ج6 - ف112
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السادس/ القسم الأول
112- (خميرة الفرّيسيّين)
22 / 04 / 1946
ما إن مرَّ الأسبوع المقدّس وبالتالي التكفير بعدم الرؤية، حتّى عادت هذا الصباح (22/4/1946) رؤيا الإنجيل الروحيّة. وكلّ ضيقي ذهب في النسيان في هذا الفرح الذي يُعلِن عن نفسه على الدوام بشعور لا يوصف مِن الغبطة التي تفوق قدرة البشر…
...وها أنا أرى يسوع الذي يسير أيضاً على طول الخمائل التي تحاذي النهر. يتوقّف ليأمر باستراحة في وقت الحرّ هذا للتمكّن مِن المسير. بالفعل فإنّ تَشابُك الأغصان الكثيف يقي مِن الشمس، ولكنّه كالرداء الواسع الذي يُقابِل حركة النسيم التي بالكاد يمكن الشعور بها، ومِن الأسفل الهواء ساخن، لا يتحرّك، ثقيل، ذو رطوبة تنبعث مِن الأرض قرب النهر، رطوبة لا تريح، بل تلتصق بالجسم ممتزجة بالعرق الذي هو بالأصل عذاب.
«فلنتوقّف حتّى المساء. بعد ذلك سننزل إلى الشاطئ الرمليّ الذي يبدو أبيضاً تحت أنوار النجوم، وسوف نكمل الطريق أثناء الليل. فلنأكل الآن ونأخذ قسطاً مِن الراحة.
«آه! قبل الأكل سوف انتعش بأخذ حمّام. ستكون المياه فاترة مثل منقوع للسعال، إنّما ذلك يفيد في تخليصي مِن العَرَق. مَن يأتي معي؟» يَسأَل بطرس.
يمضي الجميع معه. الجميع، حتّى يسوع الذي، مثل الآخرين، يتصبّب عرقاً، وثوبه أضحى ثقيلاً بسبب الغبار والعرق. وكلّ واحد منهم يأخذ ثوباً نظيفاً في حقيبته وينزلون إلى النهر. على العشب، للإشارة إلى توقّفهم، لا يبقى إلاّ الحقائب الثلاث عشرة والقُرَب التي تحفظها الأشجار العتيقة، وعصافير كثيرة تنظر، بفضول، بعيونها الصغيرة السوداء، إلى الحقائب الثلاث عشرة المنتفخة ومتعدّدة الألوان المنتشرة على العشب.
أصوات المستحمّين تبعد وتضيع في صخب النهر. فقط، بين الحين والآخر، بعض انفجار ضحك مدوٍّ للأكثر شباباً يترجّع كعلامة موسيقيّة حادّة فوق تآلف أصوات النهر المنخفضة والرتيبة.
إلاّ أنّ صوت وقعِ أقدامٍ قَطَعَ الصمت بسرعة. تَظهَر رؤوس من خلف تشابك أغصان. يَرمُقون، ويقولون بعبارة تنمّ عن الرضى: «إنّهم هنا. يتوقّفون. هيّا بنا نُعلِم الآخرين» ويغيبون مبتعدين خلف الخمائل…
...في هذه الأثناء، يعود الرُّسُل مع المعلّم، منتعشين، الشعر ما يزال رطباً، رغم التنشيف البدائيّ، دون أحذية، وصنادلهم مغسولة وتقطر ماء ومحمولة بحبال، الثياب المنعشة قد لُبسَت، الأخرى قد تكون منشورة على القصب بعد غسلها في مياه الأردن الزرقاء. ومِن الواضح أنّهم مرتاحون أكثر بعد هذا الحمّام الطويل.
لجهلهم بأنّهم قد اكتُشِفوا، يَجلُسون، بعد أن قدَّمَ يسوع ووزَّع الطعام. وبعد الوجبة، متهوّمين، يرغبون في التمدّد والنوم، ولكن ها هو رجل يَصِل، وبعده ثان وثالث…
«ماذا تريدون؟» يَسأَل يعقوب بن زَبْدي الذي يراهم قادمين ويقفون بالقرب مِن خميلة، متسائلين فيما إذا كان ينبغي التقدّم أم لا. الآخرون، بما فيهم يسوع يلتفتون ليروا مع مَن يتكلّم يعقوب.
«آه! إنّهم أبناء القرية... لقد تَبِعونا!» يقول بدون حماس توما الذي كان يستعدّ لينام قليلاً.
