ج5 - ف39
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الخامس/ القسم الأول
39- (الضريبة في الهيكل والإستار في فم السمكة)
05 / 12 / 1945
ويَمخر الـمَركَبان، اللذان أُخِذا مِن أجل العودة إلى كفرناحوم، البحيرة بسكون فائق. صفيحة كريستال حقيقيّة زرقاء فاتحة يُعاد تشكيلها مباشرة بعد مرور الـمَركَبين في وحدتها الصقيلة. ليسا مركبيّ بطرس ويعقوب، بل هما مركبان تمّ استئجارهما في طبريّا، على ما أظنُّ. وأسمع يهوذا الذي يتشكى قليلاً، لأنّه خَلا مِن الدراهم بعد ذلك الصّرف.
«لقد فكّرنا في الآخرين، إنّما نحن؟ كيف سنتدبّر أمورنا الآن؟ كنتُ آمُل أنّ خُوزي... إنّما لا شيء. نحن في موقف المستجدي، أحد الكثيرين المنتشرين على الطريق يَستَعطون الحُجّاج» يُدمدِم هامساً لتوما.
ولكنّ هذا الأخير، الحليم، يُجيب: «وما الضّير في ذلك؟ فأنا لا أهتمّ للأمر مطلقاً.»
«نعم، إنّما، مع ذلك، عند الطعام، تأكل أكثر مِن الجميع.»
«بالطبع! فأنا جائع. وفي هذا أيضاً أنا قويّ العزم. وإذاً، اليوم، بدل طلب الخبز والزاد مِن الناس، سأطلبها مِن الله مباشرة.»
«اليوم! اليوم! أمّا غداً، سنكون في الوضع نفسه؛ وكذلك بعد غد؛ ونحن ماضون إلى المدن العشر حيث لا أحد يعرفنا؛ وهناك، نصف السكّان مِن الوثنيّين. وليس فقط الخبز، بل النِّعال التي تقطَّعَت، والفقراء الذين يضايقوننا، إنّنا نجد أنفسنا في وضع سيّئ، و...»
«وإذا استمرّيتَ، بعد قليل سوف تجعلني أموت، وسيكون لزاماً عليكَ أن تُفكِّر كذلك في دفني. آه! كم مِن الهموم! أنا... ليس لديَّ أيّ منها. أنا سعيد، ساكن كطفل وُلِدَ للتوّ.»
يسوع، الذي كان يبدو مستغرقاً في أفكاره، وهو جالس على حافّة الحيزوم (مقدّم السفينة)، يلتفت ويقول بصوت عال ليهوذا الذي على الكوثل (مؤخّر السفينة)، ولكنّه يقول ذلك وكأنّه يوجّه الكلام إلى الجميع: «إن لم يكن لدينا أيّ فلس، فهذا حسن جدّاً. فأبوّة الآب سوف تَسطَع أكثر، حتّى في الأمور الأكثر اتضاعاً.»
«منذ بضعة أيّام، كلّ شيء حسن هو، بالنسبة إليكَ. حسن أنّه لم تكن معجزات، حسن ألّا يُعطى لنا شيء، حسن أنّنا وَهَبنا كلّ ما كان لدينا، بالنتيجة، كلّ شيء حسن... أمّا أنا فإنّني أجد نفسي مُنزعجاً للغاية... أنتَ معلّم محبوب، معلّم قدّيس، أمّا بالنسبة إلى الحياة المادّيّة، فأنتَ لا تساوي شيئاً» يقول يهوذا دونما حدّة، كما لو أنّه يبدي ملاحظاته لأخ طيّب يتباهى حتّى بطيبته غير الفَطِنة.
ويُجيبه يسوع وهو يبتسم: «أعظم ميزة لي أن أكون إنساناً لا يساوي شيئاً بالنسبة إلى الحياة المادّيّة... وأُكرّر أنّه حسن ألّا يكون لدينا أيّة قطعة نقديّة» ويبتسم ابتسامة مُشرِقة.
يَسحَج الـمَركَب القَعر ويتوقّف. يَهبطون بينما يرسو الـمَركَب الآخر. يتوجّه يسوع، ومعه يهوذا وتوما ويوضاس ويعقوب وفليبّس وبرتلماوس، إلى البيت…
يَهبط بطرس مِن الـمَركَب الآخر مع متّى وابنيّ زَبْدي وسمعان الغيور وأندراوس. ولكن بينما الجميع ينطلقون، يبقى بطرس على الشاطئ يتحدّث إلى العَبَّارين الذين نقلوهم، وقد يكونون مِن معارفه، ثمّ يساعدهم على الإبحار مجدّداً. بعد ذلك، يلبس ثوبه الطويل ويصعد الشاطئ ليمضي إلى البيت.
