تحت، في غرفتها الصغيرة، وهي تصلّي. ستكون سعيدة جدّاً.»…

 

يَهبط الليل بسرعة. يُضاء مصباح للنـزول على السلّم الذي أضحى مظلماً عند الغَسَق. ويمضي البعض إلى اليمين، والبعض الآخر إلى اليسار ليأخذوا نصيباً مِن الراحة.

 

ويَخرُج يسوع ليمضي إلى البحيرة. فالبلدة ساكنة تماماً، والطرقات خاوية، وكذلك الشاطئ. فلا إنسان على شاطئ البحيرة في هذه الليلة الظَّلماء، وقد غاب فيها القمر. وليس في السماء سوى النجوم وصوت الانجذار (رجوع الأمواج بعنف إلى عرض البحر بعد اصطدامها بحاجز) على الرمل. يَدخُل يسوع إلى مَركَب سُحِب إلى مكان جاف، ويَجلس فيه. يضع ذراعاً على الحافة، ويسند إليه رأسه، ويبقى على تلك الوضعيّة، يُفكّر أم هو يصلّي، لستُ أدري.

 

يلحق به متّى بكلّ حذر: «هل تنام يا معلّم؟» يَسأَله بلطف.

 

«لا، إنّني أُفكّر. تعال هنا معي، طالما إنّكَ لا تنام.»

 

«لقد بَدَوتَ لي مُضطَرِباً فتبعتُكَ. ألستَ مسروراً مِن يومكَ؟ ها قد لَمَستَ قلب إيلي، وتَقَبَّلتَ سمعان بن حلفى كتلميذ...»

 

«يا متّى، أنتَ لستَ رجلاً بسيطاً كبطرس ويوحنّا. إنّكَ ذكيّ ومثقّف. فكن صادقاً كذلك. هل أنتَ سعيد لتلك الـمُكتَسَبات؟»

 

«ولكن... يا معلّم... يَظَلّون أفضل منّي، وقد قُلتَ لي ذات يوم إنّكَ كنتَ سعيداً للغاية لأنّني اهتديتُ...»

 

«نعم. ولكنّكَ كنتَ قد اهتديتَ بحقّ، وكنتَ صادقاً في ارتقائكَ نحو الخير. كنتَ قد أتيتَ إليَّ دون إعمال كثير للفِكر، بإرادة مِن روحكَ. ولكنّ الأمر ليس كذلك بالنسبة لإيلي... ولا بالنسبة لسمعان. فالأوّل لم يتأثّر سِوى سطحيّاً: إيلي الإنسان اهتزَّ، وليس إيلي الروح. فهو ذاته على الدوام. وما أن يهدأ الهياج الذي أَحدَثَته المعجزة على دوراس وعلى حفيده حتّى يعود إيلي الأمس ودائماً. سمعان!... سمعان، هو الآخَر ما زال إنساناً. فلو رآني مُهاناً عِوَضَاً عن أن أكون ممدوحاً لكان تَحَسَّرَ عليَّ، وكما على الدوام، كان تَرَكَني. هذا المساء تَنبَّهَ إلى أن عجوزاً وطفلاً وأبرصاً عَرفوا أن يَفعَلوا ما لا يَعرِف، وهو القريب، أن يفعله. رأى أنّ كبرياء الفرّيسيّ قد اتَّضَعَت أمامي، وقَرَّرَ: "أنا كذلك". ولكنّ الاهتداءات التي تكون بدافع الاعتبارات البشريّة ليست هي التي تسعدني. بل بالعكس، هي تصيبني بالإحباط. ابقَ معي يا متّى. لا قمر في السماء، إنّما على الأقلّ هي النجوم تلمع فيها. أمّا في قلبي، هذا المساء، فلا وجود لغير الدموع. فلتكن صحبتكَ نجمة معلّمكَ الحزين...»

 

«ولكن يا معلّم، لو أستطيع... بالتأكيد! إنّما أنا دائماً تعيس كبير وعاجز مسكين. لقد أخطأتُ كثيراً، أفأستطيع الآن إرضاءكَ؟ لستُ أجيد الحديث. ولستُ أعرف أيضاً أن أقول كلاماً جديداً طاهراً ومقدّساً، الآن وقد تخلّيتُ عن لُغَتي القديمة، لغة الغشّ والفُجور. وأخشى ما أخشاه ألّا أُصبِح أهلاً أبداً للتحدّث معكَ وعنكَ.»

 

«لا، يا متّى، إنّكَ الإنسان بكلّ تجربته المضنية كإنسان. وبالنتيجة، فأنتَ الذي، بعد أن تغذّيتَ على الحَمأة، تأكل الآن العسل السماويّ، ويمكنكَ التحدّث عن كِلا المذاقين، وتَعرض تحليلاً حقيقيّاً عنهما، وتُدرِك، تُدرِك وتجعل المشابهين لكَ يُدرِكون الآن وفيما بعد، وسوف يصدّقونكَ لأنّكَ أنتَ بحقّ الرجل، الإنسان المسكين الذي، بإرادته أَصبَحَ الإنسان البارّ الذي حلم به الله. دعني، أنا الإنسان-الإله، أتّكئ عليكَ، فأنتَ الإنسانيّة التي أحبَبتُ، حتّى إنّني تركتُ السماء لأجلكَ، وحتى إنّني أموت مِن أجلكَ.»

 

«لا، تموت، لا. لا تقل لي إنّكَ ستموت مِن أجلي.»

 

«ليس مِن أجلكَ فقط يا متّى، بل مِن أجل كلّ متّى على وجه الأرض وعلى مدى العصور. عانقني يا متّى، قَبِّل مسيحك، عنكَ وعن الجميع. خفّف عنّي إعيائي كَفادٍ عصيٍّ على الفهم. لقد خفّفتُ عنكَ ألمكَ كخاطئ. فامسح دموعي... ذلك أنّ مرارتي تكمن في أنني غير مفهوم إلا في القليل، يا متّى.»

 

«آه! يا إلهي، يا إلهي! نعم! نعم!...» ومتّى الذي جلس إلى جانب المعلّم يحيطه بذراعيه ويواسيه بحبّه...