حينئذ يجيب الذين سألهم يعقوب بقليل مِن الخوف أمام النفور مِن استقبالهم الواضح على الرُّسُل: «نريد التحدّث إلى المعلّم... لنقول بأنّ... أليس كذلك يا صموئيل؟» ويتوقّفون، غير متجاسرين على متابعة الكلام.
إلاّ أنّ يسوع، العطوف، يشجّعهم: «قولوا، قولوا. هل لديكم مرضى آخرون؟...» وينهض ليمضي إليهم.
«يا معلّم، أنتَ أيضاً تَعِب، أكثر منّا. استرح قليلاً ولينتظروا...» يقول بعض الرُّسُل.
«هنا خلائق يبغون رؤيتي. هُم كذلك قلوبهم ليست في سلام. وتَعَب القلب أكثر إرهاقاً مِن تعب الأعضاء. دعوني أستمع إليهم.»
«حسناً! الوداع لاستراحتنا!...» يُتمتم الرُّسُل، المخبولين مِن التعب والحرّ لدرجة إطلاق الملامات لمعلّمهم بوجود غرباء، لدرجة القول: «وعندما تَجعلنا جميعاً مرضى، بعدم تبصّركَ، ستعي متأخّراً أنّنا كنا ضروريّين لكَ.»
يَنظُر إليهم يسوع... بإشفاق. لا شيء آخر في عينيه الوديعتين التعبتين... ولكنّه يجيب: «لا، يا أصدقائي. أنا لا أطالب أن تقتدوا بي. انظروا: أنتم تمكثون هنا، للاستراحة. أنا، أبتعد معهم. أستمع إليهم ومِن ثمّ أعود لأخذ قسط مِن الراحة فيما بينكم.»
إجابته لطيفة لدرجة أنّها بَدَت وكـأنّها أكثر مِن ملامة. القلب الطيّب، عاطفة الاثني عشر تستيقظ وتعود للاستعلاء: «ولكن لا، يا ربّ! ابقَ حيث أنتَ للتحدّث إليهم. سوف نمضي لقلب ملابسنا لتجفيفها مِن الجهة الأخرى. هكذا نتغلّب على نَعَسنا ومِن ثمّ نأتي للاستراحة معاً.»
الأكثر نَعَساً يمضون صوب النهر... يبقى متّى ويوحنّا وبرتلماوس. وفي هذه الأثناء، يصبح السكّان الثلاثة أكثر مِن عشرة، وما يزال آخرون يتوافدون…
«إذن؟ تقدّموا وتحدّثوا دون خوف.»
«يا معلّم، بعد رحيلكَ، أَصبَحَ الفرّيسيّون أكثر عنفاً... لقد هاجَموا الرجل الذي حَرَّرتَه و... إذا لم يعد مجنوناً، سيكون ذلك بمثابة المعجزة الجديدة... إذ... قالوا له بأنّ... بأنّكَ حرَّرتَه مِن شيطان كان يسيطر على عقله فقط، ولكنّكَ أدخلتَ فيه شيطاناً أقوى. هذا الشيطان قويّ لدرجة أنّه تغلَّبَ على الأوّل، أقوى مِن الأوّل لأنّه يُهلِك ويسيطر على روحه. بينما لا يحمل نتائج الاستحواذ الأوّل إلى الحياة الأخرى لأنّ أفعاله لم تكن... كيف قالوا ذلك يا إبراهيم؟...»
«قالوا... آه! كلمة غريبة... خلاصة القول، الله لا يطلب منه حساباً على أفعاله لأنّها أتت دون حرّيّة روحه. الآن، على العكس، العبادة تحت تأثير الشيطان الذي في قلبه، الشيطان الذي أدخلتَه فيه -آه! اغفر لنا قولنا ذلك!- الذي أدخلتَه فيه، أنتَ، أمير الشياطين، عبادتكَ أنتَ بروح لم يعد مجنوناً، فذلك تدنيس للمقدّسات وملعون هو وسيكون مداناً. حينئذ البائس المسكين أسف على حالته الأولى وكاد يتوصّل... إلى استنزال اللعنات عليكَ... وبالنتيجة أكثر جنوناً مِن السابق... والأُمّ قنطت بسبب يأس الابن مِن النجاة... وفرحهم كلّه انقلب إلى عذاب. بحثنا عنكَ لكي تمنحه السلام، وبالتأكيد هو الملاك الذي قادنا إلى هنا... يا ربّ، نحن نؤمن أنّكَ مَسيّا، ونؤمن أنّ في مَسيّا روح الله، وأنّه بالتالي الحقّ والحكمة ونسألكَ أن تمنحنا السلام والتفسير...»