بعد اجتيازه ساحة السوق، يُقبِل رجلان إليه ويوقِفانه قائِلَين: «اسمع، يا سمعان بن يونا.»
«أَسمَع، ماذا تريدان؟»
«معلّمكَ، وبغض النَّظر عمّن هو، فهل سيدفع قطعتي الدراخما المفروضتين للهيكل أم لا؟»
«بالطبع سيدفعهما ولمَ لا يدفع؟»
«ولكن، لأنّه يَدَّعي أنّه ابن الله و...»
«وهو كذلك» يُجيب بطرس بتأكيد، وقد امتَقَع لونه مِن الغَيظ. ويُنهي قائلاً: «ومع ذلك، كما أنّه ابن للشريعة، وأفضَل أبناء الشريعة، فهو يدفع الدراخمات ككلّ إسرائيليّ...»
«لا يبدو ذلك. قيل لنا إنّه لا يفعلها ونحن ننصحه بأن يفعل.»
«هومّ» يُهمهِم بطرس وقد أوشَكَ أن يفقد صبره. «هومّ!... معلّمي ليس في حاجة إلى نصائحكم. امضيا، وقولا للذين أرسلوكما إنّ الدراخمات ستُدفَع في أوّل فرصة.»
«تُدفَع في أوّل فرصة!... ولماذا ليس في الحال؟ مَن يؤكّد لنا أنّه سيفعلها، إذا ما كان يتنقّل على الدوام هنا وهناك بغير هدف؟»
«ليس في الحال، لأنّه، في الوقت الحالي، لا يملك فلساً واحداً. يمكنكم عصره فلا تَخرُج أيّة قطعة نقديّة. ونحن جميعاً بلا مال، لأنّنا نحن، الذين لسنا فرّيسيّين، ولسنا كَتَبَة، ولسنا صدّوقيّين، ولسنا أغنياء، ولسنا جواسيس، ولسنا ثعابين، لنا عادة أن نُعطِي كلّ ما نملك للفقراء، باسم مذهبه. هل فهمتم؟ والآن قد أعطينا كلّ شيء، وإن لم يُفكِّر العليّ في ذلك، قد نموت مِن الجوع أو نستجدي على قارعة الطريق. قولوا ذلك أيضاً للذين يقولون عنه إنّه فاسق. وداعاً.» ويتركهم مُعلِّقين ويمضي وهو يُهمهِم وقد امتَقَعَ لونه مِن الغضب.
يَدخُل إلى البيت ويَصعَد إلى الغرفة العليا حيث يسوع يستمع إلى أحدهم، وقد جاء يرجوه الذهاب إلى بيت على الجبل خلف مجدلا، حيث هناك مَن يحتضر.
يَصرف يسوع الرجل واعداً إيّاه بالذهاب دونما إبطاء، وبعد ذهابه، يتوجّه إلى بطرس الجالس في زاوية، وهو غارق في التفكير ويقول له: «ما قولكَ يا سمعان؟ مُلوك الأرض، عادة، ممّن يستوفون الجزية والخراج؟ أَمِن أبنائهم أَمْ مِن الغرباء؟»
يقفز بطرس ويقول: «كيف تَعلَم، يا سيّدي، ما ينبغي لي أن أقوله لكَ؟»
يبتسم يسوع، وكأنّي به يقول: "دعكَ مِن هذا"؛ ثمّ يقول: «أَجِب عن سؤالي لكَ.»
«مِن الغرباء، يا سيّدي.»
«إذن فالأبناء معفيّون، بحسب مقتضى العدل. فالابن مِن الدم هو، ومِن بيت أبيه، ولا ينبغي له أن يدفع لأبيه سوى ضريبة الحبّ والطاعة. وبالتالي، فأنا، ابن الآب، لا يُفتَرَض بي دفع الجزية للهيكل الذي هو بيت أبي. لقد أحسنتَ الردّ عليهم. إنّما بسبب الاختلاف الذي بينكَ وبينهم، والاختلاف هو هذا: أنتَ، تؤمن أنّي ابن الله، وهُم، كما الذين أَرسَلوهم، لا يؤمنون بذلك، وكذلك، كي لا نُريبهم، سوف أدفع الجزية، وفي الحال وهُم ما يزالون في المكان الذي يتلقّونها فيه.»
«وبماذا، ونحن لا نملك فلساً؟» يَسأَل يهوذا الذي دنا مع الآخرين. «هل ترى كم هو ضروريّ أن يكون معنا بعض الشيء؟»
«سوف نَقتَرِض مِن ربّ البيت» يقول فليبّس.
يُشير يسوع بيده أن اصمتوا ويقول: «يا سمعان بن يونا، امض إلى الشاطئ وألقِ الصنارة المتّصلة بشصّ متين إلى أبعد ما تستطيع، وما أن تَلتَقِط السمكة الطعم، اسحب الصنارة. ستكون سمكة كبيرة. افتح فمها على الشاطئ، فتجد فيه إستاراً (قطعة نقد من الفضّة). خُذه، والحق بذينكَ الاثنين، وأدِّهِ لهم عنّي وعنكَ. ثمّ اجلب السمكة. سوف نشويها، وتوما يتكرّم علينا بالقليل مِن الخبز. فنأكل ونمضي حالاً إلى الذي يحتضر. يعقوب وأندراوس، جهَّزَا الـمَراكِب. سنمضي بها إلى مجدلا، وفي المساء، نعود سيراً على الأقدام كي لا نمنع زَبْدي وصهر سمعان مِن الصيد.»
يمضي بطرس، ويُرى بعد قليل على الشاطئ، يَصعَد على مَركَب صغير في الماء. يَرمي خيطاً دقيقاً ومتيناً، وقد رُبِطَت عند طرفه حصاة أو قطعة رصاص، ثم الخيط الدقيق مِن الصنارة بالمعنى الحصريّ للكلمة. تنشَقّ مياه البحيرة لدى غطس الثقل وتتطاير حبّات متلألئة، ثمّ يعود السكون بينما تهدأ المياه مُشكِّلة دوائر متّحدة المركز…
ولكن بعد برهة، الخيط الذي كان رخواً بين يدي بطرس، يشتدّ ويهتزّ... يَسحَب بطرس، ويَسحَب ويَسحَب، بينما يتلقّى الحبل اهتزازات أكثر فأكثر قوّة. في النهاية، يَسحَب الحبل بحركة فجائيّة، فيطير مع طريدته في الهواء مُشكِّلاً نصف قوس فوق رأس الصيّاد، ثمّ تتخبّط السمكة على الرمل الأصفر حيث تتلوّى مِن الألم الذي يُسبّبه لها الشصّ الذي شقَّ لها الحَنَك، والاختناق الذي بدأ.
سمكة رائعة، ضخمة كسمكة الترس (Turbot) تَزِن على الأقلّ ثلاثة كيلوغرامات. ينزع بطرس الشصّ مِن شفتيها اللحيمتين، ويُدخِل إصبعه الضخم في فمها، ويُخرِج قطعة نقديّة كبيرة منه. ينزعها بين السبابة والإبهام لِيُريها للمعلّم المتواجد على حاجز الشُّرفة، ثم يُلملِم الخيط، يلفّه، يأخذ السمكة ويَهرَع إلى الساحة.
الرُّسُل مُندَهِشون... يبتسم يسوع ويقول: «وهكذا نُلغي عَثَرة وريبة...»
يعود بطرس: «كانوا سيأتون إلى هنا، ومعهم إيلي الفرّيسيّ. حاولتُ أن أكون لطيفاً مثل صبيّة، وناديتهم قائلاً: "هيه! يا مبعوثي مصلحة الضرائب! خذوا! هذا يساوي أربع دراخمات، أليس كذلك؟ اثنان عن المعلّم، واثنان عنّي. فنكون بريئي الذمّة، أليس كذلك؟ إلى اللقاء، وخاصّة أنتَ، صديقي العزيز، في وادي يوشافاط". غَضِبوا لقولي "مصلحة الضرائب". "نحن تابعون للهيكل وليس لمصلحة الضرائب". فأجبتُهم: "أنتم تَجْبون الضرائب مثل موظّفي الجمارك. بالنسبة إليَّ، كلّ الجباة تابعون لمصلحة الضرائب". ولكنّ إيلي قال لي: "أيّها الوَقِح! أنتَ تتمنّى لنا الموت؟" "لا، يا صديقي! أبداً. أتمنّى لكَ سفراً سعيداً صوب وادي يوشافاط. ألا تذهب إلى أورشليم مِن أجل الفصح؟ فبإمكاننا أن نلتقي هناك، يا صديقي". فقال: "لا رغبة لي في ذلك، ولا أريد أن تسمح لنفسكَ بتسميتي صديقكَ". فأجبتُه: "بالفعل، هذا شرف كبير". ومضيتُ. الأجمل مِن ذلك هو وجود حوالي نصف كفرناحوم ليروا أنّي دفعتُ عنّي وعنكَ. ولن يستطيع ذلك الثعبان العتيق أن يتفوّه بكلمة.»
ضَحِك الرُّسُل جميعاً لرواية بطرس وإيماءاته. كان يسوع يَبغي البقاء بغير ما تأثُّر، ولكنّه مع ذلك يهشّ بابتسامة خفيفة عندما يقول: «أنتَ أسوأ مِن الخردل (أي لاذع)» ويَختَتِم قوله: «اطهوا السمكة بسرعة. أودُّ أن أكون عائداً هنا عند الغسق.»