«أنتم في العدالة والمحبّة. بوركتم. ولكن أين هو البائس؟»
«إنّه يتبعنا مع أُمّه باكيين يأسه. أترى؟ القرية بأكملها، ما عداهم، الفرّيسيّين المتوحّشين، تأتي إلى هنا، دون اكتراث بتهديداتهم، إذ قد هدَّدونا بالعقوبات بسبب إيماننا بكَ. ولكنّ الله سوف يحمينا.»
«سوف يحميكم الله. قودوني إلى الذي شفي بالمعجزة.»
«لا، سوف نجلبه إليكَ. انتظر.» والبعض يمضون صوب الجمع الأكثر عدداً الذي يتقدّم مع حركات واسعة بينما يسيطر على ضجيج الجمع تشكّيان حادّان. الآخرون، الذين مكثوا، وقد كثر عددهم، وعندما اجتمع هؤلاء مع الآخرين وفي وسطهم المستحوذ عليه الذي شفي وأُمّه، إنّهم بالحقيقة جمع غفير يتزاحم وسط الأشجار حول يسوع، بل حتّى إنّ منهم مَن تسلّقوا الأشجار ليجدوا مكاناً ليَسمعوا ويَروا.
يذهب يسوع لملاقاة الذي شفاه بالمعجزة الذي، ما إن يراه حتى يَشرَع بنتف شعره والركوع، ويقول: «أعِد لي الشيطان الأوّل! رحمة بي، بنفسي! ما الذي فعلتُه لكَ حتّى تؤذيني إلى هذا الحدّ؟»
وأُمّه، هي كذلك تجثو: «إنّه يهذي مِن الخوف، يا سيّدي! لا تأخذ بكلامه المجدِّف، بل حرِّره مِن الخوف الذي زرعه فيه أولئك المتوحّشون، لكي لا يفقد حياة النَّفْس. حَرَّرتَه مرّة!... آه! رحمة بأُمّ، حَرِّره مرّة أخرى!»
«نعم، يا امرأة، لا تخافي! يا ابن الله، اسمع!» ويضع يسوع يديه على الشعر الأشعث للبائس الذي يهذي بفعل خوف فائق الطبيعة: «اسمع واحكم. احكم بنفسكَ، ذلك أنّ حكمكَ الآن حرّ ويمكنكَ الحكم بعدل. هناك طريقة مؤكّدة لمعرفة إذا ما كانت المعجزة آتية مِن الله أو مِن الشيطان. وهذا ما تختبره النَّفْس. إذا كان الفعل غير العاديّ آتياً مِن الله، فهو يَسكب في النَّفْس السلام، والسلام هو فرح مُفعَم مهابة. أمّا إذا كان آتياً مِن الشيطان، فالاضطراب والألم ما يَنتُجان عن المعجزة هذه. وكذلك مِن كلام الله يَنتُج السلام والفرح، بينما مِن كلام شيطان، إن يكن شيطان روح أو شيطان إنسان، يُنتِج الاضطراب والألم. وكذلك مِن التقرّب مِن الله يأتي السلام والفرح، بينما مِن التقرّب مِن الأرواح أو الناس الأشرار يأتي الاضطراب والألم. الآن فَكّر، يا ابن الله، لدى تنازلكَ لشيطان الفسق، بدأتَ تستقبل في ذاتكَ ظالمكَ، هل كنتَ تنعم بالفرح والسلام؟»
يفكّر الرجل، وبينما يعلوه الاحمرار، يجيب: «لا، يا سيّدي.»
«وعندما كان عدوّكَ يستولي عليكَ كلّياً، هل كان لديكَ الفرح والسلام؟»
«لا، يا سيّدي، مطلقاً. ما إن أدركتُ، ما إن عادت إليَّ بقيّة مِن حرّيّة الروح، حتّى شعرتُ بالاضطراب والألم مِن عنف العدوّ. فيما بعد... لستُ أعلم... لم يعد لديّ ذكاء قادر على إدراك ممّا كنتُ أتألّم... كنتُ أدنى مِن حيوان... ولكن حتّى في هذه الحال التي كنتُ أبدو فيها أقلّ ذكاء مِن حيوان... آه! كم كنتُ أستطيع بعد أن أتألّم! لا أعلم أن أقول ممّا... الجحيم رهيب! ليس هو سوى رعب... ولا يمكن القول ما يكون...»
يرتجف الرجل مِن الذكرى البدائيّة لآلامه كمُستحوَذ عليه. يرتجف، يعلوه الاصفرار، يتصبّب عرقاً... تعانقه أُمّه، تُقبّله على خدّه لتنتزعه مِن هذا الكابوس... يُعلّق الناس بصوت منخفض.
«وعندما استَفَقتَ ويدكَ في يدي، ما الذي اختبرتَه؟»
«آه! دهشة في غاية اللّطف... ثمّ فرحاً، سلاماً أعظم... كان يبدو لي أنّني أَخرُج مِن سجن مظلم ملؤه عجيج عدد لا يُحصى مِن الأفاعي ومِن هواء نتن بشكل فظيع، وفي الوقت ذاته، كنتُ أدخل في حديقة مزهرة، تغطّيها الشمس، وتملؤها الأناشيد... عرفتُ الفردوس... إنّما هو كذلك لا يمكن وصفه...» يبتسم الرجل، وكأنّه قد فُتِن بذكرى ساعة الفرح القصيرة السابقة. ثمّ يتنهّد وينتهي بالقول: «ولكنّ هذا قد انتهى بسرعة...»
«هل أنتَ متأكّد مِن ذلك؟ قُل لي، الآن وأنتَ قريب منّي وبعيد عن أولئك الذين سبّبوا لكَ الاضطراب، ما الذي تختبره؟»
«السلام أيضاً. هنا، بالقرب منكَ، لا يمكنني الظنّ بأنّني مُدان، وكلامهم يبدو لي تجديفاً... إلاّ أنّني صَدَّقتُهم... ألم أخطئ بحقّكَ إذن؟»
«لستَ أنتَ مَن أخطأ، بل هُم. انهض، يا ابن الله، وثِق بالسلام الذي فيكَ. السلام يأتي مِن الله. أنتَ مع الله. لا ترتكب خطيئة ولا تخف.» ويرفع يديه مِن على رأس الرجل مُنهِضاً إيّاه.
«هل الأمر كذلك يا ربّ؟» يَسأَل كثيرون.
«صحيح، هو كذلك. الشكّ المنبثق مِن الكلام المؤذي عمداً كان الانتقام الأخير مِن الشيطان الذي خَرَجَ منه، منهزماً، تنهشه الرغبة باستعادة فريسته المفقودة.»
يقول رَجُل مِن الشعب بكثير مِن الحسّ السليم: «ولكن إذن... الفرّيسيّون... لقد خَدَموا الشيطان!» ويصفّق الكثيرون لهذه الملاحظة الصائبة.
«لا تدينوا. هناك مَن يدين.»
«ولكن، على الأقلّ، نحن صادقون في حكمنا... والله يرى أنّنا ندين أخطاء واضحة. هم يتصنّعون بما ليسوا عليه. أفعالهم كاذبة ونواياهم ليست صالحة. ومع ذلك فهم موفَّقون أكثر منّا، نحن النزيهين والمخلصين. إنّهم هَلَعنا. يَبسطون سلطانهم حتّى على حرّيّة الإيمان. ينبغي الإيمان والممارسة كما يحلو لهم، ويهدّدوننا لأنّنا نحبّكم. يُحاوِلون نسب معجزاتكَ إلى أعمال السحر، ويوحون بالخوف منكَ. يتآمرون، يضطهِدون ويتسبّبون بالأذى...»
يُشير يسوع فارضاً الصمت ويقول: «لا تقبلوا في قلوبكم ما يأتي منهم، ولا تلميحاتهم، ولا شروحهم، ولا حتّى الفكرة: "إنّهم أشرار ومع ذلك ينتصرون". ألا تذكرون كلام سفر الحكمة: "قصير زمن انتصار الجناة" وكلام سفر الأمثال: "يا بنيّ، لا تتّبع مثال الخطأة ولا تستمع إلى كلام الكفرة، فإنّهم يبقون مشبوكين بسلاسل خطاياهم ومخدوعين بغبائهم العظيم"؟ لا تتقبّلوا ما يأتي مِن الذين، أنتم أنفسكم، رغم كونكم غير كاملين، تقدّرون أنهم ظالمون. فتضعون في ذواتكم الخميرة ذاتها التي تفسدهم. خميرة الفرّيسيّين، الرياء. فلا تكن فيكم على الإطلاق، ولا فيما يخصّ أشكال عبادة الله، ولا في علاقاتكم مع إخوتكم. احترسوا لأنفسكم مِن خميرة الفرّيسيّين. فَكِّروا أنّ لا سرّ لا يمكن اكتشافه، ولا خفيّ لا ينتهي بأن يُعرَف.
أنتم تَرَون. كانوا قد تركوني أمضي ومِن ثمّ بَذَروا الزؤان حيث كان الربّ قد بَذَرَ البذور الجيّدة. كانوا يظنّون أنّهم تصرّفوا بدقّة، وأنّهم بذلك خَرَجوا منتصرين. وكان يكفي ألاّ تجدوني، أن أعبر النهر دون ترك أيّ أثر على الماء الذي يعود إلى مظهره الطبيعي بعد شقّه بمقدّمة السفينة، حتّى ينتصر فعلهم الشرّير، الذي جاء في يوم ملائم. ولكنّ لعبتهم اكتُشفَت سريعاً وحُيِّد فعلهم الشرّير. وكذا هو الأمر في كلّ أفعال الإنسان. هناك واحد على الأقلّ يعرفها ويعرف كيف يزيّنها. ما يقال في الظلمة ينتهي بأن يُعلَن في النور، وما يُحبَك في غرفة سرّية فيمكن أن يُكشف كما لو انّه أُعدّ في إحدى الساحات. ذلك أنّ لكلّ إنسان أحد ما يمكن أن يشي به. وأنّ الله يرى كلّ إنسان ويمكنه التدخّل في كشف القناع عن المذنبين. وبالتالي يجب التصرّف على الدوام بنزاهة للعيش في السلام. والذي يعيش هكذا لا يخاف، لا في هذه الحياة، ولا في الحياة الأخرى. لا، يا أصدقائي، أقول لكم: على مَن يتصرّف باستقامة ألاّ يخاف.
لا خوف مِن الذين يَقتُلون، نعم، مِن الذين يستطيعون أن يقتلوا الجسد، إنّما بعد ذلك، لا يستطيعون فِعل أيّ شيء آخر. أنا، أقول لكم مِن أيّ شيء عليكم أن تخافوا. خافوا مِن الذين، بعد إماتتكم، يمكنهم أن يرسلوكم إلى الجحيم، يعني الرذائل، رفاق السوء، المعلّمين الفاسدين، كلّ الذين يُلمحون للخطيئة أو للشكّ في القلب، الذين يحاولون إفساد النَّفْس والجسد، ويقودونكم إلى الانفصال عن الله وإلى أفكار اليأس مِن الرحمة الإلهيّة. هذا ما يجب أن تخافوا منه، أكرّر ذلك، إذ حينذاك تموتون للأبد.
أمّا فيما عدا ذلك، مِن أجل وجودكم، لا تخافوا. فأبوكم لا يُبعِد نظره عن أيّ واحد مِن تلك العصافير الصغيرة التي تبني أعشاشها بين أوراق الأشجار، فلا يقع منها واحد في الشِّباك دون عِلم خالقه. ومع ذلك فثمنها المادّيّ زهيد: العصافير الخمسة بفلسين. ولا قيمة روحيّة لها. رغم ذلك، الله يعتني بها. فكيف إذاً لا يعتني بكم؟ بحياتكم، بخيركم؟ حتّى شعر رؤوسكم يحصيه الآب، وظلامة واحدة ضدّ أبنائه لا تمرّ دون أن يلاحظها، لأنّكم أبناؤه، وبالتالي أغلى كثيراً مِن العصافير التي تبني أعشاشها على السطوح وبين الأوراق. وتظلّون أبناء طالما أنتم أنفسكم لا تتخلّون عن كونكم كذلك، بحرّيّتكم.
ويتمّ التخلّي عن هذه البنوّة لدى إنكار الله والكلمة الذي أرسَلَهُ الله وسط البشر ليقود الناس إلى الله. فإذن، عندما لا يريد أحدكم أن يعرفني أمام الناس، خوفاً مِن أن تأتيه هذه المعرفة بالضرر، حينئذ الله لا يتعرّف عليه كابن له، وابن الله والإنسان لا يتعرّف عليه أمام ملائكة السماء. فَمَن ينكرني أمام الناس سوف يُنكَر كابن أمام ملائكة الله. والذي يتكلّم بالسوء ويتكلّم ضدّ ابن الإنسان، سوف يُغفَر له لأنّني سوف أُعلِن عن مسامحتي له لدى الآب، إنّما الذي يجدّف على الروح القدس، فلن يُغفَر له.
لماذا هذا؟ لأنّه لا يمكن للجميع معرفة اتساع مدى الحبّ، لانهائيّة كماله، ورؤية الله في جسد مشابه لكلّ جسد إنسانيّ. الوثنيّون والملحدون لا يمكنهم الاعتقاد بذلك بالإيمان، ذلك أنّ ديانتهم ليست الحبّ. حتّى فيما بيننا، يمكن لاحترام إسرائيل ليهوه نتيجة الخوف أن يمنعهم مِن الوثوق بأن الله صار إنساناً، بل أكثر الناس اتّضاعاً. خطيئة هي عدم الإيمان بي، ولكن عندما تستند إلى خوف مِن الله مُفرِط، فهي أيضاً مغفورة. لكن لا يمكن الغفران لِمَن لا يُذعِن للحقيقة التي تَظهَر مِن أعمالي، ويَرفُض روح الحبّ الذي تمكّن مِن حفظ كلمته المعطاة بإرسال الربّ في الوقت المحدّد، المخلّص تسبقه وترافقه الإشارات المتنبّأ عنها. فهؤلاء، الذين يضطهدونني، يعرفون الأنبياء. والأنبياء ممتلئون منّي. يعرفون النبوءات ويعرفون ماذا أفعل. الحقيقة جليّة. ولكنّهم يُنكِرونها لأنّهم يريدون إنكارها. يُنكِرون بصورة منظّمة أنّني لست فقط ابن الإنسان، بل ابن الله المتنبَّأ عنه بالأنبياء، المولود مِن عذراء وليس بإرادة بشر، بل إنّما مِن الحبّ الأزليّ، مِن الروح الأزليّ الذي أَعلَنَ عنّي كي يتمكّن الناس مِن التعرّف عليَّ. أولئك، للتمكّن مِن القول باستمرار ليل انتظار المسيح، يصرّون على إبقاء أعينهم مغلقة لكي لا يروا النور الذي في العالم، وبالتالي يُنكِرون الروح القدس، حقيقته، نوره. وستكون دينونتهم أكثر صرامة مِن التي للذين لا يعرفون. والقول بأنّني "شيطان" لن يُغفَر لهم إذ إنّ الروح يعمل، مِن خلالي، أعمالاً إلهيّة وليست شيطانيّة. وحَمْل الآخرين على القنوط، عندما يحملهم الحبّ إلى السلام، فذلك لن يُغفَر، لأنّ كلّ ذلك يكون خطايا ضدّ الروح القدس.
لهذا الروح الباراقليط الذي هو حبّ ويَمنح الحبّ ويَطلب الحبّ وينتظر محرقة حبّي لينتشر حبّاً حكيماً، منيراً في قلب المؤمنين بي. وعندما يحدث ذلك، سوف يَضطهدونكم أيضاً متّهمين إيّاكم أمام الولاة والأمراء في المجامع والمحاكم، حينذاك لا تهتمّوا بالتفكير في الطريقة التي تدافعون بها عن أنفسكم. الروح ذاته يقول لكم ما ينبغي أن تكون إجاباتكم خِدمة للحقّ وكسب الحياة، بالطريقة ذاتها التي يمنحكم فيها الكلمة ما يجب للتمكّن مِن دخول ملكوت الحياة الأبديّة.
امضوا بسلام، بسلامي، في هذا السلام الذي هو الله، والذي ينشره الله لإشباع أبنائه. اذهبوا ولا تخافوا. لم آتِ لأخدعكم ولكن لأثقّفكم، لا لأفقدكم بل لأخلّصكم. فطوبى لِمَن سيعرفون الإيمان بكلامي.
وأنتَ، أيّها الرجل، المخلَّص مرّتين، كُن قويّاً وتذكّر سلامي لتقول للمجرِّبين: "لا تحاولوا إغوائي. إيماني أنّه هو المسيح". اذهبي، أيّتها المرأة. اذهبي معه وكوني في سلام.
الوداع. عودوا إلى منازلكم ودعوا ابن الإنسان لاستراحته المتواضعة على العشب قبل معاودته المسير كمُضطَهَد، في البحث عن آخرين لتخليصهم، إلى المنتهى. وليمكث سلامي معكم.»
يباركهم ويعود إلى الموضع الذي أكلوا فيه، ومعه الرُّسُل. وما أن رحل الناس حتّى تمدّدوا، الرأس على الحقيبة، ويَغرَقون حالاً في النوم في ظلّ ثِقل حرارة ما بعد الظهر والصمت الثقيل لتلك الساعات الملتهبة.